الدليل سلسلة علمية  إسلامية ألبوم الصور سلسلة العقيدة
 

الإيمان بالقدر

هو الركن السادس من أركان الإيمان كما عرفه النبي  r في حديث جبريل "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".

والإيمان بالقدر على أربع مراتب:

1-الإيمان بعلم الله الأزلي:

وهو علمه القديم السابق على وجود الأشياء قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أتى بلفظ "كان" الدال على الماضي ليبين أن علم الله ليس بحادث أي لا يحصل بعد وجود الأشياء فما من شيء كان الله لا يعلمه ثم علمه وإنما علم الله سابق لوجود خلقه، فما من حركة ولا سكنة في الكون إلا ويعلمها الله منذ الأزل (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) فالله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. ومن أمثلة علم الله لكيفية مالم يحدث قوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) (وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) وهذا العلم الأزلي لا يحاسب عليه العباد ولا يتعلق به ثواب ولا عقاب وإنما يحاسبهم الله على أفعالهم التي فعلوها باختيارهم يقول تعالى (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)

فعلم الله تعالى نوعان علم غيب وعلم شهادة (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) علم الغيب هو علم ما لم يقع وعلم الشهادة هو علم ما وقع وهو المقصود بقوله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أي نعلمهم علماً نحاسبهم عليه وهو علم الشهادة وليس معناه أن الله لا يعلم حالهم حتى يختبرهم.

2-الإيمان بكتابة المقادير في اللوح المحفوظ:

قال تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وهناك آيات كثيرة تثبت وجود اللوح المحفوظ أو أم الكتاب كما سماه الله تعالى في آيات أخرى وكيفية هذا اللوح وماهيته غير معلومة وهو محفوظ من التبديل والتغيير فلا محو فيه  ولا إثبات لأن فيه علم الله وتقديره الذي لا يتغير كما في الحديث "جف القلم على علم الله" أما المحو والإثبات المذكوران في قوله تعالى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) فيكونان في الكتب التي تكتبها الملائكة. بل إن كل محو وإثبات في الكتب التي بأيدي الملائكة مكتوب في اللوح المحفوظ أنه محي من كتاب فلان كذا واثبت فيه كذا وفي الحديث "أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فقال ما أكتب قال: اكتب ما هو كائن إلى يقوم القيامة" والقلم أيضاً من خَلْق الله غير معلوم الكيفية.  وعند مسلم "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"

ويتبع هذه الكتابة الأولى كتابات وتقديرات أخرى:

أ-التقدير عند خلق آدم: كما في الحديث "خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمنيه: إلى الجنة ولا أبالي وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي" أي لا أبالي بطاعة الطائعين ولا معصية العاصين.

ب-الكتابة عند نفخ الروح في الجنين: وهما كتابتان أحدهما وردت في حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم مرفوعاً "إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفه في يده فلا يزيد على ما أمر  ولا ينقص" وقد وافق العلم الحديث ما أخبرنا به النبى r حيث ثبت فى علم الأجنه أن ظهور  الأعضاء التناسلية التي تميز الذكر من الأنثى يبدأ مع بداية الأسبوع السابع من الحمل أي بعد مضي اثنين وأربعين يوماً والكتابة الثانية وردت في حديث ابن مسعود عند الشيخين مرفوعاً "إن أحكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات تكتب: رزقه وأجله وعمله  وشقي أو سعيد"  ولم يرد ذكر الذكر و الأنثى في هذا الحديث كما لم يرد ذكر نفخ الروح في الحديث الأول فالجمع بينهما أنهما كتابتان إحداهما عند اثنين وأربعين يوماً والأخرى عند مائة وعشرين يوماً أي بعد نهاية الشهر الرابع من الحمل حيث يكون الجنين قد تشكل تشكلاً تاماً.

ج-التقدير السنوي ليلة القدر: قال تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)  ومن الآثار الواردة في تفسير هذه الآية قول ابن عباس "يكتب من أم الكتب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان".

د-التقدير اليومي: قال تعالى (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وقرأ النبي  r هذه الآية ثم قال "من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين" والمقصود به قضاء ما قدره الله منذ الأزل في وقته الذي حدده الله (لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ولهذا فالأفضل تسميته بتقدير الأشياء عند وقوعها لأنه لا يختص بوقت معين من اليوم وإنما يصاحب كل حدث في وقته.

هـ-كتابة أفعال العباد بعد فعلها: قال تعالى(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ) (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وهذه هي الكتابة التي يحاسب عليها العباد.

3-الإيمان بمشية الله النافذة وقدرته الشاملة:

المشيئة والإرادة والقدرة من صفات الله عز وجل. فلا يحدث في الكون خير ولا شر ولا حركة ولا سكون ولا قول ولا فعل إلا بمشيئة الله وإرادته وقدرته فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يستطيع أحد أن يخالف مشيئة الله. وصفة المشيئة لم ترد إلا بمعنى واحد وهو المشيئة الكونية التي لا يمكن مخالفتها أما صفة الإرادة فلها نوعان:

أ-إرادة كونية: يلزم منها وقوع المراد سواء كان محبوباً لله أم لا.  وبها تكون الأشياء (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) فكل المخلوقات والأحداث والأفعال يتعلق وجودها بهذه الإرادة الكونية سواء ما أحبه الله وما أبغضه ما مدحه وما ذمه ومثال ذلك قوله تعالى على لسان نوح (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) فهل إغواء الناس أمر يحبه الله؟ وهل يحب الله وجود الكفر والمعاصي والشياطين؟ ومع ذلك فكل هذه الأشياء موجودة بإرادته ولا يمكن أن يوجد شيء رغماً عنه سبحانه وتعالى.

ب-إرادة شرعية: ولا يلزم منها  وقوع المراد مع كونه محبوباً لله. وتتعلق بما شرعه الله لعباده من الأوامر والنواهي كالصلاة والزكاة وغض البصر وترك الزنى والسرقة وكلها أمور يحبها الله تعالى. وهي المذكورة في قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) فلو كانت إرادة الله عز وجل للتوبة من جنس قوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) لتاب كل الخلق ولكنها إرادة شرعية فالله أراد التوبة من الجميع شرعاً ولم يردها إلا من البعض كوناً. فالإرادة الكونية والشرعية تجتمعان في ما يحبه الله وتفترقان فيما يبغضه الله حيث تتعلق به الإرادة الكونية وحدها.

فلماذا يقدر الله أحياناً أشياءً يبغضها "كوجود الكفار" ولا يقدر أشياءً يحبها "كإيمان كل البشر"؟ نقول أن المحبوبات نوعان:

1-محبوب لذاته

2-محبوب لغيره: وهو مبغوض في ذاته ولكنه يترتب عليه أمر محبوب فالله عز وجل قد يقدر أمراً مبغوضاً ويمنع أمراً محبوباً لأن هذا الأمر المبغوض يترتب عليه أمر محبوب آخر هو أحب إلى لله من المحبوب الأول. كما في قوله تعالى (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ) فالله عز وجل يحب أن يوجد من المؤمنين من يجاهد في سبيله ويضحي بحياته ابتغاء مرضاته وهذا أحب إليه من إيمان جميع البشر ولهذا قدر وجود الكفار ووقوع المعارك بينهم وبين المسلمين.

وقال النبي  r "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم" فتقلب العبد بين الطاعة وبين الندم والتوبة أحب إلى الله من استدامته على الطاعة ولهذا قدر الله عليه الذنوب كما أن في هذا ظهور لآثار اسم الله الغفور والعفو والرحيم وغير ذلك من الأسماء والصفات التي تظهر آثارها بوجود أمور مبغوضة إلى الله عز وجل كالجبار والقوي والعزيز وصفة الانتقام والحلم والبطش فإذا قدر الله أمراً مبغوضاً له علمنا أن هذا من حكمة الله عز وجل لأنه يترتب عليه أمر آخر محبوب له.

4-الإيمان بخلق أفعال العباد:

يقول تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وقال  r "إن الله يصنع كل صانع  وصنعته" فالله يخلق كل ما يقوم به المخلوق من أفعال، أي أن العبد يفعل والله يجعله يفعل بأن يخلق فعله وهذا معنى قول أهل العلم أن العبد فاعل ومنفعل. ويتضح هذا إذا علمت أن فعل العبد ينشأ من أمرين:

أ-إرادة الفعل                  ب-القدرة على الفعل

 فالعبد إنما يقوم بالفعل من خلال القدرة التي توجهها الإرادة ولما كان الله هو خالق الإرادة وخالق القدرة كان خالقاً للفعل فخالق السبب خالق للمسبب.

فمثلاً: إذا أمسك الإنسان شيئاً فإن هذا الفعل ناتج عن أمرين: إرادة الإمساك التي نشأت في نفس الإنسان والقدرة على الإمساك ممثلة في اليد التي تمسك والقوة التي تمسك بها اليد ولما كان الله خالق كل هذه الأشياء فهو خالق فعل الإمساك.

فالله يخلق الفعل من خلال الإرادة والقدرة كما يخلق الطفل من خلال الأب والأم وهذا لا يلغي أثر الأب والأم في وجود الطفل فهما كانا السبب في وجوده ولكنهما لم يخلقاه وكذلك مشيئة العبد وإرادته الخاصة لها أثر في وجود الفعل ولكن العبد لا يخلق أفعاله.

والنظر السليم يؤكد كون الإرادة والقدرة من خلق الله عز وجل لأنهما من صفات العبد وخالق الشيء خالق لصفاته وكل صفات العبد مثل السمع والبصر والتفكير والكرم والحياء وكذلك القدرة والإرادة خلقها  الله عز وجل ولا يمكن أن تكون مخلوقة بنفسها أو أن العبد هو الذي خلقها.

هل الإنسان مسير أم مخير:

أفعال الإنسان تنقسم إلى قسمين:

1-أفعال اضطرارية: وهي ما تقع من الإنسان بغير قصد منه (كأن ترتطم يده بشيء فيكسره وكحركة الأمعاء و القلب) والإنسان فيها مسير تماماً لا اختيارله. ولا خلاف  في هذا القسم.

2-أفعال اختيارية: وهي التي يقصد الإنسان فعلها. وهي محل النزاع. ولا نستطيع أن نقول أن الإنسان مسير تماماً بمعنى أنه لا أثر لإرادته مشيئة في هذه الأفعال أو مخير تماماً بمعنى أنه لا سيطرة لله على فعله بل نقول أنه مسير مخير أو أنه ميسر كما قال النبي  r "أعملوا فكل ميسر لما خلق له" فالإنسان له إرادة ومشيئة بهما يكون فعله ولكن مشيئة خاضعة لمشيئة الله تعالى. يقول تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ويقول أيضاً (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) أثبت أن للعبد مشيئة وأن فعله "وهو الاستقامة" يتعلق بهذه المشيئة ولكن مشيئته خاضعة لمشيئة الله تعالى.

فالعبد له مشيئة ليست مستقلة ولا ملغية وإنما هي موجودة مخلوقة وبها يكون فعله ولكن مشيئة الله فوقها. فلو شاء الله ما جعل له مشيئة ولا إرادة ولأجبره على فعل ما لا يريد (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ). وكثيرا ما تتعارض مشيئة الله مع مشيئة العبد فتقع مشيئة الله وتحبط مشيئة العبد.

- وهناك شبهة قد تطرأ على العقل وهي لماذا أضل الله أقواماً وهدى آخرين أليس العدل أن يساوي بين الجميع؟ نقول بل العدل أن يوضع كل شيء في موضعه فالفلاح لا يبذر بذره في الأرض الخبيثة. وهناك نفوس خبيثة علم الله منها الضلال فلم يهدهم إلى الإيمان وهذا ما تقتضيه حكمة الله عز وجل. فإن قيل وكيف علم الله أن هذه النفوس خبيثة وهو الذي خلقهم وخلق إرادتهم ومشيئتهم؟ نقول أن هذا يتطلب أولاً معرفة كيفية علم الله وكيفية حكمته وهذا مما لا سبيل له فما علينا إلا أن نسلم ونؤمن بمقتضيات هذا العلم وهذه الحكمة وإن لم تستوعبها عقولنا ولا شك عندنا أن الله ما أضلهم إلا بظلم منهم (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فعلى كل من وسوست له نفسه بشيء في القدر أن يتذكر قول الله عز وجل (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وإن كان الله عامل أقواماً بعدله وآخرين بإحسانه وفضله فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء

-هل يصح الاحتجاج بالقدر على المعاصي؟ كأن يقول العاصي هذا قدر الله على ولو شاء لعصمني من المعصية. فهذا حق أريد به باطل فصحيح أن الله لو شاء لمنعه من المعصية ولهداه إلى الطاعة ولكن هذا لا ينفي مسئوليته عن هذه المعصية فهي من فعله وليست من فعل الله ولم يجبره الله عليها وإنما فعلها بإرادته ومشيئته وقوله هذا يشبه قول إبليس (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) وقول المشركين (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ).

ومن الناحية العقلية فقول باطل من وجهين:

1-أن هذا المحتج بالقدر لو ظلمه أحد من الناس وأخذ حقه فإنه يلومه على ذلك ولا ينسب هذا الفعل إلى قدر الله فهو بهذا يثبت مسئولية الإنسان عن أفعاله.

2-انك قبل فعل المعصية لم تكن تعلم أن الله قدرها عليك فلماذا لم تفترض أن الله قدر عليك الطاعة فتعملها ولو أنك مرشح لوظيفتين إحداهما بأجر كبير والأخرى بأجر صغير لسعيت إلى نيل الأولى ولا تركن إلى أن الله قدر عليك إحداهما.

والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب. ويلحق بذلك المعصية التي تاب الإنسان منها فهي بمنزلة المصيبة لأن التوبة الصادقة ترفع مسئوليته عن هذه المعصية وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً "احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما فحج آدم موسى قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله تعالى كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدت فيها (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) قال: نعم قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة" قال رسول الله r "فحج آدم موسى" فصح احتجاج آدم بالقدر على معصيته التي تاب منها وصارت بمنزلة المعصية

 

مذاهب باطلة في القضاء والقدر:

1-الجبرية: قالوا أن الإنسان مسير في كل أفعاله وأن الله هو الفاعل في الحقيقة وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازاً فالعبد عندهم مجرد آلة يسخرها الله لأداء الفعل، وعلى هذا فلا فرق في حق العبد بين الكفر والإيمان والطاعة والمعصية لأنه لا إرادة له ولا مشيئة وهم بقولهم هذا يصفون الله تعالى بالظلم لأنه يعاقب الناس على أفعال لا ذنب لهم فيها وإنما هو فاعلها وعلى هذا القول يكون إرسال الرسل وإقامة البراهين عبثاً لا فائدة منه موجه إلى من لا إرادة له ولا اختيار. وهذا قول الجهمية وهو قول كفري وقائلوه كفار نوعاً وعيناً.

2-الأشاعرة: وهم جبرية مستترين  يثبتون للعبد قدرة ومشيئة ولكن فعله يقع معها وليس بها فلا أثر لإرادة العبد في فعله وإنما يخلق الله الإرادة والفعل خلقاً منفصلاً في نفس الوقت ويمثلون لذلك بثلاثة إخوة (المشيئة والقدرة والفعل) موجودين معاً في أسرة واحدة دون أن يكون لأحدهم أثر في وجود الآخر فيقولون أن الله يخلق القطع عند مرور السكين. أي أنهم يثبتون مشيئة العبد وينفون أثرها.

3-القدرية قالوا أن الإنسان يخلق فعله ولا علاقة لمشيئة الله بأفعال العباد، وإنما يتعلق بها وجود ذواتهم فقط وبالغ بعضهم فنفى علم الله بفعل العبد قبل وقوعه وهو قول المعتزلة الأوائل وقائلوه كفار نوعاً وعيناً. وقال فيهم النبي  r "القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم "رواه أبو داود وحسنه الألباني وقال فيهم ابن عمر "والذي نفسي ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" رواه مسلم. وهذه البدعة من أوال البدع ظهوراً في تاريخ الإسلام ولم تعد موجودة بهذه الصورة في عصرنا هذا وإن كان بعض المعاصرين قد تأثر بها كالشيخ الشعراوي في كتابه (القضاء والقدر) حيث مثل تقدير الله لأفعال العباد بمدرس عقد لتلاميذه امتحاناً وكتب ما يتوقعه لهم من الدرجات قبل الامتحان. ولخبرة المدرس بحال تلاميذه وعلمه التام بمستواهم جاءت درجاتهم موافقة لتوقعاته. وهذا مثال باطل لأن المدرس لا قدرة له على عقول التلاميذ ولا يستطيع توجيه إجباتهم.

فالجبر طعن في التشريع (لأنه ينفي مسئولية الإنسان عن أفعاله فتكون الأوامر والنواهي من العبث) والاختيار المطلق طعن في التوحيد (طعن في ربوبية الله تعالى ).

 

من ثمرات الإيمان بالقدر:

1-أنه من تمام توحيد الربوبية فلا يكمل إيمانك بربوبية الله حتى تؤمن بتقديره لكل ما يحدث في ملكه وبمشيئته النافذة في كل شيء وخلقه لأفعال عباده.

2- التسليم لأمر الله عز وجل واليقين بحكمته التي تعجز العقول عن الإحاطة بها فكم من أقدار الله عز وجل لا نعلم حكمته فيها.

3-صدق الاعتماد على الله عز وجل وانصراف القلب عن الأسباب فالأمر كله بيد الله والأسباب مهما بلغت قوتها لا تحول دون قضاء الله. وهذا لا يعني عدم الأخذ بالأسباب فالله تعالى قدر السبب كما قدر المسبب وقدر أن الشيء إنما يقع بسببه فكما قال أهل العلم ترك الأسباب طعن في

التشريع والاعتماد على الأسباب طعن في التوحيد. وهذا لأن ترك الأسباب طعن في سنة النبي r  الذي كان يأخذ بالأسباب ويأمر بها فقال r  "تداووا ولا تتداووا بمحرم".

ولكننا لا نركن إلى الأسباب ولا نتجاوز حدود الله من أجلها كما قال النبي r "إن روح القدس نفث في روعي أن لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" فلم ينهنا عن طلب الرزق وإنما أمرنا أن نطلبه طلباً جميلاً.

4-اليأس من الناس رجاءً وخوفاً فعلام ترجوهم والأمر ليس بيدهم وكل شيء مكتوب قبل وجودهم وعلام تخافهم وهم مربوبون مملوكون لله تعالىولهذا قال النبي r لابن عباس "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك  ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"

5-عدم الاغترار بالنعمة والجزع من المصيبة: قال تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) فلا تتكبر بما آتاك الله من النعم ولا تنسب الفضل إلى نفسك فهذا رزق ساقه الله إليك قبل أن توجد السموات والأرض.

وحتى عملك الصالح فضل من الله عليك ولا تيأس لما أصابك من مصيبة ولا تسخط على ما فاتك من الدنيا واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وما قدر الله هذه المصيبة إلا لحكمة بالغة وقد يكون الخير فيما تكره.

( الرئيسية - إتصل بنا - أضف موقعك للدليل - للتعليق والاستفسار )