وقال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثنا شريح بن يونس، حدثنا على بن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبى عثمان، قال: كان عيسى عليه السلام يصلى على رأس جبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذى تزعم أن كل شىء بقضاء وقدر؟ قال: نعم، قال: ألق نفسك من هذا الجبل وقل: قدر علىَّ، فقال: يا لعين الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عز وجل.

وقال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثنا الفضل بن موسى البصرى، حدثنا إبراهيم بن بشار، سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقى عيسى ابن مريم إبليس، فقال له إبليس: يا عيسى ابن مريم الذى بلغ من عظم ربوبيتك، أنك تكلمت فى المهد صبيًا ولم يتكلم فيه أحد قبلك، قال: بل الربوبية للإله الذى أنطقنى ثم يميتنى ثم يحينى، قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحى الموتى؟ قال: بل الربوبية لله الذى يحى ويميت من أحييت ثم يحييه، قال: والله إنك لإله فى السماء وإله فى الأرض.

قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس، ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه. وفى رواية: فأسلكه فيها حتى وجد طعم الحمأة، فخرج منها وهو يقول: ما لقى أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم. وقد روى نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر.

فقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنى أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سبدى، حدثنا أبو محمد الحسن بن على القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، أنبأنا على بن عاصم، حدثنى أبو سلمة سويد، عن بعض أصحابه قال: صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه، فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: أنه لا ينبغى لك أن تكون عبدًا، فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغى لك يا عيسى أن تكون عبدًا.

قال: فاستغاث عيسى بربه، فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه فى بطن الوادى. قال فعاد: إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغى أن تكون عبدًا إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك لأمر هو لك: آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إنى لا أقول أن تكون إلهًا ليس معه إله، ولكن الله يكون إلهًا فى السماء وتكون أنت إلهًا فى الأرض.

فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوى، ومر عيسى وهو بمكانه، فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبًا شديدًا، فرمى به فى عين الشمس فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية. قال: فغطوه، فجعل كلما صرخ غطوه فى تلك الحمأة. قال: والله ما عاد إليه بعد.

قال: وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة، قال: واجتمع إليه شياطينه، فقالوا: سيدنا، قد لقيت تعبًا، قال: إن هذا عبد معصوم ليس لى عليه من سبيل وسأضل به بشرًا كثيرًا وأبث فيهم أهواء مختلفة وأجعلهم شيعًا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله. قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنًا ناطقًا بذكر نعمته على عيسى، فقال: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس}، يعنى إذ قويتك بروح القدس، يعنى جبريل، {تكلم الناس فى المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} الآية كلها. وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانًا ترضى بهم وصحابة وأعوانًا يرضون بك هاديًا وقائدًا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان من لقينى بهما فقد لقينى بأزكى الخلائق وأرضاها عندى، وسيقول لك بنو إسرائيل: صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاءنا، فقل لهم: ولم ذلك؟ وما الذى يمنعنى إن ذات يدى قلت؟ أوليس خزائن السماوات والأرض بيدى أنفق منها كيف أشاء؟ وإن البخل لا يعترينى، أولست أجود من سئل وأوسع من أعطى؟ أو إن رحمتى ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتى، ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى ابن مريم عدوا أنفسهم بالحكمة التى تورث فى قلوبهم ما استأثروا به الدنيا أثره على الآخرة لعرفوا من أين أوتوا، وإذًا لأيقنوا أن أنفسهم هى أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربونى ويستحلون محارمى؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى، إنما أجزى عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟ ازددت عليهم غضبًا، يا عيسى وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من عبدنى وقال فيكما بقولى، أن أجعلهم جيرانك فى الدار، ورفقائك فى المنازل، وشركاءك فى الكرامة، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم فى الدرك الأسفل من النار، وقضيت يوم خلقت السماوات والأرض أنى مثبت هذا الأمر على يدى عبدى محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يزر بالفحش ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره، والحكم معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحق شريعته، والإسلام ملته، اسمه أحمد، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغنى به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضيعة، أهدى به، وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصًا لاسمى وتصديقًا لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل فى مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لى قيامًا وقعودًا وركعًا وسجودًا، ويقاتلون فى سبيلى صفوفًا وزحوفًا، قرباتهم دماؤهم، وأناجيلهم فى صدورهم، وقربانهم فى بطونهم، رهبان بالليل ليوث فى النهار، ذلك فضلى أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.

وسنذكر ما يصدق كثيرًا من هذا السياق مما سنورده من سورتى المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة. وقد روى أبو حذيفة إسحاق بن بشر بأسانيده، عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسى دخل حديث بعضهم فى بعض، قالوا: لما بعث عيسى ابن مريم وجاءهم بالبينات، جعل المنافقون والكافرون من بنى إسرائيل يعجبون منه ويستهزؤن به، فيقولون: ما أكل فلان البارحة؟ وما ادخر فى منزله؟ فيخبرهم، فيزداد المؤمنون إيمانًا والكافرون والمنافقون شكًا وكفرانًا، وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوى إليه، إنما يسيح فى الأرض ليس له قرار ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى: أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهى تبكى، فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت: ماتت ابنة لى لم يكن لى ولد غيرها، وإنى عاهدت ربى أن لا أبرح من موضعى هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لى فأنظر إليها، فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها، أراجعة أنت؟ قالت: نعم.

قالوا: فصلى ركعتين، ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى: يا فلانة قومى بإذن الرحمن فاخرجى. قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهى تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عنى؟ فقالت: لما جاءتنى الصيحة الأولى بعث الله لى ملكًا فركب خلقى، ثم جاءتنى الصيحة الثانية فرجع إلىَّ روحى، ثم جاءتنى الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة، فشاب رأسى وحاجباى وأشفار عينى من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها، فقالت: يا أماه، ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه، اصبرى واحتسبى فلا حاجة لى فى الدنيا، يا روح الله وكلمته، سل ربى أن يردنى إلى الآخرة وأن يهون على كرب الموت، فدعا ربه، فقبضها إليه واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبًا.

 

وقدمنا فى عقيب قصة نوح: أن بنى إسرائيل سألوه أن يحيى لهم سام بن نوح، فدعا الله عز وجل وصلى لله، فأحياه الله لهم، فحدثهم عن السفينة وأمرها، ثم دعا فعاد ترابًا. وقد روى السدى، عن أبى صالح وأبى مالك، عن ابن عباس فى خبر ذكره، وفيه: أن ملكًا من ملوك بنى إسرائيل مات وحمل على سريره، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل، فأحياه الله عز وجل، فرأى الناس أمرًا هائلاً ومنظرًا عجيبًا.

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذنى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى وإذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا

سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون}.

يذكره الله تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه فى خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى، ثم إرساله بعد هذا كله {وعلى والدتك} فى اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة، وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون؛ ولهذا قال: {إذ أيدتك بروح القدس}، وهو جبريل، بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه فى حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به، {تكلم الناس فى المهد وكهلاً}، أى تدعو الناس إلى الله فى حال صغرك فى مهدك وفى كهولتك، {وإذ علمتك الكتاب والحكمة}، أى الخط والفهم، نص عليه بعض السلف، {والتوراة والإنجيل}. وقوله: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى}، أى تصوره وتشكله من الطين على هيئته عن أمر الله له بذلك، {فتنفخ فيه فتكون طيرًا بإذنى}، أى بأمرى.

يؤكد تعالى بذكر الإذن له فى ذلك لرفع التوهم، وقوله: {وتبرئ الأكمه}. قال بعض السلف: وهو الذى يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته، والأبرص هو الذى لا طب فيه، بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالاً، {وإذ تخرج الموتى}، أى من قبورهم أحياء بإذنى. وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارًا متعددة بما فيه كفاية، وقوله: {وإذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين}، وذلك حين أرادوا صلبه، فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الأذى وسلامة له من الردى.

وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون}. قيل: المراد بهذا الوحى وحى إلهام أى، أرشدهم الله إليه ودلهم عليه، كما قال: {وأوحى ربك إلى النحل} {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم}، وقيل: المراد وحى بواسطة الرسول وتوفيق فى قلوبهم لقبول الحق؛ ولهذا استجابوا قائلين: {آمنا واشهد بأننا مسلمون}.

وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم أن جعل له أنصارًا وأعوانًا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم : {هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}.

وقال تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقًا لما بين يدى من التوراة ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.

كانت معجزة كل نبى فى زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهى إليه وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذى لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له، أسلموا سراعًا ولم يتلعثموا، وهكذا عيسى ابن مريم، بعث فى زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها وأنى لحكيم إبراء الأكمه الذى هو أسوأ حالاً من الأعمى، والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟ هذا مما يعلم كل أحد أنه معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله.

وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، بعث فى زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا فى الحال ولا فى الاستقبال، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق عز وجل، والله تعالى لا يشبهه شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله.

والمقصود: أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين، استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة، فكانوا له أنصارًا وأعوانًا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه، فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه، فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم فى ذلك غالطون، وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين فى ذلك مخطئون.

قال تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}، وقال تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدى من التوراة ومبشرًا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى للإسلام والله لا يهدى القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}، إلى أن قال بعد ذلك: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.

فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بنى إسرائيل، وقد قام فيهم خطيبًا فبشرهم بخاتم الأنبياء الآتى بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه، إقامة للحجة عليهم وإحسانًا من الله إليهم، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون}.

قال محمد بن إسحاق: حدثنى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: (دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمى حين حملت بى كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام). وقد روى عن العرباض بن سارية وأبى أمامة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وفيه: (دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى)، وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} الآية، ولما انتهت النبوة فى بنى إسرائيل إلى عيسى، قام فيهم خطيبًا، فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وإنها بعده فى النبى العربى الأمى خاتم الأنبياء على الإطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذى هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.

قال الله تعالى: {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين}، يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام، ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحوارين من أنصارى إلى الله}، أى من يساعدنى فى الدعوة إلى الله، {قال الحواريون نحن أنصار الله}، وكان ذلك فى قرية يقال لها: الناصرة، فسموا بذلك النصارى.

قال الله تعالى: {فآمنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة}، يعنى لما دعا عيسى بنى إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى، منهم من آمن ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير، بعث إليهم رسلاً ثلاثة: أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا، وليس هؤلاء هم المذكورون فى سورة يس لما تقدم تقريره فى قصة أصحاب القرية، وكفر آخرون من بنى إسرائيل، وهم جمهور اليهود، فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم.

كما قال تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلىَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} الآية، فكل من كان إليه أقرب كان عاليًا فمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذى لا شك فيه من أنه عبد الله ورسوله، كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به، ولما كان النصارى أقرب فى الجملة مما ذهب إليه اليهود، عليهم لعائن الله، كان النصارى قاهرين لليهود فى أزمان الفترة إلى زمن الإسلام وأهله.

التالى