مقدمة
ا
لحمد لله، الأول الآخر، الباطن الظاهر، الذى هو بكل شىء عليم، الأول فليس قبله شىء، الآخر فليس بعده شىء، الظاهر فليس فوقه شىء، الباطن فليس دونه شىء، الأزلى القديم، الذى لم يزل موجودًا بصفات الكمال، ولا يزال دائمًا مستمرًا، باقيًا سرمديًا، بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء، وعدد الرمال، وهو العلى الكبير المتعال، العلى العظيم، الذى خلق كل شىء فقدره تقديرًا.ورفع السماوات بغير عمد، وزينها بالكواكب الزاهرات، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وسوى فوقهن سريرًا شرجعًا عاليًا، منيفًا متسعًا مقبيًا مستديرًا، وهو العرش العظيم، له قوائم عظام، تحمله الملائكة الكرام، وتحفه الكروبيون عليهم الصلاة والسلام، ولهم زجل بالتقديس والتعظيم. وكذا أرجاء السماوات مشحونة بالملائكة، ويفد منهم فى كل يوم سبعون ألفًا إلى البيت المعمور بالسماء الرابعة لا يعودون إليه، آخر ما عليهم فى تهليل وتحميد وتكبير وصلاة وتسليم.
ووضع الأرض للأنام على تيار الماء، وجعل فيها رواسى من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام، قبل خلق السماء، وأنبت فيها من كل زوجين اثنين دلالة للألباء، من جميع ما يحتاج العباد إليه فى شتائهم وصيفهم، ولكل ما يحتاجون إليه ويملكونه من حيوان بهيم.
وبدأ خلق الإنسان من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، فى قرار مكين، فجعله سميعًا بصيرًا بعد أن لم يكن شيئا مذكورًا، وشرفه بالعلم والتعليم. خلق بيده الكريمة آدم أبا البشر، وصور جثته، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجه حواء أم البشر، فأنس بها وحدته، وأسكنها جنته، وأسبغ عليهما نعمته، ثم أهبطهما إلى الأرض، لما سبق فى ذلك من حكمة الحكيم، وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً، وقسمهم بقدره العظيم ملوكًا ورعاة، وفقراء وأغنياء، وأحرارًا وعبيدًا، وحرائر وإماء، وأسكنهم أرجاء الأرض، طولها والعرض، وجعلهم خلائف فيها، يخلف البعض منهم البعض، إلى يوم الحساب والعرض على العليم الحكيم، وسخر لهم الأنهار من سائر الأقطار، تشق الأقاليم إلى الأمصار، ما بين صغار وكبار، على مقدار الحاجات والأوطار، وأنبع لهم العيون والآبار، وأرسل عليهم السحائب بالأمطار، فأنبت لهم سائر صنوف الزرع والثمار، وآتاهم من كل ما سألوه بلسان حالهم وقال لهم:
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم:34] فسبحان الكريم العظيم الحليم.وكان من أعظم نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل، وأنطقهم: أن أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه، وتفصيل كل شىء فى المبدأ والمعاد، إلى يوم القيامة.
فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهى بالتعظيم، ففاز بالنعيم المقيم، وزحزح عن مقام المكذبين، فى الجحيم ذات الزقوم والحميم، والعذاب الأليم.
أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، يملأ أرجاء السماوات والأرضين، دائمًا أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى يوم الدين، فى كل ساعة وآن ووقت وحين، كما ينبغى لجلاله العظيم، وسلطانه القديم، ووجهه الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا نظير ولا وزير له، ولا مشير له، ولا عديد، ولا نديد، ولا قسيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المصطفى من خلاصة العرب العُرباء من الصميم، خاتم الأنبياء، وصاحب الحوض الأكبر الرواء، صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة، وحامل اللواء الذى يبعثه الله المقام المحمود، الذى يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم وشرف وكرم أزكى صلاة وتسليم، وأعلى تشريف وتكريم، ورضى الله عن جميع أصحابه الغر الكرام، السادة النجباء الأعلام، خلاصة العالم بعد الأنبياء، ما اختلط الظلام بالضياء، وأعلن الداعى بالنداء، وما نسخ النهار ظلام الليل البهيم
ف
صل: [فى بدء الخلق]قال الله تعالى فى كتابه العزيز:
{الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل} فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له، مربوب مدبر، مكون بعد أن لم يكن، محدث بعد عدمه، فالعرش الذى هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جامد وناطق، الجميع خلقه، وملكه وعبيده، وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته {خلق السماوات وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}.وقد أجمع العلماء قاطبة، لا يشك فى ذلك مسلم، أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، فى ستة أيام، كما دل عليه القرآن الكريم، فاختلفو فى هذه الأيام: أهى كأيامنا هذه؟ أو كل يوم كألف سنة مما تعدون؟ على قولين، كما بينا ذلك فى التفسير، وسنتعرض لإيراده فى موضعه.
واختلفوا: هل كان قبل خلق السماوات والأرض شىء مخلوق قبلهما؟ فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شىء، وأنهما خلقتا من العدم المحض. وقال آخرون: بل كان قبل السماوات والأرض مخلوقات أخر لقوله:
{وهو الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء} الآية. وفى حديث عمران ابن حصين كما سيأتى: (كان الله ولم يكن قبله شىء، وكان عرشه على الماء، وكتب فى الذكر كل شىء، ثم خلق السماوات والأرض).وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبى رزين لقيط بن عامر العقيلى، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال:
(كان فى عماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء). ورواه عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، به، ولفظه: (أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟) وباقيه سواء.وأخرجه الترمذى عن أحمد بن منيع، وابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، ومحمد بن الصباح، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون. وقال الترمذى: حسن.
واختلف هؤلاء فى أيها خلق أولاً، فقال قائلون: خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزى، وغيرهما. قال ابن جرير: وبعد القلم السحاب الرقيق. واحتجوا بالحديث الذى رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذى، عن عبادة بن الصامت، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى فى تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). لفظ أحمد. وقال الترمذى: حسن صحيح غريب.والذى عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمدانى وغيره: أن العرش مخلوق قبل ذلك. وهذا هو الذى رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، كما دل على ذلك الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، حيث قال: حدثنى أبو الطاهر أحمد ابن عمرو بن السرج، حدثنا ابن وهب، أخبرنى أبو هانئ الخولانى، عن أبى عبد الرحمن الجيلى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء). قالوا: فهذا التقدير هو: كتابته بالقلم المقادير.وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذى كتب به المقادير، كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخارى، عن عمران بن حصين، قال: قال: أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئناك لنتفقه فى الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال:
(كان الله ولم يكن شىء قبله) - وفى رواية: (معه)، وفى رواية: (غيره) - (وكان عرشه على الماء، وكتب فى الذكر كل شىء وخلق السماوات والأرض) وفى لفظ: (ثم خلق السماوات والأرض). فسألوه عن ابتداء خلق السماوات والأرض، ولهذا قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فأجابهم عما سألوا فقط. ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش، كما أخبر به فى حديث أبى رزين المتقدم.قال ابن جرير: وقال آخرون: بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش رواه السدى، عن أبى مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء.
وحكى ابن جرير: عن محمد بن إسحاق أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئا مبصرًا. قال ابن جرير: وقد قيل أن الذى خلق ربنا بعد القلم: الكرسى، ثم خلق بعد الكرسى العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة، ثم خلق الماء، فوضع عرشه على الماء، والله سبحانه وتعالى أعلم