حكم الاسلاميين من إعدام مجدي محجوب إلى إنهيارعمارة الرباط

لاشئ يسقط بالتقادم

محمد عبد الحميد    mohamed19664@hotmail.com

 

  يقول الفيلسوف الالماني جوتة "من لايستطيع ان ينظر لثلاثمائة عام للامام. فانه يعيش حالة فقر فكري مدقع"

 

هذه المقالة ليست تاريخا لحقبة حكم الاسلاميين في السودان, او رصدا للاحداث الجسام التي مرت بها , او صنعتها, ولاهي كذلك تحقيق في سجل مايمكن ان يرصده المعارضون لهذا الحكم من حيث سرد المخازي التي حاقت باهل السودان وكم الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدوها في سبيل ان يرسي الاسلاميون مشروع دولتهم ,بل هي وقفة تاريخية متاملة لمسار حكم فقد ربانه اتجاه حركتهم ,وعصفت بهم رياح هوجاء اخذت تدور بالمركب حتي اخذت في الغرق في وسط بحر هائج .

 

لم يكن علي الاسلاميين أو "الحركة الأسلامية " فى السودان أن يذهبوا لتبرير انقلابهم علي السلطة الشرعية التي كانوا جزءأ من منظومتها الي مرجعيات دينية لتأكيد ان الاسلام الحركي او الاسلام العقدي قد كان يواجه خــطرا محدقا مما اضطر ابناء هذه الحركة في القوات المسلحة للسيطرة علي السلطة في يونيو 1989…فقد  ذهبت التبريرات باتجاهات سياسية غلب علي خطابها طابع العاطفة الوطنية اكثر من الخوض في المهددات العقدية , لقد كان المنطق آنذاك ان وحدة وسيادة البلاد في خطر , عقب الاتفاق الذي تحقق لاتفاقية السلام السودانية الموقعة بين الميرغني وقرنق في 1988… لذلك لم تجد السلطة الوليدة قوة دفع ذاتي ديني تقنع به المواطن السوداني ان يعمل علي دعم السلطة رغم انها لبست دثار الدين في الخطاب السياسي من خلال مجمل الاجراءات التي اتبعت بعد ذلك. خاصة الحرب في الجنوب وقضايا المجتمع , والتي لم يتعد اي منهما حيز التعبئة بالنسبة للاولي والمظهر القشري الظاهري بالنسبة للثانية . وبذلك سار قطار حركة الاسلاميين في السلطة بين منعرجات الواقع بقوة دفع تكاد تكون معدومة علي مستوي المبرر الاخلاقي لقيام السلطة. واندغم التنظيم في الدولة بصورة سافرة وبشكل فاقم من من حدة عدم وجود الطابع الاخلاقي فبدات بمقتضى ذلك تصفيات واسعة في كل اجهزة الدولة للعناصر غير الاسلامية فيما عرف بسياسة "التمكين" فاتسم النظام بطابعين الافلاس الاخلاقي في الدافع والظلم في الممارسة .. وظلت صفة النظام هكذا في كل المنعرجات التي مر بها قطاره واصبح امله في الوجود هو مجرد البقاء . ولم يكن "للاخر" في تصورات الاسلاميون سوي معرقل ومعيق للمشروع الحضاري يتوجب سحقه ومحقه  , وهكذا اخذ هذا المنطق في التفاعل مع الواقع , حتي عندما انفرط عقد الاسلاميين  اخذت الفئة المستنصرة منهم بالسلطة فاستخدمها بذات المنطق واذاقت حتي "شيخها" من ذات الكاس الذي سقت منه خصومه من قبل , وتجلي حينها الباس حاميا وشديدا فيما بين الاسلاميين , حتي ليحسب المرء ان الدنيا وليس الدين هو اساس الخلاف ,  وقد بات من جراء هذا قطاع من اهل البصيرة يصلون الي خلاصة تفيد بان ليس في الامر كله ثمة رسالة وانما محض مصالح  اقعدت طرف  في موقع مضاد للطرف الاخر ... وذهب  بعض اخر منهم   ينقب عن اصل البلاء الذي اصاب الاسلاميين في محافل الفكر حيث خلص كما خلص د. غازي صلاح الدين احد ابرز القيادات الاسلامية في ورقة له مقدمة لهيئة الاعمال الفكرية بعنوان (معالم في طريق احياء العمل الاسلامي) ولعل في عنوان الورقة ما يشير الي ان العمل الاسلامي قد اعتراه الموت ام سريريا او فعليا مما يتطلب جهدا "احيائيا" حيث ذكر الدكتور (الحدث التالي زمانا لقيام الانقاذ لكنه الابعد اثرا في تطور الحركة. كان انشقاقها واحترابها حول السلطة وهناك من يري ان ذلك التطور قد جاء مصدقا  لتحذيرات  اولئك الذين نبهوا  قديما الي خطورة فض الجماعة في مبدا الثورة) ومضي للقول (ان الصدمات المتتالية افقدت الحركة  تماسكها ووحدة  صفها وفعالية  قيادتها  ومقدرتها علي المبادرة) (صحيفة ايلاف الاسبوعية 21 مارس 2005م).

 

مهما يكن من امر تتشخيص الدكتور فهو يظل تشخيصا خاصا بادواء حركة الاسلام السياسي فى السلطة وليس وصفا لحالة مرضية يمر بها السودان .. فالواضح أن الأسلام السياسى الان  خاصة عقب صدور قرار مجلس الامن الاخير 1953قد اخذ يناقش ازمته الخاصة مدغومة مع ازمة السودان وكأ ن لافرق بين الاسلاميين كفئة حاكمة ومعزولة وتتحكم بسلطة باطشة وبين السودان كارض وشعب .. وهنا يكمن فساد المنهج في رد الفعل علي قرار مجلس الامن فالسودان الوطن شعبا وارضا غير معني بما يجري لان هذه العناصر مستلبة لصالح الفئة الحاكمة من الاسلاميين والقرار في جوهره متمركز حول النظام .

 

وليس متمركز حول كيان دولة السودان . وحتي  نقطة التركيز التي ادار منها الازمة  ان صح وصف التهريج والزعيق الذي قابلت به سلطة الاسلاميين القرار بادارة الازمة وهي السيادة الوطنية فهى مصادرة منذ عام 1989, وذلك لان السيادة في  فهمها الكلاسيكي تقوم علي الشعب وتتصرف فيها الحكومة باسمه وبرضاه كما ان السيادة الان شاء الاسلاميون ام لم يشؤوا في ظل العولمة قد انثلمت ولم تعد تعني ما عنته علي مر التاريخ منذ معاهدة وسيتفاليا 1648 والي ما قبل نهاية  الحرب الباردة  فالوضع  الدولي حاليا  يعيش حالات تغير جذري اخذت فيها المواطنة بعدا انسانيا ابعد من الجنسية واصبحت  خروقات حقوق الأنسان الممنهجة  جريمة دولية  يحتشد العالم  لعقاب جناتها لذلك فالمطالبة بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية في السودان لن يكونوا حالة خاصة في ظل هذه الاوضاع الدولية .. كما ينبغي الا تفهم علي انها لعبة مصالح فقط , فالعالم لم يعد يحتمل اي بؤر توتر تقود الي الاخلال  بالسلم والامن ,خاصة في مناطق التداخل القبلي مثل منطقة دارفور .

ان النغمة التي عزف عليها الاسلاميون في رد فعلهم علي القرار والتي ارتكزت  علي تبيان ان العالم خاصة امريكا (قطب الرحي العولمي) تتعامل بمبدا ازدواجية المعايير وهذا امر وارد وقائم في السياسة الدولية ولايستطيع احد ان ينكره طالما ان لكل دولة مصلحة تحاول ان تحققها او تحافظ عليها .. وان الاسلاميين  انفسهم  يتعاملون بمبدا ازدواجية المعايير ليس فقط امام  المجتمع  الدولي بل حتي امام  المواطنيين الذين  يحكمونهم فبينما يطالبون بتغليب الاخلاق على المستوي الدولي, فانهم يعجزون عن تبرير معظم مواقفهم  السياسة  اخلاقيا حتي امام انفسهم  منذ انقلابهم  علي السلطة , حيث لم يثبت  انهم تعاملوا  باسس الرشد  السياسي التي تنطلق من فرضيات نظرية معينة وتنتهي عند محصلات عملية مرجوة في شكل اهداف تحقق للنفع العام والدليل علي ذلك اعدامهم في اول عهدهم المتاجرين  بالعملات الصعبة مثلما حدث مع مجدي محجوب الذي اعدم بتهمة الاتجار في العملة الصعبة ...

 

ثم تبنيهم بعد فترة وجيزة لاقتصاد السوق الحر الراسمالي الذي يبيح ليس فقط حرية تملك العملات الصعبة بل والمضاربة بها في السوق ثم تحويلها ذهبا او ايداعها في البنوك الاجنبية , وهذا امر ينم عن اضطراب واضح . ثم وصل الامر مدي ابعد من ذلك بسقوط عمارة جامعة الرباط التابعة لوزارة الداخلية قبل ان يتم افتتاحها رسميا ودون ان يكون قد ضربها زلزال فانهارت (انهيارا ذاتيا) بفعل مالا يصعب التكهن به وهو الفساد علي اعلي مستوى وفي اخطر التجليات . ومابين الحدث الاول  _ اعدام محمد محجوب _ وما يمثلم من رمزية التخبط وانهيار عمارة الرباط وما تدل عليه من مؤشرات فساد يبقي هناك رباط خفي لكل حقبة حكم الاسلاميين  بصفة اساسية  هي انتهاك حقوق الانسان ...

 

فإن عجز السودانيون عن اخذ حقهم من عصبة الاسلاميين الحاكمة  فان اهم الركائز التي تقوم عليها العدالة الدولية في انتهاك حقوق الانسان تؤكد (ان لاشئ يسقط فيها بالتقادم) وهذا مالم يستطع الاسلاميون النظر اليه ولا حتي في خلال عام او عامين بعد سقوط حكمهم الذي بدأت قصته مع قرار مجلس الامن الاخير , مما يؤكد ان هؤلا تعذوهم البصيرة بقدر ما كان يعذوهم المبرر الاخلاقي لقيام سلطتهم