الصمود كفيل بإعادة الربيع إلى دمشق

أنطون مقدسي

دمشق تنتظر وتتوقع وتتوجس. كل منا يحبس انفاسه عند سماع نشرة الأخبار.

مراكز القوى في الداخل كثيرة، لكل منها قراره، والقرارات احياناً متعارضة. والمواطن حَذِر.

ميزان القوى غير مستقر عندنا، وحولنا في الدول المجاورة، وعلى الصعيد العالمي.

سيدة الموقف على المستوى الأعلى، اميركا، تنهال عليك بالاتهامات عند اول بادرة لا تعجبها. بدأت حرب الارهاب ثأراً لكرامتها. داسها مجهولون معروفون، نكرات في نظرها مرّغوها بالوحل في عقر دارها. فالارهابيون يجب ان يكونوا في العالم كله. وهي تخطط وتخطط كي تنبش كلاً منهم من مخبأه. أنت متهم ومن الصعب ان تثبت براءتك. المقياس الوحيد للتمييز بين الإثم والبراءة هو موقفك من اسرائيل. فالفلسطيني ارهابي حكماً وسوريا التي تؤوي عـدداً مـن المنظمات الفلسطينية هي ايضاً ارهابية. وكل مقاوم وكل مدافـع عن ارضه ارهابي. لكن الحكم عليه أحياناً مؤجل التنفيذ.

بعد افغانستان، العراق الذي وصلت قنابله يوماً الى اسرائيل. يومذاك كان يملك صواريخ. فلِمَ لا يكون عنده ايضاً صواريخ مخبأة تحت الارض؟

ويظن المثقفون السوريون ان الرئيس بشار قد اخذ يدرك هذا الجو المكفهر ضمن الحدود الممكنة، فلِمَ لا يعود "الربيع" الى دمشق واقواله مفعمة بالأمل؟

الديموقراطية هي الرأي الآخر.

ما يحق لي يحق لك.

اقواله هذه وعد بـ"الربيع". "الربيع" يا سيدي هو الحرية. ويوم تصير حراً، لا يستطيع أحد في الدنيا حتى وإن كان لديه صواريخ اميركا ان يعيدك الى القبر.

الاحكام العرفية هي العبودية.

المجتمع المدني هو الديموقراطية والحرية والربيع.

قال: العربي في فلسطين حر، فعلامَ هو سجين في بقية الأقطار العربية؟

قلت: لأنه دفع الثمن، وكان الثمن حقاً باهظاً. حياتك هي ثمن حرية اولادك واحفادك واحفاد احفادك.

جماعتنا زوّروا على أعلى المستويات. قالوا: عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة. الحزب القائد يحمينا.

والشعب الفقير عليه ان ينتظر.

قال: والمثقفون اذا صمدوا؟

قالوا: نعتقل بعضهم تأديباً. والمحاكم التي تُحسن قراءة القانون تدينهم وقد دانتهم وحكمتهم.

قلت: لم أفهم التهمة الموجهة اليهم: تبديل الدستور بالقوة؟

قالوا: لقد اعدنا الى ارسطو منطقه مع الشكر، بيننا وبين الرجل فاصل عمره 25 قرناً. والرجل لم يحسب حساب حرب الارهاب.

عندما القى جورج بوش الابن خطابه الأخير لخّصته احدى الصحف الاسرائيلية بعنوان "جديد في حزب الليكود"، أوَلم ينصع لادارة رئيس الليكود ويطلب في خطابه رأس ياسر عرفات؟

قال له يومذاك الاوروبيون: ولكنه مُنتَخب ديموقراطياً.

فاجاب: وأنا ايضاً انتخبت ديموقراطياً. فلماذا نجحت أنا وهو أخفق؟

أضاف: صدام حسين هو ايضاً مُنتخب ديموقراطياً، أفتتركه يسرح ويمرح على هواه؟! لقد صارت ديموقراطيتكم من الماضي، وعفا الله عما مضى.

قال بعضهم عندنا: منطق المصالح قبل منطق ارسطو وفوقه وبعده. أوليس لكل زمان ومكان؟

قلت: منطق ارسطو اليوم هو الصمود. يربح المعركة من يصمد على ارضها.

يجب ان يصمد المثقفون كي يعود "الربيع" الى دمشق. وهم مصممون على الصمود، أوَيمكنهم ان ينسوا الدرس الأبلغ الذي لقّنهم اياه بصموده شهيد "ربيع دمشق" الأول، رياض الترك؟! هذا دفع الثمن ولا يزال يدفعه.

هم يعرفون ان الحرية افضل من السجن الكبير الذي يعيشون فيه ويعيش العرب معهم فيه.

قال: هي غريزة حفظ البقاء تنتصر على الحرية.

قلت: تلك قصيرة المدى، أما الحرية فكالدهر. انها وانسانية الانسان سواء بسواء.

ان استمرار صمود المثقفين والثمن الذي دفعوه وسيدفعونه هو الكفيل اعادة "الربيع" الى دمشق.

مـتى يـأتي؟!

مـيـشـال كـيـلـو

لا اعرف الجهة التي صاغت مصطلح "ربيع دمشق"، في وصف ما عاشته سوريا بين حزيران من عام 2000 وشباط من عام 2001، شهر الهجوم الذي شنه وقاده نائب رئيس الجمهورية الاستاذ عبد الحليم خدام ضد "الهيئة التأسيسية للجان احياء المجتمع المدني "وصولا الى آب/ايلول من العام نفسه، اللذين جرى فيهما اعتقال نائبين في مجلس الشعب، والرفيق رياض الترك، الامين الاول للحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي ونشطاء سبعة بينهم عضوا "الهيئة التأسيسية للجان احياء المجتمع المدني "الزميلان الدكتوران عارف دليلة ووليد البني.

ربما كان صحافي ما، ارجّح ان يكون اجنبيا، قد تابع احداث سوريا، وقرأ بعض ما كتب عن حركة المجتمع المدني وضدها، فصدّق ما قيل حول خطورتها على النظام، وسارع الى مقارنتها بما كان قد جرى في تشيكيا وبولونيا، فقال بـ "ربيع دمشق" اسوة بـ "ربيع براغ" و"ربيع وارسو". اعتقد ايضا ان هذا المصطلح دغدغ احلام بعض المتحمسين الجدد للديموقراطية، فسارعوا الى سحبه على ما يجري في سوريا، ورأوا فيه مقولة تعينهم على فهم ما يحدث، استخدموها للاحتفاء بالتغيير القائم، ولفرز غث المواقف من سمينها، ثم لتوزيع شهادات حسن السلوك او الادانة، على هذه الجهة او تلك، واخيرا لنشر اوهام تفاؤلية حول النتائج الاكيدة، التي خالوا انها ستترتب على حراك الحقبة الاولى من "الربيع" الموهوم، ما لبثوا ان استبدلوها بكوابيس تشاؤمية محبطة بعد زواله المزعوم!

لن ادخل في حكايات "ربيع دمشق". سأعرّج على مسألة اظنها اكثر اهمية، اطرحها في صيغة هو: متى يأتي "ربيع دمشق"؟ او الاصح "ربيع سوريا"؟ فلا يقتصر على مدينة ولا يكون فصلا عابرا، ولا يبدأ بحراك يقوم به مثقفو المجتمع المدني وشرائح من الفئات البينية، وينتهي بحراك مضاد ينظمه سياسيو المجتمع الرسمي وكتل معبأة بقوة من القواعد الحزبية؟

اعتقد ان هذه هي المسألة التي يجب ان تستأثر باهتمامنا، كي لا نغرق في تخيلات وهمية ترينا الواقع ابيض او اسود، وتستند الى اوهام مقطوعة الصلة بحركته الحقيقية، تحجب مواقع اقدامنا عن اعيننا، وتسلبنا القدرة على التمييز بين رؤوسنا وارجلنا.

متى يأتي "ربيع سوريا"؟. يوجد ثمة في سوريا اليوم ذهنيتان: واحدة تقول ان لدينا مشكلة امنية، وليس لدينا ايّ مشكلة غيرها، واخرى تعتقد ان لدينا مشكلات كثيرة جدا، تغطي جميع مجالات وحقول حياتنا، لكنه ليس لدينا مشكلة امنية، اقله داخل البلد. ثمة، ايضا، سؤال مركزي يطرح نفسه، يرتبط تطور سوريا المقبل وسلوك نخبها الحاكمة والمالكة والمثقفة بنوع الرد عليه، هو الآتي: اذا كان لدينا مشكلة امنية فقط، فكيف نجابهها؟. هل نجابهها بالامن وحده، فنكل امرها الى الاجهزة الامنية تتولاها بمفردها، ام نواجهها، كذلك، بسياسات وتدابير عامة، تصلح احوالنا، وتخلصنا من ازماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... الخ، وهي كثيرة ومعقدة، ومن طبيعة خطرة، ماسة بالامن؟. واذا لم يكن لدينا مشكلة امنية، بل كنا نواجه تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية وايديولوجية، نابعة من تقادم جوانب كثيرة من نظامنا وحياتنا، هل نتصدى لها بوسائل تعطي الاولوية لدور الاجهزة الامنية، مثلما فعلنا في احوال كثيرة؟ ام نطوّر آليات غير امنية، حكومية ومجتمعية، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية... الخ، تتكفل التصدي لها ومعالجتها، في اطار حاضنة وطنية جديدة، تعيّن ادوارا جديدة للسلطة والدولة والمجتمع، تعزز قدراتها في مرحلة تحفل بأخطار خارجية شتى، يستبعد ان ينجح الامن في صدها، اذا بقيت احوالنا على ما هي عليه، وازماتنا دون حل.

هذه هي المسألة المفصلية، التي تطرح نفسها علينا اليوم، ويتوقف على موقفنا منها، ما اذا كنا سنخرج من ازمتنا، العامة. وهذا هو بيت القصيد في الواقع السياسي السوري، وفي البدائل والخيارات الممكنة، التي يتيحها.

هناك ذهنية ترى ان المشكلة الرئيسة التي تواجه سوريا من طبيعة امنية، لذا تدعو الى ابقاء الاجهزة الامنية طليقة اليد في كل شيء داخل البلد، والى ادامة التوازنات الراهنة وتوطيدها داخل السلطة، وبينها وبين المجتمع، لان ادامتها تمكّنها من مجابهة الاخطار الداخلية والخارجية، التي يمكن ان تتحول في اي وقت الى تهديد حقيقي للنظام وللبلد، فليس من الحكمة اجراء تغييرات تطاول موقع الامن من الدولة والسلطة والحياة العامة، خصوصا في الظرف الدولي الخطير، وليس من المجدي القيام بإصلاح قد يفضي الى هز الاستقرار، واخذ البلد الى حال تزيد قدرة اعدائه الداخليين والخارجيين على اختراق نظامه واستغلال نقاط ضعفه، وممارسة ضغوط مفتوحة عليه، من ادواتها قوة اميركا واسرائيل العسكرية المفرطة.

بهذه الاولويات والحسابات، تدعو هذه الذهنية الى ابقاء كل شيء على حاله، فإن صار الاصلاح ملحا وحتميا، وقع التفكير في اسلم اشكاله واقلها تأثيرا على الامر القائم.

تنتشر الذهنية الامنية السائدة في اوساط واسعة، بينها اوساط حزبية وحكومية. وتمتلك خبرة كبيرة في حماية النظام وتدبير شؤونه. ويحتل حَمَلتها مواقع مفتاحية ومقررة في السلطة، يلعبون من خلالها دورا كبيرا يبدو كأنه مستمد من سياسات حافظ الاسد، التي لطالما اعطت الاولوية لتوحيد السلطة وتثبيتها، في جميع الظروف والاحوال، وعالجت المشكلات في ذلك الوقت، بعد اتضاح معالمها، وقاومت كل ما شأنه المس بوحدة النظام، او ادخاله في تجاذبات ومناطق رمادية. وربما كانت سيطرة هذه الذهنية تفسر ارجحية الامن في اولويات النظام، وتعثر سياساته الاصلاحية، وغلبة الجزئية والتجريبية عليها، واكتفاءها بملامسة الحال القائمة برفق شديد. فهل ادت الذهنية الامنية الى تأجيل الاصلاح كمشروع وطني كبير، وأرجأت التغيير الى اشعار آخر، رغم حدة المشكلات التي تتطلبه وتراكمها، وكثرة الوعود التي وضعته على جدول اعمال السلطة، ولعبت دورا في اطلاق الحراك السياسي والثقافي، الذي شهدته سوريا خلال العامين المنصرمين؟

هذه الذهنية، كانت وراء ما سمّيته في ايار من عام 2000 "الحل الصيني للازمة السوفياتية"، الذي اراد تثبيت الحقل السياسي وتوحيده، واستخدام الروافع الاقتصادية لضبط الحراك المجتمعي. لا حاجة الى القول ان هذه الذهنية تريد بقاء الاحكام العرفية وحالة الطوارئ، وتتمسك بالمحاكم الاستثنائية، وبإيديولوجيا سلطوية تتمحور حول وحدة وطنية تعبوية الطابع، تصلح للاستخدام ضد مختلف صنوف الاعداء،الداخليين والخارجيين.

ثمة في المقابل، ذهنية اخرى، تقول بأولوية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... الخ، وبعدم وجود مشكلة امنية في سوريا، من طبيعة ضاغطة او ملحة. وهي تدعو، في صورتها الاكثر جذرية، التي نجدها لدى الديموقراطيين، الى اجماع يضم كل من هم خارج السلطة والنظام، ينهض على ضرورة اجراء حوار وطني شامل ينتهي الى مصالحة وطنية عامة، تضع حدا لاجواء العنف والقمع، وتقضي الى اعتراف الجميع بالجميع (رياض الترك) وتؤسس لتوجهات اساسها توافقات ومعايير جديدة، ترسم بمعونتها سياسات مشتركة. ويقوم اجماع وطني يستطيع امتصاص التناقضات والخلافات الداخلية، ويزيد قدرة سوريا على مواجهة الاعداء الخارجيين، ويمكنها من استرجاع اراضيها المحتلة ومساعدة شعب فلسطين، والتخلص من مشكلات وازمات متنوعة، تغطي حياة الدولة والسلطة والمجتمع والمواطن. يتوقف النجاح في التصدي، على اعادة نظر جدية في علاقات السلطة ومهامها وادوارها وتكويناتها، وخصوصا منها اجهزتها الامنية، التي تعرف كيف تحمي النظام، لكنها لا تستطيع حل مشكلات البلد والنظام، لسبب بسيط هو انها ليست من طبيعة امنية، مع ان استمرارها يجعلها مصدر قلق مجتمعي، يضمر اخطارا جمة على الاوضاع الامنية.

في هذه الذهنية، ثمة تغيرات واجبة الوقوع في شتى مناحي الحياة العامة وتكويناتها، يتطلب نجاحها الاخذ بأسس ومعايير في العمل العام، وفي الرقابة على السلطة، مغايرة للاسس المعمول بها حاليا، ويرتبط بها النجاح في كسر حدة المشكلات، وتطور الحياة العامة في اطر طبيعية، آمنة وتدرجية. بذلك، يرتبط امن البلد والنظام بالاصلاح، ولا يرتبط في الضرورة بالاستقرار القائم، الذي ربما كان يلبي متطلبات الامن، لكنه لا يلبي متطلبات المجتمع والدولة، بل وحتى السلطة. لا مفر، اذا، من التغيير، ولا بد من جعله اولوية.

ثمة اخلاط متنوعة من هاتين الذهنيتين، تقع بين جماعات الامن المحض، التي تريد ان تعالج بوسائله الخاصة ادواء البلد جميعها، باعتبارها ادواء امنية حصرا، وبين جماعات الاصلاح المحض، التي تستبعد الامن عن الشأن العام، وتدعو الى كفالته عبر السياسات الاصلاحية دون غيرها. الى هذا، ثمة حوار صامت بين هاتين الذهنيتين، يدور منذ سنوات داخل اروقة النظام، ادى الى ارتفاع صوت الاصلاح تدريجيا خلال السنوات الاربع المنصرمة، فبدا لبرهة وكأنه فرض نفسه نهجا جديدا لسلطة تعوّدت ان ترفضه خلال القسم الاكبر من حكمها، لاعتقادها ان اوضاع البلد سليمة لا تحتاج الى تغيير، وان ما قد يظهر فيها من نقاط ضعف ونواقص، جزئي ومحدود، للنظام قدرة غير محدودة على معالجته، واهلية تامة للسيطرة عليه، فلا حاجة الى اصلاح يهيج الخواطر، ولا مفر من التمسك بنظام يستطيع مواجهة ما قد يستجد من متغيرات داخلية وخارجية، وطنية ودولية. مع بروز نهج الاصلاح، بدا وكأن الذهنية الثانية ترجح، او كأن اطراف النظام تفاهموا على اصلاح من داخل الامر القائم، يتم بإعادة النظر في جوانب من ادارته، وبتجديد بعض مكوّناته واضافة مكوّنات جديدة اليه، يمتص بمعونتها مشكلاته السياسية والاجتماعية، ويساهم في ابقاء الوضع الشعبي والمجتمعي على حاله، ويحافظ على الهوة القائمة بين السلطة والمجتمع، ويديم سيطرة النظام على الثروة والمعرفة والقوة.

هل تشكل، في العامين المنصرمين، تشابك جديد، ضم عناصر من الذهنيتين واحدث تسوية بينهما، يرجع الى ظهور مستجد سياسي خطير هو تحوّل الاصلاح في البلدان المتأخرة الى شأن دولي يمكن فرضه بالقوة والاكراه، بعدما كان شأنا داخليا لبعض مؤسسات الخارج الاقتصادية والمالية دور فيه؟.

بعد الاصلاح الاميركي - الاسرائيلي في فلسطين، وما يقال عن تغيير النظام في العراق بالقوة بوصفه فعلا من افعال الاصلاح، تزايدت الحاجة الى اصلاح مضاد، ينضج ويتحقق في الحاضنة الوطنية، التي غدت، بسبب الظرف الجديد، رافعة توجه استراتيجي - وطني يتوقف على قيامه بقاء النظام والدولة مستقلين، وعصيين على السقوط في تبعية جديدة، اشد خطورة من ايّ تبعية سبقتها. فلم يعد من الجائز ان يتعيّن الاصلاح، بعد اليوم، بمصالح جزئية، او بتوازنات القوى داخل السلطة او بينها وبين المجتمع. ولا بد ان يكون من الآن فصاعدا خيارا يتخذ في ضوء مصالح الدولة العليا، التي تتخطى مصالح اي تكوين من تكويناتها، وتسمو عليه. هذا التشابك، الذي يتخلق بصعوبة ويفرض نفسه ببطء وتردد يبعثان على القلق، سيضعف في الضرورة الذهنية الامنية، وسيعزز ذهنية الاصلاح، وسيعطي الاولوية للمسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وسيرى المسألة الامنية بدلالتها، على العكس من الذهنية الامنية، التي تدعو الى رؤيتها بدلالة المسألة الامنية، بوصفها تفريعات منها وتنويعات عليها.

لن امعن في التحليل والتشخيص، مع ان صفحات كثيرة يمكن ان تسوَّد حول تعايش هاتين الذهنيتين في سوريا. سأكتفي بالقول: ان سوريا لن تعرف "الربيع"، في دمشق او في غيرها، مهما اشتد حراك هذا القطاع من المجتمع او ذاك، او هذه الفئة البينية او تلك... الخ، اذا لم تكن الذهنية الثانية هي المقررة، مع ما كل ما يترتب على ذلك من نتائج متشعبة ومتنوعة في باقي حقول حياة المجتمع والدولة والسلطة والمواطن. والحق ان هذه الذهنية تستطيع وحدها حماية سوريا وصون امنها، في الظرف العالمي الجديد، حيث لم تعد القوة من اختصاص اجهزة معينة، امنية او حزبية او حكومية، بل هي قوة المجتمعات والدول، التي تكوّن قدراتها وطاقاتها ومواردها البشرية والطبيعية بطرق تفاعلية - تكاملية، وتنظمها في اطر وطنية يصعب على العدو الخارجي او الداخلي النفاذ منها، واستخدام تكويناتها بعضها ضد بعض. لهذا السبب المهم جدا، لا يجوز ترك مصير سوريا للذهنية الاولى، لان ذلك من شأنه تعريضه لافدح الاخطار، في حقبة ما بعد الحادي عشر من ايلول وانفعالات اميركا - الصهيونية على العالم عموما، والعرب والمسلمين خصوصا، وعلى ما بقي من مقاومة عربية في فلسطين والعراق والمجال العربي الواقع بينهما. ويزيد من خطورة الامر ان الاصلاح هو، في المعنى الوطني الذي شرحته، فرصتنا الاخيرة، التي سننجح في اجتيازها بقدر ما نحشد قوى مواطنينا المعطلة وقدراتهم، ونزج بها في اصلاح ليست بناه واوضاعه غير معركة يمكن كسبها، بل يجب كسبها اذا ما توافرت وسائل فاعلة لكسبها، وحاضنة سياسية - اجتماعية مناسبة، تضمن الاستقرار بالتغيير.

لا يعني ما قلته ان الحراك الذي عاشته بلادنا في العامين المنصرمين لم يكن مهماً، فقد كان على قدر عظيم من الحيوية والاهمية، لانه نقل في وقت قصير جدا قضايانا ورؤيتنا السياسية والعملية الى طور جديد، وقدّم حلولا ناجعة لكثير من مشكلاتنا وازماتنا، ومنظورات يمكن ان يتجاوز وطننا بمعونتها مصاعب كثيرة يرزح تحتها، وان يعزز مجتمعنا وحدته وتماسكه الوطني، ويواجه بقوى موحدة مرحلة الانتقال التي يمر بها، وتحفل بمآزق يصعب المبالغة في وصف خطورتها، ويبلور عقدا وطنيا - اجتماعيا جديدا، على ارض توافقات يقرب التفاهم حولها قوى السياسة والمجتمع بعضها من بعض، ويجعل ادوارها تفاعلية - تكاملية، بعدما كانت طوال السنوات الثلاثين المنصرمة تناقضية، جعلت كل واحدة منها تعمل لنفي غيرها، بوسائل شحنت حياتنا العامة بصراعات استنزفتنا جميعا.

لن يكون "ربيع" في دمشق، اذا سادت او غلبت الذهنية الاولى. ولن يكون "ربيع" في سوريا، اذا لم يخرجنا "اصلاح اكبر من ثورة" (الياس مرقص) من مآزق تفتك بنا، دولة ومجتمعا وسلطة، ويأخذنا الى دولة حق وقانون، وتسود فيها ارادتنا الوطنية والقومية الحرة، وما كان بسطاء العرب ينشدونه من نهضتهم الثانية: مجتمع كفاية وعدل وديموقراطية.

الـخـــنـاق الـضــيّـق عـلـى الـســلـطــة والـمـعــارضـــة

عـمــــر أمـيـرالاي

رأى إبرهيم الخليل القمر فأعجبه بريقه ولمعانه، وكان هو في قرارة نفسه يبحث عن ربّ يعبده، فقال عن القمر: هذا ربّي. فلما أفل القمر قال: إني لا أحب الآفلين، فنبذ ربوبيته.

* * *

السوريون اليوم باتوا يقنطون من الأمل، بعدما تبيّن لهم أن الخيبة هي أدهى من اليأس، والضياع أمرّ من الحزم، وانعدام الرؤية لدى سلطة شاغرة أدعى الى القلق على مستقبلهم ومستقبل أولادهم من سلطة شمولية صارمة.

إن واقعاً كهذا كان يفترض بالمجتمع المدني السوري أن يرفع فورا من وتيرة ضغطه على سلطته لدفعها الى تطبيق المزيد من ادعاءاتها بالانفتاح والإصلاح، لكن ما جرى خلال العامين المنصرمين بدّد هذه الأماني، ووضع الكلّ في مواجهة حالة هلامية غير مسبوقة، ساهمت في إضفاء المزيد من الغموض على طبيعة هذه السلطة الفتية وكنه سياساتها:

إذ كيف السبيل مثلا للإمساك بحاضر ما انفك يتخفى ويحكم ويناور ويحارب ويعتقل بروح ماضٍ لم تطرده الأذهان اصلا كي يخلي لغيره المكان، أو التحقق من مراسيم وقرارات وإجراءات قالوا إنها ستقلب ظهر مجنّ السياسة الداخلية للبلد، وإذا بها تستحيل وريقات وهمية بائسة في سلة مهملات الفساد والبيروقراطية، أو فتح قضية ملفات الفساد ومحاسبة المسؤولين الذين، ويا للعجب، يبقون افتراضيين الى أن ينهار سدّ من هنا، ويفلس مصنع من هناك، فيصبح لهؤلاء فجأة اسماء ومناصب وارتكابات. وأخيراً، وهنا ذروة العبث، أن يناطح المرء طواحين حكم لا يحركها ريح، وإن تحرّكت لا تجود بنسمة.

فكيف لـ"الربيع" بعدها أن يأتي؟

هذا السؤال أحيله بدوري - كي لا أتهم بالتحيز دائما ضد السلطة - على المجتمع السوري كي يطرحه هو ايضاً على نفسه بصدق وشفافية بعد قراءة لتاريخه المعاصر تحديداً، ولكن في صياغة أخرى:

هل كان في وسع بطن، مثل بطن المجتمع السوري، أن يلد "ربيعاً" وفي رحمه يتربّص كل هذا الحشد من العسكر الطامع بالسلطة، كل هذا الطابور من المغامرين الذين سطروا أمجادهم على شواهد ألف ربيع وربيع اغتالوه من عمر هذه الأمّة، وهم يحكمونها جبراً تارةً، وطوعاً تارة أخرى؟

ان ما نابنا في الأمس وينوبنا اليوم لا نستحقه بالتأكيد، لكنه يشبهنا إلى حدّ بعيد، وإلا فكيف نفسّر ما آلت اليه أحوال "ربيع دمشق"؟ كيف يتبخر هكذا، وفي ومضة عين، حراك مجمتع برمته، وكيف تتلاشى بهزة عصا وبعض الاعتقالات جمعيات ومنتديات، وكيف يلوذ بالصمت بعدها مفكرون وقادة سياسيون وكأن شيئاً لم يكن؟

كيف هان علينا ان نتحوّل وببلاهة الى متفرجين مسلوبي الارادة أمام مهزلة قضائية جائرة تطاول عشرة من زملائنا، ثم نتقبل الأحكام الصادرة، في حقهم بامتعاض وشجب خجول... ونحن نعلم علم اليقين ان التهم نفسها التي الصقت بزملائنا لو كان اريد لها ان تطبّق على الجميع لساقتنا وساقت الشعب السوري برمته ظلما الى السجون؟

غريب بالفعل هذا الذي يحدث لنا ويجعلنا ننزلق باستغراب واستسلام الى مثل هذه الحالة المؤسفة من السلبية والشلل التام، ولا اقول الجبن لاني استبعد وجود مثل هذه الفرضية نظرا الى انعدام موجباتها موضوعيا على ارض الواقع.

ان هذا المجتمع، الذي لا اعتقد ان احدا ينكر عليه تضحياته في سبيل الحرية ومقاومة الاضطهاد والذود عن الحياض والنضال من اجل قضية فلسطين، قد عانى من صروف الدهر وصنوف الاستهتار والاستكبار ما لا يوازيه في مصيبته سوى القليل من المجتمعات. ومع ذلك فانه نجح يوم كان عليه ان يحدد موقفه من موضوع انتقال السلطة في سوريا قبل عامين، الى التعاطي مع هذه المسألة بكل نضج ومسؤولية، مبديا من ضروب الحكمة والايجابية ما فاجأ بالفعل توقعات معظم متابعي الشأن السوري. فما كان يعتبر يومذاك أمرا إجرائيا وروتينياً عادياً في نظر السلطة، كان شيئاً آخر تماماً على ارض الواقع وفي أعين الناس.

لقد لملم المجتمع السوري يومذاك ذاكرته الموجعة، وحبس احتقانه، واحتكم الى وعيه المدني مانحا العهد الجديد فرصة العمل على جَسْر تلك العلاقة المقطوعة بينه وبين السلطة منذ عقود، وفتح صفحة جديدة معها.

خشية السوريين اليوم كبيرة من ان يمور هذا العهد وتحكيم حلقة السياسة المفرغة خناقها على السلطة والمعارضة معا، ولما تتحقق بعد امنياتهم. خشيتهم ان يعودوا ويوكلوا امرهم للامن مرة اخرى حتى يقضي الله امرا كان مقضيا: الخلاص من تركة الماضي داخليا، وسقوط شارون اسرائيليا.

خـروج خجـول جـداً من الــشتاء

أصـلان عـبـد الـكـريـم

من طبيعة العقل البشري ان يكون في حاجة الى مثال - نموذج للقياس عليه. لذا فإن العودة الى الماضي ونماذجه تشكل نمطاً سائداً في الخطاب الانساني، بل في عملية التفكير نفسها، وكأن النموذج المعياري جزء لا يتجزأ من هذه الطبيعة. ولا يشذ "ربيع دمشق" عن هذا السياق، فأياً يكن من أطلق هذا الوصف فإنه يستعيد في شكل او في آخر "ربيع براغ".

إن في كل قياس هامشاً واسعاً من المغامرة والخطأ مع بعض جوانب الصواب بالطبع، لاسباب كثيرة ليس أقلها قيمة اختلاف السياق التاريخي للظواهر التي يقاس بعضها على بعض.

إن عبارة "ربيع دمشق" مشحونة حتى التخمة بالآمال والرغبات العميقة في التغيير، وهي في هذا المعنى وفيه فقط تستحق الوجود، ما دامت تستحضر الاجواء التي سادت في النصف الاول من عام 1968 في تشيكوسلوفاكيا، وبعيداً عن اللف والدوران حول المصطلح او القيام بالتمرينات اللغوية الشكلية لتفسيره والتي لن يكون من شأنها الا اضاعة الوقت، يمكن القول: اذا كان "الربيعان" قد بدأا من قمة السلطة فإن هذا (اذا صح ذلك في سوريا) ليس اكثر من وجه شبه شكلي نظراً الى افتقار ما يفترض فيه أنه الطرف الاصلاحي في سوريا الى برنامج سياسي واضح ومعلن، في حين كان دوبتشيك لا ينفك يعبّر عن برنامج كهذا قولاً وفعلاً، بغض النظر عن رؤيتنا له. ولذلك فقد حظي المذكور وبرنامجه بالتفاف شعبي واسع وتأييد عارم كاستجابة اصيلة للآمال الشعبية العريضة، اما "ربيعنا" فيفتقر الى مثل هذا البرنامج (أقصد البرنامج السياسي في التحديد وليس اي برنامج آخر في حدود هذا المقال)، الامر الذي يحيل على التكهنات والاصطفافات غير الواقعية.

يمكن الحديث في أحسن الاحوال عن نيات وتطلعات اصلاحية، بل إن السلطة نفسها لم تترك مجالاً لما هو اكثر من ذلك عندما أعلنت غير مرة عن تأجيل الاصلاح السياسي، ولأن "الربيع" المقصود لا يمكنه المجيء بدون برنامج تغيير سياسي حقيقي، فإن في وسعنا وصف ما يسمّى الاصلاح في سوريا ببيع السمك وشرائه وهو في الماء. إن ما نفتقر اليه في سوريا ليس برنامجاً كهذا فحسب بل التصميم على التنفيذ ايضاً، وهو نقيض ما كانت عليه الحال في براغ حيث كان هنالك تصميم اصيل، سلطوي وشعبي في آن واحد، وهو ما أدى الى تناغم وتساوق كبير بين السلطة والشعب، كما مكّن من عمل الكثير في غضون اشهر قليلة، الى درجة استدعت غزواً خارجياً في جنح الظلام لقطع الطريق على الجديد الذي يولد والعودة بالوضع الى الوراء.

إن طغيان التردد - بالاضافة الى غياب البرنامج الواضح - يطبع العملية الجارية في سوريا اليوم، وهو، من بين اسباب اخرى كثيرة، يمنع قيام التناغم بين المجتمع والسلطة على طريق التغيير ويؤجله الى أمد غير منظور على الرغم من مرور سنتين عليه كما يجعل صيرورة التغيير هشة الى حد يكفي بعض الهجوم للسياسي والامني لايصالها الى ما سمّي انتهاء "ربيع دمشق". وهو امر مفهوم تماماً في ظل الخوف والشك والحذر والضعف بل حتى العجز، الامر الذي يجعل من المسألة برمتها حقلاً مفتوحاً ليس على الأمل فحسب بل على النقيض التام منه: على الاحباط واليأس والاستقالة السياسية.

خلاصة القول - نظراً الى حدود المقال المقيدة - في رأيي: إن "ربيع دمشق"، في المعنى الحقيقي للعبارة، لم يبدأ بعد، لا من فوق ولا من تحت، كي نقول إنه انتهى. وأجرؤ على القول، إن ما سمّي "ربيع دمشق" مجازاً لم يكن اكثر من خروج خجول جداً من الشتاء وانفتاح نسبي بالقياس لما سبق، وثغرة صغيرة في السور الحديدي على صعيد الداخل. يصح القول: كنا ولا نزال في صدد الخروج من صقيع الشتاء لكننا بعيدون جداً عن ان نجد انفسنا في الربيع. ويمكن وصف الوضع في أحسن الاحوال بعبارة مستعارة من المعتزلة: "ألم اقل إن العقل معياري وقياسي الى حد كبير"، وهي المنزلة بين المنزلتين، بل ليت الامر كان كذلك.

ومع ذلك، وربما بسبب اعتباري ان "الربيع" لم يبدأ بعد كي ينتهي، لا أزال اشعر ان الأفق غير مغلق، ولن يزعجني اذا قال أحدهم او بعضهم في هذا المجال: إنك تجعل من اليأس مفتاحاً للأمل ومن العجز استراتيجيا للعمل.

ولتفسير ما سبق، اقول إن النظام السياسي في سوريا يجد نفسه، شاء أم أبى، أمام استحقاقات عالمية واقليمية ومحلية لا بد له من التكيف معها بما في ذلك ضرورة اعادة انتاج نفسه وبيته. لذا فإن من المرجح استمرار الصيرورة في سوريا بين مد وجزر تبعاً لعوامل كثيرة بينها بالتأكيد العوامل الفاعلة داخل بيت السلطة بالذات. ونظراً الى الطابع الخاص للشمولية في سوريا، فإن من المرجح ايضاً أن الاصلاح سيكون بالقطارة ولا أدل على ذلك من ان شيئاً ذا معنى لم يتغير في سوريا رغم عشرات المراسيم، وذلك ببساطة لأن هذه المراسيم ليس في وسعها ان تحدث ذلك ما دامت لم تنفذ الى عمق الكل الاجتماعي - الاقتصادي - السياسي المأزوم بنيوياً، وما دامت لا تنفك تدور على سطح الازمة بدلاً من الغوص عميقاً فيها، وما دامت لم تستهدف في الاصل الا الحقول الهامشية، مفضلةً السير في الازقة الضيقة بدلاً من الشوارع العريضة. وسيبقى الامر كذلك الى أجل غير منظور ما لم يستعد المجتمع روحه والشعب دوره في تقرير مصيره بنفسه، او ما لم تحدث تغيرات عميقة لاسباب شتى في بنية النظام وممارسته وهي غير مستحيلة، وإن تكن المؤشرات اليها غير قائمة بعد حتى في حدودها الدنيا، او ما لم تحدث تغيرات دراماتيكية في المنطقة ككل تضع الاطراف امام وضع جديد مختلف كلياً او جزئياً عما هو قائم اليوم.

يبقى المهم، اياً يكن المسار، الاستمرار في الضغط بكل الوسائل المشروعة المتاحة من اجل التغيير وعدم الاستسلام لارادة النظام في تأبيد الوضع الراهن، وإن يكن بشيء من الترقيع والتطريز على الحواشي الهامشية.

 

الـحاجة الـى الابـتــكار والديـــنـامـية

يـاسـيـن الـحـاج صـالـح

تكوّن "ربيع دمشق" من التقاء حركتين: سعي المثقفين والمهتمين المستقلين بالشأن العام الى استعادة دورهم الاجتماعي الذي طال تغييبه القسري، ثم تغير العهد في البلد بوفاة الرئيس حافظ الاسد. سيكون "ربيع دمشق" فسحة التقاء موقتة بين عمل هؤلاء النشطاء الديموقراطيين ومناخ الانفراج التالي لغياب الرجل الذي كان محور النظام السياسي السوري طوال عقود حكمه الثلاثة.

تميزت الفترة بين بداية حكم الرئيس بشار الاسد وشباط 2001 بظاهرتين، أولاهما تكاثر أطر النشاط الجماعي المستقلة، وخصوصا المنتديات التي تمثل اكثر من غيرها روح "ربيع دمشق"، وثانيتهما مناخ من الامان والاريحية وتزايد جسور التواصل بين الناس. الشيء النوعي في "ربيع دمشق" هو هذا المناخ الايجابي، وإن لم يخل حتى في عز موسمه من القلق والترقب. انتهى الموسم في شباط 2001 بالانقلاب على مناخه الايجابي وتسميمه بالتشكيك والتهديد.

استمرت بعد شباط 2001 بعض اطر النشاط العام المستقلة كمنظمتي حقوق الانسان ولجان احياء المجتمع المدني و"منتدى جمال الاتاسي"، بل ان النشاط الديموقراطي المستقل بلغ اعلى ذراه في آب وايلول من عام 2001 حين اقدمت السلطات على اعتقال ابرز رموز الطيف الديموقراطي، رياض الترك ورياض سيف، اضافة الى ثمانية نشطاء آخرين. على ان استمرار بعض المنابر والهيئات يخفي انقطاعا عميقا في الاجواء المعنوية والنفسية بين ما قبل شباط 2001 وما بعده. لم يعد ثمة "ربيع" ولا امان ولا غنى بالممكنات. بالعكس، خيّم على الحياة العامة اجماع على القلق بعد الاجماع على الامل الذي ميّز "الربيع" الآفل. ومن جديد تمّ سحب الفائض المعنوي الحيوي الذي لا غنى عنه لرفع معنويات الشعب واقناعه بدولته وفتح اقنية الحوار الاجتماعي والسياسي المثمر في ما بين افراده.

روح "ربيع دمشق" هي بالضبط ذاك الفائض المعنوي من التفاؤل والثقة والتصالح مع الذات والارتياح لانفراج الاوضاع بعد طول ضيق وخوف وانكماش. بدا خلال تلك الشهور التي لم تكد تبلغ ثمانية ان حياة جديدة، شجاعة ومتوثبة، تدب في سوريا. حياة اجتذبت اهتمام السوريين ولفتت انتباه العالم. فإذا كان تعبير "ربيع دمشق" قد جاء قياسا على "ربيع براغ" او "ربيع بكين"، فإن التعبير كان في الجو فعلا، في المناخ المنعش التالي لاختناق مديد، وفي التحسن الواضح للمزاج والحيوية العامين، وخصوصا في تكاثر شبكات التفاعل والتواصل بين الناس كتكاثر فروع الشجرة في الربيع.

التمثيل الابرز لحيوية "ربيع دمشق" وخصوبته هو المنتديات، وهي صالونات حوار منزلية مفتوحة للعموم يناقش فيها الناس مختلف القضايا العامة. قامت المنتديات بثلاث وظائف احيائية مهمة: الوظيفة الاولى هي التقاء بين بضعة عشرات وبضعة مئات من الناس لبضع ساعات في مكان ليست الكلمة العليا فيه للسلطة السياسية واجهزة الامن رغم حضورها الكثيف، وهذا ما لم يحصل في سوريا على ذلك النطاق الواسع منذ بداية حكم الحزب الواحد عام .1963 بأداء هذه الوظيفة، تمثل المنتديات فسحة لاستقلال ثقافة الرأي بسلطة خاصة بها، وتاليا استقلالها عن السلطة السياسية.

الوظيفة الثانية هي الحوار الذي يتلمس الهموم العامة ويعترف بوجود المشكلات ويضعها على الطاولة، اي تأمين حيز من الشفافية (الاعتراف بالمشكلات)، وهذا اكثر راهنية في سوريا من تحليل المشكلات وحلها. من ناحية ثانية يؤمّن الحوار فرصة لتواصل المشاركين وتعارفهم ونيل الاعتراف المتبادل بينهم. وهنا ايضا يشكل كل من نيل الاعتراف وتوكيد الجدارة والقدرة على المشاركة والتفاعل، مطالب مهمة في سوريا التي لا يتوافر لمثقفيها اعتراف بدورهم المستقل واستقلال صناعتهم بسلطة ومعايير خاصة بها (عدم الاعتراف يعني إما الصمت واما الهجرة; الخياران الاقصيان هما السجن او الانتفاع)، ولم تتح لهم فرص تطوير اطر تعارفية وتضامنية مستقلة تدر عليهم مردودا من التقدير والاعتبار.

الوظيفة الثالثة هي تأهيل او اعادة تأهيل قيادات سياسية ومعنوية جديدة تشكل نوعا من بؤر الجذب المشخصة، وتقدم للمجتمع السوري، وخصوصا للشبان المتلهفين للقيام بدور عام، "أبطالا" وقدوات حسنة تحرّك خيالهم وتساعدهم في بلورة شخصياتهم المستقلة. هذه ايضا وظيفة مهمة جدا في سوريا التي تحالفت فيها دولة "المنظمات الشعبية" وطفرة التلفزيون والازمة الاقتصادية على انتاج جيل من الشبان الممسوحي الذاكرة والذين تتقاسمهم اللامبالاة واحلام الهجرة الى الغرب والخوف من السياسة. بمحض وجودها، اوحت المنتديات ان هناك ممكنا آخر وخطابا آخر وسياسة اخرى، وبذلك ادخلت شيئا من التنوع على العرض السياسي المحلي بما يلبّي قدرا من الطلب الاجتماعي على الاختلاف... والحرية.

ولعل المنتديات تعرضت للتحريم والمنع بسبب اتساع طيف وظائفها الاحيائية اولا، ثم تثبّت الثقافة السياسية لنخبة السلطة السورية على مفهوم الدولة المقررة والمربية (تمييزا عن الدولة المُقِرّة والمنظمة).

تتوحد الوظائف الاحيائية في اعادة وصل ما انقطع من سيرورة تمدين المجتمع السوري، اي عكس المسار الذي افضى الى نزع مدنية هذا المجتمع ورده الى عصبياته المعاد اكتسابها في ظل ابوية سياسية جديدة.

تعارضت الوظائف المذكورة مع نمط السلطة المربية التي لا تقرر للناس ما يجب عدم فعله، بل ايضا ما يجب عليهم فعله. وتزين ايديولوجيا هذه الدولة لنخبة الحكم فيها ان وظيفة الدولة ليست إقرار الناس بما ابتكروه او بما تيسر لهم من تنظيمات وتقاليد... ومنتديات، مع تنظيم قواعد عمل عامة لهذه المرافق، بل تحكيم العقيدة الدولانية التي انحطت في العقود الاخيرة الى مستوى الهوى والقوة المحض، في تقرير ما يجوز لهم وما لا يجوز.

أثمر التعارض المشار اليه تصفية "ربيع دمشق"، وخلق شروطا جديدة مختلفة تماما عن اطاري التوقع والمقارنة اللذين يقيس بهما معظم الفاعلين العامين السوريين: العودة الى سياسة القمع المفتوح كما في ماض غير بعيد، او الدخول في الاصلاح وان ربما بايقاع ابطأ ومن مدخل غير المدخل السياسي الذي يأمله الفاعلون المذكورون. يحتاج الحقل السياسي الجديد الآخذ في التشكل الى ادوات تحليل وعمل جديدة، وخصوصا الى درجات اعلى من الابتكار والديناميكية على يد النشطاء الديموقراطيين.

قد يمكن النظر الى "ربيع دمشق" كمواصلة للتعلم السياسي والانساني الذي انقطع في الربع الاخير من القرن العشرين. ولعلنا عبر هذا التعلم نطوّر أهليتنا على تدبير نزاعات الحقل السياسي المحلي (والحقوق الاقليمية والدولية) الآخذة في التغيير.

اســتـحـالـة "تـجـمـيـد الـزمــن"

رجـاء الـنـاصـر

ما اصطلح عليه بـ"ربيع دمشق" ما هو إلا مقدمة لـ"الربيع المنتظر". تلك المقدمة هي عيّنة مستبقة او مفوّتة من زمن مستقبلي، حيث ان الواقع الراهن لم يفرز بعد معطيات "الربيع". فأزمة النظام الحاكم، رغم كل ما يبدو، لم تصل بعد الى قاعها، والنخبة الحاكمة لا تزال مسيطرة على الامور، وهي قادرة حتى اليوم على تسخير المتغيرات لصالح استمرارها، والقيادة الشابة التي جاءت الى موقع المسؤولية الاول، لا تزال محكومة بتركيبة النظام وآلياته وقواه، والاوضاع الاقتصادية رغم كل الفساد وعدم القدرة على تحقيق نمو فعلي ورغم التخبط لم تصل الى طريق الانحدار النهائي.

فمضخات الحياة فيه مستمرة سواء عبر النفط او عبر المنافذ "العراقية"، والضغوط الخارجية تبقى محدودة التأثير نظرا الى ان سوريا غير خاضعة لهيمنة صندوق النقد الدولي حيث ديونها الخارجية هي في معظمها ديون مجمدة لدول الاتحاد السوفياتي السابق. ولعل هذا ما دعا الرئيس الشاب الى ان يقول ان "في امكان سوريا ان تغلق الباب على نفسها"، وهو قول صحيح في المعنى المجازي وإنْ كان غير دقيق في المعنى السياسي. فسجل سوريا "البراغماتي" في التعامل مع القضايا الاقليمية الصعبة يساعدها في شكل دائم في إبعاد الاستحقاقات الكبرى عنها، ولم تستطع المعارضة (الطرف الثاني) في ثنائية الحكم حتى اليوم ان تتحول قطبا ديناميكيا قادرا على دفع الاحداث نحو الاستحقاقات الكبرى رغم كل ما قدمته طوال عصور مديدة تعرضت خلالها للقهر والتغييب.

ولم يستطع المثقف الوطني الديموقراطي الذي جرى تصويره بديلا من المعارضة الحزبية ان يبلور "صيغة المثقف الجمعي" فبقيت معارضته رمزية ومتذبذبة أكثر مما هي حركة متصاعدة. اما الجمهور او ما اصطلح على تسميته الكتلة الصامتة، فلا يزال صامتا.

ولعل هذا يفسر ضعف الحركات الاجتماعية الشارعية واقتصارها على نشطاء احزاب المعارضة ومجموعات المثقفين الخارجة اصلا من رحم تلك المعارضة. الا ان هذه المعطيات لا يمكن النظر اليها باعتبارها دائمة ومستمرة. فالخناق العام يشتد حول "النظام"، حيث ان النفط السوري - اهم رافعات الاقتصاد السوري الراهن - ليس متوافرا في مخزون كبير بل هو معرّض للنضوب بسرعة. ولا تبدو الاستفادة من الظروف الاقليمية لتحسين الوضع الاقتصادي مرشحة للاستمرار، والفساد بدأ يشكل كرة ثلج كبيرة وهي تتدحرج بحركة متسارعة، وحقن الاصلاح الاقتصادي المطروحة لا تشكل معوقات حقيقية تقف امام كرة الثلج تلك، والحركة الوطنية الديموقراطية في شقيها الحزبي - التنظيمي، والثقافي - المجتمعي، بدأت تتلمس نضجاً ووعياً في التعامل مع نهج العلنية في العمل السياسي والاجتماعي، تولّد عبر خبرات مكتسبة خلال السنتين الماضيتين. فما بدا من توجه الى النضال العلني خلال بدايات السنتين الماضيتين، وكأنه مغامرة في المجهول، تحمل معها مثاقيلها المتمثلة في عادات التقوقع، والخوف من التجريب، والتكيف مع أساليب العمل السري، صار هذا التوجه خيارا جماعيا يؤكد نفسه عبر التصميم على اعادة العمل السياسي الى المجتمع. وتملكت المعارضة الديموقراطية وعيا حقيقيا بعدم استسهال الانتقال (من مرحلة الاستبداد والتغييب السابقة، الى مرحلة التدرج الفعلي على طريق التغيير الديموقراطي، والاصلاح الوطني).

ولعل هذا الوعي ما يدفع الى الابتعاد عن المغامرة والى التركيز على الخطوات الثابتة والقصيرة في آن واحد ضمن مشروع التطوير والاصلاح المتدرج والشامل. هذا الابتعاد عن المغامرة يرى استيعاب متطلبات العمل في الداخل بكل ضغوطه، وعدم اعطاء اهمية غير عادية للعمل الخارجي (ما هو سوى شكل من اشكال العمل السري) حيث يبقى العمل الخارجي محض انعكاس لمعطيات الداخل.

ان "الربيع" بما يحمله من تفتح ومن نمو حاضنات ثمر التغيير، مقبل لا محالة. فمعطيات التغيير اصبحت اكثر تبلورا ولم يعد من الممكن الحفاظ على "تجميد الزمن" وتجميد السياسات والاستحقاقات لفترات طويلة، واذا لم تتم استجابة هذا التغيير ستجد سوريا نفسها مطالبة بإصلاحات بالاكراه. تلك "الاصلاحات" لن تكون في صالح سوريا ولا الاستقرار فيها بل ستكون لصالح القوى الخارجية التي ستضغط لطرحها تماما كما جرى ويجري مع السلطة الفلسطينية او حتى مع دول عربية عريقة في المحافظة على تقاليدها.

"الربيع" المقبل لن يكون محض لحظة مسروقة او مفوّتة او مستقدمة من خارج سياقها. لكن لا بد ان تسبق هذا "الربيع" جهود كبيرة ووعي اكبر، من اجل ان لا يكون "ربيعا" ثقافيا فحسب تزدهر فيه زهور غير مألوفة، وانما ليكون "ربيعا" دائما تحمل ازهاره ثمار التغيير الوطني الديموقراطي.


الـذوبـان الـبـطيء لـلـخـوف

عـبـد الـرزاق عـيـد

هل كان ثمة "ربيع" دمشقي في الأصل؟ أم هو ذوبان الجليد كما وصف ايليا اهرنبرغ مرحلة ما بعد الستالينية؟ في كل الاحوال، ليس ثمة تناقض، فالمفترض ان يتزامن ذوبان الجليد مع شمسات الربيع، لكن مع ذلك فإن التحول الذي حدث في سوريا لم يكن نتاج فعل داخلي ومجتمعي او خارجي سياسي عالمي، بل هو فعل قدري يدخل في اطار سيرورة الطبيعة لا صيرورة التاريخ، حيث رحل السلف وحل الخلف ومن البيت الواحد، وتلك سنّة في خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلا!

ولأن سنّة الله تقتضي ان يكون الأبناء متقدمين على الأباء بتقدم الزمن وتجاربه، وكما نصح - من قبل - عمر بن الخطاب رعيته، علّموا أبنائكم غير ما تعلمتوه لأنهم سيعيشون في زمن غير زمنكم، فإننا نحن الآباء نحمد سنّة الله هذه التي تجعلنا نفرح بتقدم ابنائنا علينا، إن في الثقافة او العلم او الاجتماع او السياسة. لقد فرحت سوريا بابنها الجديد، وخطابه الجديد، واعلانه الجديد عن الاعتراف بالآخر، بعد عشرات السنين في تاريخ سوريا السياسي القائم على فكرة ان في اقصائي والغائي وسحقي للآخر يكمن انتصاري، ومع الأسف فإن هذا الآخر لم يكن الآخر خارج الحدود، بل هو الآخر الذي ينبغي البدء فيه مع الذات، وفي الداخل اولا لأكون "عقائديا منسجما صلبا"، ثم الانتقال الى اقصاء الآخر السياسي (القومي - الماركسي - الليبيرالي - الاسلامي) لأن كل فرقة من هؤلاء كان يعتقد انه هو "الفرقة الناجية"، فكانت اسرائيل هي الناجية الوحيدة، امام امة تتآكل داخليا عبر القتل المتكرر الذي يقوم به قابيل تجاه أخيه هابيل الذي دائما - بالنسبة الينا - هو الآخر!

فلم يكن امامنا، نحن كهول الثقافة والسياسة، - لأن في سوريا ليس هناك شباب ثقافة وسياسة - سوى ان نفرح بهذه الولادة الطبيعية لممكنات مجتمع جديد، فأردنا ان ننفض عن انفسنا تراكمات الجليد لنخرج من سباتنا الشتوي الطويل، بعدما تجمدنا تحت طبقات الجليد ورطوبته واستنقاعه وتأسنه وامراضه، حيث العزوف والقرف والانكفاء والاحباط والتكهف داخل الذات وحيث الموت البطيء.

في هذا المناخ الطقسي بدأ ذوبان الجليد مع خطاب القسم للرئيس الشاب، ليتزامن مع تفتح زهرات "الربيع" الدمشقي الكهل، وذلك مع "بيان الـ99" ثم وثيقة الألف للجان احياء المجتمع المدني، وقيام المنتديات، ولجان حقوق الانسان.

فاذا بالزهور الذابلة والذاوية تحمل العطش الأزلي لسوريا، قلب بلاد الشام، وحاملة المسؤولية التاريخية والحضارية والثقافية لعروبة هذه البلاد، ففيها تخلت العروبة عن بداوتها وعقالها الهاشمي، لتصبح عروبة الحداثة والرابطة الأموية والعلمانية. وفيها تفتحت افكار الحداثة الليبيرالية والاصلاح الديني، وهي الدولة العربية الاولى التي يقتحم اليسار الشيوعي برلمانها اقتحاما وليس تعيينا وذلك في ايام حكم "الرجعية"، ومنذ ايام "الرجعية" نفسها في الخمسينات وصفت وزارة الخارجية الاميركية سوريا بأنها العقبة الاولى امام مشاريعها في الشرق الاوسط، وكانت تعتبر "الرجعي الشهير" معروف الدواليبي من ألد خصومها، وذلك قبل ان ينتقل الى العيش في السعودية معظم عمره، ويرفض الجنسية السعودية، التي يتهافت عليها اليوم ابناء القادة "الثوريين"!

ثمة مناخ اسطوري من الخوف في سوريا، وهذا الخوف الساكن في الأعماق، يعبّر عن نفسه في منظومة متكاملة من التفكير الأسطوري، القائمة جوهريا بحسب ميرسيا الياد على فكرة "قابلية تكرار الاحداث". فالمعرفة الاسطورية لا تعلّم حاملها كيف أتت الاشياء الى الوجود فحسب، بل اين يجد تلك الاشياء، وكيف يجعلها تتجلى من جديد عندما تتوارى عن الانظار!؟

كيف تجلى هذا الوعي الاسطوري؟

تجلى لدى السلطة بقرع طبول الحرب، مما أعاد الى الاذهان سنة 1980 الشئيمة، فالوعي الاسطوري لدى السلطة تجلى في اللجوء الى الحل نفسه الذي جربته من قبل، بغض النظر عن السياق والظروف التي تحول دون التكرار، اي دون التفكير بأن العدو هنا هو قلة من نخبة المثقفين الذين لا يملكون ما يهددون السلطة به سوى اقلامهم، واقلامهم بالتحديد لأنهم في ذلك الحين لم يكن لدى اي منهم كومبيوتر، وذلك بسبب بخل السفارات الاجنبية التي تقف وراءهم!

الوعي الاسطوري لدى المجتمع تمثل في الانكفاء والعودة الى الكهوف، وهم يسخرون من تاريخانية مثقفيهم الذين لم يستوعبوا دروس التكرار التي تعلم الحجار وال... ولسانهم يقول: ألم نقل لكم؟

ذلك انه مع بداية ظهور الوثيقة الاولى للجان احياء المجتمع المدني، وبداية قيام المنتديات، كان الناس يقولون: ان السلطة تنصب لكم افخاخا، يريدون اخراجكم من جحوركم ليصطادوكم، فإذا بالوعي الأسطوري للمجتمع ينتصر على المنطق التاريخاني لمثقفيه، وذلك عند الانتقال من قرع طبول الحرب الى اعلانها، وعندما لم يجد المحاربون مقاتلين في الساحة، اكتفوا بأخذ الأسرى من بيوتهم وبعضهم نيام، وذلك بمثابتهم قادة محتملين للحرب الاهلية، لتغيير الدستور بالقوة، وفي مقدمهم الشيخ السبعيني رياض الترك (ابن الزبير)، والكهل الستيني عارف دليلة (ابن شمشون) الذي ضرب بوكسا على أنفه لجدع أنف المثقفين، والصناعي المحارب رياض سيف (الله المسلول) ناهب عوائد الدخل الوطني البالغة حوالى 100 مليار دولار في البنوك الاجنبية!؟

لا نزال نعيش الزمن الاسطوري لسنة 1980 التي طالما دعونا لكي تكون سنة حداد وطني، لكي تتقيأها الذاكرة الوطنية. فالزمن الأسطوري الذي يحضر في صيغة تكرارية لا تنفذ، يعيد تكرار تلك اللحظة التي كفّر بها "الاخوان المسلمون" السلطة، فردت السلطة على "الأخوان" بتكفير المجتمع، والمنتصر في حرب الكفر والايمان، يكون هو الطرف المؤمن الذي يحق له اسلاب اعدائه الكفار بوصفها غنائم. وهكذا تعرض المجتمع الكافر الى عملية سطو وسلب ونهب عزّ نظيرها في التاريخ. ويخبرنا تاريخ الحروب العربية الاسلامية الداخلية ان الخوارج كفّوا عند أخذ الغنائم في إحدى معاركهم التي انتصروا فيها على جيش معاوية "الكافر"، كفوا - فقط - عن سبي النساء، بنات عمومتهم، بسبب وجود أم المؤمنين (عائشة) بينهم!

رغم ان شارون وبوش على الأبواب، لا تزال الحرب مستعرة ضد المجتمع الكافر، رغم توبته، ورفعه الراية البيضاء منذ ربع قرن، وانحلال قواه، وانحطاط همته. كيف لهذا المجتمع (ابن زبيبة) ان تكون له القدرة على مواجهة الاخطار المحيقة والمصاولة والمجاولة والمقارعة وهو يرسف في أغلال عبوديته، ولقد عبّر باسمه من قبل عنترة مخاطبا شيوخ قبيلته:

يدعونك في السلم يا ابن زبيبة

وعند اصطدام الخيل يا ابن الأكارم

ومع ذلك ورغم ذلك، فكما للطبيعة قوانين تجعل الربيع ينبت الأزهار ولو على حواف المستنقعات، فإن للتاريخ سننه اذ ان مياه الربيع سالت في سوريا، والجليد يذوب وسيذوب، وستتسرب المياه تحت اشد الجدران صلابة. فالمجتمع المدني والديموقراطية وحقوق الانسان والتعددية ودولة القانون وحرية التعبير والتفكير هي شاغلة الحقل الدلالي للفكر والثقافة السياسية في سوريا، فالجهود التي بذلت في بحر السنتين الفائتتين لن تضيع هباء، لقد انحفرت كوشم في جسد البلد وذاكرته، فذوبان الجليد سيبرد الأدمغة الحامية ويجبرها على الانصياع للتكيف مع زمن ثورة الاتصالات والمعلومات، وتحوّل العالم الى قرية كونية، ولن تفيدها هذه الألاعيب الرخيصة في تسجيل الاشرطة على المساجين خفية، بهدف الوشاية والايقاع بين الرئاسة الشابة والمجتمع الذي يكفرونه، ليظلوا دائما يستبيحونه تحت قوانين الطوارئ الاستثنائية والأحكام العرفية. فالرئاسة الشابة لم تعش تلك السنوات البشعة، ولن توجه ممارساتها وسلوكها لحظة جنون اذهلت الوطن عن نفسه لينحفر اخدود بين السلطة والمجتمع. فلا سبيل للخروج من الذهول الا بردم هذا الاخدود، وبردمه فقط يمكن السلطة ان تستعيد صفتها كدولة، دولة الكل لا دولة الجزء، دولة الأمة لا دولة الحزب، دولة القانون لا دولة الأحكام العرفية، التي تتخفى تحتها مصالح وطاويط الخراب. وسد زيزون نموذج لما بنته أيديهم الملوثة بالدماء، وآخرها دماء وجه عارف دليلة!

"ربيع دمشق" الذي صنعته الحركة الديموقراطية مستمر في نسيج الخطاب السياسي الذي يوحد المجتمع. لجان احياء المجتمع المدني ولجان حقوق الانسان واحزاب التجمع الوطني الديموقراطي المعارض، وقد تجاوز الجميع عمـاء المـاضي الايـديـولـوجـي الذي كان يوحد الجميع - مع الاسف - مـع فـكـر السلطة وخطابها ابستميا (الابستيم الانقلابي العنفي)، ولم يبق من يتخبـط فـي هذا العماء الايديولوجي والسياسي الانقلابي العنفي سوى السلطة التي يذوب جليدها، من خلال الذوبان للخوف في نفوس الناس، ومن خلال دبيب مياه الجليد المستنقعية الآسنة تحت بنى السلطة (الزيزونية)، فلا قضاء ولا قانون ولا تعليم ولا جـامـعـات ولا طبـابـة ولا مـشـاف ولا ســدود ولا عمران الا والفساد مـلاطها، والاعـلام الكاذب واجهتها، والقمع الشرس حارسها.

ان نبدأ افضل من ان يبدأ بنا الآخرون، وبوش وشارون جاهزان لذبح الجميع!

لا تـســـتـطـيـع سوريـا الـبـقـاء طـويـلا خـارج الـعـصـر

مـحـمـد نجـاتي طـيارة

"ربيع دمشق"، او الاصح "ربيع سوريا"، تعبير اطلق على مجموعة من ظاهرات الحراك الاجتماعي - السياسي، التي برزت في سوريا ما بين اواخر عام 2000 واوائل عام ،2001 وذلك مقارنة له مع "ربيع براغ" او "ربيع بكين". لكن، ككل مقارنة اخرى، لا يمكن ان يكون المقصود منها المطابقة. فهنا كانت الدلالة، تشير الى نزوع المجتمع السوري للخروج من "مملكة الصمت"، بحسب قول شهير لشيخ المعارضين السوريين، رياض الترك. وفي معنى ان ذلك "الربيع" كان تعبير الاجتماع السوري عن رفضه الاستمرار في البقاء على قيد الحياة البيولوجية، التي طالما انجزتها الدولة التسلطية، ورعتها بجدارة.

في طبيعة الحال، تميز هذا "الربيع" بخصوصيات، ارتبطت بالواقع المختلف الذي انطلق منه. فلم يشهد تظاهرات جماهيرية، ولا اعمال عنف او عصيانات مدنية، كما حدث في شوارع براغ او ساحة تيان آن مين في بكين، بل اقتصر هنا على حركة بيانات المثقفين (من "بيان الـ99" الى "بيان الالف" وبيان المحامين وغيرها)، وتجدد نشاطات نوى المجتمع المدني او ظهورها (لجان الدفاع عن حقوق الانسان، لجان احياء المجتمع المدني، ولاحقا جمعية حقوق الانسان)، وخصوصا انعقاد منتديات الحوار، التي بدأت مع "منتدى الحوار الوطني" في منزل عضو مجلس الشعب رياض سيف في صحنايا - دمشق، و"منتدى حمص للحوار"، ثم "منتدى جمال الأتاسي" للحوار الديموقراطي في دمشق و"المنتدى الثقافي لحقوق الانسان" في دمشق، و"الندوة الثقافية" في اللاذقية، و"المنتدى الثقافي" في الحسكة و"منتدى جلاديت بدرخان الثقافي في القامشلي وغيرها.

من هنا، كان طابع ذلك "الربيع" علنيا وسلميا، اذ ان البيانات كانت توزع على الصحف المحلية والعربية معا. اما المنتديات فقد فتحت ابوابها امام الجميع بمن فيهم رجال الامن، فلم يكن يعوق الحضور الا ضيق اماكن استضافتها في طبيعتها، وكانتغالبا في منازل الناشطين. كما ان الدعوة الى الحوار كانت قاسما مشتركا بين البيانات كافة، وسمّيت به اغلب المنتديات. فضلا عن كون جميع المؤسسات التي ظهرت، في اطار "الربيع" المذكور، قد حاولت تكييف اوضاعها مع القانون ومؤسسات الدولة، وتقدمت بطلبات رسمية الى الجهات المعنية بذلك.

من جهة اخرى، كان مضمون هذا "الربيع" وطنيا ديموقراطيا، ليس فقط لان الناشطين في اطاره معروفون بخلفياتهم اليسارية الوطنية، وبكون معظمهم من اوائل مراجعي تلك الخلفيات الايديولوجية انطلاقا من رؤية ديموقراطية للمشروع القومي النهوضي العربي، بل لان الاهداف السياسية لجميع متصدرات هذا الحراك لم تتحدث عن دعوة الى الثورة او الى التغيير الفوري - وإن طالبت بخروج الدولة من اوضاعها الاستثنائية لكن المستمرة كقوانين الطوارئ والاحكام العرفية - بل تحدثت عن المشاركة المجتمعية والحاجة الى تصويب العلاقة بين الدولة والمجتمع بالحوار والتوافق الوطني، الامر الذي تجلى في صورة خاصة في الوثيقة الثانية للجان احياء المجتمع المدني التي حملت عنوان نحو عقد اجتماعي وطني جديد في سوريا (توافقات وطنية عامة). وعبّرت عنه اخيرا استراتيجيا التجمع الوطني الديموقراطي في الحوار والمصالحة الوطنية. مع ذلك، وعلى الرغم من تميز "الربيع" المذكور بسلميته وديموقراطيته ومحدودية حراكه المجتمعي، فقد رأى فيه بعض اطراف النظام اكثر من واقعة، وفي حق، رأوا فيه مستقبله ومستقبلهم معا، حيث توقعوا للحوار المنشود ان يطاول مواقع سلطتهم; التي طالما كانت مصدرا للثروة والفساد المعمم، في نظام شرعن التمييز واباح الاستيلاء على مقدرات البلاد والعباد، بحسب ايديولوجيا الثورة والقيادة.

لذا لم تكن غريبة ولا غير متوقعة، تلك الحملة الايديولوجية المضادة على "ربيع سوريا"، بأفكار مجتمعه المدني، والتي تصاعدت امنيا بشروطها التعجيزية ضد منتدياته في ربيع ،2001 ثم تُوجت باعتقال الديموقراطيين العشرة بعد اشهر، حيث يتذكر الكثيرون من المهتمين خبرا نقل عن احد كبار مسؤولي الامن، ردا على انعقاد اوائل جلسات "منتدى رياض سيف" في خريف .2000 كان مضمون ذلك الخبر: التهديد بإرسال شاحنتين او ثلاث لاعتقال المنتدين وفرط المسألة. هكذا ببساطة، فالعلاج امني ولوجستي ووفق العادات القديمة، التي جهدت القيادة الشابة الجديدة لاعلان انتهائها. اما المسألة تلك فلم يكن يقصد بها، وخصوصا في ذلك الحين سوى مسألة الرأي الآخر، الذي طالب خطاب القسم بالاعتراف به قبل اشهر!

هكذا، لا يمكن الشك اليوم في أن ذلك الخطاب الامني التقليدي نفسه، قد ادار المعركة ضد "ربيع سوريا"، فوجد كل الاخطار متجمعة في خطاب الرأي الآخر، الذي كادت الجماعة السورية البدء بتدريباتها عليه، ولم يقدم ناشطو "الربيع" اكثر منه. وليس ادل على سيطرة ذلك الخطاب من انخفاض سقف حريات التعبير والرقابة الاعلامية اخيرا، والتي عادت الى منع الصحف والمجلات العربية التي تقدم الرأي الآخر، حتى وان كان لاصدقاء النظام المعروفين، مثل باتريك سيل (في جريدة "الحياة" 21/6/2002)، او لمجلة ادبية قومية عريقة كـ"الآداب" اللبنانية (عدد ايار وحزيران 2002). بذلك يمكن القول إن "ربيع سوريا" قد تراجع كثيرا، رغم بقاء بعض ازهاره في "منتدى جمال الاتاسي"، ومنتديات او حراكات محدودة اخرى. لكن هل تستطيع سوريا البقاء طويلا خارج روح العصر، وهل يمكن الفصول ان تتوقف عن دورتها الطبيعية، وهل هناك بد من ان تكون سوريا لكل ابنائها، تقوى بهم على اختلافهم وتعددهم، ويقوون بها، بخاصة امام امركة العولمة، وشارونيتها المنفلتة من كل عقال؟

 

الـجنـاح الاقـوى صـفع شـريـكه وأعـطب حركته

حـسـان عـبـاس

ثمة في الكلام المتناقل عن "ربيع دمشق" ما يستدعي التوقف امامه والتفكير فيه. فكثير من هذا الكلام يمثل ما جرى في البلد وكأنه حلقة مقفلة لها بدايتها القطعية التي يُتفق في شكل عام على جعلها يوم اعلان بيان المثقفين الذي صار يعرف بـ"بيان الـ99"، ولها نهايتها المسلّم بها والتي تضيع في يوم من ايام شهر ايلول 2001 حين تم اعتقال بعض ناشطي ذاك "الربيع".

الواقع ان تصوير الامور على هذه الحال المنغلقة، يختزل الحركة المدنية الناهضة التي أفرزت ذلك "الربيع"، وينتقص من أهميتها ومن اتساع ابعادها. لأنه، من جهة، يقطع هذه الحركة عن سياقها التاريخي الذي انبثقت فيه كرد فعل على ماضٍ انتهى، وكفعل في عملية تجاوز هذا الماضي. ولأنه، من جهة اخرى، يشير في شكل غير مباشر الى نهاية مفترضة لهذه الحركة، ويحكم عليها بتوقف ديناميتها، محوّلاً الراهن العرضي الى واقع اطلاقي.

اذا عدنا الى بداية الحركة، توجب الاشارة الى أنها لم تأتِ من العدم وإنما هي نتيجة ضرورية أفرزها تضافر عدد من الشروط، منها السوري الداخلي ومنها الاقليمي ومنها الدولي. فعلى الصعيد الداخلي، كان هناك شعور عام مصاحب لفترة تردي صحة الرئيس حافظ الاسد بأن مرحلة من حياة سوريا تنتهي وبأن مرحلة جديدة سمتها الاولية الانفراج ترتسم في الأفق. وساهم في خلق ذاك الشعور عدد من الاحداث مثل الانفتاح النسبي الملحوظ آنذاك على صفحات الجرائد الحكومية، وخصوصاً في موضوع الاصلاح وانتقاد الفساد; ومثل صدور عدد من البيانات كبيان العاملين في السينما ثم بيان التضامن معهم ثم بيانَي التضامن مع حيدر حيدر وممدوح عزام. ومثل الموقف الذي اتخذه طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية في مواجهة قرارات ادارية لم ترضهم، وكذلك انطلاق عدد من المنتديات الثقافية واشتهار بعضها كـ"منتدى الجمعة الثقافي" و"منتدى الحوار الثقافي" ومنتديات طرطوس وحمص وغيرها. يضاف الى ذلك موقف السلطة الايجابي الى حد بعيد والمتمثل في عدم مجابهة الاحداث المذكورة اولاً، وبالافراج عن بعض المعتقلين السياسيين ثانياً، وبإعلان الحرب على الفساد ثالثاً. وعلى الصعيد الاقليمي لم يكن الارتداد الصهيوني المتعصب الذي انطلق مع زيارة شارون لحرم الاقصى قد كشف عن وجهه بعد. وكان خطاب السلام، حتى على المسارات المتوقفة، هو الخطاب السائد في العلاقات الاقليمية. اضافة الى ما أعطاه الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان من جرعة أمل كبيرة لكل النفوس التواقة الى الحل العادل والشامل للقضية. اي ان الجو السائد على الصعيد الاقليمي كان جو انفراج وتغيير نحو الافضل يتماشى مع ما كان يجري داخلياً. والشيء نفسه يمكن قوله عن الوضع العالمي، فمن جهة كانت النقاشات حول الشراكة الاوروبية المتوسطية تنطلق على اساس مقررات برشلونة التي تنص، في جملة ما تنص عليه، على ضرورة التوصل الى حل عادل لقضية الشرق الاوسط، والاتفاق على بناء منطقة حرة للتبادل التجاري في المتوسط، وعلى احترام حقوق الانسان. ومن جهة اخرى لم تكن الانتخابات الرئاسية الاميركية قد أفرزت فريق القيادة الجديد الذي لن يتأخر عن التمترس خلف خديعة "مكافحة الارهاب" في مسعاه التسلطي للهيمنة على العالم.

نستطيع اذاً ان نقول بلا وجل إن الجو العام كان، في كل مستوياته، وبمشاركة السلطة، جو انفراج يطمئن الغيارى على حقوق المواطنين وعلى سلامة الوطن ومنعته، ويدفعهم الى المشاركة في ما يبدو ان السلطة تسير في اتجاهه. ثم جاء خطاب القسم ليزيد من التأكيد ان السلطة بكل مستوياتها جادة في فتح صفحة جديدة في التعامل مع الشعب ومع النخب المثقفة. وأظهرت احداث الاشهر الاولى مدىً كبيراً من الصدقية في هذا التوجه مما منح الجميع الثقة والشعور بالامان. واندفعت نتيجة لذلك الحركة المدنية الجنينية مستقوية بخطاب السلطة وبأفعالها فتعددت المنتديات الحوارية وانطلقت الألسن ونشطت الاقلام وتفتقت الاذهان عن تصورات رأى بعضها، لتسرّعه، المشتهى حقيقة واقعة.

وسارت حركة الاصلاح شوطاً بجناحين متضافرين: السلطة والحركة المدنية المتنامية. ربما لم يكن إيقاع السير متوازناً بين الجناحين، لكن هذا امر طبيعي لآلية جديدة في العمل لم تعرفها البلاد من قبل ولا شك ان الايقاع كان سينضبط ذاتياً لو أتيح للمسير ان يستمر. لكن، فجأة، وبدون إنذار مسبق، التفت الجناح الاقوى نحو شريكه وصفعه صفعة أسقطته وأعطبت حركته. وتمثلت تلك الصفعة بتهمة الارتباط بالخارج اولاً، ثم برسم الخطوط الحمراء، ثم بعودة المضايقات على الصحافة والصحافيين، بما في ذلك اصدار قانون للمطبوعات "وُضع في مخفر "بحسب تعبير صحيفة "الدومري"، ثم تمثلت باعتقال عدد من الناشطين بتهم ما أنزل الله بها من سلطان، فمحاكمتهم وبدء صدور الاحكام الجائرة في حقهم، الى ما هنالك من اجراءات اخرى دفعت بعض الاقلام الى نعي "ربيع دمشق".

امام هذا التطور السلبي لا يستطيع المرء الا ان يطرح بعض التساؤلات حول سبب قيام السلطة بإسكات الحركة المدنية الناهضة ومحاولة شلّها.

هل خافت من منافستها لها؟ نظن ان ذلك من رابع المستحيلات. فالسلطة تعرف حق المعرفة ان خريطة القوى السياسية والمدنية في سوريا، لا تضم اي جماعة او تنظيم له من القوى ما يستطيع به خدشها. وتعرف اكثر من ذلك، ان أحداً من العاملين في تلك الحركة المدنية لم يفكر، بل لم يراوده وهم منافستها، بل وحتى اولئك الذين ظلمتهم السلطة لم يطالبوا الا بالتصالح معها لأن دافعهم في حركتهم لم يكن السلطة وانما الوطن، وان غايتهم لم تكن الاساءة وإنما المشاركة في الاصلاح.

هل أساء نشطاء الحركة المدنية الناهضة الى ثوابت الوطن؟ نظن ان هذا افتراء يثبت الواقع هشاشته. فالسلطة تعرف قبل غيرها مدى التزام هؤلاء النشطاء قضايا وطنهم بالفعل وليس بالكلام فقط. اما اذا كان نقد ما يراه الانسان من أخطاء وسلبيات اساءة، فإن السلطة نفسها، وبأعلى مستوياتها شجعت ولا تزال تشجع على النقد، وهي محقة في ذلك لأن النقد هو السبيل الوحيد لاتساع مساحة الرؤية، والشرط الأمثل للحفاظ على صحة توجه المسار الوطني. وفي كل الاحوال، لا يمكن من يدعو الى الحوار، ان ينتظر من محاوره شيئاً سوى الاختلاف، والا تحوّل الحوار مونولوغاً يضع كلاماً فوق كلام ولا يقول شيئاً يدفع الفكر الى مواقع متقدمة. ومن المسلّم به أن تكون السلطة، اي سلطة في العالم، موضع انتقاد حتى وإن كانت مقبولة اجتماعياً كضامن للأمن والاستقرار. وإن غابت هذه السمة عن الموقف من السلطة فهي إشارة خطيرة تدل على أنها اصبحت سلطة قمعية تخنق كل قول ناقد او معارض، او انها سلطة منقطعة عن الشعب، مسترخية لمديح المطبلين والمزمرين من المستفيدين من نعمها وافضالها.

ما الذي دفع السلطة اذاً الى إجهاض الأمل الناهض بوضع اللبنات الاولى لقيام مجتمع مدني وطني تستعين به لتحمّل اعبائها الاجتماعية، وتستفيد منه لتدعيم بناء دولتها وتقويم مسارات تدخلها؟ او، في معنى آخر، هل قيام السلطة بإبطال بوادر المشاركة الاجتماعية والسياسية يحقق لها مصالحها الآنية والاستراتيجية؟

إن التجربة التاريخية والتحليل العلمي لمفهومَي الدولة والمجتمع الحديثين لا يسمحان بالرد ايجاباً على هذا التساؤل. فتغييب المواطنين والنخب الثقافية عن المشاركة، لا يؤسس مجتمعاً عادلاً يحقق لأعضائه انسانيتهم، ولا يخلق مواطناً حراً تتشابك مصالحه مع مصالح الوطن. وتعطيل الحريات لا يبني دولة متماسكة منيعة في صمودها امام الاخطار الداهمة، ومؤثرة في مشاركتها في ما اختارته من استحقاقات وعلاقات دولية. إن من مصلحة السلطة على كل مستويات تدخلاتها وفاعلياتها، أن تعيد النظر في ما أقدمت عليه من تراجعات، وان تسقط ما بنته بينها وبين الحركة المدنية الناهضة من اسوار.

وانطلاقاً من الاقتناع بوضوح الرؤية لدى السلطة في أعلى مقاماتها، لا نظن ان القول بانتهاء "ربيع دمشق" قول صحيح، وانما هو عارض من السهل معالجته لكي تعود الحياة الى الأمل المحبَط بوضع أسس المجتمع المدني، فإن في ذلك خير الجميع وقبل كل شيء خيـر الوطن.

وطـــن الـحـريـة هـــو الأقـوى لا وطن الـذل والـقـهـر

أكـرم الـبـنـي

هل كان "ربيع دمشق" منحة وعطاء، أم استجابة شرط موضوعي؟ سؤال ما زال حياً، والاجابة عنه محيّرة ومتنوعة، تتجاذبها وجهات نظر متعددة حول واقع التغيير الديموقراطي ومستقبله في سوريا. ترى أكثرها شيوعاً، ان ما سمّي "ربيع دمشق" ليس إلاّ ومضة شعاع في ليل لا خلاص منه، وهو اشبه بمكرمة منحتها السلطة للمجتمع، لقاء تسلّم الرئيس بشار الاسد مقاليد الحكم، لتعود الامور كما كانت وتعود "حليمة لسيرتها القديمة"، بدليل الاعتقالات والمحاكمات التي طاولت عشرة من نشطاء المجتمع المدني، والتضييق على المنتديات الثقافية والسياسية، والتحذيرات التي ترتفع وتيرتها، يوماً بعد يوم، حول ما يسمح قوله وما يجب ان لا يقال، وبدليل الحقائق والدروس التاريخية التي استخلصت من غير محطة من محطات الحياة السياسية السورية حين نكثت السلطة عهودها بالاصلاح والتغيير. لعل أهمها الانحسار السريع لموجة الانفتاح على المجتمع وانشطته السياسية والثقافية عامَي 1979 و1980 ابان تصاعد الصراع الدموي مع "الاخوان المسلمين".

ومع ان التاريخ خير معلم، فمن الخطأ نقل عبره ودروسه ميكانيكياً، وقياس الظواهر خارج الزمان والمكان، من دون الاحتكام الى خصوصية الظروف واختلاف الشروط بين ظاهرة وأخرى. فالاسباب والدوافع التي حفزت حركة التغيير والاصلاح السياسي في سوريا، ووفرت مناخاً كي تزهر دمشق وتتفتح ورودها، تختلف في شكل كبير عما سبقها. فهي لا ترجع الى حاجة الصراع الداخلي وليست منحة تعطى بقرار وتسترد بآخر، بل تستند الى حقائق موضوعية لا يمكن القفز فوقها، إن لجهة فشل نموذج "الدول الاشتراكية" او سقوطه في الحكم وفي ادارة مؤسسات الدولة والمجتمع (النموذج الذي استمد منه النظام السوري الكثير من عناصره واساليبه)، او لجهة الأثر الكبير لمناخ العولمة والنهضة المعلوماتية، الذي حطم سياسة "الجدران الحديد"، وكشف على الملأ اساليب القمع والارهاب التي دأبت السلطات السائدة على استخدامها ضد خصومها ومعارضيها. ناهيك بالحضور القوي لمبادىء الديموقراطية وحقوق الانسان كأحد أهم معايير الشرعية للنظم السياسية في عالم اليوم. واذا اضفنا، في الخصوصية السورية، استمرار تأزم الوضع الاقتصادي والانتشار المقلق للفساد والترهل في مؤسسات الدولة، يمكننا ان نقف عند أهم الاسباب التي حتّمت عملية الاصلاح والتغيير، ووضعت السلطة السورية في موقع العاجز عن الاستمرار في الحكم بالاشكال والطرائق القديمة نفسها، مما استدعى موضوعياً، بغض النظر عن الرغبات والدوافع الذاتية، ضرورة اجراء تغيير شامل - او اصلاحات متفرقة ومتدرجة في الحد الادنى - في اشكال (وليس في جوهر) علاقة الهيمنة بين هذ السلطة والمجتمع. تغيير تكثفه عبارة واحدة: ازاحة حالة التسلط والاحتكار عن النشاط السياسي التي عرفتها سوريا خلال عقود، بالانفتاح على الآخر وارساء قواعد العمل الديموقراطي في علاقة السلطة مع الدولة والمجتمع على حد سواء.

خلاصة القول ان الاساس الموضوعي الذي افرز "ربيع دمشق"، كلحظة من لحظات التغيير الديموقراطي، ما زال يفرض نفسه بقوة ويحث على الاستمرار. وما حصل من عودة الى المناخات القديمة، هو ردة خطيرة وعملية خاسرة للجميع، من دون ان نغفل ان مثل هذا التغيير لن يتم بنفحة واحدة بل يحتاج الى صبر وجلد، ولا بد ان يشهد موجات مد وجزر تبعاً لتطور ميزان القوى. كما انه لن يتحقق بين ليلة وضحاها، بل يحتاج الى وقت وجهد يتبادلان التأثير عكساً بينهما. فكلما كانت الجهود حثيثة والقوى أكبر، استطعنا اختصار الوقت والزمن، فهناك تالياً فرصة نوعية يجب الافادة منها على أكمل وجه، لكنها لن تثمر "ربيعاً" دمشقياً دائماً، الا عندما تقترن بعوامل ذاتية مساعدة، تحدد تبعاً لقوتها وفاعليتها، مدى سعة هذا التغيير وعمقه ووتيرة تحققه على الارض.

العامل الاول، يتعلق بالسلطة السورية نفسها. درجة وعيها لأهمية هذا التغيير ومسؤوليتها تجاهه. فالسلطة، ومن زاوية مصالحها الخاصة قبل مصلحة المجتمع، معنية اكثر من غيرها باعادة تأهيل نفسها لعلاقة جديدة مع المجتمع تنسجم مع المتغيرات العالمية ومع الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة، وهي من يقع على عاتقها الاحساس الأعلى بالمسؤولية، والادراك المبكر لأهمية الاصلاحات السياسية، وفي القلب منها، طيّ صفحة الاعتقال السياسي واطلاق حرية الصحافة، وفسح المجال لنشاط الاحزاب الديموقراطية المعارضة. فاستمراء لعبة الانتظار، وادارة الظهر لحاجات الواقع ومتطلباته ينذرنا جميعاً باحتمال انفجار الاوضاع والوصول الى حالة قد لا تُحمد عقباها.

ولا شك ان هناك دلائل تشير الى وجود رغبة لدى بعض اطراف النظام بضرورة الاصلاح، كثّفها خطاب القسم للرئيس بشار الاسد. الا ان هذا الأمر لم يأخذ طريقه، بقوة، على ارض الواقع، رغم تقديرنا لأثر عزم العطالة، الذي يكبّل سلوك السلطة ويسم حركتها بالبطء والتثاقل، ولدور القوى المستفيدة من مناصبها السلطوية، التي تستميت دفاعاً عن نفسها ضد أي محاولة للتغيير ستمس بنتائجها ومصالحها وامتيازاتها، هادفةً الى ابقاء الوضع كما هو قائم، وناشرة شعوراً بالاحباط والاستسلام، ومشهرةً في وجه دعاة التغيير سلاح "الوطن في خطر" الذي غدا صدأ ومن عاديات الزمن امام بديهية اكدتها واغنتها التجارب الملموسة، بأن وطن الحرية لا وطن الذل والقهر، هو الوطن الأقوى والأشد مناعة.

العامل الثاني، وهو العامل الأهم، يتعلق بالديموقراطيين السوريين، والدور المنوط بهم فكرياً وعملياً، كي يفرضوا واقعاً جديداً يرفع من ضغط ضرورة التغيير وإلحاحه. وضمن هذا الحقل لدى القوى الديموقراطية ما يمكن ان تفعله جدياً. وتحديداً، اذا عرفت كيف تتكاتف جميعاً للامساك بالحلقة المركزية في سلسلة الاصلاح السياسي، مهمة رفع حال الطوارئ والاحكام العرفية، واعادة العلاقة الطبيعية بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بما يوفر فرصة غالية لكسر حاجز الخوف وقتل "البعبع" الذي تغلل عميقاً في نفوس البشر، واقصاهم عن ممارسة دورهم الطبيعي في الحياة العامة.

ان ما نشهده ليس ربيعاً، وما نعيشه ليس الماضي، فهناك جديد حاصل مهما بدا بسيطاً في اشكال علاقة السلطة مع المجتمع، يؤكد حقيقة ان السلطة عاجزة، بل خاسرة في استخدام اساليبها القديمة. وتالياً فإن حالنا اليوم اشبه بمخاض، او لنقل "مرحلة انتقالية" ما زالت توفر هامشاً، مهما كان محدوداً وضيقاً، يمكن الافادة منه لتحسين شروط نضال الديموقراطيين السوريين، وتثبيت اية مكاسب مهما تكن صغيرة، حول شرعية التعاطي مع الشأن العام وعلنيته.

نعم، ان "ربيع دمشق" فرحة لم تكتمل، لكنه بصمة قوية في طريق التغيير الديموقراطي المقبل مهما اشتدت محاولات تأجيله او اعاقته، وعلى الجميع ان يعي هذه الحقيقة، كي نجتاز، بأقل الآلام، الصعوبات والتحديات كافة ونصل الى بر الحرية والأمان.

ثـلاثة عــوامـل تـتــصـل بالـفـشل أو الـنـجاح

عـبـدالـلـه حـنـا

ثمة عوامل رئيسية ثلاثة كانت على علاقة بفشل حركة "ربيع دمشق" أو نجاحها وهي: المفاعيل التراثية والتأثيرات الخارجية... والاوضاع الداخلية، وما تحمله في انسجتها من مفاعيل اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية، وهي في حال من المد والجزر تبهج البعض وتكدّر البعض الآخر. وعلى الرغم من تأثر "ربيع دمشق" بالعوامل التراثية والخارجية والداخلية في نسب متفاوتة، فإن العامل الداخلي يبقى في حالتنا هو العامل الاهم والابرز في قيام "ربيع دمشق" ومن ثم خفوته. ويأتي في مقدّم العوامل الداخلية وضع البنى الاقتصادية والاجتماعية، التي غالباً ما يهملها معظم الباحثين. هذا مع التنويه بأن أحد فرسان "ربيع دمشق" البارزين القى الاضواء الساطعة على الاوضاع الاقتصادية واستئثار البورجوازيات الطفيلية والبيروقراطية بنصيب وافر من الدخل الوطني. لكن البحث في البنى الاجتماعية المتكونة في الربع الاخير من القرن العشرين لم يجر الحديث عنه إلا نادراً وفي صورة عابرة. ونحن نعتقد أن حركة "ربيع دمشق" تأثرت تأثراً مباشراً وغير مباشر بهذه البنى الاقتصادية. ولهذا سنشد الاهتمام الى هذا العامل المؤثر المتمثل عموماً بـ:

1- استمرار بقايا العلاقات الاقطاعية. 2- وجود الانماط الحرفية والفكر "الدكنجي". 3- ضمور معالم البورجوازية الوطنية المنتجة صناعياً او المرتبطة بالانتاج المحلي. - تراجع عملية تكوّن طبقة عاملة برزت بعض سماتها في منتصف القرن العشرين، ثم ما لبثت ان تراجعت او اختفت، ظواهر التكون هذه، تحت وطأة عوامل كثيرة. 5- وضع الفلاحين. 6- تراجع اعداد الفئات الوسطى ومكانتها وتقلص دوائرها الاجتماعية مما أدى ويؤدي الى أمرين، الاول تسلق اعداد قليلة نحو الاعلى لتحتل مركزاً في حلقة العلاقات الطفيلية والبيروقراطية، والثاني هبوط القسم الاكبر من الفئات الوسطى نحو الادنى، ولكنها لا تتحول في اكثريتها الى قوى منتجة (عمالية وفلاحية وحرفية ومثقفة) بل تغرق في الاعمال غير المنتجة، ويتحول قسم منها فئات رثة او مهمشة.

في ظل هذه الظروف الاجتماعية كان مثقفو "ربيع دمشق" ومن اصغى اليهم او شاركهم الرأي يتحركون وهم واقعون تحت تأثير مجمل العوامل المنوه عنها اعلاه، بالاضافة الى طبيعة السلطة القائمة ووضع "الدولة الحديثة" منذ قيامها في منتصف القرن التاسع عشر وما استمر في شرايينها من تراث سلطاني، ودخل عليها من فكر بورجوازي في شقيه الصناعي المنتج والطفيلي الاستهلاكي.

* * *

نفضل تسمية "حركة ربيع دمشق" على "الربيع" دون تحديد. وكان "خطاب القسم" الدفقة او الموجة الاولى لحركة "الربيع"، التي كانت بواكيرها تتأجج منذ زمن تحت الرماد.

تميزت منتديات "ربيع دمشق" بحضور كثيف لمجموعات على صلة بالثقافة والشأن العام، ولكنها كانت تفتقر الى عنصر الشباب، بأعمار دون الثلاثين. وفي المقابل كانت نسبة الحضور ممن اعمارهم تتجاوز الخمسين كبيرة، ومع ذلك فإن بعض المنتديات ضمّت بين جناحيها اعداداً كبيرة من اعمار حول الاربعين. ولظاهرة إحجام الشباب عن المشاركة الكثيفة في الشأن العام، اسبابها المعلومة.

ويتوقف احد عوامل نجاح "ربيع" آخر على ادراك قطاعات من هذا الشباب لاسباب محنتها، وان سبيل الخلاص لن يكون فردياً بل جماعي. ومن هذا الواقع يأتي احد الاجوبة عن سؤال: هل فشل "ربيع دمشق"؟ ونحن نفضل ان نطرح السؤال في صيغة اخرى: ماذا حقق ربيع دمشق؟

* * *

أشرع فرسان "ربيع دمشق" الويتهم في الهجوم على حالات كثيرة من "الاوضاع القائمة"، وبخاصة غياب الديموقراطية واستفحال امر الفساد والامتيازات الممنوحة لثلل ليست قليلة العدد. وانبرى لفرسان "الربيع" عدد من المدافعين عما هو قائم، مستصغرين امر الفساد ومعتبرين ان الديموقراطية تعيش بخير وعافية وليس في الامكان ابدع مما هو كائن.

لم يكن خصوم "الربيع"، في البدء، موحّدي الرأي. فبعضهم، وهو الفريق الاول والنافذ الكلمة، وجد في هذا "الربيع" تهديداً لمصالحه وامتيازاته ونفوذه. ولهذا لم يكن على استعداد لافساح المجال لاي نقد او كشف للاخطاء، التي ستؤدي الى خسارته كل ما "جناه" في حياته العامرة بتلقي الرشاوى والعمولات والاموال التي تدفقت عليه. ونظر بعض من الفريق الثاني ذي الامتيازات المحدودة او ممن لا يحوز اي امتياز، نظرة تعاطف مع "حركة ربيع دمشق" تجلت في كثير من الاسئلة والاستفسارات، التي لم ترق للفريق الاول. ولكن بعض الدعوات في "ربيع دمشق"، التي لم تقدّر الظروف وموازين القوى، ذهبت بعيداً في مطالبها، التي لم تنضج الظروف بعد لتحقيقها. وهذه المطالب ساهمت، مع غيرها من الاسباب، في اخافة الفريق الثاني وجعله ينضوي طوعاً او تقيّة تحت لواء اصحاب الامتيازات وجامعي الثروة في سعيهم الحثيث الى بعثرة المنتديات ووقف الكتابة في الصحف عن الفساد (بالاضافة الى تجميد البحث في اضابير الفاسدين) ومحاسن الديموقراطية وشؤون المجتمع المدني. كما ساهمت عوامل كثيرة في تحييد قوى فاعلة ونافذة، هي في قرارة نفسها راغبة في الاصلاح واستئصال شأفة الفساد، لو استطاعت الى ذلك سبيلا.

الى جانب المطالبة بالديموقراطية والدعوة الى المجتمع المدني، التي احتلت الحيّز الاكبر من نشاطات "ربيع دمشق"، كانت المعركة الاساسية تدور حول الفساد وطرق جمع الثروة بأساليب ملتوية يعرفها القاصي والداني.

دروس التاريخ تبيّن ان "الثروة" وكيفية الحصول عليها واحتكارها هي مفتاح فهم التاريخ وطريق معرفة الحاضر. والمثل الشعبي سبق المحللين عندما قال: "قطع الاعناق ولا قطع الارزاق". ومن هذا المنطلق يمكن فهم السبب الرئيسي لخفوت اضواء "ربيع دمشق". اقول خفوت "الربيع" وليس فشله.

لم تشارك التيارات الدينية، في مختلف منابعها وما تتمتع به من قوة ضاربة داخل فئات معينة من المجتمع، في حوارات "ربيع دمشق" لاسباب لا يتسع المجال في هذا المقال لذكرها. هذا مع العلم ان لهذه التيارات "ربيعها" الخاص وحلولها المعروفة. اما مثقفو البورجوازية السورية في ايام عزّها في منتصف القرن العشرين فقد طواهم الموت ولم يجر تجديد في دمائهم نتيجة زوال تلك البورجوازية المنتجة ذات النزاعات النهضوية. ننتقل الى البورجوازيات الطفيلية والبيروقراطية المعادية عداء رهيباً للثقافة والحاقدة على خلاقيها، لكنها، وهنا وجه المأساة، تتهافت للحصول على القاب علمية جوفاء، ليس وراءها نتاج علمي. وليس لهذه البورجوازيات الطفيلية والبيروقراطية مثقفون، بما تحمل هذه الكلمة من معنى. ولكنها لا تعدم امتلاك عدد من حملة الاقلام.

الفئات المثقفة المشاركة في منتديات "ربيع دمشق"، او التي كتبت بجرأة محدودة وصراحة حذرة غلب عليها الطابع اليساري، وتألفت من فئات مثقفة تعود في جذورها الى التيارات الماركسية "الجريحة"، والتيارات القومية العربية، التي عقت عن الغنائم المتناثرة على قارعة الطريق في "عصر البترودولار"، وشتات من بقايا التيارات الليبيرالية القليلة العدد والضعيفة التأثير.

ولاسباب كثيرة، منها الظروف، التي قادت، كما ذكرنا، الى تحييد قوى فاعلة في السلطة تتطلع الى التحديث، والتقدم وتحجيم الفساد... الخ، لم يكن في الامكان، بسبب قصر فترة "ربيع دمشق"، تجميع بقايا القوى الاجتماعية الحية للدفاع عن "الربيع" وشعاراته واحلام الانقياء في تجديد المجتمع لتصبح كلمة المنتجين بسواعدهم وادمغتهم ذات شأن للمشاركة في تقرير مسار البلد ومستقبله، في اجواء تسودها حرية الرأي وقول كلمة الحق باطمئنان وراحة بال.


جــفــاف صــيــفـي

أعـطــاه ســمــات الـربــيــع

مـوفـق نـيـربـيـه

لم أكن مرتاحاً للاستعجال في إطلاق هذه التسمية البهيجة على الأجواء والنشاطات التي أُحتفي بها داخل سوريا وخارجها ما بين ايلول 2000 حين صدر "بيان الـ 99" وشباط 2001 حين بدأ شنّ الحملة على المنتديات لإغلاقها وكتم صوتها. ولكن يبدو أن المبادرة الى إطلاق الأسماء الكبيرة والتقاطها وترويجها من سماتنا الوطنية والقومية التي نمارسها جميعاً. لعلّ ذلك جاء من ايمان بقدرة الاسماء على خلق مسمّياتها.

استجابة للضغط أو للاقتناع بضرورة مراعاة طلبات التهدئة ومنح الوقت للتغيير، تمّ تخميد الحركة قليلاً في الأشهر الستّة التالية، حتى محاضرة رياض الترك في "منتدى الأتاسي" ومحاضرة برهان غليون في "منتدى رياض سيف"، اللتين قدّمتا رؤيتين متكاملتين للمصالحة الوطنية وآليات الخروج من عنق الزجاجة. ما حدث عندئذٍ هو التصعيد الى وراء واعتقال عشرة ديموقراطيين، بينهم رياض الترك الذي عاد إلى سجن أطلق منه في زمنٍ سابقٍ على "الربيع" وسيرته. وإذا كانت كلمة "الربيع" مشتقة من "ربيع براغ" 1968 ففي ذلك سببان آخران لينفر المرء من التسمية: اجتياح دبابات "حلف وارسو" في 20 آب لتشيكوسلوفاكيا، وانتظار الناس هناك بعد ذلك عقدين من الزمان حتى "الربيع" الحقيقي التالي. أشياء ثلاثة في "ربيع براغ"، لم يكن يوجد مثيل لها في دمشق، منها اندماج المجتمع في الحركة العامة على مستويات أوسع خارج إطار النخبة، وإتاحة حرّية التعبير في شكل مفتوح أدّى إلى ازدياد عدد الصحف المطبوعة أربعة أضعاف خلال شهرين، وغلبة التيار الإصلاحي في الحزب الواحد الحاكم مما اضطّر زعيم المحافظين نوفوتني إلى الاستقالة. هذه ليست قليلة في الفرق بين الحالين.

لا يعني هذا أن إحساساً بالانتعاش والخروج من الشرنقة لم ينتشر في صفوف النخب السورية، ولا يعني ايضاً ان هذه النخب لم تتمدّد في بعض زواياها المكتومة والمظلمة. نسبياً، ربّما تولّد إحساس بـ "ربيع" غامر في بعض الأوساط التي تعوّدت الصمت والاكتئاب طويلاً. التحوّلات بين فئات السوريين الآخرين تصاعدت باستمرار وبطء، وبوتائر أسرع منذ آب 2001 مع بروز دور رياض الترك ثم اعتقاله، وكذلك في أدوار محاكمته مع زملائه الآخرين. كان "الربيع" يتأسس أكثر بعد "انتهائه"، وباستمرار.

في الفترة نفسها، وعلى التوالي، تطوّرت جمعيات حقوق الانسان وغيرها، وأصدرت نشراتها ومجلاّتها، ولم ينقطع الناس عن الاتصال، بل طوّروه. أيضاً، أخذت رياح المراجعة والتجديد تهبّ على المعارضة والمعارضين، لتخلعهم من أماكنهم الثابتة او تخلع عليهم قلباً وعقلاً جديدين.

ليست المسألة في انبثاق الفصول خارج دورتها، وإلاّ لتفاءلنا بـ"الخريف" أكثر، لو كان هنالك حرث وبذار. ربما تكون المسألة على ارتباطٍ بالمناخ والبيئة عموماً، وأكثر!

رغم ذلك، هل انتهى "ربيع دمشق"؟!

لم ينته ولن ينتهي حتماً. لأن الاستمرار من دون التغيير أصبح مستحيلاً. حتى "المصدر المسؤول" يقول إن الإصلاح السياسي موجود في برنامج السلطة، وما حدث "توقف موقت" له. الدفع في اتجاهه كان أكبر من طاقة النظام على التحمّل. الجناح المحافظ خائف في الاصل، واستطاع تخويف الجناح الآخر الذي يقبل بالإصلاح الاقتصادي من دون المخاطرة بالسياسي إلا أقلّه، وترهيبه من هؤلاء الخوارج القادمين من خارج النظام والجاهزين للتحوّل الى مشروع شعب ومجتمع ووطن، حتى انه قبل بضرورة تأديبهم ولجمهم و"فرك آذانهم"، على تعبير أهل الأجهزة الأمنية المفضل، بعدما دعاهم في البداية إلى المشاركة الفاعلة والايجابية، واستجابوا!

رغم ذلك، لم ينته "الربيع" ولن ينتهي حتماً. النظام نفسه عاجز عن الاستمرار في التعايش السلبي مع الازمة الشاملة المتفاقمة. عاجز عن الاستمرار في الحكم على الطرق القديمة. والتدهور المتسارع سوف يطرح عليه التغيير لا محالة، في الأساليب على الأقل. بعد عمر طويل؟ لا بأس. بعضنا عاش نصف عمره الفعال في السجون، وهو قادرعلى الصبر "ساعة" أخرى.

لم ينته ولن ينتهي حتماً. فالعلم يمشي بسرعة الصاروخ، والخبر بسرعة القمر الصناعي، والسلعة بسرعة الـ E-mail. إذا استطاعت كوريا الشمالية الصمود معزولة أعواماً طويلة على ساحل المحيط الهادىء، فلن يستطيع مجاراتها من يعيش على ساحل المتوسط، عتبة العالم المفتوحة.

حين كان ذلك "الربيع" في أوجه، لم تنقطع أمي عن وصاياها بالحذر والابتعاد عن السياسة. أمي هذه - مثل كثيرات - تعرف من السجون وأجهزة الأمن أكثر مني بكثير. منذ "يوم الأرض" عام 1976 حتى الإفراج عن أخي أواخر 1995 - وبينهما فترتي القصيرة - وهي تستصدر الأذون بالزيادة وتزور. لم تصدّق أخبار "الربيع" وكانت تحتاج الى براهين من نوعٍ آخر على مجيئه. الناس أغلبها هكذا مع احترامها لنخبتها.

هنالك أشياء تغيرت في الأشهر المذكورة، وحتى بعد التراجع او "التوقف الموقت" ايضاً هنالك أشياء مختلفة عن الحال في الماضي. بعض هذه الأشياء وعود طيبة وقرارات وقوانين لم تنفّذ بعد، في أجواء عامة أقلّ توتراً. ولكن سدّ زيزون قد انهار بصوت داوٍ وهدير ينذر بالخطر الذي يهدّد كل بناء تم تنفيذه على آليات النظام القديمة: الأوامر والمزارع والبيروقراطية والخوف والفساد، وزاد السجناء السياسيون السوريون عشرةً من "أعيان" البلاد.

بالمقارنة مع ما حدث بعده كان "ربيعا". انصبّت المطالب فيه وقبله بسنوات على حال الطوارىء وتبييض السجون السياسية وحرية التعبير، بعده صار اهتمام الناس الأول هو السجناء العشرة ومحاكماتهم. حدث تراجع كبير وإحباط وخيبة، فلا بدّ أنه كان وضعاً أفضل.

شيء من الجفاف والعجاج الصيفيّ بعده تعطيه سمات "الربيع"، أو لعلّه نسمة من نسائمه هبّت من وراء الأفق. ويؤكد العرّافون من ألوان عدّة أنه آتٍ فيخالفون في ذلك يأس البشر الطاغي.


يـــوم تـتـســــع ســـوريـا لـجـــمــيـع أبـنــــائهــا

مـحـمـد عـلـي الأتـاسـي

بعيداً من هاجس البدايات والنهايات الذي يحاول ان يقرأ تبدلات أي واقع سياسي او اجتماعي وفق منطقه الخاص، وبعيداً من تسمية "ربيع دمشق" واستخداماتها المتعددة داخل الخطاب السياسي والاعلامي، نريد ان نعكس السؤال المطروح في هذا الملف "هل انتهى ربيع دمشق؟" بسؤال آخر: هل نجحت السلطة أم لا، في محاولتها وقف التحرك الذي يطالب بالحريات الديموقراطية والذي عبّر عن نفسه في مجموع البيانات والمقالات الصحافية والرسائل المفتوحة الى الرئاسة والاعتصامات والجمعيات والمنتديات التي انتشرت في معظم المدن السورية؟

لقد أرادت السلطة في هجومها المعاكس ان تضع البلد من جديد في ثلاجة الانتظار المؤبد: على الكلام ان يبقى حبيس الأنفس. على السياسة ان تبقى حبيسة ايديولوجيا الحزب الحاكم. على المجتمع ان يبقى حبيس خوفه وفقره. على الثروات ان تبقى حبيسة حفنة قليلة من بطانة السلطة. على المثقف ان يبقى حبيس كتبه، وعلى المعارض السياسي ان يبقى حبيس بيته وصمته او ان يعود حبيس القضبان.

ثلاجة الانتظار هذه، عملت منذ اربعين عاماً - رغم اهتراء آلتها البيروقراطية المستوردة من الحقبة السوفياتية - على تأطير تبدلات المجتمع السوري وأصنامها داخل مكعباتها الثلجية الضيقة.

كان يمكن السلطة ان تستجيب الاصوات الصادقة التي ارتفعت مطالبة بإخراج المجتمع السوري رويداً رويداً من صقيع البنية الشمولية وجمودها الى مناخ الحرية والتبدل. الا أنها فضّلت بعد اشهر من التردد، أن تقفل من جديد باب الثلاجة على من فيها. لكن فاتها ان الكهرباء لم تعد تغذّي الآلات المهترئة. فاتها أن الصدأ غزا تدريجياً هيكل الثلاجة. فاتها ان الثلاجة نفسها باتت تضيق بمكوّنات المجتمع السوري المتبدلة.

لكن عوض ان تفتح الباب وتحرّر الرقاب، تم إغلاقه بالقبضة الحديد لحارس قديم - جديد اسمه الاجهزة الأمنية.

كان يكفي لتجنب كارثة سد زيزون، أن يتنبه المشرفون على المنشأة أن المياه تجاوزت منسوب الامان وأن فتحات الفائض اصبحت عاجزة عن التصريف وأن الشقوق بدأت تظهر على جسم السد. لم يحدث شيء من هذا، وحال دونه الفساد والبيروقراطية والمصالح الضيقة. واليوم نرى امام أعيننا كيف تحول المصالح نفسها دون السماح بإصلاح سياسي حقيقي ودون تحقيق مصالحة وطنية شاملة أعربت كل أطياف المعارضة السورية عن استعدادها للدخول فيها من اجل طي صفحة الماضي ولتجنيب البلد المزيد من المآسي والكوارث.

إن الخاسر الاكبر من موجة الاعتقالات الاخيرة والطريقة التي تمت فيها المحاكمات، هو صدقية المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة السورية. فبدلاً من ان يكون الدستور حكماً بين الجميع، سيق الناشطون الى السجون باسم محاولة تعديله بوسائل غير مشروعة لا تتعدى النقد بالكلام، ولا شيء سوى الكلام، للمطالبة بإلغاء البند القائل إن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع. فالكلمة اصبحت جريمة ينال مرتكبها أقسى العقوبات باسم سيادة القانون وصون العدالة.

أما عضو مجلس الشعب الذي ارتضى ممارسة دوره الدستوري في مراقبة السلطة التنفيذية، فكان مصيره هو الآخر نزع الحصانة البرلمانية عنه وتقديمه الى القضاء المدني والحكم عليه بالسجن خمس سنوات. وبذلك لم يسلم البرلمان ولا القضاء المدني من أن يكونا وسيلة في يد السلطة السياسية، بدلاً من أن يكونا رقيبين عليها.

أما قوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية التي لم تتوقف المطالبة بإلغائها، فنُفخت الروح فيها مجدداً لتقبض على أنفاس الناس ولتحكم على رجل من طراز رياض الترك بالسجن سنتين ونصف سنة ولتعيده الى غياهب السجون بعد 17 عاماً ونصف عام أمضاها هناك بلا محاكمة.

السجون لا تتسع للجميع، لكنها اتسعت من جديد لكل من رياض الترك وعارف دليلة ورياض سيف ورفاقهم السبعة، وهي قد تتسع لاحقاً لمن يريد أن يحذو حذوهم. لكن وماذا بعد؟

لا تزال الاصوات تخرج من الداخل السوري لتطالب بما طالب به هؤلاء المعتقلون، ولتبيّن أن طريقة كمّ الأفواه وتخويف الناس واقتيادهم الى السجون لا يمكنها أن تكون السبيل الأنجع لتعامل السلطة مع معارضيها.

إن الغاء الآخر وشطبه من المعادلة السياسية، لن يفعل سوى شيء واحد: تأجيل موعد مقبل لا محالة، يوم تتسع سوريا لجميع أبـنائـها.