زيارة

محمد علي الاتاسي
في زيارة اهالي المعتقلين لذويهم في السجون طقوس عدة عرفها ومارسها كل من قُدّر له ان يعيش تجربة السجن من خارجه في وقت يقبع احد اقربائه داخله. هذه الطقوس تبدأ من طلب الاذن بالزيارة الى شراء الاغراض الى اعداد الطعام، ثم التوجه الى السجن لزيارة المعتقل. وبعد التدقيق في الهويات وترك الاغراض للتفتيش لدى الحراس، تتم الزيارة وتلتقي العائلة في حضور رجل امن خلال فترة محددة لا تزيد على ساعة، يعود بعدها السجين الى عالمه السفلي وتعود العائلة الى دورة حياتها اليومية في العالم الخارجي.
هذه الطقوس قيّض لي كابن سجين سياسي في سوريا ان امارسها خلال 22 عاما انتهت بخروج والدي الى فراش المرض الذي احتضنه شهرين قبل ان توافيه المنية في العام .1992
22 عاما من الزيارات المتكررة ميّزها ربما عن زيارات عائلات بقية المعتقلين، وجود صديق للعائلة اسمه "عمو احمد"، يرافقنا في كل زيارة، ويظل الى جانبها وصولا الى بوابة سجن المزة، حيث ندخل نحن وينتظر هو في الخارج الى حين انتهاء الزيارة، ليعيدنا الى حيث اتينا.
عمو احمد يأتي بورقة اذن الزيارة، يرتب الطعام المطبوخ والاغراض داخل صندوق السيارة التي نصعد اليها جميعا. وفي الطريق الى السجن الذي لا يبعد عن بيتنا الا دقائق معدودة، ينتهز عمو احمد كعادته بعض الثواني ليكرر جملته المعهودة: "سلّموا لي على الدكتور". ندخل نحن الى عتبة العالم السفلي وينتظر هو في سيارته وحيدا ساعة كاملة هي مدة الزيارة، ليقلنا بعدها الى البيت، وليكرر علينا من جديد جملته الثانية المعهودة: "كيفو الدكتور، سلّمتو لي عليه؟". قبل ان يجيبه احدنا وثقل الزيارة لا يزال يخنقه بعبارة لامبالية باتت هي الاخرى مكرورة: "الدكتور منيح، وهو كمان بيسلم عليك". ويتكرر المشهد، ويتكرر اجتيازنا الطريق المعتاد الذي يفصل بيتنا عن سجن المزة، وتتكرر العبارات نفسها في طريق الذهاب والاياب. وعمو احمد هو ذاته، لم يتخلف مرة واحدة عن مرافقتنا، بل ظل مواظبا على طقسه هذا مرتين في كل شهر لمدة 22 عاما.
ولطول هذه السنين، ولروتينية طقوس الطريق من السجن واليه اصبح عمو احمد جزءا من ديكور الزيارة لا يخرج هو عن اسئلته المقتضبة، ولا يفطن واحد منا الى سؤاله عن حقيقة مشاعره. فنحن في النهاية نرى السجين في معاناته التي نقاسمه جزءا بسيطا منها، فيما هو ينتظر وحيدا في الخارج، لا يرى ولا يسمع ولا يكلم احدا. اما الساعة التي كنا نمضيها في تبادل الحديث مع والدي، فكانت مثقلة بالهموم، قصيرة في وقتها، طويلة في اوجاعها الى درجة اننا كنا ننسى في احيان كثيرة ان نهدي والدي سلام عمو احمد!
الكتابة عن الذات مهنة لا احبها ولا اريدها، لكن السبب الذي يدفعني اليوم لرواية قصتي مع عمو احمد هو الرحلة التي رافقت فيها عائلة رياض الترك في زيارتها الاخيرة له في سجن عدرا بالقرب من دمشق. ففي صباح يوم الثلاثاء انتظرت قرب محكمة أمن الدولة في مدينة دمشق عائلة "ابن العم" التي أتت من مدينة حمص محمّلةً الاغراض والطعام لتتسلم اذن الزيارة من المحامي خليل معتوق قبل ان تتوجه الى سجن عدرا. وبدلا من التاكسي اقترحت ايصالهم الى السجن بسيارتي، وهكذا كان. لم تدم الرحلة سوى دقائق. سلام وكلام وعبارات بسيطة من مثل "سلمو لي على ابن العم". يا الهي! عبارات بسيطة كأنها من الماضي السحيق وكأني سمعتها من قبل. عندما تخطت عائلة رياض الترك عتبة السجن وبقيت في الخارج، بدأت رحلة الانتظار ووجدت نفسي من حيث لا ادري في مكان عمو احمد وهبطت عليّ ك
ال ص اع ق ة صورته، ولم تعد تفارقني. اف ك ر ف يه تارة وافكر في رياض الترك طورا.
22 عاما وعمو احمد على الموعد تماما. غزا الشيب شعره وتساقط، اهترأت سيارته، تزوج وانجب الاولاد، مرض والدي ومات، وهو على الموعد تماما. وعلى الموعد تماما، كنت في انتظار عائلة رياض الترك. ساعة من الانتظار لا تشبه في شيء الساعة التي افترض احد الصحافيين ان الأستاذ رياض "تكلم اقل من ساعة خلال فترة حرية امتدت ثلاث سنوات ونصف سنة". فترة الحرية هذه عاشها رياض الترك حرا في بلد شبّهه بالسجن الكبير. بل لم يكن مهيأ بسلطته ومعارضيها لاستقباله.
على الموعد تماما مع الحرية هو رياض الترك، طليقا كان ام سجينا. لكن الا يحق لرجل له من العمر 72 عاما امضى منها 17 عاما ونصف عام في زنزانة انفرادية بدون محاكمة، ان يعيش ايامه المتبقية بعيدا عن السجون واغلالها؟ لقد مضى على توقيف رياض الترك المتجدد ستة اشهر، لم يقدَّم فيها الى المحاكمة ولم يسمح لمحاميه برؤيته سوى مرتين اثنتين. ستة اشهر والرجل صامد، يعيش يومه، كما قال لأسرته، كأنه سيبقى ابدا. فلا مجال للآمال بالإفراج، صادقة كانت ام كاذبة، لمن يريد ان يحتفظ برباطة جأشه. لكن نحب ان نسأل اصحاب القرار في سوريا الى متى يبقى رياض الترك اسيرا؟ فالشيخ الجليل مريض بالسكري والروماتيزم، كما تم اجراء عملية قلب مفتوح له منذ ما يزيد على السنة. فالى متى يظل الجسد قادرا على المقاومة؟ انها صرخة صادقة وحارة: ارجوكم جنِّبوا سوريا ودولتها عار موت رياض الترك في السجن. فالرجل داعية مصالحة وتسام على جروح الماضي لكن من دون ان يكون في ذلك تنازل عن المبادئ الديموقراطية التي سجن في سبيل اعلاء شأنها. سوريا اليوم، واكثر من اي وقت مضى، في حاجة الى رجال احرار من امثال رياض الترك وزملائه لصنع حاضرها ومستقبلها، اما بقاؤهم في السجن فمعناه ان البلد لا يزال اسير الماضي وجروحه.
انتهت ساعة الزيارة وعادت عائلة "ابن العم" الى سيارتي المنتظرة عند البوابة. لم يكن عمو احمد ولا رياض الترك. الى جانبي، لكنهما كانا معي. لم اسأل العائلة اذا هي سلّمت لي على رياض الترك. كان بودي ان اقول لها: خلف القضبان ومن خلالها ورغما عني، اننا على الموعد يا رياض الترك، اننا على الموعد يا حرية، على الموعد يا سوريا.

النهار 11/3/2002

 

 عودة إلى صفحة البداية