على قدر أهل العزم تأتي الهزائم

عيسى بريك

رئيس تحرير مجلة العاصي العربي في كندا

كلما ارتفعت حدة المواجهة بين الجيش الإسرائيلي والانتفاضة من جهة، وكلما زادت حدة التصريحات الأمريكية بضرب العراق من جهة أخرى، يسارع

الحكام العرب إلى تنبيه (تحذير) الإدارة الأمريكية من مغبة انفجار العنف بالمنطقة واستيقاظ روح المقاومة والرفض، وعرقلة عمليتي السلام ومكافحة الإرهاب، حيث (لن يتمكن أي زعيم عربي من السيطرة على الشارع).

في الحقيقة أنها رسالة بالغة الدلالة من أنظمة استبدادية قمعية إلى حماتها والمدافعين عنها. فلا هي خوف على الشعب الفلسطيني الذي يذبح إمام عيونها، ولا هي رأفة بالشعب العراقي الذي يموت باليوم مرتين، مرة على يد جلاده الوطني ومرة بقنابل طائرات التحالف الأمريكي البريطاني.

نعم إنها رسالة بالغة الدلالة، تحمل في حقيقتها تحذير الإدارة الأمريكية من عمل (طائش) يؤدي، في احد احتمالاته، إلى سقوط هذه الأنظمة المستبدة واستبدالها بأنظمة ديكتاتورية يكون زعماؤها أقل انكشافا أمام شعوبهم، خاصة إذا عرفنا أن ليس بين أهداف الإدارة الأمريكية، في المنطقة إقامة أنظمة ديمقراطية. وها هو صموئيل هانغنتون، صاحب نظرية صراع الحضارات يقول: إن الديمقراطية في الشرق الأوسط لا تجلب أنظمة صديقة لأمريكا وحلفائها. رسائل الأنظمة لا تحمل في حقيقتها خوفا من تقسيم العراق، فصدام وأمثاله قد قسموا أوطانهم عندما قمعوا شعوبهم وأذلوا مواطنيهم، فالعدوان الأمريكي المحتمل لن يفعل أكثر من استغلال ما وصلت إليه حال الأوطان بفضل حكامها.

ما أصعب الخيار بين ديكتاتورية الحكام وديكتاتورية وظلم الاستعمار، خاصة وان الشعوب العربية مهمشة وليس لديها الحق في هذا الاختيار.

إن هذه الأنظمة التي تفتقد المشروعية الداخلية والحماية الشعبية تلجأ لتقايض استمرارها في الحكم بأثمان تدفعها إلى الخارج من دماء شعوبها. لذلك لم يتركوا لنا من خيار سوى أن نقول: إما أن تكون ديمقراطيا فتكون حرا أو تكون ديكتاتورا فتكون عبدا.

إن انكشاف النظام العربي الرسمي وتهافته وتخاذله أمام الخارج، ومدى توحشه واستبداده وصلفه أمام الداخل. واستهتار إسرائيل بالنظام العربي ومدى التحيز الأمريكي للجانب الإسرائيلي ليست مفارقة خالية من المنطق، أو صدفة في سلسلة الصدف السيئة أو جاءت نتيجة خيانة التاريخ للعرب بل هي محصلة للواقع العربي السياسي والثقافي والاجتماعي، هذه المحصلة يجب أن تقودنا إلى لحظة تأمل كونها تشكل لحظة من تعرية وانكشاف ألازمة العربية والوهن العربي، وما أسهل أن يبحث الإنسان في أسباب حالة التخلف والفساد والقمع والتجزئة التي تعم العالم العربي من خليجه إلى محيطه ويعيدها لأسباب خارجية، وبالتالي يضع النظام الرسمي العربي خارج المسؤولية والنقد الجرئ والعميق.

لقد استند الخطاب السياسي والديني والثقافي العربي على مفردات مثل: مؤامرة، عمالة، تكفير، انحراف، مخطط رجعي إمبريالي.... إلى آخر المعزوفة التي شكلت خطاب الاستبداد العربي لإرهاب أي صوت حر أو رأي مختلف، مما حول الداخل العربي إلى ساحة للحرب والإقصاء والإفناء مما أدى إلى تحويل المجال السياسي العام إلى مجال خاص بالسلطة الحاكمة، فاحتكر الوطن وأصبح الانتماء إليه لا يكون بغير الانتماء لحزب السلطة أو احد أجهزتها الأمنية. وهمش المجتمع واستلبت فاعليته، الأمر الذي كون روحا انعزالية ابعدت الشعب عن الاهتمام بقضاياه، فقزم الوطن واختصر في تمجيد القائد ومدح إنجازاته.

إنها إذا ليست الإخطار الخارجية وحدها التي تهدد بلداننا، بل أن مكمن التهديد والخطر الحقيقي هي ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية.

إن تحديات الحداثة التي كانت تعتبر من القضايا الصغرى أو قضايا الدرجة الثانية (الحريات العامة، الديمقراطية، التعددية السياسية، حقوق الإنسان، سيادة القانون ) تم إلغاؤها تحت حجج ومبررات واهية لتحقيق الأهداف الكبرى مثل الوحدة والصراع العربي الإسرائيلي.. الخ والتي استخدمتها الأنظمة الاستبدادية العربية لإلغاء الحرية ومفهوم المواطنة مما أدى إلى تهميش المجتمعات العربية وإخراجها من معادلتي البحث عن حلول لتحديات الحداثة وقضاياها الكبرى أيضا.

هذا المسار هو الذي أوصلنا إلى محصلة نعيش مناخاتها الآن: مزيد من الفقر والمديونية الخارجية، مزيد من الفساد والضعف والإذلال والمهانة القومية، مزيد من الغطرسة الإسرائيلية والتحيز الاميركي للجانب الإسرائيلي. والنتيجة ضاعت الأوطان وأهدرت كرامة الإنسان.

وفي الختام، لا بد من كلمة أخيرة.

إن الديمقراطية هي التي تجعل الفرد مشاركا في صنع حاضره ومستقبله ومصيره، عبر آليات الاختيار الحر المباشر، وسيادة القانون الذي يحمي هذا الحق. وإذا كانت المواطنة الكاملة هي ممارسة للحقوق والواجبات غير منقوصة، فكذلك تمتع الفرد بالمواطنة الكاملة يعمق انتماءه إلى مجتمعه ووطنه. ومن ثم فان الانسان الذي يحارب من اجل مواطنة كاملة هو شخص يحارب من اجل الديمقراطية، ومن يحترم حرية المواطن ويسعى للارتقاء بمستواه المعيشي والثقافي هو الذي يمثل قمة الوطنية. ومن ثم لا جدال بان النظام الوطني هو النظام الديمقراطي. والوطن اليوم لا يعني سوى الحرية، عبر بناء حق المجتمع في الوجود والتعبير الحر وهو حق مقدس (يرسمه اليوم رياض الترك وعارف دليلة وكل رفاقهم في السجون العربية.

إن ما يجري هذه الأيام من أحداث داخلية وخارجية يؤكد على ضرورة إجراء مصالحات وطنية في سورية ولبنان والعراق ومصر والمنطقة العربية وتبدأ من:

1- رفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية.

2- إطلاق الحريات الديمقراطية وإنهاء احتكار السلطة من قبل فرد أو حزب.

3- إطلاق سراح سجناء الرأي دون قيد أو شرط.

4- عودة المنفيين بسبب آرائهم السياسية أو الثقافية وإعادة الاعتبار لمن سلبت حقوقهم المدنية والسياسية.

إنها دعوة للتبصر والحركة والفعل للخروج من هذا الاستعصاء، فواقعنا المأزوم جلي لكل عين ولا يغطي عليه كل الصراخ الإعلامي والخطابي في الدفاع عن العراق وفلسطين، ولا كل ما يروج له المنتفعون من الأنظمة وأهل السلطة.