قصة بناء عاصمة السينما هوليوود تشرق من الغرب ـــــــــــــــــــــــــــــمحمود الكردوسي*..شركه عراق فيلم |
![]() |
كتب الشاعر السوفييتي "ماياكوفسكي" عام 1922: "السينما بالنسبة لكم هي الفرجة. أما بالنسبة لي فهي أقرب من التصور للعالم. لكن السينما مريضة. لقد رمتها الرأسمالية بغبار الذهب، وهاهم رجال الأعمال الأذكياء يقودونها من يدها ويسوقونها بين الطرقات، يجمعون الأموال بتحريك القلوب بموضوعات مبكية". ورد المنتج الإيطالي الأشهر "كارلو بونتي" فيما بعد: "يجب أن تصل السينما إلى أمعاء المتفرج. إذا وصلت إلى دماغه فهذا يعني أن الفيلم سيئ. الإنسان الذي يريد تثقيف نفسه.. لا يذهب إلى السينما، بل يأخذ كتاباً". كانت لوس أنجلوس في معظمها مغطاة بحدائق المشمش والكروم، قبل أن يصل إليها خراز وواعظ يدعي المستر "هندرسون ويلكوكس" قادماً من ولاية ميتشجان، حيث اشترى 160 فداناً واقتلع أشجارها وقسمها إلى قطع أرض عرضها للبيع. وفي ذلك الوقت كانت زوجته قد سافرت إلى شرق أمريكا، وشاهدت مقاطعة تسمى "هوليوود"، نسبة إلى وجود بعض أشجار "الهولي" وهو نوع من البرقوق. ولكي يجعل المستر هندرسون من المكان إسماً على مسمى، أرسل إلى إنجلترا في طلب بعض الأشجار التي ما إن وصلت حتى ماتت لأسباب تتعلق باختلاف المناخ وطبيعة التربة بين غرب أمريكا وشرقها ثم مات المستر هندرسون نفسه، ورأت زوجته أن يستمر اسم "هوليوود" علماً على المنطقة، وتخليداً لذكراه. وفي مطلع عام 1908 تسلل مخرج وموزع يدعي "سيليج" (انضم فيما بعد إلى احتكار إديسون) إلى هوليوود، وكانت حتى ذلك الوقت مجرد قرية مظلمة، حيث ارتجل أستوديو صغيراً، وصور فيلماً عن "الكونت دي مونت كريستو". ويروي موريس سبيد أنه حدث في ذلك العام أن سقط رجل من العاملين في أحد الأفلام قتيلاً برصاص بستاني ياباني أثارت أعصابه جلبة تصوير فيلم عن رعاة البقر في أرض متاخمة لأرضه. وكافح أهل هذه القرية كفاحاً مريراً للقضاء على أفلام رعاة البقر، ثم استسلموا في النهاية لجحافل المصورين والمنتجين والمخرجين الذين هربوا من ملاحقات احتكار إديسون، وزحفوا إلى شمس هوليوود وخلائها المفعم بإرهاصات عصر سينمائي جديد. ومنذ عام 1910 بدأت بعض شركات السينما العاملة في الجانب الشرقي تنتقل خلال أشهر الشتاء إلى كاليفورنيا، حيث أثبتت هوليوود أنها مركز مثالي للتصوير الخارجي. وفي عام 1913 دب خلاف بين جريفيث وشركة "بيوجراف" التابعة لتجمع إديسون، بسبب طول فيلم (جوديث من بيتوليا)، الذي كان قد صوره سراً في كاليفورنيا (وكان المسؤولون في احتكار إديسون يعتقدون أن الجمهور الأمريكي لا يستطيع ولا يرغب في مشاهدة فيلم يزيد طوله عن بكرتين، أو فصلين، فيما كان فيلم جريفيث مكوناً من أربعة فصول). وكان من نتيجة هذا الخلاف أن قررت بيوجراف حرمان جريفيث من الإخراج، وركنت الفيلم على الرف، فنشر إعلاناً على صفحة كاملة في صحيفة "ذي نيويورك دراماتيك ميرور" الصادرة في 31 ديسمبر 1913، معلناً أنه فسخ عقده مع بيوجراف، وانضم إلى إحدى الشركات المستقلة (ميوتوال)، وكشف عن اسمه الحقيقي (وكان يسمي نفسه حتى ذلك الوقت: لورانس)، ثم اصطحب عدداً من العاملين معه، واستقر نهائياً في هوليوود، حيث صور في العام التالي درة أفلامه (مولد أمة). ثم اضطر المستقلون بدورهم إلى الإقامة بصفة دائمة في هوليوود، حيث لم يكن من السهل على الاحتكاريين أن ينظموا قيوداً قانونية أو غير قانونية في الغرب، إذ كان ممكناً - عند حدوث أية متاعب هناك - نقل الممثلين والمعدات عبر الحدود إلى المكسيك. إلاَّ أن أكثر ما يلفت النظر في معركة بناء هوليوود، هو أن خطط المستقلين وتكتيكاتهم لم تكن سبباً مباشراً في انهيار تجمع إديسون فحسب، بل كانت بمثابة "مانيفيستو" لأبرز معالم عاصمة السينما، وأكثر مساوئها رسوخاً في الوقت نفسه.
كان طموح الاحتكاريين بسيطاً: جمع ثروات هائلة من خلال إغراق سوق السينما بأفلام رخيصة، سهلة الإنتاج، لا يزيد طولها عن 300 متر.. لكنها تافهة، فكان لابد من خلق حاجات أخرى لدى المشاهدين تجعلهم يطلبون سلعة جديدة. بدأ المستقلون باستيراد أفلام أوروبية طويلة تتميز بفخامة ديكوراتها وإخراجها المتقن، مثل (الملكة إليزابيث) و (كوفاديس)، ثم تعاقدوا مع أفضل الممثلين الذين يعملون لدى احتكار إديسون: فلورانس لورانس وبرانشوبيلي وتوم ميكس والكندية الصغيرة ماري بيكفورد، ودفعوا لهم بسخاء (مليون دولار دفعها زوكور لبيكفورد على سبيل المثال)، ثم اخترعوا "نظام النجوم"، واكتشفوا أهمية الدعاية في زيادة الإقبال على أفلامهم واتساع شهرة نجومهم، فأنشأوا مكاتب توزيع خاصة بهم لتحسين ودعم عمليات تسويق إنتاجاتهم. وبعد أن كانت الفنادق تعلق على أبوابها لافتة "غرف للإيجار: ممنوع الكلاب والممثلين".. خلقت الدعاية جواً أسطورياً حول النجوم، وأصبحت حوادثهم الغرامية وطلاقاتهم وأزياؤهم ومساكنهم وحيواناتهم المفضلة.. موضع اهتمام ومناقشة، وتحول بعض الممثلين إلى "آلهة" حقيقيين، وأدت ملايين الصور الفوتوغرافية- وعليها توقيعات الإهداء- إلى إبقاء شعلة المعجبين متقدة. وفي غضون ثلاث أو أربع سنوات.. تحولت هوليوود من ملجأ الفارين من جحيم احتكار إديسون إلى مدينة للثراء العاجل، وظهرت في أوائل العشرينيات مشكلة آلاف الفتيات الصغيرات اللائي تدفقن على مدينة لوس أنجلوس من سائر البلاد. فالأجور الهائلة التي كان النجوم يتقاضونها، والدعاية الواسعة عن الحياة التي ينعمون بها.. جذبت كثيرات من الفائزات في مسابقات الجمال وغيرهن من فتيات المدن الصغيرة إلى الهجرة إلى هوليوود، وكلهن أمل في أنهن سيخلفن ماري بيكفورد أو مابل نورماند. وضاعفت مدارس التمثيل والكشف عن المواهب من حركة الهجرة تلك، وانتهى مصير غالبية هؤلاء الفتيات إلى أقسى درجات الفشل والسقوط. وبدأت قصص الفضائح في هوليوود تملأ صفحات الصحف والمجلات، وما أن جاء عام 1922 حتى كانت هوليوود أكثر المدن الأمريكية جمالاً وأكثرها فساداً في الوقت نفسه. وبلغت الغوغاء مداها إثر العثور على جثة فتاة قتيلة بعد اغتصابها، واتهم الممثل الكوميدي "فاني أوربكل" بقتلها. وبالرغم من ثبوت براءته، إلا أن التهمة التي هزت أمريكا قضت على حياته ومستقبله. وسرعان ما جاءت الأنباء بأن مخرجاً آخر يدعي "وليام ديزموند تايلور" وجد قتيلاً، واتجهت أصابع الاتهام إلى اثنتين من ألمع نجمات الشباك في ذلك الوقت، هما "ماري مايلز منتر" و "مابل نورماند"، فضلاً عن إدمان النجم الوسيم "والاس ريد" للمخدرات. من ناحية أخرى، كان من نتائج التوسع في دور العرض الفخمة أن أصبحت الطبقة المتوسطة ممولاً رئيساً للأفلام، ووجدت هوليوود أن أكثر مصادرها إرضاء لجمهور هذه الطبقة يتوافر في الدوريات والأدب الرخيص، فاختيرت روايات للإعداد السينمائي تعالج قضايا الجنس والخيانات الزوجية، ودافعت مئات الأفلام عن قيم جديدة وأخلاقيات تغفر العلاقات غير الشرعية، وعكست الصور الداعرة التي كانت تعرض على شاشة السينما حالة التوتر والقلق التي سادت بعد الحرب. ويقول "لوسن" إن هذه الأفلام كانت من ناحية تهدف إلى تخدير الجمهور ودفعه إلى نسيان مشاكله الحقيقية مثل البطالة والتضخم، ومن ناحية أخرى تحيل القلق الاجتماعي إلى أسباب أخلاقية. وتم تدعيم هذه التبريرات بفيض من الأفلام الدعائية عن "الخطر الشيوعي"، وعن نشاط "مثيري الشغب الأجانب"، ولعبت أفلام مثل (البولشفيك في الميزان) و(الساعات الخطرة) و(البركان) دوراً لا يستهان به في إثارة الإحساس العام بالخطر، موحية بأن تفسخ القيم الأخلاقية قد تعدى حدود الأسرة والبيت وأن النظام الاجتماعي بأسره يتهدده الضياع. وكان لدى المستقلين، أصحاب دور العرض التي تعرض هذه الأفلام، كل الأسباب الكافية لشعورهم بالخطر، غير أن القوى التي كانت تستطيع تجريدهم من دور العرض التي يملكونها لم تكن ترى في ذلك أية خطورة، إذ لم يكن مضمون هذه الأفلام منفصلاً عن صراعهم للسيطرة على صناعة السينما. وعندما تفاقم الصراع أصبحت الأفلام أكثر إباحية فيما يتعلق بالجنس والخطيئة. أصبحت فضائح هوليوود مسألة عادية، وبلغ الاستنكار العام لهذه الفضائح حداً مزعجاً، واتخذت الاحتجاجات شكلاً يهدد بفرض رقابة فيدرالية على جميع الأفلام، ونتيجة لذلك اتحدت الاستوديوهات الكبيرة وتم إنشاء "اتحاد منتجي وموزعي الصور المتحركة الأمريكية" في أواخر 1922، واختير "ويل هايز" الذي كان في ذلك الوقت مديراً لإدارة البريد في حكومة الرئيس "هاردنج" ورئيساً للجنة الوطنية للحزب الجمهوري، لرئاسة الاتحاد. وكان هايز رجلاً متديناً حكيماً، وبفضله نجح المنتجون في تحقيق قدر كبير من الحماية الدينية والسياسية لأفلامهم، وفي تجنب فرض رقابة حكومية على السينما. والواقع أن صعود هوليوود كان مصحوباً بانحطاط الرواد أو اختفائهم. فقد مات "توماس إنس" وتابع "ماك سينيت" إبداع مجموعة من الأفلام.. لم تضف شيئاً إلى مجده السابق، وكان انهيار جريفيث عقب فشل (أبراهام لنكولن) التجاري.. يتنافى ورخاء "سيسيل دي ميل" الذي سيطبع هوليوود طوال أربعين عاماً بشخصيته العامية التجارية، والمحبة للبذخ.
ويستشهد "لوسن" بتطور أعمال "سيسيل دي ميل" لفهم الطريقة التي تقبلت بها صناعة السينما قوانين هايز، ففي عام 1919 دشن "دي ميل" موضة أفلام الجنس بفيلم (الذكر والأنثى)، وبناءً على توجيهات الإدارة الجديدة قدم (الوصايا العشر) عام 1923، وأضاف إلى القصة المأخوذة عن الإنجيل.. "مشهداً عربيداً" ليست له صلة وثيقة بالفكرة الأساسية. وإذ وجد أمامه لافتة: "ممنوع الدخول" إلى بوابة الواقع.. اضطر إلى توجيه الكاميرا إلى "الأماكن الآمنة"، حيث لا يمكن أن تلتحم مع بؤس الجماهير وأحلامها. لقد بدأت هوليوود تقبل، بل وتعتقد في "عالم دي ميل".. هذا العالم الذي تتقلص فيه دوافع السلوك الإنساني وتتركز في دافعين: الجنس والجشع. وقد تأرجح الصراع في الأفلام بين هذين الدافعين، فبينما كان الجنس أكثر إثارة. كان الجشع أكثر تقديراً. وتميزت الفترة من 1925 إلى 1928 بـ "نمو السخط في هوليوود" كما يقول "لوسن"، ونقصت أعداد المترددين على دور العرض السينمائي بشكل ينذر بالخطر، ولم يكن هناك من سبيل لإغراء الجماهير بمشاهدة الأفلام إلا من خلال الدعاية المبالغ فيها والوعود الكاذبة، ومع هذا كان رجال الأعمال الذين يسيطرون على الإنتاج السينمائي مفعمون بالشك من التجريب، ولم ينجح من السينمائيين الذين قدموا من أوروبا سوى أولئك الذين استطاعوا أن يحولوا صفاتهم الخاصة لتصبح مناسبة للمواصفات التجارية المعتمدة، أما الذين لم يستطيعوا التكيف فقد نبذوا نبذ النواة. عاد السويدي "موريس ستيلر" إلى موطنه بعد أن يئس من هوليوود، على أثر فشل فيلميه (فندق إمبريال) و (ملك سوهو) فنياً وتجارياً، ولم يستطع "شتروهيم" أن يدير أي فيلم بعد (موكب العرس) لأن هوليوود سجلت اسمه على القائمة السوداء، وأغلقت في وجهه أبواب الاستوديوهات إلا إذا عمل كممثل، واعتبر رينيه كلير اليوم الذي قام فيه اليهودي "إيرفنج تالبرك" بطرد شتروهيم تاريخاً حقيقياً لتأسيس هوليوود. لم تمنع "تعاليم هايز" من التركيز على الجنس، بل دفعت السينمائيين إلى تمييز الفضيلة والرذيلة بعلامات واضحة، وكان ذلك مناسباً إلى حد ما للفكر الاجتماعي السائد في تلك الفترة، فقد كان من المعتاد إظهار الفضيلة والخطيئة كنقيضين ثابتين، وتبادلت بولا نيجري وثيدا بارا دور المرأة الفاتنة المحنكة، فيما بقيت ماري بيكفورد رمزاً للبراءة. وفي أواخر العشرينيات اندمج الاتجاهان: أصبحت السندريلا أكثر جرأة وأقل طهارة، وأصبحت المرأة الفاتنة المجربة أقل شؤماً وأكثر إثارة للتعاطف. لقد ضلت الاثنتان وأخذتا تبحثان عن الارتواء العاطفي، وعندما بلغ الفيلم الأمريكي هذه المرحلة كان مهيئاً لدخول الصوت، ولتعاليم فرويد أيضاً. رغم ذلك، وبسبب تدني مستوى الأفلام وترهل مضامينها الفكرية والأخلاقية، اتفق كبار منتجي وموزعي هوليوود عام 1930 على "ميثاق شرف" للإنتاج السينمائي، وضع صيغته أخلاقي جيزويتي يُدعى "دانييل إيه. لورد" وينص أساساً على ألا يتم إنتاج أي فيلم من شأنه "إضعاف المعايير الأخلاقية لمشاهديه". وبحلول عام 1934 لم يكن ثمة مفر من إنشاء جهاز رقابي غير حكومي سمي "فرقة الأدب" أو "فرقة الحشمة" على حد وصف جورج سادول، شارك فيها عدد من رجال الكنيسة الكاثوليكية، واستهدفت "تنظيف الأفلام" ودعوة المنتجين إلى تركيز اهتمامهم في أفلام الأسرة والعودة إلى مؤلفي العصر الفيكتوري. وقد أدت الحملات العنيفة لـ "فرقة الأدب" إلى تطبيق صارم لـ "قانون هايز" الذي وضع عام 1922، وأسس لنظرية هوليوودية غريبة تسمى "نظرية التعويض" يحق لأي منتج بموجبها تقديم ستة فصول تصور كل أنماط الرذيلة، شريطة أن يتضمن الفصل السابع نهاية تعسة للمخطئين، وبذلك يكون قد أرضي شروط الدين وشروط الجمهور وشروط الدراما في وقت واحد!! السيطرة على أسواق العالم: هوليوود الاستعمارية إن نصف قرن من تاريخ صناعة السينما في الولايات المتحدة يطابق عصر الإمبريالية. وقد تحدد دور هذه الصناعة بوجه عام بالمصالح "الثقافية" لكبار سادتها واحتياجاتهم، فالدعاية للحرب والقهر وسيادة الجنس الأبيض وكبت شعوب المستعمرات. كل هذه تميز تاريخ صناعة السينما في أمريكا منذ فيلم (سقوط العلم الأسباني) عام 1898. كانت السينما في أوروبا تتطور بإيقاع متلاحق، وتزدحم بالأسماء المبدعة والتجارب الفنية المثيرة فيما "حروب الاحتكار" تستنفذ جهود غالبية العاملين في صناعة السينما الأمريكية. وقبل أغسطس 1914، حين اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، كانت صناعة السينما الأمريكية تتقاسم أسواق العالم مع إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والدنمرك والسويد وألمانيا. وكان لانحسار السوق الفرنسية خلال الأشهر القليلة التي سبقت الحرب، وتضاؤل اهتمام الجمهور بالأفلام التاريخية المبهرة التي كانت تنتجها إيطاليا، فضلاً عن استقرار نظام إنتاج الأفلام الروائية الطويلة، ذات الميزانيات الضخمة، في أمريكا، وتزايد معدلات الإنتاج، واتساع نطاق الجمهور الذي يتردد على السينما، وظهور بعض الكتابات الجادة التي تعبر عن بداية احترام الفيلم الأمريكي كشكل فني، كان لكل ذلك أثره البالغ في التمهيد لسيطرة هذا الفيلم على الأسواق العالمية. ثم جاءت الحرب، بما ترتب عليها من تدهور في صناعة الفيلم الأوروبي، نتيجة استخدام المواد التي يصنع منها السيلولويد في صنع القنابل، لتحسم هذه السيطرة بصورة نهائية ودائمة. وفي هذه السنوات المضطربة. احتلت الأفلام الأمريكية موقع الصدارة في كل أنحاء العالم، وأصبحت كوميديا شابلن وفيربانكس وأفلام رعاة البقر التي يقوم ببطولتها وليام هارت وتوم ميكس، والأفلام الميلودرامية والعاطفية، هي التي تجذب المتفرجين في كل مكان إلى شباك التذاكر، واحتل النجوم واجهة هوليوود، وأصبح "نظام النجوم" أساساً لسيطرتها العالمية، كما تحول الممثلون- بفضل هذا النظام- إلى "آلهة"، وشوهد بعضهم "يتحول" ليواكب "وعي هوليوود برسالتها الدولية"، فبعد أن كان "فيربانكس" على سبيل المثال أسيراً لدور البطل الأمريكي القوي، الساذج والمتفائل، والذي تعشقه الحسناوات، تحول في المكسيك في (علامة زورو)، وفي فرنسا في (الفرسان الثلاثة)، وفي إنجلترا في (روبن هود)، وفي الشرق في (لص بغداد) و (القرصان الأسود)، إلى فارس مغوار ومدافع صلد عن القضايا العادلة. وقد لعبت التأثيرات الاجتماعية التي شهدتها سنوات ما قبل الحرب دوراً أساسياً في التزام هوليوود بموقف الحياد الرسمي خلال الأشهر الأولى من الحرب. كانت هناك حركات قوية تدعو للسلام وكبح جماح قوى الاحتكار، وكان "الحس الاجتماعي المتصاعد" سبباً في نجاح "ويلسون" عام 1912، ومبادئه التي تدعو إلى "حرية جديدة". ولم يكن برنامج الرئيس ويلسون سوى تعبير عن "تطرف الطبقة الوسطى" التي هالها نمو القوى الاقتصادية وتركيزها، وفساد السياسيين الأخلاقي، والإضرابات العمالية،وانتشار الفقر والبطالة… إلخ، وقد حاولت هوليوود أن تعكس المشاعر التقدمية التي سادت تلك الفترة، وظهرت خلال الأشهر التالية لنشوب الحرب بعض الأفلام التي تندد بعدم إنسانية العنف، فكانت وجهة نظر جريفيث المعادية للحرب في فيلم (التعصب) جزءاً من الاتجاه العام لدى مخرجي الأفلام البارعين الذين يعكسون إحساس الجماهير الذي أمد ويلسون بملايين الأصوات عام 1916، على أساس أنه سيبعد الأمريكيين عن الحرب. وقيل أن فيلم (الحضارة) لتوماس إنس، كان تصويراً حياً لشعارات السلام التي رفعها الحزب الديمقراطي، حيث يتجسد المسيح في هيئة مهندس في غواصة، يبشر العالم بإنجيل السلام، وذكرت صحافة الديمقراطيين أن هذا الفيلم كان أحد أسباب إعادة انتخاب ويلسون عام 1916. لكن السينما كانت في طريقها إلى الظهور كفن جماهيري يخضع مباشرة لضغوط العصر، كما أن بعض الشركات السينمائية كانت مرتبطة بعلاقات مالية مع هيئات اقتصادية، لها مصلحة مباشرة في تخلي أمريكا عن حيادها ودخول الحرب إلى جانب الحلفاء. وبذلك سبقت هوليوود الموقف الرسمي، وظهرت منذ منتصف 1915 مجموعة من الأفلام التي ساهمت في تشكيل الرأي العام الأمريكي، وإعداده لتقبل قرار دخول الحرب. وأخرج ستيوارت بلاكتون فيلما بعنوان (معركة السلام) يصور الألمان وهم يحاصرون نيويورك من البحر، ويدمرون ناطحات السحاب. وظهر الألمان أيضاً في فيلم (القيصر إلى الجحيم) وهم يغرقون السفن التجارية ويطلقون الغازات السامة ويضربون مراكز الصليب الأحمر. وهذه الأفلام كانت ساذجة وبدائية وفقيرة، لكنها مؤثرة في ذلك الوقت. وعندما أصبحت الولايات المتحدة شريكاً فاعلاً في الحرب. أنشأت الحكومة وحدة سينمائية لأعمال الدعاية باسم "لجنة العلاقات العامة" رأسها "جورج كريل" الذي كلف بمهمة "بيع الحرب لأمريكا"!، وعملت اللجنة على تشجيع الاستوديوهات على إنتاج أفلام "ذات محتوي وطني" وزودتها بالفنانين والفنيين والأموال، وبمقترحات للقصص، وشرائط من مشاهد المعارك الحربية، وسيظل هذا التعاون بين المؤسسة العسكرية والصناعة السينمائية قائماً حتى يومنا هذا (وربما على هذا الأساس يمكن تفسير فوز "إنقاذ الجندي رايان" لستيفن سبيلبرج بأربع جوائز أوسكار هذا العام، مقابل خروج فيلم تيرانس ماليك "الخط الأحمر الرفيع" خالي الوفاض). وإذا كان جريفيث قد تعرض لضغوط من قبل وزارة الحرب البريطانية، وأخرج فيلماً هزيلاً بعنوان (قلوب العالم)، اعتبره النقاد والمؤرخون بداية تدهوره، فإن جماهيرية شابلن جعلت من المستحيل فرض قيود على عمله دون إفساد تأثيره كممثل كوميدي. ومن خلال هذا الوضع المتميز قدم فيلمين سخر فيهما من هستيريا الحرب: (حياة كلب) و (كتفا سلاح). ومع ذلك قص الرقيب آخر مشاهد الفيلم الثاني، الذي يسخر فيه شابلن من انتصار الحلفاء. وكان حذف هذا المشهد دليلاً قوياً على ذلك التناقض النامي بين تطور الفيلم الديناميكي، والضغوط التي تتطلب أنماطاً موحدة ومضامين "مأمونة".
ويلاحظ جورج سادول أنه حتى بعد أن أصبحت هوليوود قوة دولية، وأخذت في تدويل موضوعات أفلامها، فإن قلائل من أبطال الأفلام التجارية الناجحة- أي الصادرة عن الـ "بوكس أوفيس"- هم الذين جعلوا من "أمريكا" إطاراً لأفلامهم، ويقول إن نزع الطابع القومي عن السينما الأمريكية كان ظاهرة عامة، بدليل عدم استطاعة "هنري كنج" تحقيق فيلم (داود المتسامح) القائم على دراسة الحياة في المقاطعات الأمريكية، وتحويله عوضاً عن ذلك نحو الروايات العاطفية الرائجة. وحتى أفلام رعاة البقر التي جعل منها توماس إنس ووليام هارت فناً سينمائياً، أصبحت مرادفاً للأفلام الرخيصة، باستثناء أعمال جون فورد. إلى جانب ذلك، نظمت هوليوود، لكي تقضي على السينما المنافسة، هجرة أحسن المخرجين والممثلين الأجانب، وكان السويديان موريس ستيلر وبصحبته جريتا جاربو أول القادمين، ثم إميل جاننكس الذي وصل إلى هوليوود مصحوباً برهط من المحققين السينمائيين والتقنيين الألمان: مورنو، وليني، وألكسندر كوردا، ولودفيج بيرجر، ودوبون، والنجوم: كونراد فيدت وبولا نيجري، وتسبب هذا النزوح الجماعي في جفاف السينما الألمانية، وفتح المجال أمام الأمريكيين لشراء دور عرض في أهم مدن ألمانيا، وإغراق السوق الألمانية بالأفلام الأمريكية. وفي عام 1925 أشرفت شركة "أوفا" على الإفلاس، وأنقذتها شركتا "بارامونت" و "لو" بقرض قيمته 17مليون دولار، مقابل أن تحكم الشركات الأمريكية قبضتها على توزيع وعرض الأفلام داخل ألمانيا. وكنتيجة منطقية، أفلست "أوفا" مرة أخرى عام 1927، وأنقذها هذه المرة "ألفريد جننبرج" الذي كان يملك سلسلة صحف ووكالة أنباء، تعمل كلها في خدمة الهتلرية الصاعدة. أتت أواخر العشرينيات بحدثين فاصلين: دخول الصوت والأزمة الاقتصادية، فانكفأ الأمريكيون على أنفسهم، وأصبحت عناوين الصفحات الأولى للصحف مصدراً أساسياً لقصص العديد من الأفلام الرخيصة، واستثنى جون هوارد لوسن بعض الأفلام التي قدمت معالجات واقعية أشبه بالتسجيلية مثل (قيصر الصغير) 1930 و(عدو الشعب) 1931 و(الوجه ذو الندبة) 1932، وأتاحت تقنية الدوبلاج لهوليوود أن تستعيد بعض أسواقها الخارجية التي كانت فقدتها بسبب نقص عدد الأفلام من ناحية، و "حاجة كل جمهور إلى ممثلين يتكلمون لغته" من ناحية أخرى، وبدا أن هوليوود قد تأثرت بالمد الديمقراطي الذي أوصل روزفلت إلى الحكم، واتجاه حكومته إلى الإصلاح، فقدمت أفلاماً عن الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والتحايل على القانون، وعولجت اضطرابات العمال ومشاكل البطالة والتشرد وتدني مستويات المعيشة بكثير من التعاطف، وإن كان سادول يرى أن "بعض الانتقادات الاجتماعية في هذه الأفلام كانت ذرائع أكثر منها جرأة". وانتصفت الثلاثينيات على حدثين آخرين لا يقلان أهمية، الأول: إنشاء "فرقة الأدب" كأول جهاز رقابي غير حكومي، حيث أدت الحملات العنيفة إلى تطبيق صارم لقانون هايز الذي وضع عام 1922، فتحول اللص إلى "داعية أخلاقي"، ووضعت نسخة من الإنجيل إلى جانب كل رشاش. والثاني" اقتحام اثنين من عمالقة وول ستريت- هما مورجان وروكفلر- مجال صناعة السينما، حيث فرضا على الشركات الكبرى في هوليوود عملية إعادة تنظيم هائلة، انتهت بوضع الإنتاج السينمائي تحت الرقابة المباشرة لحفنة من رجال المال. وهكذا ما أن دقت طبول الحرب الثانية حتى كانت هوليوود قد تهيأت تماماً لنفس الدور الذي لعبته قبل وأثناء الحرب الأولى: خرق الموقف المحايد للحكومة، والترويج للحرب بوصفها "سلعة وطنية". قبل الحرب أنتجت هوليوود أفلاماً تصور "بهجة" الحياة العسكرية وتقدمها في صورة جذابة، ووضعت وزارة الحرب كافة إمكانياتها من قاذفات القنابل والبوارج وحتى القواعد العسكرية تحت تصرف أي منتج يصور فيلماً يشجع المواطنين على التطوع في القوات المسلحة، وفي عام 1940 أخرج هيتشكوك فيلمه المثير (المراسل الأجنبي)، وهز فيه مشاعر المتفرجين عندما أبرق بطل الفيلم "جويل ماكري" إشارة لاسلكية من قلب لندن التي مزقتها الغارات الجوية: "إن الأنوار تنطفئ في أوروبا. دثري نفسك بالفولاذ يا أمريكا"، وكان الفيلم صيحة تحريض ضد الذين ينادون بالعزلة وتجنب الاشتراك في الحرب. وعندما دخلت أمريكا الحرب تحول الألمان واليابانيون والإيطاليون في أفلام هوليوود إلى أشرار، ومن أصل 1312 فيلماً قدمت في سنوات 1942 و 1943 و1944، ساهم نحو 50 فيلماً (أي حوالي 4%) في إيضاح أسباب الحرب للجمهور، سواء داخل أمريكا أو خارجها. انتهت الحرب، وتسلمت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المعسكر الرأسمالي، لتشعل حرباً أخرى ضد الأيديولوجيا الشيوعية. وكان النجاح الرائع الذي حققته بعض الأفلام التي تناولت عالم ما بعد الحرب، (أجمل سنوات حياتنا) و(النيران المتقاطعة) و(اتفاق الجنتلمان) وغيرها، سبباً في إلقاء الضوء على أزمة هوليوود التي كانت قد تأجلت بسبب الحرب، ووصل الصراع بين وظيفة السينما كفن يخدم الجماهير وبين القيود التي فرضت عليها إلى نقطة لم يعد من الممكن إخفاؤها. دخلت هوليوود مرحلة تخبط بلغت ذروتها أواخر عام 1947، وأصبحت القضية "قومية" كما يقول جون هوارد لوسن، عندما وافقت شركات السينما تحت ضغط مزدوج من واشنطن ووول ستريت على اتهام بعض السينمائيين باعتناق "أفكار هدامة"، وتسليم أفلامهم إلى الرقابة البوليسية. لقد افترض هذا القرار أن كل مشاكل هوليوود حدثت "نتيجة حماس بعض الفنانين ذوي الاتجاهات الاجتماعية"، ومن ثم نصبت "لجنة النشاط غير الأمريكي" محاكم تفتيش، لم يفلت منها سوى وشاة تقليديين مثل "رونالد ريجان"، أو أصحاب مصالح مثل "جاك وارنر"، أو سينمائيين كبار مخدوعين مثل "إيليا كازان"، ممن وصفت خيانتهم بأنها "شهادات ودية"، وأوعزت اللجنة إلى هؤلاء المرشدين والمخبرين أن يزعموا أن "الأفكار الشيوعية" كانت تتسرب إلى الأفلام، وجاء في شهادة "جاك وارنر" عن أعمال الكتاب المشتبه فيهم، قوله: "إن بعض هذه السطور تتضمن تلميحات وتحتمل أكثر من معنى. إن المرء ليحتاج إلى استيعاب ثمانية أو عشرة من فروع الدراسات القانونية في جامعة هارفارد ليكشف عن المقصود منها". وبينما كانت اللجنة تباشر عملها، نشرت مجلة "سترداي ريفيو"- أوائل عام 1950 مناقشة حول دور صناعة السينما في دعم السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فقد ظهرت سلسلة مقالات في أربعة أعداد من المجلة، تكشف عن الصعوبات التي تواجه القائمين على أمر الدعاية للبرنامج العسكري لحكومة الولايات المتحدة، كما تكشف عن المهام الخاصة الملقاة على عاتق هوليوود في الخطة العالمية. وكتب "لوسن" يقول إن "نورمان كازينز"، وكان أحد الخبراء البارزين في شؤون الدعاية والإعلام في ذلك الوقت، أبدى أسفه، لأن الأفلام الأمريكية غالباً ما تصور الولايات المتحدة كما لو كانت "أمة من القتلة ورجال العصابات والكسالى والمفلسين ومدمني الخمر وسماسرة القمار والعاهرات والنصابين"، وطالب "كازينز" بضرورة أن تحث الأفلام على توفير العدالة واحترام الحكومة النيابية، فعارضه "إريك جونستون" الذي كان رئيساً لاتحاد المنتجين السينمائيين آنئذ قائلاً: إن هوليوود تؤدي دوراً عظيماً بإنتاجها أفلام للتسلية، خالية من الوعظ والإرشاد المذهبي!! وخلص "لوسن" إلى القول بأن ثمة خلافاً حقيقياً بين وجهتي نظر الطرفين، إذ بينما يدعو كازينز إلى ستر برنامج الحرب بمسوح الديمقراطية والحرية (وكان المأزق الذي واجهته الدعاية واضحاً خلال الأشهر التي سبقت التدخل المسلح في كوريا، ثم عمقته الحرب الكورية بالفعل)، لم يكن جونستون يكن احتراماً كبيراً لهذه الشعارات، بل لعله لم يكن يفهم معانيها. فهو يعبر عن احتقار كبار رجال الأعمال للشعوب وأمانيها، ويدلل على وجهة نظره بثناء الجنرال "ماك آرثر" على أفلام هوليوود.. "لأنها أسهمت مساهمة فعالة في واجب هام هو إعادة توجيه الشعب الياباني". لكنهما- كازينز وجونستون- يتفقان مبدئياً على وجوب الحكم على الفيلم بوصفه "أداة للسياسة الخارجية"، وعلى ضرورة أن تخدم الأفلام التي تصدرها هوليوود.. احتياجات الدعاية الحكومية. وختم لوسن قائلاً: "لقد أصبحت مشكلة الدعاية ملحة لدرجة جعلتهما يخرجان على آداب الجدل الثقافي، ومقالاتهما تفتقر بوضوح إلى المقاييس الجمالية والقيم الإنسانية، فالخلاف بينهما يحتدم حول وسائل ترويج المذاهب، أما الفن والجمال والحياة والحقيقة فلم يكن لها مكان في هذا الجدل".
في مقابلة بثتها شبكة "سي. إن. إن" أوائل عام 1996 في كل أنحاء الولايات المتحدة، اتهم "مارلون براندو" اليهود بأنهم "يسيطرون على هوليوود ويديرونها لحسابهم". وقال إن اليهود الذين يفترض أنهم تعذبوا في أوروبا وروسيا" يتعاملون مع المهاجرين الآخرين "بخشونة!" وحتى في سياق اعتذاره، لم يستطع براندو إعفاء مَن وصفهم بـ "الرعيل الأول الذي سيطر أفراده على عاصمة السينما" من مسؤولية "تشويه" الشعوب والأقليات الأخرى، بعكس اليهود الذين.. "ما أن يأتي دورهم على الشاشة، حتى تستدير العربة في اتجاه آخر". لم يستطع 43 حاخاماً وباحثاً وكاتباً - كانوا أصدروا بتكليف من بن جوريون مجلداً من 420 صفحة بعنوان "الهوية اليهودية" - أن يجيبوا على سؤال: "من هو اليهودي"!!. وعندما أعلن بن جوريون عام 1957 إن ثمة "وحدة قومية" تجمع بين يهود العالم.. سئل: هل هذا يعني أن المدير الشيوعي اليهودي لمصنع في ليننجراد، وسمسار البورصة اليهودي الرأسمالي في كليفلاند، يعملان نحو هدف مشترك؟ فلم يجب. وعلى هامش موقفه المناوئ للصهيونية، تساءل الحاخام الأمريكي المعروف "إلمر برجر": ماذا بيني وبين يهودي يمني مثلاً؟ لا شيء: لا لغة ولا مصلحة ولا تاريخ ولا حضارة. لكن برجر أكد رغم ذلك أن "اليهودية دين، لا قومية". وبذلك تصبح "الديانة" القاسم المشترك الوحيد بينه وبين اليهودي اليمني، وتصبح كلمة "يهودي" مجرد اصطلاح يستخدم للإشارة إلى كل من اعتنق الديانة اليهودية عبر التاريخ. وفي السياق الأمريكي اكتسبت مصطلحات مثل "يهودي" و "صهيوني" و"يهودية" دلالات جديدة، إذ أصبحت "العقيدة اليهودية" مرتبطة عضوياً، بل تكاد تكون متداخلة مع الصهيونية. "لقد تمت علمنتها بحيث تحولت إلى ما يشبه عبادة دولة إسرائيل "العجل الذهبي الجديد"على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري. وليس أدل على تداخل "اليهودي" و"الصهيوني" من حالة المخرج الأشهر "ستيفن سبيلبرج" الذي أعلن عقب تصوير (قائمة شندلر)، أنه يؤدي بهذا الفيلم لأول مرة "واجباً وخدمة" تجاه ديانته اليهودية، وأعلنت والدته عقب عرض فيلمه الأخير (أمير من مصر) أنها أهدت اليهود نبياً جديداً، يحمل التوراة في يد، والكاميرا في اليد الأخرى. ولكن إذا كانت الصهيونية قد حورت اليهودية الأمريكية وأعادت تعريفها ووظيفتها لمصلحتها فإن يهود الولايات المتحدة أنجزوا شيئاً مماثلاً بالنسبة للصهيونية. إن صهيونيتهم "توطينية"، ومن ثم فيهوديتهم "يهودية دفتر شيكات"، لكنهم لا يفكرون أبداً في الهجرة. لقد طوروا الأسطورة الصهيونية، فلم تعد "صهيون" هي البلد الذي يحنون أو يهاجرون إليه، بل هي "الوطن الأصلي"، تماماً مثل إيرلندا بالنسبة للأمريكيين الإيرلنديين، أو إيطاليا بالنسبة للأمريكيين الإيطاليين. و"الوطن الأصلي" هو المكان الذي يهاجر "منه" الإنسان، لا "إليه". هكذا، ما أن بدأت الدعاية الصهيونية تنشط في أوساط هوليوود أثناء الحرب العالمية الثانية، حتى بادر أثرياء اليهود من رجال صناعة السينما إلى التعبير عن استجابتهم بالأموال والتبرعات، على الرغم من تحفظهم على فكرة "الوطن القومي"، وبلغ الحماس بـ "جاك وارنر" أنه كان يهدد العاملين والفنانين اليهود في شركته بالطرد، إذ لم يتبرعوا بنسبة من مرتباتهم لـ"صندوق الإغاثة اليهودي المتحد". وسواء كانت تبرعات يهود هوليوود نوعاً من التكفير عن إحساسهم بالذنب- بسبب انصرافهم عن الدين- أو "وسيلة لشراء الاحترام"- كما يقول أمير العمري- فالنتيجة واحدة، إذ كان أكثر من نصف هذه التبرعات يخصص لتوطين اليهود في فلسطين وتمويل العصابات الصهيونية العاملة هناك، وكان أغلب المتبرعين يعرفون ذلك، إلا أن ذهاب جزء من التبرعات لأعمال خيرية خاصة بيهود أمريكا.. كان يجعلهم مطمئنين. وعندما تصدى "بن هاكت"- وهو كاتب سيناريو يهودي عرف بصهيونيته المتطرفة، وقربه من "بيتر بيرجسون" الذي كان أحد قياديي منظمة "الأرجون" الإرهابية- لمهمة جمع التبرعات من أثرياء هوليوود باسم "الأرجون" رفض "هاري وارنر"- وكان هو الآخر صهيونياً متحمساً- أن يستجيب له، بل طرده من مكتبه. كذلك رفض كل من "لويس ب. ماير" و "سام جولدوين"، لكنه في الحقيقة لم يكن رفضاً للمبدأ، بل لأسلوب عمل الأرجون في فلسطين، إذ كان لجوءها إلى العنف ضد البريطانيين والعرب هناك مثيراً للقلق والإزدراء. أما "وليم موريس"، الذي كان مديراً لأكبر وكالة لاكتشاف المواهب في هوليوود، فقد عرض المساهمة في دعم الأرجون بشرط إسقاط كلمة "يهودي" من المواد الدعائية المستخدمة في حملة جمع التبرعات. ولم يكن إصرار موريس على إسقاط كلمة "يهودي" سوى دليل على قوة حضورها. أما " ديفيد سلزنيك"- منتج فيلم (ذهب مع الريح)- فقد رفض في أول الأمر دعوة بن هاكت لإقامة حفل عشاء بغرض جمع تبرعات لحساب الأرجون، على أساس أنه أمريكي وليس يهودياً، و"سيكون من السخف أن أتظاهر فجأة بأنني يهودي". غير أن بن هاكت- الذي كان يعرف أن سلزنيك مقامر مدمن- اقترح عليه أن يختار ثلاثة أشخاص يثق فيهم، وإذا وافق واحد منهم فقط على أنه أمريكي وليس يهودياً. فسيسلم بالهزيمة. ووافق سلزنيك على الرهان، واختار بالفعل ثلاثة أشخاص يثق فيهم: "مارتن كيجلي"، مدير دار نشر، قال: سأقول إن سلزنيك يهودي. وتبعه "نانللي جونسون" بنفس التعليق. أما "ليلاند هيوارد"، وكان صاحب وكالة للمواهب الشابة، فقد انفجر قائلاً: بحق السماء.. ماذا جرى لديفيد؟ إنه يهودي، وهو يعرف ذلك. واستسلم سلزنيك، وتبعه مباشرة عدد من كبار يهود هوليوود، عقدوا اجتماعاً في مقر شركة "فوكس" بحضور كولونيل بريطاني سبق أن قاد الفيلق اليهودي في الحرب العالمية الأولى، وفي نهاية الأمسية كان بن هاكت قد حصل على تبرعات ووعود بالتبرع قدرت بحوالي 130 ألف دولار. هناك بالطبع شواهد أخرى كثيرة على استجابة يهود هوليوود- واليهود الأمريكيين بشكل عام- لضغط الحركة الصهيونية، التي كانت نقلت نشاطها الى الولايات المتحدة في أعقاب مؤتمر بلتيمور عام 1942. وجاء الإعلان عن قيام إسرائيل في عام 1948 ليقضي على ما بقي لديهم من تردد أو تحفظ، وليصبح دعم الدولة الناشئة مادياً وأدبياً ودعائياً بمثابة البديل الأنسب، أو المعادل الموضوعي لشعار بن جوريون: "ليس صهيونياً من لم يهاجر إلى إسرائيل". لقد قرر اليهود الأمريكيون البقاء في البلد الذي هيأ لهم فرص الثراء والصعود الاجتماعي، مع تبني طموحات وسياسات إسرائيل، واعتبارها دائماً فوق مصلحة الولايات المتحدة نفسها. وبهذه الصيغة أفلت يهود هوليوود من "ثالث وآخر اختبار" تعرضوا له منذ اشتغالهم في صناعة السينما، ولم يعد هناك مجال لأي ادعاء بأن رغبتهم في "الاندماج"- قبل قيام إسرائيل- كانت سبباً في إنقاذهم من تهمة الولاء المزدوج. كان الاختبار الأول قد حدث في الثلاثينات وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية. ورغم تصاعد نبرة الحديث عن نقاء العنصر في الدعاية النازية، ثم تواتر الأنباء عن تعذيب اليهود في ألمانيا ووسط أوروبا، فإن رغبة يهود هوليوود في الاندماج لم تكن سبباً في انحسار الأفلام التي تتناول شخصيات يهودية أو موضوعات عن اليهود في تلك الفترة، ولم يكن "لويس ب ماير" يتصرف كـ"مواطن أمريكي"، عندما قال لشاب يهودي ذهب إليه طالباً فرصة عمل في شركة "مترو جولدن ماير": "إنني كنت سأتعاقد معك على الفور لو لم تكن تبدو يهودياً إلى حد كبير. إذهب وحاول أن تجري عملية جراحية لتحسين منظر أنفك، وبعدها نتكلم". كان تردي الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة والعالم إثر أزمة 1929 قد خلف إحساساً بالخوف من حدوث ردود فعل عدائية من جانب الأمريكيين تجاه الأقليات صاحبة الاحتكارات المالية الضخمة، خاصة الأقلية اليهودية. ومن ناحية أخرى كانت السوق الألمانية في تلك الفترة (بعد ازدهار الفيلم الناطق) من أهم أسواق الفيلم الأمريكي، لذا كان لابد من التحسب لردود فعل الألمان قبل إنتاج أفلام تتناول شخصيات يهودية أو موضوعات عن اليهود. إلى جانب خوف رؤساء الاستوديوهات، في حال التعرض لموضوع النازية أو العداء للسامية، من إثارة الاعتقاد بأن هناك خطة دعائية منظمة لتوريط أمريكا في الحرب وإنقاذ يهود ألمانيا. أما الاختبار الثاني فقد حدث في فترة ما سمي بـ "المكارثية"، حين كانت هوليوود تغص باليهود الشيوعيين الفارين من جحيم الفاشية في النمسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها. ويقر أمير العمري بأن فترة المحاكمات المكارثية قد شهدت الكثير من يهود هوليوود الكبار وهم يتقدمون للإدلاء بشهاداتهم ضد عدد كبير من الذين عملوا معهم، سواء من اليهود أو من غير اليهود، وذلك إنقاذاً لوضعهم المتميز الذي كاد أن يصطدم لأول مرة بسلطة المؤسسة السياسية الحاكمة. وهكذا فإن أفضل ما يمكن أن يقال عن رغبة يهود هوليوود في الاندماج، خلال فترتي صعود النازي والمكارثية خصوصاً، وبدرجة أقل: منذ بداية اشتغالهم بصناعة السينما وحتى قيام إسرائيل، هو أنها كانت واحدة من حيلهم الكثيرة للحفاظ على مكتسباتهم المادية، ووضعهم الاجتماعي المتميز. وما كان تنكرهم ليهوديتهم، وذهابهم في ذلك إلى حد إهمال الشعائر والإقلاع عن زيارة المعابد وتغيير أسمائهم (ميلفين كامنسكي أصبح ميل بروكس، وأليعازر ماير أصبح لويس ب.ماير، وإيزور دانييلوفيتش أصبح كيرك دوجلاس، وألين ستيوارت كونيجسبرج أصبح وودي ألن.. إلخ)، بل والتنكر ليهود آخرين وإلحاق الأذى بهم، أقول: ما كان كل ذلك سوى وجه العملة الآخر. وبقيام إسرائيل لم تنتف الرغبة في الاندماج وحسب، بل أصبحت هوليوود أشبه بـ "الوطن القومي" بالنسبة لليهود الأمريكيين العاملين في صناعة السينما.
قبل أن يعتذر مارلون براندو عن تصريحاته التي اتهم فيها اليهود بأنهم يسيطرون على هوليوود ويديرونها لحسابهم.. تعهدت "رابطة الدفاع اليهودية" بأن تجعل حياة "الأب الروحي للكراهية"- حسبما وصفته- جحيماً على الأرض، فاضطر إلى التراجع بسرعة. وبعد اعتذاره بأقل من أسبوع أعلنت غرفة التجارة في هوليوود إنها أزالت صليباً معقوفاً (رمز النازية) كان قد وضعه مجهولون على النجمة التي تحمل صورة مارلون براندو في "طريق الشهرة": الطريق الذي يضم أسماء وصور أعظم نجوم عاصمة السينما. مع ذلك، تزعم "كارول بولتكين"- من المؤتمر اليهودي الأمريكي- أن معظم يهود هوليوود لم تكن لهم علاقة بالتنظيمات اليهودية. ويضيف جوناثان جولدبيرج إلى ذلك قوله إن هذه التنظيمات ترى أن صناعة السينما في هوليوود مغلقة أمامها، وأنها دخلت في صراع ثقافي مع يهود هوليوود بعد أن نشطت حركة الحقوق المدنية في الستينيات، وأصبح ظهور صورة العرقيات المختلفة على الشاشة مسألة مقبولة، وذلك بسبب بعض الأفلام التي كتبها أو أخرجها يهود، وقدمت اليهودي في صورة الشخص "المحاط بالشبهات" أو "المخالف لتعاليم جماعته"، أي التي حاولت أن تضعه في سياقه الإنساني وليس التاريخي. وبغض النظر عن أن مثل هذا "الصراع" لا يعكس تغيراً حقيقياً في بنية العلاقة بين التنظيمات اليهودية ويهود هوليوود، فإننا لا نستبعد سبباً آخر لا يقل أهمية عن نشاط حركة الحقوق المدنية، وهو أن قضية الاندماج لم تعد تمثل تحدياً ليهود الولايات المتحدة منذ قيام إسرائيل، ومن ثم أصبحت الفرصة مهيأة- لا لإثارة جدل حول صورة اليهودي في أفلام هوليوود، بل لإعادة "تنميطها" في ضوء ما ترتب على قيام إسرائيل من معطيات سياسية. واقعة براندو ليست الأولى، بطبيعة الحال، ولن تكون الأخيرة. فعندما اتهم "ليجراند كليج"- وهو محام أسود في إحدى ضواحي لوس أنجلوس- اليهود بالعنصرية، وطالب بضرورة عقد قمة مع زعمائهم لمناقشة دور "يهود هوليوود" في تشويه صورة السود على الشاشة، هوجم بضراوة، ونشرت "لجنة مكافحة تشويه الصورة" عام 1992 إعلاناً على صفحة كاملة تحت عنوان "معاداة السامية بين السود المتطرفين". ولم يجد "كليج" آذاناً صاغية، رغم تأكيده "المهذب" على أن اليهود "لم يقتلوا أو يهاجموا مواطنين سوداً"، لكنهم- أي السود- "قلقون بشأن تشويه صورتهم". وفي تفسيره لتجاهل اليهود شكوى "كليج" وهجومهم عليه، استبعد "جولدبيرج" أية دوافع عرقية أو عنصرية، على أساس أن صناعة السينما يتحكم فيها أولاً رجال أعمال، ثم يأتي بعد ذلك كونهم "يهوداً" أو مسيحيين أو ديمقراطيين أو حتى جمهوريين!! ويلتقي تفسير جولدبيرج مع ادعاءات بعض الكتاب اليهود الذين يعتقدون أن "هوليوود اليهودية" قد خانت قضية اليهود لحساب أفلام التسلية الكوزموبوليتية، أو هي- في أفضل الأحوال لم تقدم أفلاماً عن اليهود بما فيه الكفاية، وقدمتهم في أدوار: إما ثانوية أو نمطية، وفي كل الأحوال في أفلام كوميدية!! وإذا كان ذلك صحيحاً، فما معنى أن تنتج هوليوود 230 فيلما خلال الفترة من 1900 إلى 1929، تصور بشكل واضح شخصيات يهودية أو موضوعات عن اليهود، بينها ثلاثة أفلام عن "بنيامين دزرائيلي" وهو يهودي تحول إلى المسيحية، وأسس حزب المحافظين البريطاني، وتولى رئاسة وزراء بريطانيا مرتين (في عامي 1868 و 1874)، وظل مخلصاً ليهوديته طوال حياته. ثمة دراسة حديثة تشير إلى أن نسبة اليهود العاملين في هوليوود- من المؤلفين والمنتجين والمخرجين، بدرجة أقل- قد بلغت 59%. غير أن بعض المؤرخين والمحللين يشككون في قدرتهم على خلق "صورة معينة" لليهودي على شاشة السينما. وإذا كان ذلك صحيحاً أيضاً، فليس لأن اليهود الذين ذهبوا إلى هوليوود- كما يدعي جوناثان جولدبيرج- "لم تتوافر لديهم الرغبة في ذلك"، بل لاستحالة خلق أي "صورة" لليهودي خلافاً لصورته النمطية، أي التي يستمدها دائماً من تراثه الديني والروحي، والتي تراكمت تفاصيلها عبر سنوات طويلة من العزلة والتشتت والاضطهاد. مصاردر vأمير العمري، سينما الهلاك، اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية المعاصرة، دار سينا للنشر، 1992. v جون هوارد لوسن، فن كتابة السيناريو، ترجمة: إبراهيم الصحن، مراجعة: سعد لبيب، دار أبوللو، 1992. v جورج سادول، تاريخ السينما في العالم، ترجمة: د. إبراهيم الكيلاني، وفايز كم نقش، منشورات بحر المتوسط ومنشورات عويدات، بيروت- باريس، 1968. v آرثر نايت، قصة السينما في العالم.. من الفيلم الصامت إلى السينيراما، ترجمة: سعد الدين توفيق، مراجعة: صلاح أبو سيف، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967. v جوناثان جولدبيرج، قوة اليهود في أمريكا، ترجمة: نهال الشريف، دار الهلال، 1997. v موريس سبيد، تاريخ السينما، ترجمة: كمال أمين، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، 1960. v د. عبد الوهاب المسيري، موسوعة المصطلحات والمفاهيم اليهودية والصهيونية، 1975.
|