رسم علي جدار البلدة

2006/12/20

 

أكثر من هو التعبير الأدق في عنوان رواية أكثر من صورة وعود كبريت للروائي السعودي عواض شاهر العصيمي، الصادرة مؤخرًا في مصر عن دار شرقيات . اذ هي بالفعل أكثر من مجرد صورة عنيدة يرسمها مجهول بقلم الفحم علي حوائط البلدة لتنبعث كالفينيق كلما تم محوها وطلاؤها، وهي كذلك أكثر من عود كبريت يحكه فتي لاهٍ من أبناء البلدة في قمع مفرقعة لتنبثق في هدأة سماء الليل ألوانًا وطيشًا وصخبًا. عوالمُ كثيفةٌ واسقاطاتٌ سياسية واجتماعية ووجودية لا حصر لها يمكن للقارئ أن يضع اصبعه عليها عبر هذه الرواية التي لم تتعد 170 صفحة ولم يتعد شخوصها المحوريون أفراد أسرة صغيرة من أم وأب وابنهما المراهق. ورغم ضجري من مصطلح الكتابة النسوية الذي يتحرش بعباءة وقلم كل كاتبة فتظل متهمةً به الي أن تثبت براءتها، الا أنني سيطيب لي أن أشير باطمئنان الي الخيط الأنثوي في هذه الرواية، بمعني أن الجمالَ في هذا الكون هو امرأة. فرغم خلو الرواية من قصة حب واحدة، الا أن الأم المشلولة سجود ستمثل العنصر البديع للجمال والحياة وسط كائنات ذكورية بالغة العبث والفوضي. الشخوص: حافل، شاب يجد كل متعته في تفجير صواريخه الملونة لكي تؤدي عروضها الحية فوق الجميع وهي جذلة تصفّر للكبار والصغار ، وأم مقعدة لم تعد سوي كرتون من الحاجات الزائدة بتعبير زوجها الذي غاب في عباءة امرأة شامية شابة وجميلة تدب علي قدميها وبقيت هي علي كرسي متحرك في بيت فارغ . الأب سعوديّ والأم من أصل حضرميّ. وهنا خيط آخر يناقش الوضعية الاجتماعية لليمنيين في المملكة. صحيح أنها أدارت رأسه بملاحتها بمجرد أن لمحها صبيةً في متجر أبيها فسعي لنيلها بدلا من صديقه الذي كان أوكله لخطبتها، وصحيح أنها كانت نعم الزوجة وأنها أنفقت ثروتها الضخمة كاملة عليه وعلي بيتها، وصحيح أنها أنجبت له الولد الذي لم يستطع أن يأتي به من سواها من النساء، لكنه رغم كل ذلك (أم تري بسبب ذلك؟) هجرها بمجرد أن مسَّ العجزُ ساقيها، ثم تهافت وراء امرأة كلُّ رصيدها في الحياة حداثة سنها وعينان زرقاوان! سنلمس تواطؤ المرأة مع الرجل لكي يوغل في ظلمها حين تتلمس الأم الأعذار لزوجها الذي هجرها، ما يكشف الغطاء عن طبيعة المجتمع البطريركي الذي ساهمت المرأةُ بالنصيب الأكبر في صناعة طواغيت رجاله. العلاقة بين الضُّرتين التي رسمها الروائيون في مجلدات ضخمة، يوجزها لنا العصيمي في سطور قليلة شديدة البلاغة والتقشف: تشبه العلاقة بين عمودين متجاورين يحملان سقف بيت واحد لكنهما لا يلتقيان، لو التقيا لسقط البيت . وأما بقية الشخوص فرسامٌ شبحيٌّ مجهول يضع رسومه علي حوائط البلدة في عتمة الليل ويفرُّ دون أن يراه أحد ليقلب أمنَها فزعًا. ثم مجموعة من الشخوص الثانوية مثل بائع البليلة سلامة الحواز الوحيد الذي يزعم رؤيته للرسام الشبح ، وقد أثري من وراء هذا الزعم. لكن البطل الرئيسي في هذه الرواية، بزعمي، هو المكان . سوي أنه ليس مكانا مختَرعًا مثل مقاطعة يوكنا باتوفا التي رسم لها فوكنر خارطة وهمية وجعل عاصمتها جفرسون ثم كتب تحتها المالك الوحيد وليم فوكنر ليعبر بها عن الجنوب الأمريكي، وليست هي حارة نجيب محفوظ كرمز للعالم بأسره في أولاد حارتنا ، بل وضع العصيمي عالمه حارة المساكين كرمز للمجتمع العربي البدوي الذي تحكمه كثير من مشكلات الوعي والحرية والعدالة. ستطارد الشرطةُ حافل الابن لأن اسمه مكتوبٌ تحت هذه الرسوم التي شوهت وجه البلدة. وخلال توقيفه سنقرأ طبيعة العلاقة الملتبسة بين السلطة وبين الشعب في كافة أرجاء الوطن العربي. وكيف سيتحول الأبُ (السلطةُ الوسيطة) الي بوق أمين يردد كلام الضابط (السلطة الأعلي) أثناء تحقيقه مع ابنه. ولأن النصَّ مفتوحُ الدلالات فهل يجوز لي، بشيء من المكر التأويليّ، أن أعطيه بُعدا اليجوريًّا سياسيًًّا حيث: حافل هو بن لادن لاعب المفرقعات الأشهر، والأم المقعدة سجود هي الأنظمة السياسية العربية المتخاذلة، و الرسام الشبح هو التطرّف الدينيّ أو شِقُّه الميتافيزيقي التغيبيّ، والأب مطلق هو السلطة القمعية التي تمارس سطوتَها علي الشعب وتبدي ضعفَها أمام السلطة الأكبر: الشرطة ، التي هي رمز للقوي العظمي أمريكا؟ ورغم هذه الخيوط السياسية والاجتماعية في الرواية، الا أنها مازالت أكثر من ذلك. اذ هي رواية تتناول نزعة البحث عند الكائن البشري. بحث الخيميائي/باولو كويللو عن الكنز، بحث فاوست/جوته عن الحقيقة والمعرفة، وبحث الشحاذ/محفوظ عن السعادة. حافل يبحث عن التحقق والحضور في مجتمع لم يعطه حقه من الوجود الانساني، فيروم تحققه في مفرقعات صاروخية ملونة يطلقها في سماء البلدة بجوف الليل ليفزع أهلها من رقادهم ولسان حاله يقول: أنا موجود، وحين أتكلم ينتبه الجميع ويصحون ذاك أن: الجميعُ يستغل الجميعَ لينفجر .
وعبر هذه المضامين، بوسعنا أن نرصد عدة سمات فنية تمنح هذا العمل صك الرواية البديعة ، برأيي، لولا بعض الهنات النحوية التي شابت جمالها سيما في الفصول الأخيرة. منها أنها ليست رواية أحداث بقدر ما هي رؤي فلسفية يستخلصها القارئ عبر القليل جدا من الوقائع.
تمتح زادها الأسلوبيّ من تيار الوعي لكن عبر بنية سردية أكثر تماسكًا واحترامًا للحدثية والتراتبية الزمانية مما تعطيه كتابات التداعي الحر والمونولوج الداخلي التي تميز بها رواد هذا اللون الكتابيّ مثل فرجينيا وولف وفوكنر وجويس، ما يجعلنا لا نثق بتثبيتها في خانة تيار الوعي بقدر ما نضعها علي الخيط المتأرجح بينه وبين البنية الكلاسيكية للرواية. سوي أن النهايات المفتوحة واتساع قوس التأويل الدلالي ورشاقة الوثب المحسوب بين الاغراق في سرد التفاصيل الصغيرة حينا والمرور السريع علي الأحداث الكبري حينا آخر، والنكوص والمناقضة وحس السخرية الخفيف، كل هذا سوف يقذف بها رأسًا الي خانة التحديث. صوت الراوية يجرد الرمز الفلسفي عبر السرد والحوار دون مصادرة علي القارئ بفرض وجهة نظر أو أيديولوجيا بعينها، بل سيترك للقارئ مساحة التأمل مشرعةً علي اتساعها لكي يبني موقفَه الضدَّ من سلبيات المجتمع. تشييء المرأة في مقابل أنسنة الأشياء، فالمرأة أحد المتاع التي نحافظ عليها ما دمنا نحتاج اليها، ثم نتخلص منها شأن الكراكيب حين تغدو زائدة عن الحاجة، وفي المقابل يتخيل حافل مشط الشعر الخاص بأمه كأنه أخوه الأكبر الذي من المفروض أن يكون له الآن أبناء كبار. وفي مشهد بديع شجي وكردّة فعل انعكاسية تبدأ الأم في فرز كراكيبها قصد التخلص منها حينما تأكدت أنها أصبحت أيضًا أحد هذه الكراكيب. لغة شديدة الشعرية حتي لكأن الرواية في مجملها قصيدة نثر مطولة، اذ نحن بصدد روائي بالغ القدرة علي الرسم بالكلمات ما ترسمه الريشة بضرباتها اللونية. والأمثلة عديدة مثل تفنيد عالم البعوض من أسياد وعبيد وشباب وكهول وكيف يختار كل منهم الموضعَ الذي يغزوه من الجسم البشري. ومثل رسمه غرفة الحجز في مخفر الشرطة بوصفها كيسًا ضيقًا من الظلام والبعوض ، ثم الرياح والغبار الذي شهر أمواسه وراح يخدش بها المصابيح والوجوه ، والمشلولة التي لزمت بيتها الصغير برهبانية فتيلة في سراج ، وتشبيه الأب الشرس بـ المفرقعة ماركة K0201 التي تشتعل بمجرد حك طرفها الحساس بعود ثقاب ، وغيرها العديد من الصور الطازجة التي رسمها الروائي باللون والصوت والحركة.

 شاعرة من مصر

 


ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة
هل ترغب في التعليق على الموضوع؟

الأسم:
بريدك الألكتروني:
الموضوع:
التعليق:
in
مدخل
أرشيف 
الاتصال بنا
مواقع اخرى