وروى مسلم فى صحيحه من حديث أبى مالك الأشجعى، واسمه سعد بن طارق، عن أبى حازم سلمة بن دينار، عن أبى هريرة وأبو مالك، عن ربعى، عن حذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم). وذكر الحديث بطوله، وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة فى الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر.

وقال آخرون: بل الجنة التى أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد، لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولأنه نام فيها وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها، وهذا مما ينافى أن تكون جنة المأوى. وهذا القول محكى عن أُبى بن كعب وعبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة فى المعارف والقاضى منذر بن سعيد البلوطى فى تفسيره وأفرد له مصنفا على حدة وحكاه عن أبى حنيفة الإمام وأصحابه، رحمهم الله، ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازى بن خطيب الرى فى تفسيره عن أبى القاسم البلخى وأبى مسلم الأصبهانى، ونقله القرطبى فى تفسيره عن المعتزلة والقدرية، وهذا القول هو نص التوراة التى بأيدى أهل الكتاب، وممن حكى الخلاف فى هذه المسألة: أبو محمد بن حزم فى الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية فى تفسيره، وأبو عيسى الرمانى فى تفسيره.

وحكى عن الجمهور الأول وأبو القاسم الراغب والقاضى الماوردى فى تفسيره فقال: واختلف فى الجنة التى أسكناها، يعنى آدم وحواء، على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد، والثانى: جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التى جعلها دار جزاء، ومن قال بهذا اختلفوا على قولين: أحدهما: إنها فى السماء لأنه اهبطهما منها، وهذا قول الحسن. والثانى: أنها فى الأرض، لأنه امتحنهما فيها بالنهى عن الشجرة التى نهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم، والله أعلم بالصواب من ذلك. هذا كلامه. فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة وأشعر كلامه أنه متوقف فى المسألة.

ولقد حكى أبو عبد الله الرازى فى تفسيره فى هذه المسألة أربعة أقوال: هذه الثلاثة التى أوردها الماوردى، ورابعها: الوقف، وحكى القول: بأنها فى السماء وليست جنة المأوى، عن أبى على الجبائى. وقد أورد أصحاب القول الثانى سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا: لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها، وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته، وإنما هو أمر قدرى لا يخالف ولا يمانع ولهذا قال: {اخرج منها مذءوما مدحورا}، وقال: {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}، وقال: {اخرج منها فإنك رجيم} والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة وأيَّا ما كان، فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا فى المكان الذى طرد عنه، وأبعد منه، لا على سبيل الاستقرار، ولا على سبيل المرور والاجتياز، قالوا: ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، وبقوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} الآية، وهذا ظاهر فى اجتماعه معهما فى جنتهما، وقد أجيبوا عن هذا: بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما فى الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها، أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة، أو من تحت السماء، وفى الثلاثة نظر، والله أعلم.

ومما احتج به أصحاب هذه المقالة: ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى الزيادت عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن البصرى، عن يحيى بن ضمرة السعدى، عن أبى بن كعب، قال: إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون يا بنى آدم؟ فقالوا: إن أبانا اشتهى قطفًا من عنب الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتموه، فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل ومن خلفه من الملائكة، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم فى موتاكم. وسيأتى الحديث بسنده وتمام لفظه، عند ذكر وفاة آدم عليه السلام، قالوا: فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التى كان فيها آدم التى اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك، فدل على أنها فى الأرض لا فى السماء، والله تعالى أعلم.

قالوا: والاحتجاج بأن الألف واللام فى قوله: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} لم يتقدم عهد يعود عليه، فهو المعهود الذهنى مسلم، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام، فإن آدم خلق من الأرض، ولم ينقل أنه رفع إلى السماء، وخلق ليكون فى الأرض، وبهذا أعلم الرب الملائكة، حيث قال: {إنى جاعل فى الأرض خليفة}.

قالوا وهذا كقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} فالألف واللام ليس للعموم، ولم يتقدم معهود لفظى، وإنما هى للمعهود الذهنى الذى دل عليه السياق، وهو البستان.

قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء، قال الله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} الآية، وإنما كان فى السفينة حين استقر على الجودى ونضب الماء عن وجه الأرض، أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركًا عليه وعليهم، وقال الله تعالى: {اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم} الآية، وقال تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} الآية، وفى الأحاديث واللغة من هذا كثير.

قالوا: ولا مانع، بل هو الواقع أن الجنة التى أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور، كما قال تعالى: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}، أى لا يذل باطنك بالجوع، ولا ظاهرك بالعرى، {وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} أى لا يمس باطنك حر الظمأ، ولا ظاهرك حر الشمس، ولهذا قرن بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا، لما بينهما من الملائمة، فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التى نهى عنها، اهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعى والنكد والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان دينًا وأخلاقًا وأعمالاً وقصودًا، وإرادات وأقوالاً وأفعالاً، كما قال تعالى: {ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} ولا يلزم من هذا أنهم كانوا فى السماء، كما قال تعالى: {وقلنا من بعده لبنى إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} ومعلوم أنهم كانوا فيها لم يكونوا فى السماء.

قالوا: وليس هذا القول مفرعًا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم، ولا تلازم بينهما، فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الصحاح، كما سيأتى إيرادها فى موضعها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} أى عن الجنة {فأخرجهما مما كانا فيه} أى من النعيم والنضرة والسرور، إلى دار التعب والكد والنكد، وذلك بما وسوس لهما وزينه فى صدورهما، كما قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} يقول: ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أى ولو أكلتما منها لصرتما كذلك {وقاسمهما} أى حلف لهما على ذلك {إنى لكما لمن الناصحين} كما قال فى الآية الأخرى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} أى هل أدلك على الشجرة التى إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم، واستمررت فى ملك لا يبيد ولا ينقضى، وهذا من التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع.

والمقصود أن قوله شجرة الخلد التى إذا أكلت منها خلدت، وقد تكون هى الشجرة التى قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، حدثنا شعبة، عن أبى الضحاك سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد). وكذا رواه أيضا عن غندر، وحجاج عن شعبة، ورواه أبو داود الطيالسى فى مسنده عن شعبة أيضًا به. قال غندر: قلت لشعبة: هى شجرة الخلد؟ :قال ليس فيها هى. تفرد به الإمام أحمد.

وقوله: {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}، كما قال فى (طه): {[فأكلا] منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان [عليهما] من ورق الجنة}، وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، وهى التى حدته على أكلها، والله أعلم.

وعليه يحمل الحديث الذى رواه البخارى: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه: (لولا بنوا إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها)، تفرد به من هذا الوجه، وأخرجاه فى الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة به. ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف، عن أبى وهب، عن عمرو بن حارث، عن أبى يونس، عن أبى هريرة به.

وفى كتاب التوراة التى بين أيدى أهل الكتاب: أن الذى دل حواء على الأكل من الشجرة: هى الحية، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها، وأطعمت آدم عليه السلام. وليس فيها ذكر لإبليس، فعند ذلك انفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين، وعملا مئازر، وفيها: أنهما كانا عريانين، وكذا قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورًا على فرجه وفرجها.

وهذا الذى فى هذه التوراة التى بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ فى التعريب، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد، ولاسيما ممن لا يعرف كلام العرب جيدا، ولا يحيط علمًا بفهم كتابه أيضًا، فلهذا وقع فى تعريبهم لها خطأ كثير لفظًا ومعنى، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس فى قوله: {ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} فهذا لا يرد لغيره من الكلام، والله تعالى أعلم.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسن بن إسكاب، حدثنا على بن عاصم، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً، كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد فى الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن عز وجل: يا آدم، منى تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء). وقال الثورى: عن ابن أبى ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} ورق التين، وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضى أعم من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضر، والله تعالى أعلم.

وروى الحافظ بن عساكر من طريق محمد بن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن البصرى، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق، ستين ذراعًا، كثير الشعر، موارى العورة، فلما أصاب الخطيئة فى الجنة بدت له سوأته، فخرج من الجنة، فلقيته شجرة، فأخذت بناصيته، فناداه ربه: أفرارا منى يا آدم؟ قال بل حياء منك، والله يا رب مما جئت به). ثم رواه من طريق سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن يحيى بن ضمرة، عن أبى بن كعب، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وهذا أصح، فإن الحسن لم يدرك أُبيًا. ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الإطرابلسى، عن محمد بن عبد الوهاب أبى قرصافة العسقلانى، عن آدم بن أبى إياس، عن شيبان، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا بنحوه. {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وهذا اعتراف، ورجوع إلى الإنابة، وتذلل، وخضوع، واستكانة، وافتقار إليه تعالى فى الساعة الراهنة، وهذا السر ما سرى فى أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير فى دنياه وأخراه {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل: والحية معهم، أمروا أن يهبطوا من الجنة فى حال كونهم متعادين متحاربين، وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه أمر بقتل الحيات وقال: (ما سالمناهن منذ حاربناهن

وقوله فى سورة طه: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} هو أمر لآدم وإبليس، واستتبع آدم حواء، وإبليس الحية، وقيل: هو أمر لهم بصيغة التثنية كما فى قوله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} والصحيح: أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه. وقال: وكنا لحكمهم شاهدين. وأما تكريره الإهباط فى سورة البقرة فى قوله: {وقلنا اهبطوا} منها جميعا {بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعًا فأما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فقال بعض المفسرين: المراد بالإهباط الأول: الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، وبالثانى: من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضعيف، لقوله فى الأول: {قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فدل على أنهم اهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأول، والله أعلم.

والصحيح: أنه كرره لفظًا وإن كان واحدًا، وناط مع كل مرة حكمًا، فناط بالأول عداوتهم فيما بينهم، وبالثانى الاشتراط عليهم، أن من تبع هداه الذى ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقى، وهذا الأسلوب فى الكلام له نظائر فى القرآن الكريم.

وروى الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: العفو العفو، فقال الله: فرارا منى؟ قال: بل حياء منك يا سيدى. وقال الأوزاعى عن حسان، هو ابن عطية: مكث آدم فى الجنة مائة عام. وفى رواية: ستين عاما، وبكى على الجنة سبعين عاما، وعلى خطيئته سبعين عاما، وعلى ولده حين قُتل أربعين عاما، رواه ابن عساكر.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم، عليه السلام، إلى أرض يقال له: دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبى حاتم أيضا. وقال السدى: نزل آدم بالهند، ونزل معه بالحجر الأسود، وبقبضة من ورق الجنة، فبثه فى الهند، فنبتت شجرة الطيب هناك.

وعن ابن عمر، قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة. رواه ابن أبى حاتم أيضا. وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرنى عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبى موسى الأشعرى، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شىء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الحاكم فى مستدركه: أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمر، عن زائدة، عن عمار بن أبى معاوية البجلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وفى صحيح مسلم من حديث الزهرى، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها). وفى الصحيح من وجه آخر: (وفيه تقوم الساعة). وقال أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعى، عن أبى عمار، عن عبد الله بن فروخ، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)، على شرط مسلم.

فأما الحديث الذى رواه ابن عساكر من طريق أبى القاسم البغوى: حدثنا محمد بن جعفر الوركانى، حدثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هبط آدم وحواء عريانين جميعًا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قعد يبكى، ويقول لها: يا حواء، قد أذانى الحر، قال: فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغذل، وعلمها، وأمر آدم بالحياكة، وعلمه أن ينسج، وقال: كان آدم لم يجامع امرأته فى الجنة حتى هبط منها، للخطيئة التى أصابتهما، بأكلهما من الشجرة، قال: وكان كل واحد منهما ينام على حدة، ينام أحدهما فى البطحاء، والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل، فأمره أن يأتى أهله، قال: وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل، فقال: كيف وجدت امرأتك، قال: صالحة). فإنه حديث غريب، ورفعه منكر جدًا، وقد يكون من كلام بعض السلف. وسعيد بن ميسرة هذا هو أبو عمران البكرى البصرى، قال فيه البخارى: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروى الموضوعات، وقال ابن عدى: مظلم الأمر. وقوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} قيل: هى قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} روى هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبى العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراسانى وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسين بن إشكاب، حدثنا على بن عصام، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدى إلى الجنة؟ قال: نعم)، فذلك قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}، وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.

وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد قال: الكلمات اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم).

وروى الحاكم فى مستدركه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} قال: قال آدم: يا رب، ألم تخلقنى بيدك؟ قيل له: بلى، ونفخت فى من روحك؟ قيل له: بلى، وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت على أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعى إلى الجنة؟ قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى الحاكم أيضًا والبيهقى وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب، أسألك بحق محمد أن غفرت لى، فقال الله: فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتنى بيدك، ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلىّ، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك). قال البيهقى: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف، والله أعلم. وهذه الآية كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويعلى ومحمد ابنا عبيد، قالوا: حدثنا الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار). ورواه مسلم من حديث وكيع وأبى معاوية عن الأعمش به. ثم لما أسكن آدم الجنة التى أسكنها، سواء كانت فى السماء أو فى الأرض على ما تقدم من الخلاف فيه، أقام بها هو وزوجته حواء عليهما السلام يأكلان منها رغدا حيث شاءا، فلما أكلا من الشجرة التى نهيا عنها، سلبا ما كانا فيه من اللباس واهبطا إلى الأرض. وقد ذكرنا الاختلاف فى مواضع هبوطه منها.

واختلفوا فى مقدار مقامه فى الجنة، فقيل: بعض يوم من أيام الدنيا. وقد قدمنا ما رواه مسلم عن أبى هريرة مرفوعًا. وخلق آدم فى آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، وتقدم أيضا حديثه عنه: وفيه: يعنى يوم الجمعة خلق آدم، وفيه أخرج منها، فإن كان اليوم الذى خلق فيه فيه أخرج. وقلنا: إن الأيام الستة كهذه الأيام، فقد لبث بعض يوم من هذه، وفى هذا نظر، وإن كان إخراجه فى غير اليوم الذى خلق فيه، أو قلنا: بأن تلك الأيام مقدارها ستة آلاف سنة، كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة.

قال ابن جرير: ومعلوم أنه خلق فى آخر ساعة من يوم الجمعة، والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فمكث مصورا طينا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة، وأقام فى الجنة قبل أن يهبط ثلاثًا وأربعين سنة وأربعة أشهر، والله تعالى أعلم. وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان، عن سوار خبر عطاء بن أبى رباح: أنه كان لما اهبط رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعا، وقد روى عن ابن عباس نحوه، وفى هذا نظر، لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن). وهذا يقتضى أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعا، وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن.

وذكر ابن جرير عن ابن عباس، إن الله قال: يا آدم، إن لى حرمًا بحيال عرشى، فانطلق فابن لى فيه بيتا فطف به كما تطوف ملائكتى بعرشى، وأرسل الله له ملكًا فعرفه مكانه وعلمه المناسك، وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم صارت قرية بعد ذلك.

وعنه أن أول طعام أكله آدم فى الأرض: أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الشجرة التى نهيت عنها فأكلت منها، فقال: وما أصنع بهذا؟ قال: ابذره فى الأرض، فبذره، وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف، فنبتت، فحصده، ثم درسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد، وذلك قوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}.

وكان أول كسوتهما من شعر الظأن، جزاه ثم غزلاه، فنسج آدم له جبة ولحواء درعًا وخمارًا.

واختلفوا: هل ولد لهما بالجنة شىء من الأولاد؟ فقيل: لم يولد لهما إلا فى الأرض، وقيل: بل ولد لهما فيها، فكان قابيل وأخته ممن ولد بها، والله أعلم.

وذكروا أنه كان يولد له فى كل بطن ذكر وأنثى، وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه التى ولدت معه، والآخر بالأخرى، وهلم جرًّا، ولم يكن تحل أخت لأخيها الذى ولدت معه.

 

التالى