قصة صالح نبى ثمود عليه السلام

وهم قبيلة مشهورة، يقال ثمود باسم جدهم تمود أخى جديس، وهما ابنا عابر بن أرم بن سام بن نوح، وكانوا عربًا من العاربة، يسكنون الحجر الذى بين الحجاز وتبوك، وقد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، كما سيأتى بيانه، وكانوا بعد قوم عاد وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك، فبعث الله فيهم رجلا منهم، وهو عبد الله ورسوله صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد، ولا يشركوا به شيئا، فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم ونالوا منه بالمقال والفعال، وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التى جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى فى سورة الأعراف: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون من الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا فى الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذى آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}.

وقال تعالى فى سورة هود: {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا أتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز وأخذ الذين ظلموا الصحية فأصبحوا فى دارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدًا لثمود}، وقال تعالى فى سورة الحجر: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}، وقال سبحانه وتعالى فى سورة سبحان: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}.

وقال تعالى فى سورة الشعراء: {كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين أتتركون فيما هاهنا آمنين فى جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم}، وقال تعالى فى سورة النمل: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وقال تعالى فى سورة حم فصلت: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}، وقال تعالى فى سورة اقتربت: {كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنا إذًا لفى ضلال وسعر أألقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدًا من الكذاب الأشر إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابى ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}، وقال تعالى: {كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}. وكثيرًا ما يقرن الله فى كتابه بين ذكر عاد وثمود كما فى سورة براءة وإبراهيم والفرقان وسورة ص وسورة ق والنجم والفجر. ويقال: إن هاتين الأمتين لا يعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر فى كتابهم التوراة، ولكن فى القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما، كما قال تعالى فى سورة إبراهيم: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الأرض جميعًا فإن الله لغنى حميد ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات} الآية، الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه، ولكن لما كان هاتان الأمتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيدًا ولا اعتنوا بحفظه وإن كان خبرهما كان مشهورًا فى زمان موسى عليه السلام، وقد تكلمنا على هذا كله فى التفسير متقصيًا ولله الحمد والمنة.

والمقصود الآن ذكر قصتهم، وما كان من أمرهم، وكيف نجى الله نبيه صالحًا عليه السلام ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام، قد قدمنا أنهم كانوا عربا، وكانوا بعد عاد، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم، ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا فى الأرض مفسدين} أى إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباح لكم هذه الأرض تبنون فى سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، أى حاذقين فى صنعتها وإتقانها وإحكامها، فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح، والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته، فإن عاقبة ذلك وخيمة، ولهذا وعظهم بقوله: {أتتركون فيما هاهنا آمنين فى جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم} أى متراكم كثير، حسن بهى ناضج {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون}.

وقال لهم أيضا: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} أى هو الذى خلقكم فأنشأكم من الأرض وجعلكم عمارها، أى أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، فهو الذى يستحق العبادة وحده لا سواه {فاستغفروه ثم توبوا إليه} أى أقلعوا عما أنتم فيه وأقبلوا على عبادته، فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم {إن ربى قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا} أى قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا قبل هذه المقالة، وهى دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنا نعبده من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد، ولهذا قالوا: {أتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير} وهذا تلطف منه لهم فى العبارة، ولين الجانب، وحسن تأت فى الدعوة لهم إلى الخير، أى فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه؟ ماذا عذركم عند الله؟ وماذا يخلصكم من بين يديه وأنتم تطلبون منى أن أترك دعاءكم إلى طاعته؟ وأنا لا يمكننى هذا، لأنه واجب علىّ، ولو تركته لما قدر أحد منكم، ولا من غيركم أن يجيرنى منه ولا ينصرنى، فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له حتى يحكم الله بينى وبينكم.

وقالوا له أيضا: {إنما أنت من المسحرين} أى من المسحورين، يعنون مسحورا لا تدرى ما تقول فى دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده، وخلع ما سواه من الأنداد، وهذا القول عليه الجمهور: إن المراد بالمسحرين المسحورين، وقيل من المسحرين: أى ممن له سحر وهى الرئة، كأنهم يقولون: إنما أنت بشر له سحر، والأول أظهر لقولهم بعد هذا: {ما أنت إلا بشر مثلنا}، وقولهم: {فأت بآية إن كنت من الصادقين} سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم}، وقال: {قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}، وقال تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}.

وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يومًا فى ناديهم فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم إلى الله وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة، وأشاروا إلى صخرة هناك، ناقة من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافا سموها ونعتوها وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا، فقال لهم النبى صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذى طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقونى فيما أرسلت به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه المطلوب الذى طلبوا، أو على الصفة التى نعتوا، فلما عاينوها كذلك رأوا أمرًا عظيمًا ومنظرًا هائلاً وقدرة باهرة ودليلاً قاطعًا وبرهانًا ساطعًا، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم.

ولهذا قال: {فظلموا بها} أى جحدوا بها ولم يتبعوا الحق بسببها، أى أكثرهم، وكان رئيس الذين آمنوا جندع بن عمرو بن محلاة بن لبيد بن جواس، وكان من رؤسائهم، وهم بقية الأشراف بالإسلام، فصدهم ذؤاب بن عمر بن لبيد والخباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلمس، ودعا جندع بن عمه شهاب بن خليفة، وكان من أشرافهم فهم بالإسلام فنهاه أولئك فمال إليهم، فقال فى ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة بن الذميل، رحمه الله:

وكانت عصبة من آل عمرو

إلى دين النبى دعوا شهابا

عزيز ثمود كلهم جميعا

فهم بأن يجيب ولو أجابا

لأصبح صالح فينا عزيزا

وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا

ولكـن الغــواة مـــن آل حجــــر

تولــوا بعـــد رشدهـــم ذآبــــــا

ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: {هذه ناقة الله لكم آية} أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم، كقوله: بيت الله وعبد الله {لكم آية} أى دليلا على صدق ما جئتكم به، {فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم، ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوما بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء فى يومهم لغدهم، ويقال: إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم، ولهذا قال: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}، ولهذا قال تعالى: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم} أى اختبارًا لهم، أيؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون {فارتقبهم} أى انتظر ما يكون من أمرهم {واصطبر} على أذاهم فسيأتيك الخبر على جليتة {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} فلما طال عليهم الحال هذا اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم، قال الله تعالى: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} وكان الذى تولى قتلها منهم رئيسهم قدار بن سالف بن جندع، وكان أحمر أزرق أصهب، وكان يقال إنه ولد زانية، ولد على فراش سالف، وهو ابن رجل يقال له صيبان، وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم، فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم.

وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين: أن امرأتين من ثمود اسم أحداهما: صدوق ابنة المحيا بن زهير بن المختار، وكانت ذات حسب ومال، وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته، فدعت ابن عم لها يقال له: مصرع بن مهرج بن المحيا، وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، واسم الأخرى: عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى أم عثمان، وكانت عجوزا كافرة، لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد الرؤساء، فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة، فله أى بناتها شاء، فانتدب هذان الشابان لعقرها، وسعوا فى قومهم بذلك، فاستجاب لهم سبعة آخرون، فصاروا تسعة، وهم المذكورون فى قوله تعالى: {وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الأرض ولا يصلحون} وسعوا فى بقية القبيلة، وحسنوا لهم عقرها، فأجابوهم إلى ذلك وطاوعوهم فى ذلك، فانطلقوا يرصدون الناقة، فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم فانتظم عظم ساقها، وجاء النساء يزمرن القبيلة فى قتلها، وحسرن عن وجوههن ترغيبا لهم، فابتدرها قدار بن سالف فشد عليها بالسيف، فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها، ثم طعن فى لبتها فنحرها، وانطلق سقبها، وهو فصيلها، فصعد جبلاً منيعًا ودعا ثلاثًا.

وروى عبد الرزاق عن معمر، عمن سمع الحسن، أنه قال: يا رب، أين أمى؟ ثم دخل فى صخرة فغاب فيها، ويقال: بل اتبعوه فعقروه أيضًا، قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابى ونذر}، وقال تعالى: {إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها}، أى احذروها {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}.

قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هاشم، هو أبو عزرة، عن أبيه عبد الله ابن زمعة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذى عقرها فقال: {إذ انبعث أشقاها} انبعث لها رجل غارم، عزيز منيع فى رهطه مثل أبى زمعة. أخرجاه من حديث هشام، عارم أى شهم، عزيز أى رئيس، منيع أى مطاع فى قومه. وقال محمد بن إسحاق: حدثنى يزيد بن محمد بن خيثم، عن محمد بن كعب، عن محمد بن خيثم، عن يزيد، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى: (ألا أحدثك بأشقى الناس)؟ قال: بلى، قال: (رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذى عقر الناقة، والذى يضربك يا على على هذا، يعنى قرنه، حتى تبتل منه هذه) يعنى لحيته. رواه ابن أبى حاتم.

وقال تعالى: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} فجمعوا فى كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه منها: أنهم خالفوا الله ورسوله فى ارتكابهم النهى الأكيد فى عقر الناقة التى جعلها الله لهم آية، ومنها أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم، فاستحقوه من وجهين: أحدهما: الشرط عليهم فى قوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} وفى آية عظيم، وفى الأخرى أليم، والكل حق. والثانى: استعجالهم على ذلك، ومنها أنهم كذبوا الرسول الذى قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه، وهم يعلمون ذلك علمًا جازمًا، ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ووقوع العذاب بهم، قال الله تعالى: {فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف، لعنه الله، فعرقبها، فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها، فلما عاين ذلك سقبها، (وهو ولدها)، شرد عنهم فعلا أعلى الجبل هناك، ورغا ثلاث مرات، فلهذا قال لهم صالح: {تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام} أى غير يومهم ذلك، فلم يصدقوه أيضًا فى هذا الوعد الأكيد، بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة: {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} أى لنكبسنه فى داره مع أهله فلنقتلنه، ثم نجحدن قتله وننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه، ولهذا قالوا: {ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}.

وقال الله تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم سلفًا وتعجيلاً قبل قومهم، وأصبحت ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة، ووجوههم مصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما أمسوا نادوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، ثم أصبحوا فى اليوم الثانى من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجهم محمرة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ثم أصبحوا فى اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى الأجل، فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة، لا يدرون كيف يفعل بهم ولا من أى جهة يأتيهم العذاب، فلم أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الأصوات وحقت الحقائق {فأصبحوا فى دارهم جاثمين} جثثا لا أرواح فيها ولا حراك بها، قالوا: ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة، واسمها: كلبة بنت السلق، ويقال لها: الذريعة وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شىء فأتت حيا من العرب، فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم ماء فلما شربت ماتت، قال الله تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} أى لم يقيموا فيها فى سعة ورزق وغناء {ألا إن ثمود كفروا ربهم إلا بعدًا لثمود} أى نادى عليهم لسان القدر بهذا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال: (لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت، يعنى الناقة، ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج {فعتوا عن أمر ربهم} {فعقروها} وكانت تشرب ماءهم يومًا، ويشربون لبنها يومًا، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحدًا كان فى حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو فى شىء من الكتب الستة، والله أعلم.

وقد قال عبد الرزاق أيضًا: قال معمر: أخبرنى إسماعيل بن أمية أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبى رغال، فقال: (أتدرون من هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا قبر أبى رغال، رجل من ثمود كان فى حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب)، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن. قال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهرى: أبو رغال أبو ثقيف. هذا مرسل من هذا الوجه. وقد جاء من وجه آخر متصلاً كما ذكره محمد بن إسحاق فى السيرة عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبى بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: (إن هذا قبر أبى رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التى أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه). فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن.

وهكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزى رحمه الله: هذا حديث حسن عزيز. قلت: تفرد به بجير بن أبى بجير هذا ولا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية. قال شيخنا: فيحتمل أنه وهم فى رفعه، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملته، والله أعلم. قلت: لكن فى المرسل الذى قبله وفى حديث جابر أيضًا شاهد له، والله أعلم.

وقوله تعالى: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم، وقد أخذ فى الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلاً لهم: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم} أى جهدت فى هدايتكم بكل ما أمكننى وحرصت على ذلك بقولى وفعلى ونيتى {ولكن لا تحبون الناصحين} أى لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده، فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمر بكم المتصل إلى الأبد، وليس لى فيكم حيلة، ولا لى بالدفع عنكم يدان، والذى وجب علىّ من اداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم، ولكن الله يفعل ما يريد. وهكذا خاطب النبى صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، بعد ثلاث ليالٍ وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل، فقال: (يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقًا). وقال لهم، فيما قال: (بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذبتمونى وصدقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس، فبئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم)، فقال له عمر: يا رسول الله، تخاطب أقوامًا قد جيفوا؟ فقال: (والذى نفسى بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون). وسيأتى بيانه فى موضعه إن شاء الله. ويقال إن صالحًا عليه السلام انتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات.