قصة إبراهيم خليل الرحمن

هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو ابن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. هذا نص أهل الكتاب فى كتابهم، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندى، كما ذكروه من المدد، وقدمنا الكلام على عُمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته، وحكى الحافظ ابن عساكر فى ترجمة إبراهيم الخليل من تاريخه عن إسحاق بن بشر الكاهلى صاحب كتاب المبتدأ أن اسم أم إبراهيم: أميلة، ثم أورد عنه فى خبر ولادتها له حكاية طويلة، وقال الكلبى: اسمها بونا بنت كربنا بن كرثى من بنى أرفخشذ بن سام بن نوح.

وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة، أنه قال: كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، قالوا: ولما كان عمر تارخ خمسًا وسبعين سنة، ولد له إبراهيم عليه السلام، وناحور وهاران وولد لهاران لوط، وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط وأن هاران مات فى حياة أبيه فى أرضه التى ولد فيها، وهى أرض الكلدانيين، (يعنون أرض بابل)، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار.

وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر بعد ما روى من طريق هشام بن عمار، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن ابن عباس، قال: ولد إبراهيم بغوطة دمشق، فى قرية يقال لها: برزة، فى جبل يقال له: قاسيون، ثم قال: والصحيح أنه ولد ببابل، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معينًا للوط عليه السلام، قالوا: فتزوج إبراهيم سارة، وناحور ملكا ابنة هاران، (يعنون بابنة أخيه)، قالوا: وكانت سارة عاقرًا لا تلد، قالوا: وانطلق تارخ بابنه إبراهيم، وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة، وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، وإنما مولده بأرض الكلدانيين، (وهى أرض بابل وما والاها)، ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين، (وهى بلاد بيت المقدس)، فأقاموا بحران، (وهى أرض الكشدانيين فى ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضًا)، وكانوا يعبدون الكواكب السبعة، والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين يستقبلون القطب الشمالى ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال، ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها، ويعملون لها أعيادًا وقرابين، وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفارًا سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذى أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده فى صغره وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً فى كبره.

قال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} أى كان أهلا لذلك، وقال تعالى: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكًا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقًا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شىء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين فى الأرض ولا فى السماء وما لكم من دون الله من ولىِّ ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتى وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن فى ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوطٌ وقال إنى مهاجرٌ إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى الآخرة لمن الصالحين} ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى: {واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقًا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا يا أبت إنى قد جاءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إنى إخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن إلهتى يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى أن لا أكون بدعاء ربى شقيا}. فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التى لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر مكانه فكيف تغنى عنه شيئا، أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر ثم قال منبهًا على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنًا من أبيه: {يا أبت إنى قد جاءنى من العلم مالم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا} أى مستقيمًا واضحًا سهلاً حنيفًا يفضى بك إلى الخير فى دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه، ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده، قال: {أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك} قيل: بالمقال، وقيل: بالفعال {واهجرنى مليا} أى واقطعنى وأطل هجرانى فعندها قال له إبراهيم: {سلام عليك} أى لا يصلك منى مكروه ولا ينالك منى أذى بل أنت سالم من ناحيتى، وزاده خيرا فقال: {سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا} قال ابن عباس وغيره: أى لطيفا، يعنى فى أن هدانى لعبادته والإخلاص له، ولهذا قال: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى أن لا أكون بدعاء ربى شقيا} وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده فى أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما قال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}.

وقال البخارى: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنى أخى عبد الحميد، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصنى، فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتنى أن لا تخزنى يوم يبعثون وأى خزى أخزى من أبى الأبعد؟ فيقول الله: إنى حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار). هكذا رواه فى قصة إبراهيم منفردًا.

وقال فى التفسير: وقال إبراهيم بن طهمان: عن ابن أبى ذؤيب، عن سعيد المقبرى، عن أبيه، عن أبى هريرة. وهكذا رواه النسائى عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان به. وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه، وفى سياقه غرابة. ورواه أيضا من حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبى سعيد، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين} هذا يدل على أن اسم أبى إبراهيم آزر. وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة، فقيل: إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر. وقال ابن جرير: والصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان عَلَمان أو أحدهما لقب والآخر علم، وهذا الذى قاله محتمل والله أعلم.

ثم قال تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برىء مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجونى فى الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئًا وسع ربى كل شىء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} وهذا المقام مقام مناظرة لقومه وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ولا أن تعبد مع الله عز وجل، لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم والرب تعالى لا يغيب عنه شىء، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقى بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه، فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب، قيل: هو الزهرة، لذلك ترقى منها إلى القمر الذى هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التى هى أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة، كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهم إن كنتم إياه تعبدون}، ولهذا قال: {فلما رأى الشمس بازغة} أى طالعة {قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برىء مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجونى فى الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا إن يشاء ربى شيئا} أى لست أبالى فى هذه الآلهة التى تعبدونها من دون الله، فإنها لا تنفع شيئا، ولا تسمع ولا تعقل، بل هى مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها، أو مصنوعة منحوتة منجورة.

والظاهر أن موعظته هذه فى الكواكب لأهل حران فإنهم كان يعبدونها، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولاسيما إذا خالفت الحق، وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم فى عبادتها وكسرها عليهم وأهانها وبين بطلانها، كما قال تعالى: {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}، وقال فى سورة الأنبياء: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحقِّ أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم ربُّ السماوات والأرض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين}.

وقال فى سورة الشعراء: {واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطعمنى ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحيين والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين ربِّ هب لى حكما وألحقنى بالصالحين}، وقال تعالى فى سورة الصافات: {وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ائفكًا آلهةً دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة فى النجوم فقال إنى سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانًا فألقوه فى الجحيم فأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأسفلين} يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان، وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها، فقال: {ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون} أى معتكفون عندها وخاضعون لها، قالوا: {وجدنا آبائنا لها عابدين} ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين}.

كما قال تعالى: {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكًا آلهةً دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين}. قال قتادة: فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وقال لهم: {هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} سلموا له أنها لا تسمع داعيا، ولا تنفع ولا تضر شيئا، وإنما الحامل لهم على عبادتها الإقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم فى الضلال من الآباء الجهال، ولهذا قال لهم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين} وهذا برهان قاطع على بطلان آلهية ما ادعوه من الأصنام، لأنه تبرأ منها وتنقص بها، فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لأثرت فيه {قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} يقولون هذا الكلام الذى تقوله لنا وتنتقص به آلهتنا وتطعن بسببه فى آبائنا تقوله محقا جادا فيه أم لاعبا {قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} يعنى بل أقول لكم ذلك جادًا محقًا، وإنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو ربكم ورب كل شىء فاطر السماوات والأرض الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين، وقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} أقسم ليكيدن هذه الأصنام التى يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم، قيل: إنه قال هذا خفية فى نفسه، وقال ابن مسعود: سمعه بعضهم، وكان لهم عيد يذهبون إليه فى كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره، فقال: إنى سقيم، كما قال تعالى: {فنظر نظرة فى النجوم فقال إنى سقيم} عرض لهم فى الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق فى بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التى تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة، فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو فى بلدهم: {فراغ إلى آلهتهم} أى ذهب إليها مسرعا مستخفيا، فوجدها فى بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا إليها، فقال لها على سبيل التهكم والإزدراء، {ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين} لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر، فكسرها بقدوم فى يده كما قال تعالى: {فجعلهم جذاذا}، أى حطاما كسرها كلها {إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون} قيل: إنه وضع القدوم فى يد الكبير إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار، فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين}.

وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حل بآلهتهم التى كانوا يعبدونها فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}، أى يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدارء بها فهو المقيم عليها، والكاسر لها، وعلى قول ابن مسعود: أى يذكرهم بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين}، {قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون} أى فى الملأ الأكبر على رءوس الأشهاد لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه، وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: {موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا: {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} قيل: معناه هو الحامل لى على تكسيرها وإنما عرض لهم فى القول: {فاسئلوهم إن كانوا ينطقون} وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول أن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات {فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون} أى فعادوا على أنفسهم بالملامة {فقالوا إنكم أنتم الظالمون} أى فى تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها {ثم نكسوا على رءوسهم} قال السدى: أى ثم رجعوا إلى الفتنة، فعلى هذا يكون قوله: {إنكم أنتم الظالمون} أى فى عبادتها، وقال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء أى فأطرقوا، ثم قالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} أى لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها، فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} كما قال: {فأقبلوا إليه يزفون} قال مجاهد: يسرعون، قال: {أتعبدون ما تنحتون} أى كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون {والله خلقكم وما تعملون} وسواء كانت ما مصدرية، أو بمعنى الذى فمقتضى الكلام: أنكم مخلوقون وهذه الأصنام مخلوقة، فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله، فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم، وهذا باطل فالآخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له {قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين} عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال تعالى: {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين} وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبًا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام فى كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد، يقال له: هزن، وكان أول من صنع المجانيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، فلما وضع الخليل عليه السلام فى كفة المنجنيق مقيدًا مكتوفًا ثم ألقوه منه إلى النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، كما روى البخارى عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقى فى النار، وقالها محمد حين قيل له: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} الآية.

وقال أبو يعلى: حدثنا أبو هشام الرفاعى، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبى جعفر الرازى، عن عاصم بن أبى النجود، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم : (لما ألقى إبراهيم فى النار، قال: اللهم إنك فى السماء واحد، وأنا فى الأرض واحد وأعبدك).

وذكر بعض السلف: أن جبريل عرض له فى الهواء، فقال: ألك حاجة؟ :فقال أما إليك فلا. ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال: جعل ملك المطر، يقول: متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع {قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم} قال على بن أبى طالب: أى لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله قال: {وسلاما على إبراهيم} لأذى إبراهيم بردها. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يؤمئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه. وقال الضحاك: يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شىء غيره. وقال السدى: كان معه أيضًا ملك الظل. وصار إبراهيم عليه السلام فى ميل الجوبة حوله النار، وهو فى روضة خضراء، والناس ينظرون إليه، لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم. فعن أبى هريرة أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم.

وروى ابن عساكر، عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته: يا بنى، إنى أريد أن أجىء إليك، فادع الله أن ينجينى من حر النار حولك، فقال: نعم، فأقبلت إليه لا يمسها شىء من حر النار، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت. وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يومًا، وأنه قال: ما كنت أياما وليالى أطيب عيشًا إذ كنت فيها، ووددت أن عيشى وحياتى كلها مثل إذ كنت فيها. صلوات الله وسلامه عليه، فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا، قال الله تعالى: {وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}، وفى الآية الأخرى: {الأسفلين} ففازوا بالخسارة والسفال، هذا فى الدنيا، وأما فى الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاما، بلى هى كما قال تعالى: {إنها ساءت مستقرا ومقاما}.

قال البخارى: حدثنا عبد الله بن موسى أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وقال: (وكان ينفخ على إبراهيم). ورواه مسلم من حديث ابن جريج وأخرجاه والنسائى وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، أخبرنى عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبى أمية أن نافعا، مولى ابن عمر، أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم). قال: فكانت عائشة تقتلهن. وقال أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب، فقالت: ما هذا الرمح، فقالت: نقتل به الأوزاغ، ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أن إبراهيم لما ألقى فى النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ، فإنه جعل ينفخها عليه). تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع حدثتنى سمامة، مولاة الفاكه بن المغيرة، قالت: دخلت على عائشة فرأيت فى بيتها رمحا موضوعًا، فقلت: يا أم المؤمنين، ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن إبراهيم حين ألقى فى النار لم يكن فى الأرض دابة إلا تطفئ عنه النار، غير الوزغ كان ينفخ عليه)، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. ورواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم.

التالى