العدد الأول * المجلد الأول * خريف 2005

صهيل القصائد


كتاب للشعر والشعرية في الثقافة العربية المعاصرة

المحرر
علاء الدين رمضان

الناشر
وكالة آرس للثقافة
Poems Whinny

A book for Contemporary Arabic poetic & Poetry
Published By : ARS Proxy For Culture

المحتويات contains

العدد الأول * المجلد الأول * خريف 2005

·  

           شرفات النص windows at the text

•• متابعات شعرية 

47

 أحمد فضل شبلول  قصائد من ديوان الموت والوجع

77

 عدنان بن ذريل  أزهار القلب ديوان للشاعر فؤاد كحل

••  ••  •• ••  ••  ••

قصائد من ديوان الموت والوجع

     * أحمد فضل شبلول :

محمد خليفة الزهار اسم جديد على الحركة الشعرية في الإسكندرية، ولكنه جاء متمكنا من أدواته ولغته، قادرا على تشكيل القصيدة بالصور الشعرية المناسبة لإطارها وموضوعها، متمتعا بثقافة جيدة، قارئا للتراث الأدبي والشعري

ولعل اختياره لكلمات من "مأساة الحلاج"، هي:  "إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني .. فقد توضأت وضوء الأنبياء"، لتكون مدخلا لديوانه الأول "سور من كتاب الموت والوجع"، يشي بالجو النفسي الذي ستكون عليه قصائد الديوان بعد ذلك، ومن ثم فإن الشاعر يمهد بهذا المدخل

إلى ما سيأتي من نصوص شعرية تنتمي في معظمها إلى اللحظات الصوفية المشرقة، المختلطة في الوقت نفسه بعذابات البشر وآلامهم وصراعهم غير الشريف من أجل البقاء. يقول الشاعر:

إن الذي  سوَّاكِ فاكهةً بطعم البحر

تسكنُ داخلي .. هو قاتلي

هذه الحالة المتناقضة بين "سواك فاكهةً بطعم البحر"، و"قاتلي"، تكشف عن النهج الذي يتبعه الشاعر في صياغة قصائده.  وتشف مفردات القصيدة الأولى لتحيلنا إلى لحظات من الإشراق والتوهج الصوفي، فنجد: "فاكهة، داخلي، وجد، العاشقين، المواويل، مرتجيك، سيدي" ولكن هذه المفردات ليست هي عماد القصيدة فحسب، ولكنْ يقابلها مفردات أخرى، تحلينا من منظور آخر إلى كم التعاسة البشرية مثل:

 "قاتلي، التعب، ذنب، أوجاع، القتل، الألم، البوار، عاقر".

بهذه الخلطة الشعرية ـ إن صح التعبير ـ يضع محمد خليفة الزهار يده على نسيج شعري جديد، يساعده على ذلك تفعيلة بحر الكامل متفاعلن والتفعيلة المضمرة (الإضمار = تسكين الثاني المتحرك) متْفاعلن (وتنطق مُسْتَفْعلن)، حيث الحركات الثلاث المتصلة في متفاعلن، ثم الحركة يعقبها سكون يعقبها حركة فسكون، في التفعيلة مستفعلن، ضمن إطار نفسي نجح الشاعر في إحكامه تماما، ولنأخذ على سبيل المثال السطر "هو قاتلي"، إنه حالة من حالات العذاب النفسي والاعتراف والبوح الشعري داخل القصيدة، وهو يأتي في تفعيلة واحدة متوحدة من الكامل (متفاعلن)، ويعد بؤرة القصيدة، أو بيت القصيد فيها، إن صح التعبير. فبعد كل هذا الكلام الجميل والمناجاة المتصلة من خلال خمس تفعيلات دون أي توقف عروضي (إن الذي سواك فاكهة بطعم البحر تسكن داخلي) تأتي الجملة أو التفعيلة الواحدة كطعنة خنجر أو طلقة رصاص من هذا القاتل (هو قاتلي). لقد أحسسنا كقراء أو مستقبلين لهذا العمل الشعري ولهذه الدفقة الأولى في القصيدة بتلك الطعنة وبهذا الغدر.  وساعد على بروز هذا الإحساس التقفية المستريحة التي جاءت سريعة وحاسمة بين داخلي وقاتلي. ولعل السياق الشعري والنفسي هنا يذكرني بأبيات من قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" التي يقول فيها:

لم يصح قاتلي بي: "انتبه" ! /  كان يمشي معي .. / ثم صافحني ..

ثم سار قليلا ، / ولكنه في الغصون اختبأ !

مع الفارق أن قاتل الزهار يأتي من الداخل، بينما قاتل أمل يأتي من الخارج. ونرجع هذا الفارق أيضا إلى أن الخطاب الشعري عند خليفة الزهار هو خطاب صوفي داخلي في الأساس، بينما الخطاب الشعري عند أمل هو خطاب سياسي خارجي.

   في القصيدة الثانية تكون هند رمزا لحالة الوجد والتصوف والصعود في مدارج الروح، حيث يكون المحب أو الذي يريد الوصول، في حالة انتظار الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، ولعل أهم سؤال يطرحه المحب هنا هو السؤال عن هند نفسها:  

أنت السؤال .. / وفي الإجابة حيرتي / ... يا هند

فهند هي اللغز الكبير في سبيل السالك إلى دربها، إنها الحقيقة الكبرى الذي يصعب الإمساك بها، وهي السر الكبير الذي لو اكتشف لفسد العالم، وعمت فوضى الحواس أرجاء الكون، فهند هي الماء والري، وهي الزمن والبدايات الجميلة، وهي السلام والأحلام والمواويل، وهي الوطن.  وعندما نستشير التراث العربي عن اسم هند، نجد أنه من أسماء النساء العربيات، مشهور وسائر منذ القدم، كما سُمي به الرجال أيضا. ومن النساء المشهورات بهذا الاسم، هند أم سلمة (596 ـ 681) وهي قرشية مخزومية من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها في السنة الرابعة من الهجرة، وهي قديمة الإسلام، هاجرت مع زوجها الأول إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ولما مات خطبها أبو بكر فلم تتزوجه، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت في البداية بسنها وأولادها، ثم قبلت، ويروى أنها كانت تكتب، وروت 378 حديثا، وماتت بالمدينة. وهناك هند بنت عتبة (ت 635) وهي صحابية قرشية، أم معاوية بن أبي سفيان، تتركز شهرتها في وقفتها مع المشركين في موقعة "بدر" ، وقد فقدت فيها ذويها، ورثتهم بشعر جيد.  وفي موقعة "أحد" مثلت بجثث المسلمين انتقاما، حتى يقال إنها لقبت بآكلة المرار. لم تسلم إلا بعد الفتح، وقيل إنها ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم يوم الفتح.  أسلمت وشهدت موقعة اليرموك وحرضت على قتال الروم.  وهناك هند بنت النعمان (ت 693) وهي نبيلة، فصيحة، ولدت ببيت الملك بالحيرة. ترهبت لما مات أبوها في سجن كسرى، ومقتل زوجها الشاعر عدي بن زيد العبادي، وأقامت في دير بنته بين الكوفة والحيرة سمي دير هند، ولما فتح خالد بن الوليد الحيرة زارها وعرض عليها الإسلام، فاعتذرت بكبر سنها، فأمر لها بمعونة وكسوة، عاشت طويلا، وعميت في أواخر أيامها، وماتت في ديرها. وهناك هند بنت الخُس الزيادية، وهي من حكيمات العرب في الجاهلية.  وهند الخولانية، زوج بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى عليه وسلم.  وهند صاحبة الفرزدق، وهند التي شبب بها المثقب العبدي، وهند التي شبب بها كعب بن زهير، وهند التي شبب بها الأعشى في نونيته الشهيرة:

خالط القلبَ همومٌ وحَزَنْ                وادكارٌ بعد ما كان اطمأن

فهو مشغوف بهند هائم                   يرعوي حينا وأحيان يحن

وهند التي قال فيها الحطيئة:

ألا حبذا هند وأرض بها هندُ            وهند أتى من دونها النأي والبعدُ

وكثيرات غيرهن، استفاد الشاعر من وجودهن في التاريخ الأدبي والعربي ـ بطريقة غير مباشرة ـ وتستمر هند في الوجود الشعري، مع تبدل الأقنعة، فنراها في قصيدة "رحلة للشوق" القرية أو الوطن الذي يلجأ إليه الشاعر، فترويه وتمنحه الشهد والعشق والأمان والتوبة.

إنا إليك بذنبنا / جئنا نتوب / جئنا نبيت بخصرك البان الرشيق

جئنا زهورا ترتوي / من فيك .. /  يورق عمرها

جئنا مطر / يا توبةً /  من كل معصية أتت من مستحيل

هل تعذرين ؟!  / هل تعذرين ؟!

ويبدو أن هند هي رمز الطهارة والصفاء والنقاء في عالم الشاعر، فضلا عن أنها الرمز الصوفي الذي يسعى جاهدا للعروج إليه، والتوحد معه، والفناء فيه. غير أن هند تتحول في قصيدة أخرى إلى سعاد، وعندما تصبح هند سعادا يتخفف الشاعر قليلا من هالة التقديس التي خلعها على هند الأولى، ويسمح لنفسه ولشعره، توجيه اللوم والعتاب والنقد لهذاالرمز، فيقول:

 تبتْ يداكِ / فما أنا إلا ببابك خاضع  /  منذ التقينا عاشقين  /  وعابثين

نعيد ترتيب الرؤى  /  نتقاسم الأحزان والأوهام

والليل الذي ما عاد يستر ما تواثب في العيون

فهل الشاعر لم يستطع توجيه هذا اللوم والعتاب لهند، فيماهيها في سعاد، ليبقى رمز هند نقيا خالصا من كل الشوائب والصفات البشرية أو الحيوانية الدنيئة. هكذا يرفع الشاعر هند درجات فوق سعاد، ويحلق بها في عالم من الطهر والصفاء، مع أن سعاد وليلى وأسماء أخرى مشابهة أصبحت من رموز تراثنا الصوفي في كثير من الأقوال.  وما بين الرمز الصوفي الخالص، والرمز البشري بضعفه وترابه الوضيع، يبرز رمز ثالث يحمل دلالة واقعية، هو مصر التي هي وطن من سندس وإستبرق، وعلى الرغم من ذلك يوجه لها الشاعر عتابا رقيقا في قوله:

سؤالنا /  يا مصر قد سكن الحناجر /  والمقابر  / والخيام

ولن ننام / ولن تنام / صبابة العشق يوما

يا مطراً  / سكن العيون / وكان عذبا سائغا

ولكن الشاعر لم يلبث أن يبرح هذه الرموز الثلاثة، ليوجه قصائده وجهة واقعية أخرى، يبدؤها بسلسلة من القصائد القصيرة تصرخ في وجه السفلة عاشقي لون الدماء، وذلك من خلال "قصائد للعشق والدم ـ إلى كل نقطة دم طاهرة تصرخ تحت أقدام السفلة" فيكتب للشهيد الرمز، وللطفلة الشهيدة إيمان حجو، وللقدس، وللطير، والجليل. يقول عن الجليل:

في ثوبه / كان "الجليل" بلونه المخطوف

يركض نحو بابك / خلفه / طير بلون الليل ينقر رأسه  / ويعيد ترتيب النجوم

هكذا تتراوح بقية قصائد ديوان "سور من كتاب الموت والوجع" بين الرمز الصوفي الشفيف، والرمز الواقعي، والرمز الإنساني بكل عذاباته وأوجاعه البشرية، وفي تورط الشاعر مع هذه الرموز لا ينسى نصيبه من التعبير ـ بطريقته ـ عن المآسي والمجاذر الوحشية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي في أرض فلسطين المجاهدة. وهنا يطل برأسه عنوان الديوان "سور من كتاب الموت والوجع"، وداخل هذه السور نقرأ آيات للوجد والعشق، وتظهر دوال أخرى لمعشوقات مثل ليلى وفينوس، وبثينة.  ولكن يعود الشاعر بين الحين والآخر إلى رمزه المحبب ( هند) وفي قصيدة ثلاث آيات ووجد، تكون هند الحاضرة الغائبة، فهو لم يذكرها صراحة، ولكن دلالة وجود الأخريات في القصيدة لا بد أن يستدعي وجود هند. يقول الشاعر: " لولاك ما صعد المحبون الجبال " ؛ فالجميع يدور في فلك هند، حتى ليلى صاحبة قيس الذي هو بدوره رمز فني آخر، يضاف إلى الرموز الأخرى، في قول الشاعر: ماذا تقول الآن للأقدار ليلى ؟ / ماذا تقول ؟ /  يموت "قيس" كل ثانية سدى!

إن التراث الديني أو الإحالات الدينية، متغلغلة بشكل فني في معظم قصائد الديوان،  مثل:

 تهز نخيل الروح  / يسقط ما تبقى من ثمارك /  من وهن

فضلا عن التراث الأدبي الذي ضربنا أمثلة بوجوده من قبل.  وكل هذا يشي بأن الشاعر محمد خليفة الزهار غير منقطع عن تراثه الديني والأدبي، فهو كما قلنا في البداية قارئ جيد للتراث الأدبي والشعري، وهو يمزج ثقافته التراثية برؤاه العصرية وقضايا وطنه وأمته، منطلقا من موقف العشق الصوفي في نظرته للكون والأشياء.  تحية للشاعر محمد خليفة الزهار الذي يعد مكسبا جديدا للحركة الشعرية في الإسكندرية خاصة، وفي مصر بعامة. وفي انتظار أعماله الشعرية القادمة.

 
مجلة
صهيل القصائد

العدد الأول * المجلد الأول * خريف 2005 * ص : 47 - 49 ***

••  ••  •• ••  ••  ••

أزهار القلب
ديوان للشاعر فؤاد كحل

     * عدنان بن ذريل :
(أزهار القلب) ديوان للشاعر فؤاد كحل، صدر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق، عام 1989، ويضم مقطوعات شعرية تزيد على المئة؛ وهي خواطر في الحب والحياة، سلسلها الشاعر دون عناوين، ودون أرقام؛ وسبق له أن جمع مثلها في مجموعات شعرية سابقة؛ بعضها ذات عناوين وأرقام، وبعضها دون عناوين ودون أرقام؛ (المقطوعة) الواحدة منها هي في الغالب من أربعة، أو ستة أشطر، وقلة هي المقطوعات الطويلة بينها...‏

•• الحسّ الواقعي‏

الحس الواقعي هو الخصيصة الأساسية للديوان؛ إن الشاعر فؤاد كحل هنا مع الواقع، مع الحياة؛ بل إنه في العديد من المقطوعات يتلمس الحقيقة، ويكشف عن الجذور؛ ومعظم مقطوعاته تمزج حديث (الحسي) بحديث (المعنوي)، وتتغنى بجمال الجسد، كما تتغنى بجمال الروح...‏

ورغم أن وصف (الجسد) ظل شغل الشاعر في الديوان، إذ ترد الكلمة فيه في أكثر من اثنين وعشرين (22) موضعاً، فإن كثيراً من أوصاف الجسد مقرون بوصف الروح؛ إذ ترد كلمة (الروح) في الديوان، في أربعة عشر (14) موضعاً فيه، وتدل على صدق المعاناة وصدق الاستكشاف...‏

ومن هنا ظهور (التشبيه)، وتركيبه اللغوي (ا هي مثل ب)؛ إذ أنّ (التشبيه) من أكثر الصور الفنية صلة بالواقع، خاصة أن طرفية في استعمالات الديوان من الواقع، من الحياة، نحو: - كنسر عظيم/ سنصعد إلى الأعلى/ كوردة يابسة/ سننزل إلى الأسفل- ، ص50؛ أو - كن غامضاً كخنجر/ كن غامضاً كوردة/ كن غامضاً كحالة عشق،/ لكن إياك أن تكون واضحاً كجريمة....ص60؛ وانظر أيضاً ص 14- 22- 27- 36- 69- 89.‏

وإن (الشفوية) الصريحة التي نصادفها هنا وهناك في الديوان، تعود إلى هذا الحس الواقعي أيضاً؛ ومن أبرز الأمثلة على هذه الشفوية، أي اصطناع الأساليب العامية في الخطاب اللغوي الأدبي، مايلي:‏

- أرتجف من البرد- ، ص 9؛ يعلقني الحب على مشجب- ص 10؛ - أدعوك إلى فنجان قهوة- ، ص15؛، - أغلقت الألبوم- ، ص28؛ - والآن أكاد أجن- ، ص45؛ - تكفينا معاً/كسرة الخبز وحبات الزيتون- ، ص 55؛ تعالوا نكسر بطوننا/ أمام عريشة الناطور- ، ص 64؛ - شفاهي عطشى تقف في الدور- ، ص68، وغيرها...‏

••  المدلول الحسي والمعنوي للمفردات.‏

وعنوان الديوان (أزهار القلب)، استعارة إضافة تقصد أن مقطوعاته حصيلة التجربة الصميمية للحياة، وأيضاً للوجود عامة؛ فالمضاف، والمضاف إليه فيه مفردتان (حسيتان) استعملهما الشاعر مجازاً، مدلول معنوي، يقصد التفتح الشعري كمجتلي للفؤاد؛ والاستعمال في ذلك مفهوم، والاستعارة واضحة ومعبرة؛ إذ أن الشبهية مثلاً بين المستعار، والمستعار له فيها قريبة من الإفهام....‏

و(كلمة)- قلب- ذات تراث دلالي قديم، يرجع إلى أفلاطون، ونجده اليوم عند الوجوديين؛ حيث هو يُستعمل بمدلول معنوي؛ وتقصد (الجانب الشعوري)، الذي يشتهي، ويغضب في الإنسان.... وهو المدلول المعنوي الذي لا يزال قائماً، ونصادفه في التراث العربي؛ حيث (كلمة) - قلب- نقصد (الفؤاد)؛ راجع مختار الصحاح:- القلب، الفؤاد، وقد يعبر به عن العقل، قال القرآن في قوله تعالى( لمن كان له قلب)، أي عقل، ص72.....‏

وقد وردت كلمة(قلب) في الديوان، في أكثر من ثلاثين (30) موضعاً؛ أربعة استعمالات منها تفيد (المدلول الحسي) للكلمة، أي (العضو) الذي في الجسم يضخ الدم، وبه ينتظم نبض الحياة في الشرايين؛ أبرزها قول الشاعر: - إنني أتحسسك بلهفة/ إني أسمع دقات قلبك- ، ص 37؛ ثمَ: - لماذا يسرع هذا الوقت بنا/ إن قلبي ينبض جيداً- ، ص38...‏

أما استعمال المفردات التي من (الحقل الدلالي) لكلمة قلب بمدلولها الحسي، مثل دم، وشريان، ونبض وغيرها، فقد جاء مقنناً جداً؛ مثل ذلك أن كلمة (دم) وردت في موضعين، ص 77و81؛ ثم كلمة (شريان) وردت في أربعة مواضع، ص 43، 65، 66، 94، ثم كلمة (نبض) وردت في ستة مواضع، ص 63، 66، 73، 84، 94.... وأبرزها: - ليكن قلبك قلمك/ أليس النبض/ قوتك العظمى- ، ص 84؛ أو- نبض طفولتك/ تابع طيرانه/، في شرايين فتيان القرية- ، ص 94....‏

••  مع المعدولية‏

وأما الاستعمالات، الأخرى لكلمة (قلب) في الديوان، فإنها تفيد المدلول المعنوي المتوارث، أي (الفؤاد) وما يتعلق بمعدوليتها، في الاستعمال؛ ويقول المعلم (جريماس) إن النص الأدبي، كالرواية، أو الديوان يحوي عادة على (مخططي معدولية)، ايزوتوبي: المخطط الألسني التواضعي، والمخطط الأسلوبي الخيالي أو قد يفترقان، حتى يكتشفهما الدارس؛ بكشفه عن (المقصود) من استعمال الكلمة في النص، ويكون ذلك، في الأساس، بمقارنة الاستعمالات بعضها ببعض في الديوان ككل....‏

وبالفعل، كنت أوضحت في دراسات سابقة كيف أن الشاعر (فايز خضور) مثلاً في استعمالاته لكلمة (قتل) يخرج من مخططها الألسني التواضعي، إلى مخطط أسلوبي، سريالي، يقصد استعمال الكلمة فيه:- لحظة انبعاث، أو نهوض أو تجدد- ؛ ومثلها استعمالات الشاعر (محمد عمران)، لكلمة (قصب)، والتي يقصد منها في ذلك: - الغناء- ، وغيرها.. إلا أن واقعية الشاعر (فؤاد كحل) الحياتية تحاشت الإغراب في استعمالات كلمة (قلب)، فظلت في حدود التواضع الألسني، ولم تتعدّاه إلى سريالية، أو فانتازية أو سواهما...‏

ومن أبرز الأمثلة على استعمالات كلمة (قلب)، ومعدوليتها في الديوان قول الشاعر: - خذ عينيك إلى الأفق/ خذ قلبك إلى الحبيبة/ خذ فمك إلى نافذة الله/ ولكن/ دع لي صورتك في القلب- ، ص 40، أي ليكن فؤادك مجتلى حقيقتك...‏

- كل شيء جهزته لاستقبالك/ الوردة والكتب/ غرفة القلب، /والكلمات/ والوسائد أيضاً- ، ص35، أي جهزت صميم نفسي لاستقبالك...- هل رأيت الأم/ ترقص في عرس ابنتها/ ليس بعد/ إذن، لم تحسّ بفرح القلب أبداً- ، ص 43، أي لم تحسّ بالفرح الصميمي للفؤاد...‏

••  المعاني ولونيات الدلالة...‏

وبناءً على ذلك، أفادت كلمة (قلب) في العديد من المقطوعات (الوجدان الذاتي)، كما في قوله:- ألا يحق لهذا القلب/ أن يبوح بوردته/ بعد هذا الصمت المرهق/لسنوات طويلة- ، ص70، أي أن للوجدان الذاتي حقه في التعبير عن نفسه، والبوح....‏

- افصل الهاتف/ اغلق الباب/ أقفل نوافذ الجسد/ ثم بعد قلبك/ اجلس هادئاً مع قلبك- ، أي اجلس هادئاً مع وجدانك الذاتي.....‏

يضاف إلى ذلك، وفي نفس الاتجاه، إن من اللونيات التي ظهرت في الديوان على استعمالات كلمة (قلب) إن بعضها يفيد (الشعورية) عامة، نحو: - خفف قسوتك/ لم يعد يحتمل هذا القلب/ الوردة حين تذوي/ حتى النسيم/ يخفف من تنسيمه- ، ص 14، القلب هنا يقصد الشعورية...‏

- انزعوا ثيابي/ انزعوا جلدي/ انزعوا عظامي/ لكن اتركوا لي هذا االقلب ، ص88، القلب هنا أيضاً يفيد الشعورية وهكذا...‏ ناهيك أن المجازية التي ظهرت على بعض هذه الاستعمالات، وخاصة التي للمدلول المعنوي للقلب، مجازية مفهومة، وواضحة في معظمها، ولا غرابة فيها، أو شططاً.....‏

••  الصور المتوازية‏

وقد غلب استعمال (الصور المتوازية)،في الديوان على أية صورة أخرى؛ إذ أنّ مايزيد على ستين (60) مقطوعة فيه، أي أكثر من ثلثي الديوان، هي: - صور متوازية- ... و(التوازي) براثيليسم تناظر بين جمل القول، يقوم على استعادة مخطط، شيما، اسنادي واحد، اسمي أو فعلي، أي استعادة تركيب نحوي، في جملتين متتاليتين، أو أكثر... الأمر الذي يسمح بالتجنيس بين مفردات هذه الجمل، كما يسمح أيضاً بالمطابقة بين المعاني فيها، كما يفجر طاقات اللغة، وشعريتها؛ نحو: - كن حاداً كسيف في تلك المساحة/ كن شفافاً كجناح وردة في هذه المساحة- ، ص11؛ حيث يتكرر مخطط إسنادي فعلي (كن)، في جملتين متتاليتين؛ وحيث على الخصوص يظهر (التجنيس)، في: كن، في المساحة؛ كما تظهر (المطابقة) في : حاداً كسيف، شفافاً كوردة؛ والتكرار هنا أساسي....- القوة أن تكون أمام الحبيبة رقيقاً كوردة/ القوة أن تكون أمام العدو عنيداً كخنجر- ، نفس الصفحة، حيث يتكرر مخطط إسنادي واحد (القوة هي كذا)، وحيث يظهر التجنيس في (القوة أن تكون أمام)، كما ظهرت المطابقة في رقيقاً وعنيداً، حبيبة وعدو، وردة وخنجر)؛ والتكرار هنا أساسي...‏؛ وإلى جانب هذا التوازي البسيط، يتوسع الشاعر فيشكّل من عدّة مخططات إسنادية يكررها نسقية، نحو: - أنت تأتي وحيداً/ إلى هذا العالم/ كم أنت ممتلئ بالناس/ أنت لا تأتي وحيداً/ إلى هذا العالم/ كم أنت وحيد- ،ص55. في هذا المثل تتكرر نسقية من مخططين إسناديين اسميين: (أنت كذا، أنت لست كذا)، فيظهر التجنيس على الأنساق المذكورة المكررة: (أنت تأتي وحيداً، إلى هذا العالم، كم أنت...)، كما تظهر المطابقة في: (تأتي ولا تأتي، يمتلئ بالناس ووحيداً)؛ والأمثلة على ذلك عديدة، انظر مثلاً ص42- و76 وغيرها...‏

••  التنوع في الصور المتوازية‏

ومن الأمثلة على تكرار نسقية من عدّة أنساق إسنادية قوله:- كم أنت وحش/ خذ أنيابك/ وارحل بعيداً/ ساتفل على هذا القلب/كم أنت عظيم/هات طيورك/ ولنحلق سوياً/ سأفتح هذه النافذة، ص45...‏

حيث نسقية من أربعة مخططات تتكرر، أحدها إسناد أسمي (أنت كذا)، وثلاثة إسنادات فعلية (خذ... ارحل... سأفعل)، فيتشكل منها التجنيس (كم أنت)، ثم المطابقة(خذ...هات... الاقتراب... والبعد... التلاقي.. والمرافقة... سأقفل... سأفتح)، وهكذا دواليك...‏

ومن الصور المتوازية في الديوان هذا (التضعيف) الذي يشكّل (تدرجاً تاماً: - التفاحة كخدا الحبيبة/ خدا الحبيبة كجمرة/ الجمرة كوردة/ الوردة كقلبي/ لكن قلبي/ ماذا يشبه- ،ص42.‏ حيث مخطط إسنادي اسمي من مبتدأ وخبر، يتكرر في عدة أشطر متتالية، مع (تضعيف) آخر كل شطر: (خدّا الحبيبة، الجمرة، الوردة، قلبي)، كما يشكل تدرجاً تاماً...‏ ومنها أيضاً هذا (التدرج المرصع): - في شتائي تَعَالَ ربيعاً/ في ربيعي تعالَ صيفاً/ في صيفي تعالَ خريفاً/ لكنْ حذار/ أن تأتي في غير موعدك- ، ص 48.‏ حيث تكرار مخطط إسنادي فعلي.. (تعال كذا) مع دخول (في) على كلمة التضعيف في آخر الشطر، فتضعف: (في ربيعي، في صيفي)، فيبدل إعرابها، مما يشكل (ترصيعاً)؛ والتدرج بالتالي تدرج مرصع...‏ وعلى هذه الشاكلة، يكون اصطناع (الصور المتوازية) المختلفة، وما تعكسه من جناسات، وطباقات، وتصالب الكلام، والتضعيف، والتدرج، والتي يتغنى الشاعر (فؤاد كحل) بها، قد أظهر الدور الفني الذي للتحسين اللفظي، والمعنوي في ابتعاث شعرية اللغة، والتي ستصبح المجتلى الفعلي لفنية الشاعر، وشاعريته.‏

 
مجلة
صهيل القصائد

العدد الأول * المجلد الأول * خريف 2005 * ص : 77 - 79 ***

••  ••  •• ••  ••  ••

All the articles of the Internet edition of Alauddin Ramadan Al_Sayed Researchs (ARS Researches) almost are available in the PDF format. Individuals may view and download them for personal use with the Adobe Acrobat Reader.

Click here to download FREE Adobe Acrobat Reader

  الملفات مجهزة بأسلوب PDF لقراءتها يلزمكم برنامج  Acrob at Reader
 يتم حفظها بوساطة الأمر Save Target As

المراسلات الإلكترونية والتحرير
poemswhinny@yahoo.com
•  •  •

 ALAUDDIN RAMADAN © Copyright 1999-2005 - Part of the غابة الدندنة network

محصي الزائرينمحصي الزائرين