سيد بهاء الدين مجروح

 

 

 

رسالة المساء

 

حين هبّت الرياح
حين دمرت مدينة الروح
حين هيمن الطغيان حتى على الرمق الأخير،
رُميَ المسافر آه، كقشة في العاصفة
إلى الصحراء البلامسرب،
نحو الرحيل البلاهدف.
آخرون، عديدون، عائلات بأسرها، رُميوا في الفراغ
في العدم، في التيه
بحثوا عن مكان لا يعرفونه
عن مياه لم يجدوها
يا تائهو الصحارى
ألم أقل لكم
ستأتي العاصفة
وقاربكم يدعو للرثاء
والسيل المدرار سيكون سكينا، دوارا، إعصارا،
ستنتصب طيور الرخ، حافرة شفرات ولججا
وستشاهدون وحشا، بعد ذلك،
في كل حبة رمل، في كل نقطة مياه
ألم أحدثكم عن اللجج،
عن التدفق، عن السحق؟
ألم أحدثكم عن الغرق،
زورقكم صغير
وهذه العين مرعبة حيث تتدحرج مياه عكرة؟
كم وكم قد غرقوا
كم وكم حطمهم الوحش!
ألم أنبهكم:
بعد أن تهب الرياح ستحاولون
مسك قفطانكم وأشرعتكم
مسك الماضي الزائغ والمخرب
مسك الصورة في قعر نظراتكم
لكن المدينة المخضوضرة اختفت
أحرقت الريح الصنوبرات والقباب.
ريح الطغيان، أفعى الرعب
ألم أخبركم عن عطشها لثديكم
وانه لن يأتي من أصقاع بعيدة جدا!
يا تائهو المنفى
ستخبئونه في أعماقكم
وسيهيمن على الرمق الأخير!
بربرية
تناغم
الدرب ليس مستقيما، أيها التائهون!
إن قال لكم أحد إنه مستقيم
لا تصدقوه، لا تصدقوه أبدا!
شاهدوا الأعاصير، الدوامات، فوهات البراكين
بربرية أشد من البربرية نفسها
وشاهدوا أيديكم فارغة
واحترسوا من الخطوط المستقيمة.
هم كلهم والمسافر، آه قشة!
رميوا في انحراف الأزمنة
المسمرون في هاوية داخل أنفسهم، في عيونهم ذاتها
الوساوس التي تنحرف عن الدرب.
جاءت الرياح،
اختفت المدينة.
هربت العائلات.
الرعب أصبح القانون
حكم الوحش.
آه يا أصدقائي المنفيين ما قلنا لأنفسنا؟

 

 

 

المنفيون الحقيقيون

 

في أرض المنفى

لا نعرف المشي

في سيرنا لا نعرف ما الذي نمغنطه تحت خطوتنا

في بلادنا

نعرف أين نضع اقدامنا كي لا نسحق او نجرح صغار الجن

ونتفادى ان ينتقم منا

لأن الجن في بلادنا ينجب الاطفال في كل مكان

وخصوصاً في جذوع الاشجار العتيقة جداً

وفي اعماق المغارات

وعلى امتداد الممرات الضيقة.

نحن نحسن التعرف على اعشاشهم والالتفاف من حولها

وليس كما هي الحال مع الجن المجهول هنا

ذي الطبائع الغريبة التي يصعب علينا تخمينها.

الاشارة الرابعة

هذا انا المفتون

غير المكتمل

المقيد في سلاسله

الغريب عن نبعه

الجاهل لنهايته

الفاقد المعنى

المعزول

الساخر الذي لا يتورع عن اعتبار نفسه الحقيقة المطلقة.

انه يطرد الاله خارج ذاته

ويستقر كمستبد.


تعريف

 

"أصدقائي المتبسمين/ أيها الاصدقاء السعداء/ استعدوا للسهر!/ تحسبوا لمعركة ضارية!".

هذه الابيات التي خطها الشاعر والكاتب والفيلسوف الافغاني سيد بهاء الدين مجروح، قبل ثلاثين عاماً، تبدو لمن يقرأها اليوم اشبه بنبوءة. في الحادي عشر من شباط 1988 قتله اصحاب العقول المظلمة في بيشاور، حيث عاش لاجئاً اثناء الاجتياح السوفياتي لبلاده. مجروح هو ابو الادب الافغاني الحديث، ولد في الثاني عشر من شباط 1928 في وادي كونار، جنوب البلاد، وانهى دراسته الثانوية في مدرسة الاستقلال في كابول عام ،1950 ثم سافر للدراسة في فرنسا وحصل على الديبلوم العالي في الفلسفة وعلم النفس من جامعة مونبلييه، ثم الدكتوراه عام 1968 عن اطروحة بعنوان "تربية الذات وسيكولوجيا المجموعة".

أواخر الخمسينات عاد مجروح الى بلاده ليعمل في التدريس، وحصل على شهادتين في الادبين الانكليزي والالماني، وتقلد منصب عميد كلية الآداب في جامعة كابول، ثم اصبح مستشاراً ثقافياً في سفارة بلده في المانيا الاتحادية.

أوائل السبعينات، بدأ سيّد بهاء الدين مجروح بكتابة أهم اعماله: "الذات - الوحش&quoot;، واستغرقت كتابة هذا السفر المؤلف من اجزاء عدة كل اوقاته، وخصوصاً بعد الانقلاب على الامير داود. ومع دخول السوفيات الى افغانستان، مدّ مجروح أواصر العلاقة مع المقاومة الوطنية التي تصدت للاحتلال، ثم انتقل عام 1980 الى بيشاور في باكستان، لتبدأ رحلته مع المنفى الذي قضى فيه.

وخلال السنوات الثماني التي امضاها في بيشاور، أسس مجروح وأدار "مركز المعلومات الافغاني"، واصدر نشرة دورية للمقاومة، وكان الناطق باسمها، وصلة الوصل بينها وبين مثقفي العالم. وفي مكتبه في المركز، عشية بلوغه الستين من العمر، اغتيل الشاعر الذي قال في كتاب "مسافر منتصف الليل":

"وحينها ادرك/ ان الدرب الوحيد/ الذي عليه ان يقطعه/ الطريق الوحيدة المتبقية/ هي التي تؤدي رأساً/ الى كهف الظلمات". من "اغاني "التيه" نقتطف هذه القصائد.

سيد بهاء الدين مجروح الذي كان يُعتبر من كبار مثقفي وكتاب أفغانستان المعاصرين، حيث قضى اغتيالا في العام 1988، في منفاه، في بيشاور، اختلفت التفسيرات، فمنهم من يقول ان المخابرات السوفياتية، قتلته لما يمثل من ثقل معنوي، ومنهم من يقول ان الحركات الإسلامية، المجاهدة، قد اغتالته، لأنه رفض الانضمام اليها.


مـن "أغـانـي الـتـيـه" لســيـد بـهـاء الـدين مـجروح:أنا الـمــفتـون غـيــر الـمــكتــمــل- الملحق الثقافي - النهار - الاثنين 15 تشرين الأول  2001

* * *

أفغانستان الشعراء المغتالين والنساء الموءودات وحاملي اللغة والكتب على طريق المنافي- الملحق الثقافي- إسكندر حبش  - السفير - 2001/10/12