اليوم الأخير

 

 

في إحدى ضواحي القدس، وفي أحد بيوتها العتيقة ، دخلت الأرملة أم أحمد غرفة ابنها الوحيد لترتبها. ذكرها منظر غرفته وثيابه وصورته على جدار الحائط بموقف غريب حصل صباح ذلك اليوم ...

-  ما شاء الله، ما هذه الأناقة؟ وما هذه الرائحة الطيبة التي تضعها يا بني ؟

-  أجاب أحمد بصوت متهدج :

-  لا يا أمي ، لا شيء مهم .

-   ما بالك يا بني ؟

-  لا شيء يا أمي ، إنه ... نعم ، لقد قرروا في العمل أن يستأنفوا الدوام .

-  كيف يا بني؟ إنك تعلم أن جنود الاحتلال في كل مكان ، والمظاهرات لا تتوقف .

-  حسنا ، لقد قرروا أن يتكيفوا مع الوضع ؛ لأننا إن لم نفعل ، فسوف نضيع كثيرا من الوقت ، و..

-  أشعر بشيء من الريبة، أحمد أخبرني بالـ ..

-  آسف تأخرت يا أمي .

خرج أحمد من المنزل ، وأمه من ورائه تلحقه ، استدار ونظر إلى منزله ، أطال النظر وأخذ نفسا عميقا ، عاد إلى أمه الواقفة بباب الدار وقد أغرورقت عيناه بالدموع...

-   سامحيني يا أمي.

سارع أحمد إلى احتضان والدته وقد أجهش بالبكاء ، ظل يحضنها دقيقة كاملة وقد سالت دموعه على وجنتيها ، واختلطت بدموعها .

غادر أحمد ... وأمه لا تزال واقفة بباب الدار وقد عقدت غرابة الموقف لسانها.

إنها الثانية ظهرا الآن ، ودموع أحمد لا تكاد تجف عن وجنتي أمه ، ولكن ما هذا ؟! لقد رتب أحمد غرفته قبل أن يخرج ! زاد ذلك الموقف غرابة ، لم يفعلها من قبل ، و..

و رن جرس الهاتف ...

أسرعت الأم لتجيب على المكالمة لعله ابنها الوحيد يطفئ نارقلقها.

-  ألو، السلام عليكم، أهذا منزل السيد أحمد ؟

-  نعم ، أنا أمه ، أحمد في العمل الآن .

-  في العمل ! ولكننا نتصل الآن من مقر عمله نستفسر عن تغيبه... ألو.. ألو..

لقد عقد لسان الأم مرة أخرى، أحست أن الدنيا تدور من حولها، أسرعت إلى غرفة ابنها الوحيد لعلها تجد شيئا يخفف حيرتها، فتشت هنا وهناك حتى وجدت ورقة مطوية تحت وسادنه، فتحتها بلهفة وأخذت تقرؤها...

 سقطت الأم على ركبتيها..

لقد شلها ما قرأته، فما عادت قادرة على حمل نفسها..

لقد قرأت رسالة من ولد لأمه..

لقد قرأت رسالة من ولدها لها..

لم تكن رسالة عادية..

كانت رسالة وداع..

 

"ها قد وصل الكلاب.."

قالها أحمد محملقا في الشاحنة الإسرائيلية التي تحمل أكثر من أربعين جنديا والتي توقفت على بعد خمسين مترا من مخبئه . عيناه كأنهما قعرا جحيم تتأجج نيرانه ، اصطكت أسنانه كما لو أنه مقدم على تمزيق فريسة بأنياب شحذتها ذكريات مريرة ، ذكريات احتلال وقتل ومآس وفاجعات . عادت به الساعات إلى الوراء ، بل هي أيام وسنوات ، رأى جده يمسك بيده ويشير بإصبعه إلى مستعمرة إسرائيلية قيد الإنشاء بدت بحجم حذاء من فوق تلك التلة المرتفعة...

-  هذه أرضك يا بني ، انتزعها اليهودي الخسيس ، وبنى عليها قمامته ، عاهدني أنك ستعيدها لنا عندما تكبر ، عاهدني .

لم يكن يدرك آنذاك ما يقوله الجد ، لكن نهرا من الأحاسيس المتفجرة بحب الوطن والحنين إلى الدار كان يصب في فؤاد الغلام عبر يده التي اعتصرتها قبضة الجد .

ها هو الغلام يكبر، ليس بين نغمات الموسيقى ونضارة الزهور، بل بين أزيز طلقات الرصاص وسواد الرماد...

-         -  أين أبي يا أمي ؟

-         -  والدك ؟ نعم والدك.. هذا عمك اسأله..

-         -  أين والدي يا عمي ؟

-         -  والدك ؟ لقد ذهب في رحلة طويلة ولن يعود إلا بعد زمن ؟

-         -  لماذا لا تخبرونه الحقيقة ؟

قالها الجد وقد روعه أن يظل الطفل هائما يبحث عن والدًٌَُُ واراه التراب. أخبره بما حل بوالده ، أخبره بمن انتقم من طفولته ، لم يدر الطفل المسكين ماذا يفعل..

أيبك أم يصمت ؟

لقد كان يشعر منذ البداية أن ثعبانا قد دخل حياته فأفسدها منذ نسماتها الأولى ، لم يتعرف الثعبان حتى أخبره جده .

-         -  لماذا أخبرته ؟

-         -  كان عليه أن يعرف .

-         -  ولكن..

وهنا انهار أحد جدران البيت وبرزت خلفه عربة حديدية انهالت على البيت تهدمه وتحيله خرابا..

لقد رأى الصهيوني، رأى قاتل أبيه ، رأى ثيابه العسكرية ، قلنسوته اليهودية ، إنه يقود العربة يملؤه الزهو والفخر بما يفعله . رأى جده يحمله بيد ويمسك أمه بالأخرى ، وينطلق فارا إلى الخارج . رأى عمه وقد سحقه الجدار وأرداه قتيلا.  ها هم أهل القرية يفرون هنا وهناك ، لقد جاء المستعمر المحتل ، أرض جديدة ستضيع ، المزيد من العذاب ، المزيد من التشريد ، لم يحتمل ذلك كله ، فهو طفل صغير لم تمر الصدفة دون أن تتركه وقد جزع بها ، دارت الدنيا من حوله وراح في غيبوبة عميقة..

مرت سنوات على تلك الحادثة ، وانتقل الغلام مع أمه وجده إلى حي من أحياء القدس ، ها هو مع جده يتجهان إلى الأقصى للصلاة . كانت لحظات نور روحانية تنسي ماضيا حفره الزمن في القلب بنصل سكين .  ما لبث النور أن غشاه الظلام ، ما هذا؟ إنه دخان قنبلة غاز ، إنها طلقات رصاص ، رأى من حوله الشباب يقذفون الصهيوني بالحجارة ويقاومونه بما تيسر لهم من وسائل المقاومة . لم يتمالك تفسه ، التقط حجرا وبدأ يرمي ، تبسم العجوز ، رأى حفيده يقذف العدو بالحجر ، لا بل رأى فدائيا يمسك بيده سلاحا .

إنه يحاول أن يجد لنفسه مكانا في الطليعة، لقد بدأ يبتعد، قلق الجد وراح يلحق به ويناديه..

-    تعال.. أين تذهب؟ ألا تعلم أني عجوز و ما عدت....

وانطلقت رصاصة أخمدت العجوز إلى الأبد، رصاصة الصهيوني، التفت الغلام ونظر إلى جده المقتول بعينين صيرهما المشهد كأنهما فوهتا بركان..

نعم ، إنهما نفس العينين اللتين ينظر بهما الآن إلى شاحنة الجنود الإسرائيليين . راح ينفض عن نفسه غبار الماضي، لقد وجد الصياد طريدته، حانت لحظة الانتقام ، لقد استأجر سيارة قديمة ملأها بالبارود .  ها هو يرى قاتل والده ، قاتل عمه ، قاتل جده ، كانت شاحنة ضخمة تعج بالراكبين الذين انتهت دوريتهم..

 وانطلقت السيارة..

انطلقت تنهب الأرض تحت عجلاتها ، انطلقت وبداخلها البارود ، وسائق تتلهف جوارحه وأحاسيسه لنيل الشهادة فلا يرى أمامه سوى القضاء على العدو ، لم ير جثته الميتة ولا جسده المشوي ، رأى جنة سلام تفتح ذراعيها لاحتضانه . ولكن ماهذا ؟! لقد تنبه أحد الجنود وبدأ يطلق النار على السيارة المسرعة ، اخترقت رصاصة الزجاج واستقرت في كتف أحمد ، ارتخت قدمه عن دواسة الوقود ، يبدو أن العملية ستفشل ، لا ليس بعد كل هذا التعب..

 

"أقبل يا أحمد، فجنة الخلد بانتظارك.."

-     ماذا؟ إنني أعرف هذا الصوت ! أنا قادم يا جدي ، أنا قادم.

استجمع قواه وضغط بكل قوته على دواسة الوقود، واتجه مباشرة نحو الشاحنة الراقدة..

ودوى الانفجار..

انفجار لم يسبق له مثيل..

تطايرت الرؤوس والأوصال، ولم ينج جندي واحد، فاحت رائحة الشواء. ومن بين قاذورات الصهاينة صعدت روح طيبة إلى كنف خالقها وإلى فسيح جناته.

في حي أحمد بالقدس ، انطلقت زغرودة أم أحمد فرحا بنيل ابنها الشهادة. وفي إحدى الإذاعات العربية، ندد أحد المسؤولين بالعملية التي استهدفت مدنيين أبرياء ! كما شكك أحد رجالات الدين بنيل أحمد للشهادة واتهمه بالانتحار! وفي تل أبيب، ساد الفزع والرعب ، والحكومة الإسرائيلية باتت مهددة بالسقوط على يد أحمد ... وحده ..

وفي مقبرة من مقابر القدس ..

مقبرة تحمل عجوزا ..

يبتسم .

 

بقلم: هيثم محمود عبد الوهاب