محمد صبحي، فارس المسرح النبيل
فاطمة ناعوت

15/12/2006

 

  

 

 من اتفق له أن شاهد محمد صبحي مُجسدا دور هاملت في سبعينيات القرن الماضي لابد وأن يدرك أنه بصدد فنان حقيقي وجاد. ليس بدءا من تصديه لعمل بهذا الحجم و(النخبوية)، وهو بعدُ معيدٌ حديثُ السنِ في معهد الفنون المسرحية، مثلما تصدي لمسرحية ماراصاد لبيتر فايس في الحقبة ذاتها، ولا انتهاء بالأداء الواعي لدور مركب وعصي من شطحات شكسبير الكبري، حيث انفعلتْ وتفاعلتْ كلُ عضلةٍ في وجهه لتشخصَ كائنا بالغ الصعوبة والتعقيد النفسي مثل هاملت. والشاهد أن صبحي نموذجٌ حقيقي للفنان الأكاديمي الذي زاوج بين التمثيل كفنِ وبينه كعلم. ولا أنسي مشهدا له في مسرحية كارمن حاول خلاله أن يشرح معني علم التمثيل لممثلة ناشئة تحت التمرين. التمثيل بوصفه واحدا من أعقد الفنون. فند صبحي الأداة التي يتوسلها كلُ فنان لكي يلج عالمه الفني. الريشةُ للرسام التشكيلي، القلمُ للأديب، الآلةُ للموسيقار. سوي أن مأزق الممثل هو أن أداته هي جسده ذاته. ثم شرح في درسه البليغ كيف أن عقل الفنان يجب أن يستقبل الإشارات ثم يرسل الأوامر لأعضاء الجسد/ الأداة في تزامن بالغ الصِغر جدا يصل إلي جزء من 60 من الثانية. وصفقتُ له طويلا حين قال إن ليس بوسعه أن يكتشف نظرية مثل النسبية لأنه ليس عالِما، وكذا أينشتين لا يمكن أن يكون ممثلا لأنه لم يدرس ذلك العلم ولا يمتلك أدواته.
لن أتجاوز إن قلت إنه الكوميدي المصري الراهن الوحيد الذي استطاع أن ينتزع الضحكةَ من مُشاهدِه بعد أن تمرَّ علي ذهنه. فالشاهد أن معظم الأعمال الكوميدية الراهنة تنتهج الإضحاك عبر الحواس والنكات المجانية دون كبير اتكاء علي العقل والفكر. لكن تبقي معظم أعمال محمد صبحي غيرَ مجانية إذ تخلق حال جدلٍ رفيعٍ مع فكر المتلقي وتأمله. تألَقَ ذلك التوجه طوال فترة الثنائي المميز لينين الرملي- محمد صبحي إذ قدما سويا شيئا من روائع المسرح العربي التي سيذكرها التاريخُ طويلا. وعلنا نذكر الهمجي ـ أنتَ حر ـ وجهة نظرـ تخاريف وكلها أعمال تحمل أبعادا فلسفية ووجودية رفيعة إلي جوار الكوميديا المغرقة حد الفارْس . والشاهد أيضا أن فصم عروة ذلك الثنائي المتكامل كان سلبيا علي كلٍ منهما وعلي المشاهِد والمسرح المصري بعامة.
عودٌ إلي مسرحية كارمن ، التي هي في أساسها أوبرا فرنسية تراجيدية وتعد إحدي أشهر الأوبرات في العالم. وضع موسيقاها الموسيقار الرسام الفرنسي جورج بيزيه، علي أصل رواية الفرنسي بروسبر ميريمي كان كتبها عام 1846 تحت نفس الاسم. لكن الخيوط الدرامية للأوبرا خرجت أكثر تشابكا وتعقيدا من خيوط الرواية الأصل كما أن شخوصها أكثر عددا وتركيبا. وقدمت للمرة الأولي عام 1875 في مبني الأوبرا كوميك في باريس. ونظرا لشعبيتها وشهرتها العالمية فقد أعيد عرضها علي المسارح والسينمات وحتي فوق الجليد. ورغم أن التأليف والموسيقي لفرنسيين إلا أنها تعدُ في الخطاب الأكاديمي والثقافة الشعبية العملَ الأكثر تعبيرا عن روح إسبانيا في حقبة القرن الـ19من حيث إلقائها الضوء علي طبيعة وحياة شريحة الغجر. عندما عرضت للمرة الأولي سببت صدمة للمتلقي الأوروبي لأنها هدمت ثوابتَ وقناعات رسختها الطبقة البورجوازية في هذه الأثناء. فكارمن ليست سوي فتاة خارجة عن القانون والأعراف تمارس طقوس الشعوذة الغجرية ومن ثم كان لابد أن تموت في النهاية. .


تدور أحداثها في مدينة سيفيل بإسبانيا عام 1820 حول بائعة سكائر فاتنة الجمال، مُغوية، متقلبة المزاج، شهية الغموض، كما وصفتها الأوبرا، استطاعت في لمح البصر أن تمتلك عقل وقلب وروح دون خوسيه، الضابط رفيع المستوي في سلاح الفرسان، وهو سلاح النخبة في الجيش الإسباني. مستقبلٌ واعد كان بانتظاره، سوي أنه أطاح بكل شيء، ضاربا صفحا عن المجد والواجب، وانساق مسلوب العقل تحت وطأة الحب ليشترك معها وعصابة من المهربين في أعمال ضد القانون. وبعدما دُمٍرَ مستقبله ملته كارمن كما يملُ الطفلُ المدلل لعبتَه وتحولت بقلبها نحو رجل آخر. مصارع الثيران الوسيم. لم يتحمل خوسيه وجع الخيانة فواجهها خارج حلبة المصارعة، حيث كانت تنتظر عشيقها الجديد، وطعنها بخنجره. يخرج المصارعُ الظافر في اللعب الظافر في الحب لينادي حبيبته وسط الحشود التي تهتف باسمه بعد فوزه ليشاهدوا جميعهم خوسيه راكعا يبكي عند جثمان حبيبته ويداه غارقتان في الدم. لكن صبحي وظف هذه البنية الدرامية ليطرح للمشاهد العربي رسالة تتفق وثقافته وإشكاليات مجتمعه. فناقش من خلالها مفهوم الحرية من خلال معالجته لإشكالية نظرة الرجل الشرقي للمرأة بوصفها أحد ممتلكاته أو شيئا من أشيائه. العصفور حرٌ فوق الشجرة. حبيس في القفص. لكن الرجل الشرقي يظن أنه يعطي المرأة حريتها مادام سمح لها بالطيران (داخل القفص). في رمز فلسفي جميل تفتح كارمن باب القفص للعصفور فيطير فرحا بحريته بينما خوسيه يبكي لأنه فقد العصفور. فتجادله كارمن أنه لم يفقده لأنه سوف يستمتع بشدوه فوق الشجرة بعدما كان أخرس حزينا وراء القضبان. في مشهد صغير كهذا يلخص صبحي إشكالية المرأة العربية كاملة. مسرحية كارمن المصرية، برأيي، هي من أفضل ما قُدم علي مسرح عربي خلال الثلاثين عاما الماضية. لنتأمل الآتي: أولا اختار صبحي نصا من أمهات الأوبرات العالمية ولم يعمد إلي نص فقير الروح كثير اللغو مثل معظم النصوص التي تُكتب خصيصا من أجل الكوميديا المجانية. ثانيا لم يستسلم صبحي/المخرج للنص الأصل، بطبيعته الكلاسيكية وبيئته الأوربية الغريبة عنا نحن العرب، بل صارعه وفكك أركانه لينتج فكرا وفنا حداثيين، شديدي الالتصاق ببيئتنا العربية ولحظتنا الراهنة. ثم فتح الحائط الرابع، ليس بمفهوم بريخت وحسب، من حيث توريط المتفرج في متن العمل، لكن من خلال تفتيت البناء الدرامي ذاته، لينخرط المتلقي في عملية هدم النص الأصلي ثم إعادة بناء النص الجديد. حيث دمج المخرج محمد صبحي عملين تضافرا معا علي نسيج كارمن. مُخرجٌ مسرحي ديكتاتور لا يؤمن إلا بالرأي الواحدي، رأيه هو طبعا، يقوم بإخراج أوبرا كارمن لبيزيه، وخلال البروفات يحدث التماهي الأكبر بين الواقع والتمثيل في تداخل فني ذكي ورشيق فيحار المتفرج طوال الوقت، هل هذه الفاتنة هي كارمن الإسبانية، أم كريمة المصرية، وهل هذا العاشق، هو الفارس النبيل خوسيه أم المخرج الديكتاتور.

 

وكان من الذكاء بحيث لم يعط المخرج اسما محددا بعينه كي يظل رمزا مفتوحا ودالا لكل فاشيستي وكل حاكم/رجل مستبد شمولي. ثالثا لم يقع في شرك الكوميديا المجانية كما وقع معظم مجايليه وما بعدهم، بل حمَل العمل رسالة ضد نزعة الديكتاتورية والشمولية البطريركية اجتماعيا وسياسيا. تملك الرجل المرأة، وتملك الحاكم شعبه. رابعا حطم مركزية البطل بأن جعل من كل ممثل، حتي المجهولين منهم، بطلا في مشهده، فخرج بنا من دائرة الطباشير الواحدية التي تجعل المشاهد ينام أو يثرثر حتي يظهر النجم الأوحد الذي يحمل المسرحية كاملة علي عاتقه بينما بقية الممثلين يقومون له بدور السنيد الذي يمهد الأرض للنجم ليضرب ضربته. خامسا رهانه الدائم علي الشباب، فكثير من نجوم اليوم كان قدمهم صبحي. بل نذكر أنه أفرد يوما مسرحية كاملة للشباب بغير نجم واحد وهي مسرحية علي بلاطة التي قدمها قبل سنوات في مصر. سادسا احترامه المشاهد وفي هذا يطول الحديث. من حيث اختياره موسيقارا عالميا مثل عمر خيرت لكتابة الموسيقي وتلحين الأغنيات (بعضها قصائد نثر وهذا يحسب لعمر خيرت وصبحي وبغدادي معا)، ثم تعلمه، أقصد صبحي، العزف علي الكمان ليقدم مشهدا واحدا صغيرا من دقيقتين، يقوم فيه بتدريب السوليست، المطربة سيمون التي برعت بحق في أداء شخصية كارمن المتمردة الشرسة الرعوية، علي الغناء بينما يعزف هو لها. وكان بوسعه استخدام تقنية الـ play back الشهيرة فيبدو للمشاهد أنه من يعزف في حين أن القطعة تصدح من جهاز تسجيل في الكواليس. لكنه آثر العزف بنفسه لأنه ببساطة يحترم عقل المشاهد ويحترم فكرة الفن الصعب. قدم رقصات رعوية هي قطع من الفن الجميل في حقها الخاص من حيث الأداء والموسيقي والملابس وتصميم الحركات وحتي تعبير وجوه الفتيات أثناء الرقص. ثم الديكور وتجهيز المسرح من أجهزة سمعيات وإضاءة وملابس وبروفات وجدية من كل العاملين بلا استثناء. يسمون صبحي في مصر المخرج الديكتاتور ، ورد هو علي هذه التهمة في أحد لقاءاته قائلا: لو كانت الديكتاتورية في عرفكم تعني الانضباط والنظام واحترام العمل، فأهلا بها! وأقولها معه، ألا المجدُ كلُ المجدِ لكل ديكتاتورية هذا هو تعريفها. وصبحي يعلم أن جمهوره نخبوي، أي قليل العدد، ولم يزعجه الأمر لأنه اختار الطريق الأصعب كما فعل يوسف شاهين وشوبان وسيف وانلي وفوكنر وإدوار الخراط وغيرهم ممن ضحوا بالكثرة الجماهيرية انتصارا للجمال والفن الرفيع. يتأكد ذلك من مشروع المسرح للجميع الذي ابتكره بغير ربح تقريبا حيث التذكرة بجنيهات قليلة. هو يوقن أن جمهوره هم المثقفون. والمثقف في مجتمعاتنا العربية بالضرورة رقيق الحال. فراهن عليه تاركا تجار الذهب والانفتاحيين الأثرياء لسواه من الفنانين. حاولت مرة وأنا أتابع ذلك المشروع في مسرحيات سكة السلامة، ولعبة الست، وكارمن أن أحسب، تقريبا، ربحه المادي بعد خصم تكاليف المسرح وأجور الممثلين وشاعر مثل بغدادي وموسيقار مثل خيرت وديكور وملابس وخلافه فوجدته لا محالة خاسرا. لكن الفن ينتصر والجمال.
حين أُخذ عليه عرض تمثيلية عائلة ونيس في الخليج قبل مصر، أجاب بمرارة أن الشركة الخليجية المنتجة وافقت علي شرطه النبيل الذي وضعه، وهو أن يكون أجره هو إهداءَ التليفزيون المصري المسلسل مجانا، في حين رفضتْ مصر طلبه الوحيد: ألا تتخلل المسلسلَ إعلاناتٌ. وفلسفته في هذا نبيلة هي الأخري، وهي أن المُشاهد الذي يهبه نصف ساعة كاملة من عمره ليشاهد مسلسله، يستحق ألا نعتسف منه مشاهَدة إجبارية لإعلان عن سلعة استهلاكية. ولم يوافق علي إهداء المسلسل للتليفزيون المصري إلا بعدما رضخ الأخيرُ لشرطه النبيل الذي ينطوي علي احترام شديد للفن وللمشاهد ولنفسه. تكرر الموقف ذاته مع مسلسله الأخير في رمضان الماضي، فخُيرَ بين أن يُعرض مسلسله في وقت الذروة بعد الإفطار رأسا، وهو الوقت الذي يتهافت عليه الفنانون، علي أن يُحقَن بالإعلانات، وبين أن يُعرض في وقتٍ ميتٍ قوةُ المشاهدين فيه قليل له لكن بغير إعلانات. ولم أندهش حين اختار البديل الأخير!


شاعرة من مصر

fatma_naoot@hotmail.com

 


ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة
هل ترغب في التعليق على الموضوع؟

الاسم - عنوان التعليق:

نص التعليق:
in
مدخل
أرشيف 
الاتصال بنا
مواقع اخرى