النهــــــار - بيروت

"خـــيـــط الـعـــنــكـــــبــوت" الـيـــــابــــانـي فـي مـصــــر
12
قـصـــة حـــيـــث الـفــــن يـتـســـلـى بـالـجـــحـــــــيـم والـفــــردوس

القاهرة/ فاطمة ناعوت

18 أكتوبر/ تشرين أول 2007

 

 

 

خيط العنكبوت" عنوان مجموعة قصصية صدرت حديثاً عن مكتبة الأسرة في الهيئة المصرية العامة للكتاب. المؤلفون نخبة من أدباء اليابان المعاصرين، والترجمة إلى العربية أنجزها اثنان، أحدهما مصريّ هو سمير عبد الحميد إبراهيم، مؤلف ومترجم من اليابانية واليها، وله العديد من الترجمات: "يابانيٌّ في مكة" لسوزوكي تاكيشي، بالاشتراك، "الخطاب الديني في الفكر الياباني"، "اتجاهات الثقافة العربية الإسلامية في اليابان بين الماضي والحاضر". أما المترجمة اليابانية فهي سارة تاكاهاشي، دارسة في جامعة الأزهر وفي المعهد العربي في طوكيو ولها كثير من الإصدارات باليابانية منها: "الرحلة اليابانية"، و"عشر سنوات في الرياض"، "الرحلات اليابانية إلى المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد العزيز"، "الرحلة إلى الحج في الأدب الياباني" وغيرها.
القاصون، كما تقول المقدمة، نخبة من أشهر أدباء اليابان في فن الرواية والقص: أتودا تاكاشي، روائي معاصر مشهور. تحتل قصصه النصيبَ الأكبر في المجموعة، سبع قصص من أصل اثنتي عشرة قصة: إشارة الخطر، النصف الحلو، القميص المنحوس، حواء من الأعماق، كلمات مقنعة، الجانب الآخر، في سبيل الصف الأول الابتدائي". تعتمد سرديته الحكايةَ التي تنتهي بمفارقة كوميدية غالبا، قد تقترب من "النكتة"، حتى إن حملت مرارة ما. على أن أسلوبية الحكي تنحو نحوا واقعيا من حيث المضمون، وتقليديا من حيث الشكل، من حيث التراتبية الزمنية والمنطقية التعليلية وعدم اللعب على تشظية الحدث أو الزمن. أكوتاجاوا ريونوسكيه (1892 - 1927) الذي مات منتحرا، يقدم قصتين تنهلان من الفانتازيا الساخرة الشيء الكثير. في "بيت العنكبوت"، التي تتخذها المجموعة عنوانا لها، يتخيّل أكوتاكاوا بوذا واقفا في الفردوس يتأمل، عبر صفحة البحيرة الصافية التي تتمايل فوقها زهور اللوتس، العالمَ السفلي للجحيم والمذنبين وهم يسبحون في بحار الدم ويتوجعون فوق جبال الإبر. يرى من بينهم رجلا كان عتيد الإجرام في حياته، لم يأتِ إلا حسنةً واحدةً هي تراجعه عن دهس عنكبوت ضعيفة كانت تزحف في وهن. يقرر بوذا أن ينقذ الرجل من الجحيم لقاء مكرمته الوحيدة التي أتاها، فيسقط إليه خيطا من خيوط عنكبوت فضيّ من عناكب الجنّة فيتسلق الرجل ويكاد يصل الفردوس، سوى أنه يلمح رهطا من المذنبين يتسلقون خلفه فيزجرهم خشية أن ينقطع الخيط تحت الثقل الجماعيّ، وفي تلك اللحظة تحديدا ينقطع الخيط ويسقط الجميع في السعير مجددا. كأنما هي قصة أطفال لما تحمل من حكمية وتبشيرية وتنذيرية. لكن اللغة المجازية السحرية، والقدرة على الوصف الشعري، هي التي تمنحها شرعيتها الفنية. كذلك قصته "الأنف"، التي تذكرنا برواية إدمون روستان "سيرانو دو برجراك". فإذا كان ذو الأنف هناك شاعرا، ففي القص الياباني هو راهب، وإذا كان شاعرنا يخجل من أنفه الضخم فلا يصرح لمحبوبته روكسان بمشاعره حتى مات، فإن راهبنا يحمل أنفا لا شبيه له حتى أنه يرفعه بعصا أثناء تناوله الأرز حتى لا يتدلى في الصحن، ثم ينجح أحد تلامذته في اجتزاز جزء منه ليصير قصيرا معقوفا، سوى أنه يبدأ يلاحظ سخرية الناس والطلاب بعد ذلك فيندهش ويحزن. إلى أن يتمنى أن يستطيل أنفه مجددا وهذا ما كان. في وسعنا أن يتأكد لنا النزع الطوباوي التبشيري في سردية أكوتاكاوا التي تجرها نحو خانة التقليدية وتخرج بها من دائرة الحداثة. سوى أننا مع ذلك لن نملك إلا أن نحب هذا اللون من القص، ليس فقط بسبب اللغة الشعرية الحالمة، وليس لما تحمل من إشارات فلسفية وجودية، لكن كذلك لأنها تمس في دواخلنا نزعات تتوق إلى التطهرية والطوباوية التي عزّت في زماننا الوحشي. أما موري يوكو، التي ماتت قبل عشر سنين إثر مرض السرطان، فتهتم في سرديتها بفحص العلاقة بين الرجل والمرأة والانتصار في الأخير إلى العلاقة السوية التي تقرّها الأعراف والتقاليد. لها في هذه المجموعة قصة واحدة، " فندق بينينسولا"، ذات سمت أخلاقي إصلاحيّ تدور حول امرأة شابة أغراها قرط ثمين في محل مجوهرات وشعرت أن في وسعها عمل أي شيء من أجل الحصول عليه، حتى ولو بيع جسدها لليلة من رجل لا تعرفه. سوى أنها في اللحظة الأخيرة تعدل عن رأيها، وتفضل قرطا من الزجاج يهديه اليها رجل يود الزواج بها.

ولئن تخضع جل قصص المجموعة إلى التقليدية وفقر الجماليات الفنية، فإن قصتي موكودا كونيكو تحتلان في رأيي المرتبة الأعلى فنيا وحداثيا. تموت موكودا منذ عقدين في حادث تحطم طائرة في تايوان، ولم تتزوج، وهي إلى جانب كونها قاصة معروفة قُدّمت بعض قصصها في مسلسلات، كانت تكتب المقالات ولها بعض إصدارات في هذا المجال. "الطريق المنحدر"، "كلب البحر"، هما عنوانا قصتيها في "بيت العنكبوت". وتمتلك موكودا ريشة سردية مدهشة في التقاط التفاصيل البصرية ورسمها على نحو فنيّ بارع. إضافة إلى تركها النهاية مفتوحة التأويل مما يزيد من طبقات العمل مضمونيا. هذا على الشق الأسلوبي. أما مضمونيا فهي تحتفي بعالم المرأة الجواني والخارجي على السواء. في القصة الأولى امرأة لا تفاعلية تطيع أوامر عشيقها الكهل من دون أدنى تفكير. هي ليست أكثر من فطيرة من الأرز الأبيض، بتعبير العشيق، وعيناها ليستا أكثر من شقّين رفيعين لا يحملان تعابير محددة. وكان هذا تماما ما يروقه فيها. وحين تبدأ الاهتمام بحالها فتوسع، جراحيا، من عينيها وتنقص وزنها وتغدو امرأة جميلة تمتلك بعض الرأي والرؤية، يزهد فيها الرجل ويتحول عنها. ولئن ينبئ هذا اللون من القص عن منزع نسوي، إلا أننا في القصة الأخرى "كلب البحر"، سنجد المرأة النقيض التي تغيّب زوجها تحت قمعها، ليس عن امتيازات فكرية أو ثقافية تمتلكها، لكن نتيجة حِيَل وذهنية وسيكولوجية لدى الزوجة. يشبهها زوجها بكلب البحر الذي يقفز أمام الجمهور بخبث حتى ينال فتات الطعام منهم بالحيلة والمكر وحدهما، لا بالاستحقاق.

وفي القصتين نلمس مدى اهتمام القاصة بطرح مشكلات المرأة الراهنة، ومن ثم انهمامها بإصلاحها، ولو من طريق تقديم نماذج مشوهة للمرأة كزوجة وكحبيبة، وفي المقام الأول كإنسان. لأن تأكيد الجمال لا يكون في أوج مستوياته إلا، ربما؟، من طريق رسم الصورة النقيض لها، أعني القبح، كي تستنفر في القراء حالا تعبوية من النفور، وتالياً محاولة رسم أو خلق أو استحداث الصورة الضد وهي الجمال. وفي القصتين هنا ترسم موكودا صورتين بشعتين للمرأة، وإن متناقضتين. السلبية المفرطة واللا فاعلية، أو السلطوية والفاعلية الأحادية التي تعطل تماما الاعتراف بوجود "الآخر": الرجل.

فاطمة ناعوت     
(القاهرة )