قصة يوسف عليه السلام

فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل وقد أنزل الله عز وجل فى شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} قد تكلمنا على الحروف المقطعة فى أول تفسير سورة البقرة، فمن أراد تحقيقه فلينظر، ثم وتكلمنا على هذه لسورة مستقصى فى موضعها من التفسير ونحن نذكر هاهنا نبذًا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز.

وجملة القول فى هذا المقام: أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذى أنزله على عبده ورسوله الكريم، بلسان عرب فصيح بين واضح جلى يفهمه كل عاقل ذكى زكى، فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق فى أشرف زمان ومكان، بأفصح لغة وأظهر بيان، فإن كان السياق فى الأخبار الماضية، أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغ الباطل وزيفه ورده، وإن كان فى الأوامر والنواهى فأعدل الشرائع، وأوضح المناهج، وأبين حُكما، وأعدل حَكما، فهو كما قال تعالى: {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا} يعنى صدقا فى الأخبار عدلا فى الأوامر والنواهى، ولهذا قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} أى بالنسبة إلى ما أوحى إليك فيه، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}، وقال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا}، يعنى من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب، فإنه يناله هذا الوعيد. كما قال فى الحديث المروى فى المسند والترمذى عن أمير المؤمنين على مرفوعًا وموقوفًا: (من ابتغى الهدى فى غيره أضله الله).

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشام، أنبأنا خالد، عن الشعبى، عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبى صلى الله عليه وسلم قال: فغضب، وقال: (أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذى نفسى بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شىء فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه، والذى نفسى بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعنى). إسناد صحيح. ورواه أحمد من وجه آخر عن عمر، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذى نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه، وتركتمونى لضللتم إنكم حظى من الأمم وأنا حظكم من النبيين). وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه فى أول سورة يوسف وفى بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال فى خطبته: (أيها الناس، إنى قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لى اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون). ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفًا حرفًا. {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين قال يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}.

قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدًا ذكرًا وسميناهم، وإليهم تنسب أسباط بنى إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم: يوسف عليه السلام، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبى غيره، وباقى إخوته لم يوح إليهم، وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم فى هذه القصة يدل على هذا القول، ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوى ، لأن المراد بالأسباط شعوب بنى إسرائيل، وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحى من السماء، والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة: أنه نص على واحد من إخوته سواه، فدل على ما ذكرناه ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم). انفرد به البخارى فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. وقد ذكرنا طرقه فى قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هاهنا. ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن: {أحد عشر كوكبا} وهم إشارة إلى بقية أخوته {والشمس والقمر} هما عبارة عن أبويه قد سجدوا له فهاله ذلك، فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة فى الدنيا والآخرة بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها، فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر، وهذا يدل على ما ذكرناه، ولهذا جاء فى بعض الآثار: (استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذى نعمة محسود). وعند أهل الكتاب: أنه قصها على أبيه وإخوته معا وهو غلط منهم. {وكذلك يجتبيك ربك} أى وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها {يجتبيك ربك} أى يخصك بأنواع اللطف والرحمة {ويعلمك من تأويل الأحاديث} أى يفهمك من معانى الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك {ويتم نعمته عليك} أى بالوحى إليك {وعلى آل يعقوب} أى بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} أى ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب وجدك إسحاق ووالد جدك إبراهيم الخليل {إن ربك عليم حكيم}، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}.

لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أى الناس أكرم؟ قال: (يوسف نبى الله ابن نبى الله ابن نبى الله ابن خليل الله). وقد روى ابن جرير وابن أبى حاتم فى تفسيريهما وأبو يعلى والبزار فى مسنديهما من حديث الحكم بن ظهير، وقد ضعفه الأئمة عن السدى، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودى، فقال: يا محمد، أخبرنى عن الكواكب التى رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها؟ قال: فسكت النبى صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشىء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله، فقال: (هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال: نعم، فقال: (هى جريان، والطارق، والديال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمردان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، والضياء، والنور)، فقال اليهودى: أى والله، إنها لأسماؤها. وعند أبى يعلى فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه، والقمر أمه. {لقد كان فى يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}.

ينبه تعالى على ما فى هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات والمواعظ والبينات، ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه، (يعنون شقيقه لأبيه وأمه بنيامين)، أكثر منهم، وهم عصبة أى جماعة، يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إن أبانا لفى ضلال مبين} أى بتقديمه حبهما علينا، ثم اشتوروا فيما بينهم فى قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها، ليخلو لهم وجه أبيهم، أى لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك، فلما تمالئوا على ذلك وتوافقوا عليه {قال قائل منهم} قال مجاهد: هو شمعون، وقال السدى: هو يهوذا، وقال قتادة ومحمد بن إسحاق: هو أكبرهم روبيل {لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة} أى المارة من المسافرين {إن كنتم فاعيلن} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذى أقول لكم، فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه، فاجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون} طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم، وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم، فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بنى يشق على أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا فى لعبكم وما أنتم فيه، فيأتى الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره، وغفلتكم عنه {قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون} أى لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة {إنا إذًا لخاسرون} أى عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم، وهذا أيضًا من غلطهم وخطئهم فى التعريب، فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه لننبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاءً يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عن عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه فى غيابت الجب - أى فى قعره - على راعوفته، وهى: الصخرة التى تكون فى وسطه يقف عليها المائح، وهو: الذى ينزل ليملى الدلاء إذا قل الماء، والذى يرفعها بالحبل يسمى الماتح، فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه أنه لابد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التى أنت فيها ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا فى حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك خائفون منك وهم لا يشعرون.

قال مجاهد وقتادة: {وهم لا يشعرون} بإيحاء الله إليه ذلك. وعن ابن عباس: {وهم لا يشعرون} أى لتخبرنهم بأمرهم هذا فى حال لا يعرفونك فيها، رواه ابن جرير عنه. فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشىء من دم، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أى على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرنك بكاء المتظلم، فرب ظالم وهو باك، وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون، أى فى ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} أى ثيابنا {فأكله الذئب} أى فى غيبتنا عنه فى استباقنا، وقولهم: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أى وما أنت بمصدق لنا فى الذى أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا فى هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك، فمعذور أنت فى عدم تصديقك لنا، والحالة هذه {وجاءوا على قميصه بدم كذب} أى مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها، فوضعوه على قميصه ليوهموا أنه أكله الذئب، قالوا: ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان، ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التى كانت عليه فى صغره، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته، ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه، جاءوا وهم يتباكون، وعلى ما تمالئوا عليه يتواطؤن، ولهذا {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه فى الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة فلما جاء روبيل من آخر النار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدى فذبحوه ولطخوا من دمه جبة يوسف، فلما علم يعقوب شق ثيابه ولبس مئزرًا أسود، وحزن على ابنه أياما كثيرة، وهذه الركاكة جاءت من خطئهم فى التعبير والتصوير {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلما وكذلك نجزى المحسنين} يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع فى الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة، أى مسافرون.

قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم، قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف، فلما رآه ذلك الرجل {قال يا بشرى} أى يا بشارتى {هذا غلام وأسروه بضاعة} أى أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم {والله عليم بما يعملون} أى هو عالم بما تمالأ عليه إخوته، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره تعالى لما له فى ذلك من الحكمة العظيمة، والقدر السابق والرحمة بأهل مصر بما يجرى الله على يدى هذا الغلام الذى يدخلها فى صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور وينفعهم الله به فى دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف، ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم بثمن بخس، أى قليل نزر، وقيل: هو الزيف {دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}. قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالى والسدى وقتادة وعطية العوفى: باعوه بعشرين درهمًا اقتسموها درهمين درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهما. وقال عكرمة ومحمد ابن إسحاق: أربعون درهما، فالله أعلم. {وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه} أى أحسنى إليه {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا} وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيرى الدنيا والآخرة، قالوا: وكان الذى اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذى الخزائن مسلمة إليه، قال ابن إسحاق: واسمه أطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر: أنه لقبها، وقيل: فكا بنت ينوس. رواه الثعلبى عن أبى هشام الرفاعى. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب، عن أبى صالح، عن ابن عباس: كان اسم الذى باعه بمصر، يعنى الذى جلبه إليها، مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبى عبيدة، عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: {أكرمى مثواه}، والمرأة التى قالت لأبيها عن موسى: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما.

ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارًا، وقيل: بوزنه مسكا، ووزنه حريرا، ووزنه ورقا، فالله أعلم، وقوله: {وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض} أى وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به مكنا له فى أرض مصر {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} أى فهمها وتعبير الرؤيا من ذلك {والله غالب على أمره} أى إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابًا وأمورا لا يهتدى إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذى يوحى الله فيه إلى عباده النبيين، عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا فى مدة العمر الذى هو بلوغ الأشد: فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبى: هو الحلم، وقال سعيد بن جبير: ثمانى عشرة سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة، وقال السدى: ثلاثون سنة، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده} وبلغ أربعين سنة {وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين} يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهى فى غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهى مع هذا كله امرأة الوزير، قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر، وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبى من سلالة الأنبياء فعصمه ربه عن الفحشاء، وحماه من مكر النساء، فهو سيد السادة النجباء، السبعة الأتقياء، المذكورين فى الصحيحين عن خاتم الأنبياء فى قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء: (سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وشاب نشأ فى عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنى أخاف الله).

والمقصود: أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص فقال: {معاذ الله إنه ربى} يعنى زوجها صاحب المنزل سيدى {أحسن مثواى} أى أحسن إلىّ وأكرم مقامى عنده {إنه لا يفلح الظالمون} وقد تكلمنا على قوله: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} بما فيه كفاية ومقنع فى التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا، والذى يجب أن يعتقد: أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، ولهذا قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب} أى هرب منها طالبا إلى الباب ليخرج منه فرارًا منها، فاتبعته فى أثره {وألفيا} أى وجدا {سيدها} أى زوجها، لدى الباب فبدرته بالكلام وحرضته عليه {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} اتهمته وهى المتهمة، وبرأت عرضها ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام: {هى راودتنى عن نفسى} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة {وشهد شاهد من أهلها} قيل: كان صغيرا فى المهد، قاله ابن عباس.

وروى عن أبى هريرة وهلال بن يساف والحسن البصرى وسعيد بن جبير والضحاك واختاره ابن جرير، وروى فيه حديثا مرفوعًا عن ابن عباس، ووقفه غيره عنه، وقيل: كان رجلاً قريبًا إلى أطفير بعلها، وقيل: قريبًا إليها، وممن قال إنه كان رجلا: ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم، فقال: {إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} أى لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} أى لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه، فانشق قميصه لذلك وكذلك كان، ولهذا قال تعالى: {فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} أى هذا الذى جرى من مكركن، أنت راودته عن نفسه، ثم اتهمته بالباطل ثم ضرب بعلها، عن هذا صفحا فقال: {يوسف أعرض عن هذا} أى لا تذكره لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذى صدر منها والتوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذى يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له فى ذلك، ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا أنه عفيف نزيه برىء العرض سليم الناحية، فقال: {استغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين وقال نسوة فى المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا أنا لنراها فى ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهم سكينا وقالت أخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن إيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلىّ مما يدعوننى إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم}.

يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة من نساء الأمراء وبنات الكبراء، فى الطعن على امرأة العزيز وعيبها والتشنيع عليها فى مراودتها فتاها، وحبها الشديد له تعنين: وهو لا يساوى هذا، لأنه مولى من الموالى، وليس مثله أهلا لهذا، ولهذا قلن: {إنا لنراها فى ضلال مبين} أى فى وضعها الشىء فى غير محله {فلما سمعت بمكرهن} أى بتشنيعهن عليها والتنقص لها والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها، فأظهرن ذمًا وهى معذورة فى نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن، فأرسلت إليهن فجمعتهن فى منزلها واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت فى جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين كالأترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام، وألبسته أحسن الثياب، وهو فى غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة {فلما رأينه أكبرنه} أى أعظمنه وأجللنه وهبنه وما ظنن أن يكون مثل هذا فى بنى آدم، وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن، وجعلن يحززن فى إيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح {وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم} وقد جاء فى حديث الإسراء: (فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن).

قال السهيلى وغيره من الأئمة معناه: أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان فى غاية نهايات الحسن البشرى، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما أحسن منهما كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.

قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه. وقال غيره: كان فى الغالب مبرقعًا لئلا يراه الناس، ولهذا لما قام عذر امرأة العزيز فى محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته {قالت فذلكن الذى لمتننى فيه} ثم مدحته بالعصمة التامة، فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أى امتنع {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين} وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشد الإباء ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال فى دعائه لرب العالمين: {رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} يعنى إن وكلتنى إلى نفسى فليس لى من نفسى إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسى نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف إلا ما قويتنى وعصمتنى وحفظتنى وحطتنى بحولك وقوتك.

ولهذا قال تعالى: {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنى أرانى أعصر خمرا وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمنى ربى إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذى فيه تستفتيان}. يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أى ظهر لهم من الرأى بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقل لكلام الناس فى تلك القضية، وأخمد لأمرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها، فسجنوه ظلمًا وعدوانًا، وكان هذا مما قدر الله له ومن جملة ما عصمه به، فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم، ومن هاهنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعى أن من العصمة أن لا تجد، قال الله: {ودخل معه السجن فتيان} قيل: كان أحدهما ساقى الملك واسمه فيما قيل بنو، والآخر خبازه، يعنى الذى يلى طعامه، وهو الذى يقول له الترك (الجاشنكير)، واسمه فيما قيل مجلث، كان الملك قد اتهمهما فى بعض الأمور فسجنهما فلما رأيا يوسف فى السجن أعجبهما سمته وهديه ودله وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه، قال أهل التفسير: رأيا فى ليلة واحدة، أما الساقى: فرأى كأن ثلاثة قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها فاعتصرها فى كأس الملك وسقاه، ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز وضوارى الطيور تأكل من السل الأعلى، فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرهما لهما، وقالا: {إنا نراك من المحسنين} فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها و{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما}، قيل: معناه مهما رأيتما من حلم فإنى أعبره لكم قبل وقوعه، فيكون كما أقول، وقيل: معناه إنى أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا أو حامضًا، كما قال عيسى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم}. وقال لهما: إن هذا من تعليم الله إياى لأنى مؤمن به موحد له متبع ملة آبائى الكرام: إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب {ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء ذلك من فضل الله علينا} أى بأن هدانا لهذا {وعلى الناس} أى بأن أمرنا أن ندعوهم إليه، ونرشدهم وندلهم عليه، وهو فى فطرهم مركوز، وفى جبلتهم مغروز {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}، ثم دعاهم إلى التوحيد، وذم عبادة ما سوى الله عز وجل، وصغر أمر الأوثان وحقرها وضعف أمرها، فقال: {يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله} أى هو المتصرف فى خلقه، الفعال لما يريد، الذى يهدى من يشاء، ويضل من يشاء {أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} أى وحده لا شريك له، و{ذلك الدين القيم} أى المستقيم، والصراط القويم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أى فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.

وكانت دعوته لهما فى هذه الحال فى غاية الكمال؛ لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقى ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه، ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال: {يا صاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا} قالوا: وهو الساقى {وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} قالوا: وهو الخباز {قضى الأمر الذى فيه تستفتيان} أى وقع هذا لا محالة ووجب كونه على حالة. ولهذا جاء فى الحديث: (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت).

وقد روى عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أنهما قالا: لم نر شيئا، فقال لهما: {قضى الأمر الذى فيه تستفتيان وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين} يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال: للذى ظنه ناجيا منهما، وهو الساقى {اذكرنى عند ربك} يعنى اذكر أمرى وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك، وفى هذا دليل على جواز السعى فى الأسباب، ولا ينافى ذلك التوكل على رب الأرباب. وقوله: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} أى فأنسى الناجى منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام، قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب: (فلبث يوسف فى السجن بضع سنين). والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: إلى السبع، وقيل: إلى الخمس، وقيل: ما دون العشرة، حكاها الثعلبى. ويقال: بضع نسوة وبضعة رجال. ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيف.

وقال الله تعالى: {فلبث فى السجن بضع سنين}، وقال تعالى: {فى بضع سنين} وهذا رد لقوله. قال الفراء ويقال: بضعة عشر وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة وبضع وألف. وخالف الجوهرى فيما زاد على بضعة عشر فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين، وفى الصحيح: (الإيمان بضع وستون)، وفى رواية: (وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).

ومن قال إن الضمير فى قوله: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روى عن ابن عباس وعكرمة. والحديث الذى رواه ابن جرير فى هذا الموضع ضعيف من كل وجه. تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوزى المكى وهو متروك، ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل ولا هاهنا بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.

فأما قول ابن حبان فى صحيحه: ذكر السبب الذى من أجله لبث يوسف فى السجن ما لبث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحى، حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رحم الله يوسف لولا الكلمة التى قالها {اذكرنى عند ربك} ما لبث فى السجن ما لبث، ورحم الله لوطا أن كان ليأوى إلى ركن شديد إذ قال لقومه: {لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد} قال: فما بعث الله نبيًا بعده إلا فى ثروة من قومه). فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها والذى فى الصحيحين يشهد بغلطها، والله أعلم. {وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبلة إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتى من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام وذلك أن ملك مصر، وهو: الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى هذه الرؤيا. قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن فى روضة هناك، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن، ثم ملن عليهن فأكلنهن فاستيقظ مذعورا، ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر فى قصبة واحدة، وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن، فاستيقظ مذعورا، فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل {قالوا أضغاث أحلام} أى أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك، ولهذا قالوا: {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} فعند ذلك تذكر الناجى منهما الذى وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه، فنسيه إلى حينه هذا، وذلك عن تقدير الله عز وجل، وله الحكمة فى ذلك، فلما سمع رؤيا الملك، ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار، ولها قال تعالى: {وقال الذى نجا منهما وادكر} أى تذكر {بعد أمة} أى بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين، وقرأ بعضهم كما حكى عن ابن عباس وعكرمة والضحاك: (وادكر بعد أمة) أى بعد نسيان، وقرأها مجاهد: (بعد أمه) بإسكان الميم، وهو النسيان أيضا، يقال: أمه الرجل يأمه أمها، وأمها إذا نسى،

فقال لقومه وللملك: {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} أى فأرسلونى إلى يوسف فجاءه، فقال: {يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} وعند أهل الكتاب: أن الملك لما ذكره له الساقى استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له، وهذا غلط، والصواب ما قصه الله فى كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران من قراى وربان، فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعا، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب، ويعقبها سبع جدب {ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس} يعنى يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية {وفيه يعصرون} يعنى ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها، فعبر لهم وعلى الخير دلهم وأرشدهم إلى ما يعتمدونه فى حالتى خصبهم وجدبهم، وما يفعلونه من ادخار حبوب سنى الخصب فى السبع الأول فى سنبله، إلا ما يرصد بسبب الأكل، ومن تقليل البذر فى سنى الجدب فى السبع الثانية إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأى والفهم.

{وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين وما أبرىء نفسى أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم} لما أحاط الملك علمًا بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام، وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلمًا وعدوانًا، وأنه برىء الساحة مما نسبوه إليه بهتانًا {قال ارجع إلى ربك} يعنى الملك {فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم} قيل: معناه إن سيدى العزيز يعلم براءتى مما نسب إلىّ، أى فمر الملك فليسألهن: كيف كان امتناعى الشديد عند مراودتهن إياى وحثهن لى على الأمر الذى ليس برشيد ولا سديد؟ فلما سئلن عن ذلك أعرفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد {وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} فعند ذلك {قالت امرأة العزيز} وهى زليخا {الآن حصحص الحق} أى ظهر وتبين ووضح والحق أحق أن يتبع {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} أى فيما يقوله من أنه برىء، وأنه لم يراودنى، وأنه حبس ظلما وعدوانا وزورا وبهتانا.

وقوله: {ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين} قيل: إنه من كلام يوسف، أى إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أنى لم أخنه بظهر الغيب، وقيل: إنه من تمام كلام زليخا، أى إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجى أنى لم أخنه فى نفس الأمر، وإنما كان مراده لم يقع معها فعل فاحشة، وهذا القول هو الذى نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبى حاتم سوى الأول {وما ابرىء نفسى أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم} قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام زليخا وهو مفرع على القولين الأولين، وكونه من تمام كلام زليخا أظهر، وأنسب وأقوى، والله أعلم {وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} لما ظهر للمك براءة عرضه ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه {قال ائتونى به استخلصه لنفسى} أى أجعله من خاصتى، ومن أكابر دولتى، ومن أعيان حاشيتى، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله {قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} أى ذو مكانة وأمانة {قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضى سبع سنى الخصب، لينظر فيها بما يرضى الله فى خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم، وأخبر الملك: إنه حفيظ، أى قوى على حفظ ما لديه أمين عليه، عليم بضبط الأشياء، ومصالح الأهراء، وفى هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة. وعند أهل الكتاب: أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدًا وسلطه على جميع أرض مصر، وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير، وطوقه الذهب، وحمله على مركبه الثانى، ونودى بين يديه: أنت رب ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسى، قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة وزوجه امرأة عظيمة الشأن.

وحكى الثعلبى: أنه عزل قطفير عن وظيفته، وولاها يوسف، وقيل: إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء، لأن زوجها كان لا يأتى النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين، وهما أفرايم ومنشا، قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل، فأحبه الرجال والنساء.

وحكى أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنه، فالله أعلم قال الله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} أى بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر {يتبوأ منها حيث يشاء} أى أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما {نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} أى هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له فى آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل، ولهذا قال: {ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} ويقال: إن أطفير زوج زليخا كان قد مات، فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا، فكان وزير صدق.

وذكر محمد بن إسحاق: أن صاحب مصر الوليد بن الريان أسلم على يدى يوسف عليه السلام، فالله أعلم.

{وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوف الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعامًا، وذلك بعد إتيان سنى الجدب وعمومها على سائر البلاد والعباد، وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم فى أمور الديار المصرية دينا ودنيا، فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه، لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.

وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له، فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه فأغلظ لهم فى القول، وقال: أنتم جواسيس جئتم لتأخذوا خبر بلادى، فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذى أصابنا، ونحن بنو أب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلاً ذهب منا واحد، وصغيرنا عند أبينا، فقال: لابد أن أستعلم أمركم، وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر، وفى بعض هذا نظر، قال الله تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم} أى أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته فى إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه {قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم} وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم؟ فقالوا: كنا إثنى عشر رجلاً فذهب منا واحد وبقى شقيقه عند أبينا، فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتونى به معكم {ألا ترون أنى أوف الكيل وأنا خير المنزلين} أى قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغبهم ليأتوه به، ثم رهبهم إن لم يأتوه به قال: {فإن لم تأتون به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون} أى فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية، عكس ما أسدى إليهم أولاً فاجتهد فى إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب {قالوا سنراود عنه أباه} أى سنجتهد فى مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن {وإنا لفاعلون} أى وإنا لقادرون على تحصيله، ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهى ما جاءوا به يتعوضون به عن الميرة فى أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها {لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها فى بلادهم، وقيل: خشى أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية، وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضًا عن الميرة.

وقد اختلف المفسرون فى بضاعتهم على أقوال سيأتى ذكرها. وعند أهل الكتاب أنها كانت صررًا من ورق وهو أشبه، والله أعلم {فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتونى موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: {منع منا الكيل} أى بعد عامنا هذا، إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى} أى أى شىء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا {ونمير أهلنا} أى نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم فى سنتهم ومحلهم {ونحفظ أخانا ونزداد} بسببه {كيل بعير}، قال الله تعالى: {ذلك كيل يسير} أى فى مقابلة ذهاب ولده الآخر، وكان يعقوب عليه السلام أضن شىء بولده بنيامين، لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ويتعوض بسببه منه، فلهذا قال: {لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم} أى إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به {فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} أكد المواثيق وقرر العهود واحتاط لنفسه فى ولده ولن يغنى حذر من قدر، ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز، ولكن الأقدار لها أحكام والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء، وهو الحكيم العليم، ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة، قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدى والضحاك. وقيل: أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرًا ليوسف أو يحدثون عنه بأثر، قاله إبراهيم النخعى. والأول أظهر، ولهذا قال: {وما أغنى عنكم من الله من شىء}، وقال تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل، وأخذوا الدراهم الأولى وعوضًا آخر {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذًا لظالمون}.

يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وأيوائه إليه، وإخباره له سرًا عنهم، بأنه أخوه وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه، ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته، وهى التى كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام عن غرته فى متاع بنيامين، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ووعدهم جعالة على رده: حمل بعير وضمنه المنادى لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك، فأنبوه وهجنوه فيما قاله لهم، و{قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الأرض وما كنا سارقين} يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين} وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، ولهذا قالوا: {كذلك نجزى الظالمين}.

قال الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} ليكون ذلك أبعد للتهمه، وأبلغ فى الحيلة، ثم قال الله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك} أى لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد فى رحله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم فى سياسة ملك مصر {إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء} أى فى العلم {وفوق كل ذى علم عليهم} وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له فى ذلك، لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه، فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} يعنون يوسف، قيل: كان قد سرق صنم جده أبى أمه فكسره، وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها وفى حضانتها لمحبتها له، وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء، وقيل غير ذلك، فلهذا {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه} وهى كلمته بعدها، وقوله: {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} أجابهم سرًا لا جهرًا حلمًا وكرمًا وصفحًا وعفوًا، فدخلوا معه فى الترقق والتعطف، فقالوا: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذًا لظالمون} أى إن أطلقنا المتهم وأخذنا البرىء هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.

وعند أهل الكتاب: إن يوسف تعرف إليهم حينئذ، وهذا مما غلطوا فيه، ولم يفهموه جدًا: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

يقول تعالى مخبرًا عنهم: أنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم، وهو (روبيل): {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف} لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه، كما فرطتم فى أخيه يوسف من قبله، فلم يبق لى وجه أقابله به {فلن أبرح الأرض} أى لا أزال مقيمًا هاهنا {حتى يأذن لى أبى} فى القدوم عليه {أو يحكم الله لى} بأن يقدرنى على رد أخى إلى أبى {وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق} أى أخبروه بما رأيتم من الأمر فى ظاهر المشاهدة {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التى كنا فيها والعبر التى أقبلنا فيها} أى فإن هذا الذى أخبرناك به من أخذهم أخانا، لأنه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التى كنا نحن وهم هناك {وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمر فصبر جميل} أى ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق، فإنه ليس سجية له ولا خلقه، {وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل}.

قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم فى بنيامين مترتبا على صنيعهم فى يوسف، قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال: {عسى الله أن يأتينى بهم جميعا} يعنى يوسف، وبنيامين، وروبيل {إنه هو العليم} أى بحالى وما أنا فيه من فراق الأحبة {الحكيم} فيما يقدره ويفعله، وله الحكمة البالغة، والحجة القاطعة {وتولى عنهم} أى أعرض عن بنيه {وقال يا أسفى على يوسف} ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرك ما كان كامنا

وقوله: {وابيضت عيناه من الحزن} أى من كثرة البكاء {فهو كظيم} أى مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قالوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه: {تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} يقولون: لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك وتضعف قوتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك {قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل، وأعلم أن الله سيجعل لى مما أنا فيه فرجًا ومخرجًا، وأعلم أن رؤيا يوسف لابد أن تقع، ولابد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى، ولهذا قال: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} ثم قال لهم محرضًا على تطلب يوسف وأخيه وأن يبحثوا عن أمرهما: {يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} أى لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج فى المضايق، إلا القوم الكافرون {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين}.

يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه، وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة، والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر} أى من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وجئنا ببضاعة مزجاة} أى ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا، قيل: كانت دراهم رديئة، وقيل: قليلة، وقيل: حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك، وعن ابن عباس: كانت خِلَق الغرائر والحبال، ونحو ذلك {فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين} قيل: بقبولها، قاله السدى. وقيل: برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية، رواه ابن جرير. فلما رأى ما هم فيه من الحال، وما جاءوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم، قائلاً لهم عن أمر ربه وربهم، وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذى يعرفون: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا} وتعجبوا كل العجب وقد ترددوا إليه مرارًا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو: {أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى} يعنى أنا يوسف الذى صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم، وقوله: {وهذا أخى} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا فى أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال: {قد من الله علينا} أى بإحسانه إلينا، وصدقته علينا، وإيوائه لنا، وشده معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا، وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا، وشفقته علينا {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} أى فضلك وأعطاك ما لم يعطنا {وإن كنا لخاطئين} أى فيما أسدينا إليك، وها نحن بين يديك {قال لا تثريب عليكم اليوم} أى لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: {يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.

ومن زعم أن الوقف على قوله: {لا تثريب عليكم} وابتدأ بقوله: {اليوم يغفر الله لكم} فقوله ضعيف، والصحيح الأول، ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذى يلى جسده، فيضعوه على عينى أبيه، فإنه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات، ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور {ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله مالا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم}.

قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبى سنان، عن عبد الله بن أبى الهذيل سمعت ابن عباس يقول: {ولما فصلت العير} قال: لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال {إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وكذا رواه الثورى وشعبة وغيرهم عن أبى سنان به. وقال الحسن البصرى وابن جريج المكى: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخًا وكان له منذ فارقه ثمانون سنة، وقوله: {لولا أن تفندون} أى تقولون، إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن، قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: تفندون: تسفهون، وقال مجاهد أيضًا والحسن: تهرمون {قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم} قال قتادة والسدى: قالوا له كلمة غليظة، قال الله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا} أى بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب، فرجع من فوره بصيرًا بعدما كان ضريرا، وقال لبنيه عند ذلك: {ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون} أى أعلم أن الله سيجمع شملى بيوسف، وستقر عينى به، وسيرينى فيه ومنه ما يسرنى، فعند ذلك {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه، وما كانوا عزموا عليه، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم، فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا، قائلا: {سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم}.

قال ابن مسعود وإبراهيم التيمى وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير: حدثنى أبو السائب، حدثنا ابن إدريس سمعت عبد الرحمن ابن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار، قال: كان عمر يأتى المسجد فسمع إنسانًا يقول: (اللهم دعوتنى فأجبت، وأمرتنى فأطعت، وهذا السحر فاغفر لى)، قال: فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: {سوف أستغفر لكم ربى} وقد قال الله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} وثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) وقد ورد فى حديث: (أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة).

قال ابن جرير: حدثنى المثنى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن بن أيوب الدمشقى، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة، عن ابن ،عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {سوف أستغفر لكم ربى} يقول: (حتى تأتى ليلة الجمعة، وهو قول أخى يعقوب لبنيه). وهذا غريب من هذا الوجه، وفى رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفًا على ابن عباس رضى الله عنه.

{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين أخوتى إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولى فى الدنيا والآخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين}. هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التى قيل: أنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال محمد ابن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثمانى عشرة سنة. قال: وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة. وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبًا فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان فى السجن بضع سنين، وهى سبع عند عكرمة وغيره، ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما أمحل الناس فى السبع البواقى جاء إخوته يمتارون السنة الأولى وحدهم، وفى الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفى الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين فجاءوا كلهم فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه اجتمع بهما خصوصًا وحدهما دون إخوته {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} قيل: هذا من المقدم والمؤخر تقديره: ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه، وضعفه ابن جرير وهو معذور. قيل: تلقاهما وآواهما فى منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر {قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} قاله السدى. ولو قيل: إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضًا وأنه ضمن قوله: ادخلوا معنى اسكنوا مصر أو أقيموا بها {إن شاء الله آمنين} لكان صحيحًا مليحًا أيضًا.

وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر، وهى أرض بلبيس، خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرًا بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم، وقد ذكر جماعة من المفسرين أنه لما أزف قدوم نبى الله يعقوب، وهو إسرائيل، أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف وتعظيمًا لنبى الله إسرائيل، وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سنى الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.

وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم، فيما قاله أبى إسحاق السبيعى عن أبى عبيدة، عن ابن مسعود: ثلاثة وستين إنسانا. وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنسانًا. وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنساناً. قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفى نص أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفسًا وسموهم.

قال الله تعالى: {ورفع أبويه على العرش} قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة، وقال بعض المفسرين: فأحياها الله تعالى، وقال آخرون: بل كانت خالته ليا والخالة بمنزلة الأم. وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضى بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه وهذا قوى، والله أعلم، ورفعهما على العرش أى أجلسهما معه على سريره {وخروا له سجدا} أى سجد له الأبوان والأخوة الأحد عشر تعظيمًا وتكريمًا، وكان هذا مشروعًا لهم، ولم يزل ذلك معمولا به فى سائر الشرائع حتى حُرم فى ملتنا {قال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل} أى هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتى الأحد عشر كوكبًا والشمس والقمر حين رأيتهم لى ساجدين، وأمرتنى بكتمانها، ووعدتنى ما وعدتنى عند ذلك {قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن} أى بعد الهم والضيق جعلنى حاكمًا نافذ الكلمة فى الديار المصرية حيث شئت {وجاء بكم من البدو} أى البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل {من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى} أى فيما كان منهم إلىّ من الأمر الذى تقدم وسبق ذكره، ثم قال: {إن ربى لطيف لما يشاء} أى إذا أراد شيئًا هيأ أسبابه ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدى إليها العباد بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إنه هو العليم} أى بجميع الأمور {الحكيم} فى خلقه وشرعه وقدره.

وعند أهل الكتاب: أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذى كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب، والفضة، والعقار، والأثاث، وما يملكونه كله، حتى باعهم بأنفسهم، فصاروا أرقاء، ثم أطلق لهم أرضهم، وأعتق رقابهم على أن يعملوا، ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده.

وحكى الثعلبى: أنه كان لا يشبع فى تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار، قال: فمن ثم اقتدى به الملوك فى ذلك، قلت: وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.

قال الشافعى: قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة. ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت وشمله قد اجتمع عرف أن هذه الدار لا يقرّ بها قرار، وأن كل شىء فيها ومن عليها فانٍ، وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله، وسأل منه وهو خير المسؤلين أن يتوفاه، أى حين يتوفاه، على الإسلام، وأن يلحقه بعباده الصالحين، وهكذا كما يقال فى الدعاء: (اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين) أى حين تتوفانا، ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام كما سأل النبى صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى، والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين، كما قال: (اللهم فى الرفيق الأعلى) ثلاثا ثم قُضِى.

ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزًا فى صحة بدنه وسلامته، وأن ذلك كان سائغًا فى ملتهم وشرعتهم، كما روى عن ابن عباس أنه قال: ما تمنى نبى قط الموت قبل يوسف، فأما فى شريعتنا: فقد نهى عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن، كما فى حديث معاذ فى الدعاء الذى رواه أحمد: (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنى إليك غير مفتون). وفى الحديث الآخر: (ابن آدم الموت خير لك من الفتنة). وقالت مريم عليها السلام: {يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وتمنى الموت على ابن أبى طالب لما تفاقمت الأمور، وعظمت الفتن، واشتد القتال، وكثر القيل والقال، وتمنى ذلك البخارى أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال ولقى من مخالفيه الأهوال.

فأما فى حال الرفاهية: فقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسنا فيزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحينى ما كانت الحياة خيرًا لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرًا لى). والمراد بالضر هاهنا ما يخص العبد فى بدنه من مرض ونحوه لا فى دينه، والظاهر أن نبى الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفى عليه السلام، وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق. قال السدى: فصبر وسيره إلى بلاد الشام، فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل، عليهم السلام.

وعند أهل الكتاب: أن عُمْر يعقوب يوم دخل مصر، مائة وثلاثون سنة. وعندهم: أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة. ومع هذا قالوا: فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة. هذا نص كتابهم، وهو غلط، إما فى النسخة، أو منهم، أو قد أسقطوا الكسر، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة هاهنا، وقد قال تعالى فى كتابه العزيز: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} يوصى بنيه بالإخلاص، وهو دين الإسلام الذى بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.

وقد ذكر أهل الكتاب: أنه أوصى بنيه واحدا واحدا، وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشر يهوذا بخروج نبى عظيم من نسله تطيعه الشعوب، وهو عيسى بن مريم، والله أعلم.

وذكروا أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يومًا، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب، ومكث فيه أربعين يومًا، ثم استأذن يوسف ملك مصر فى الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله، فأذن له، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها، فلما وصلوا حبرون دفنوه فى المغارة التى كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثى، وعملوا له عزاء سبعة أيام، قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى إخوة يوسف ليوسف فى أبيهم وترققوا له، فأكرمهم وأحسن منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر، ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه، فحنطوه ووضعوه فى تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام، فدفنه عند آبائه، كما سيأتى، قالوا: فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين. هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضًا. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقى يوسف فى الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه.

* * *