ساعات بين الكتب

وعالم فاطمة ناعوت

جريدة "القاهرة" في 19-12-2006

بقلم: علي بركات

من هي المدهشة فاطمة ناعوت الفنانة المترجمة الشاعرة وأخيراً المهندسة المعمارية؟!

هناك كتابٌ تقدمه لنا شاعرةٌ وكاتبة ومترجمة، وبالمهنة مهندسة معمارية، وهي تحكم الشعرَ، والأسلوبَ، والفكرَ، كما تحكم العمارة تحت عنوان الكتابة بالطباشير.

إنه عالم السيدة المدهشة فاطمة ناعوت. كيف تطالب النساء المساواة بالرجل ثم ترتضين التعامل مع أمور حياتهن حتى الملبس من خلال مرجعياته؟ ألا ينطوي الحجاب علي سوء ظن مبيت بالآخر وكأن كل الرجال هم بالضرورة ذئاب بالفطرة؟!  أدرك اليابانيون أهمية الترجمة ودورها في تقدم الشعوب فأبرموا اتفاقات مع دور النشر العالمية لترجمة كل كتاب علمي يصدر إلي لغتهم في نفس توقيت صدوره بلغته الأم. الكتابة بالطباشير تأليف: فاطمة ناعوت الناشر دار شرقيات قال الدكتور محمود أمين العالم في مقدمته لهذا الكتاب: قراءتي هذا الكتاب كانت لحظة معرفية حضارية متنامية، تجمع بين تراث الماضي الإنساني بعامة، وليس القومي فحسب، وأزمة الحاضر وجسارة استشراف المستقبل، فلقد وجدتني في حضرة كاتبة علي مستوي رفيع من الامتلاك العميق الحي لثقافتنا العربية، ليس من حيث لغتها رفيعة المستوي فحسب وهذا أمر ندر عند العديد من كتابنا، بل في تراثها الإبداعي الفكري والأدبي والبلاغي كذلك، فضلاً عن معرفتها وتمثلها الجوانب المهمة من التراث الثقافي الإنساني الغربي والشرقي علي السواء وبخاصة في توجهاته وخبراته المتمردة والمتجاوزة للمفاهيم السلطوية الأحادية والمركزية والإطلاقية والغائية المفروضة استطاعت الكاتبة باقتدار أن توحد بين أحدث الخبرات الإبداعية في مجال التعبير الأدبي من ناحية ومجال فن المعمار الهندسي ــ وهو واحد من تخصصاتها ــ من ناحية أخري . هذا كتاب يعد إضافة عميقة وجادة ملهمة إلي تراثنا النقدي العربي المعاصر وتستحق عليه الشاعرة والناقدة فاطمة ناعوت كل تقدير واعتزاز" انتهي. إشكالية الحجاب في كلمة بعنوان "صعوبة أن تُختصر في حذاء" قالت : "رغم إيماني التام بأن طرائق رسم المرء لمظهره هي حرية شخصية، إلا أن اعتمار المرأة الحجاب، برأيي، أراه منطويا مدنيا ووجوديا وجماليا وفلسفيا علي مشكلتين محوريتين، الأولي أنه اعتراف صريح ونهائي من قبل المرأة أنها محض أداة استمتاع لنظر الرجل علي الأقل، وهذا أمر لا أعده اختصارًا لكيانها وحسب، بل أعده ضربًا من التحقير والتهميش لوجودها، "بيدها هي لا بيد عمرو"، فضلاً عن التناقض الجلي بين أن تطالب النساء بالمساواة بالرجل وفي الوقت ذاته يرضين أن يستقين طرائق معيشتهن وأسلوب تعاطيهن لكل الأمور، حتى الملبس، من خلال منظور الرجل ومرجعياته . الثانية أن وضع الحجاب ينطوي علي سوء ظن مبيت بالآخر الذكر، وكأن كل الرجال هم بالضرورة ذئاب بالفطرة، فقط ينتظرون الصيد المطروح كي يسارعوا باقتناصه، لكن الشاهد أن المرضي من الرجال هم نسبة لا تختلف كثيرًا عنها عند النساء المريضات، إذن لماذا نسلم مسبقًا وعلي نحو حاسم أن لا نساء ثمة يرين في الرجال قنصًا ؟ وعندما تتحدث المؤلفة عن العمارة والشعر (ولاحظ أنها شاعرة ومهندسة معمارية) تقول : الفنون علي ألوانها تشتجر وتتماهي في لحن أبدي يبرز جدلية الحياة، العمارة والشعر تحديدًا هما كيان واحد وأضيف إليهما الموسيقي والفن التشكيلي والنحت، ولا أتجاوز إذا قلت أن العلوم أيضًا تتقاطع بقوة، النظري منها والتطبيقي، فمثلاً، تجد مفردات الرياضيات، كعلم نظري وتطبيقي، ماثلة في كل مفردات الحياة فوق الأرض وخارجها في الفضاء، والكلام في هذا الأمر قد يستغرق كتابات لا نهاية لها يضيق عنها المجال هنا، فحين تمد يدك كي تتناول كأس الماء، تكون قد حققت عدة معادلات تخضع للرياضيات من حساب المثلثات وعلوم التفاضل والتكامل، وتكون قد رسمت بيدك منحنيات من الدرجة الثانية والثالثة . وتحت عنوان " سيبك م النحو، بس إيه رأيك في القصيدة "، تدافع دفاعًا مستميتًا عن اللغة، وتأسي للأخطاء اللغوية والنحوية التي قد يعود بعضها إلي أعمال الجمع والديسك، ولكن يعود البعض الآخر إلي جهل الكتاب أنفسهم، وعرضت إعلانًا قرأته في الأهرام تقدم به طالب يريد عملاً فكتب : (أنا طالب هندس وارد البحس عن شوغل بعد الظوهر لكاي اصطيع أن أكمل تعلمي واشتري كتب الجمعة) مأساة !!! ظلم تاريخي والمؤلفة مدافعة قديرة عن المرأة، وهذا هو المنتظر منها لا كنوع من الدفاع عن بنات جنسها، ولكن تأسيسًا علي فكرتها عن المرأة كإنسان قبل أن تكون أنثي وتحت عنوان "كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه "نلحظ "أن المرأة حاضرة فعلاً حاضرة في فعل الكتابة منذ بدء الحضارات التي وصلتنا مدوناتها، لأنها لم تغب يومًا عن معارك الوجود، بل هي محور تلك المعارك وقلبها، غير أن حضورها، أقولها بكل مرارة، هو حضور (موضوع) لا حضور (فاعل) في ذلك الحراك، حتى في حضارة عظيمة مثل الفرعونية القديمة، التي تقلدت فيها المرأة أرفع المناصب السياسية والاجتماعية حد أن نصبت ملكة وحاكمة، لن نجد المرأة إلا (مادة) في سطور الشعراء والكتاب وفي وصاياهم، حين يوصي الحكيم ابنه كيف يعامل امرأته وكيف يكسو بدنها ويشبع معدتها كي يكسب قلبها، ولا يختلف الحال في حضارات المشرق الأقصى وحضارات الجزيرة العربية وغيرها، فالمرأة ظلت دومًا الموضوع الخصب للكتابة (عنه) والنهل من معينه" . وهي لا تعفي المرأة نفسها من هذه المسئولية فالبنت التي تضيق بمعاملة أمها لها وتفضيل شقيقها عليها، تقوم بهذا الدور نفسه عندما تصبح أمًا، والمؤلفة تعيد جانبًا من المشكلة إلي "العقلية الثنائية، فالذهنية العربية القديمة هي ابنة بامتياز للثنائية في أعمق صورها، البدوي القديم بني فلسفة الوجود لديه علي الثنائيات : الليل والنهار، الشمس والقمر، الأخضر واليابس، الخير والشر، العذب والمالح، المرأة والرجل، الأبيض والأسود، وأغفل أن بين هذين اللونين ستة عشر مليون لون بدرجات متباينة، بل أغفل حقيقة فيزيقية تذهب بتماهي الأبيض في الأسود، ذاك أن الأبيض هو أعلي درجات الأسود، والأسود هو آخر درجات الأبيض، والقياس هنا، بين موضوع الألوان وموضوع النوع، إن هذا البدوي قد أغفل في حساباته التباين الفردي انتصارًا للتباين النوعي علي أن الألوان جميعها في النهاية هي لون واحد، والقياس هنا أن أصل النوعين هو الإنسان، وهذا جعل الرجل لا يري المرأة إلا في أحمر العاطفة لا في أبيض الحقيقة، كما تقول فرجينيا وولف التي عنيت المؤلفة أن تقدم ملخصًا لروايتها "غرفة تخص المرء" . وعنيت المؤلفة بتخصيص فصل عن ابن رشد تحت عنوان "مرآة بن رشد" أوضحت فيه كيف أن هذا الرجل الذي كان أفضل من شرح أرسطو لم يجد ترجمة لكلمتي التراجيديا والكوميديا، فأين الحضارة العربية التي لم "تعترف" بفن المحاكاة "التمثيل"، ولم تعرفه، بل كانت تعده، وربما لا تزال، أحد المهالك البشرية والزلات التي لا يرتكبها إلا كافر من أثينا التي كان المسرح أكبر معالمها، وشيدت أكبر مسرح مفتوح وكانت تسمح للمسجونين بالخروج لرؤية المسرحيات . علي أن تلك الوقفة أمام كلمتين وافدتين، لم تقللا من عمل ابن رشد العظيم الذي يسر للعرب معرفة أرسطو وذلل لهم فهمه ثم تولي المترجمون السريان واليهود وغيرهم ترجمته إلي اللاتينية ليعرف الأوروبيون ثقافتهم الأصلية عبر العرب . إن هذا ما يثير شجون المؤلفة وما يدفعها للحديث عن الترجمة ودورها في تقدم الشعوب إنها وسيلة للعبور والاختراق والقفز علي الزمان والمكان للتعرف علي الحقيقة، وضربت المثل باليابان التي أبرمت اتفاقًا مع دور النشر العالمية في الغرب لترجمة كل كتاب علمي يصدر إلي اللغة اليابانية في توقيت صدوره بلغته الأم ليوزع في موازاة صدوره باللغة الإنجليزية، مع ملاحظة صعوبة اللغة اليابانية واختلافها تمامًا مع حروف اللغات الأخرى. وعندما قررت الكتابة عن هذا الكتاب لم أكن أعلم أنها خصصت فصلاً للتعريف بكتاب "الإسلام دين وأمة وليس دينًا ودولة"، وهو تعريف برأ من التأثـر بمختلف الانتماءات التي تحيف علي الحكم للتحيز ضــد أو مع المؤلف. إن هذه السيدة -فاطمة ناعوت- سيدة مدهشة، إنها شاعرة ومترجمة ومتمكنة من اللغة العربية، وفنانة، وأخيرًا مهندسة معمارية.