مسألة دارفور: قحة أسوأ من صمة الخشم!
رباح الصادق ralsadig@sudanmail.net.sd بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة تلقيت رسالة من الأستاذ دندرا علي دندرا يتساءل كيف اهتم بقضية مقتل الشيخ أحمد يس ولا أنفعل البتة بما يجري في السودان وعلى رأسه أحداث دارفور المريرة! ولو صح أن القلم يعبر عما بالقلب بشكل طردي، وصح أنني لم أتناول مسألة دارفور لكان الأمر إدا.. ولا أخفي مشاركتي للأستاذ دندرا لاستنكار مواقف مماثلة وقفها البعض فهذا شأن بعض أهل النظام ورافعي الشعارات القومية والدينية مع خلو للبعد الوطني.. مرفق لقراء سودانايل الكرام المقال الذي سبق مقال الشيخ ياسين مباشرة وكان عن مسألة دارفور.. ولا أنكر أنه من قبيل القحة التي هي أسوأ أحيانا من صمة الخشم، ولكنه الوضع المزري الذي وضعنا فيه: لأن مسألة دارفور من نوع الجرح الذي لا يمكن إفراغ ما يجيش بالخاطر تجاهه، فربما لو تحدثنا بلغة الجرح والألم التي نعايشها ربما اصبنا غير ما أردنا بالمشاركة في تأجيج فتنة أطلت برؤوسها الشيطانية وهي أحق أن تلجم!.. ولذلك فقد فكرت مرة أن أقلع عن الكتابة نهائيا حتى لا أضطر لمثل هذه الكتابة "المغتغتة وفاضية" حسب تعبير شاعرنا القدال الذي قال "أبيت الكلام المغتغت وفاضي .. وخمج!"، أو أن تتسم كتابتي بالانصرافية إلى أمور أخرى وأهلي في دارفور يجري لهم ما يجري.. وأنا أعتبر نفسي من أهل دارفور، ليس فقط لأن جدتي من الفور، بل للأسباب التي ذكرها الأستاذ دندرا أن هذا موطن الأنصارية ومن ناصروا الدعوة منذ كانت وليدة ولا زالوا يقدمون لها.. ونحن كيان القربى فيه بالروح.. لا أطيل .. ولكني رأيت الابتدار بهذه المقدمة لأن التساؤل الذي جاش بخاطر الأستاذ دندرا مشروع، وربما جال بخاطر الكثيرين من قراء سودانايل الكرام. دارفور وما أدراك ما دارفور: سياحة بين أوراق حزب الأمة تتردد في الأخبار أصداء ما يحدث بالنسبة لنازحي دارفور في معسكرات "مايو" حيث وقعت أحداث عنف في المعسكر قتل جراءها ثلاثة رجال وامرأتان وجرح عدد من أفراد قوات الشرطة.. ولئن كان من الضروري الانشغال بما حدث هناك، فإن ذلك لا يجري منعزلا عما أتى بهم اصلا.. ولأن المسألة منذ بدايتها وحتى تعقيداتها الحالية لا يمكن طرحها في هذه المساحة "الممحوقة" فإننا نتداعى بين فكرة وأخرى، بين ملفات حزب الأمة.. نحوم حول مسألة دارفور ونتوجع!. لقد ظل حزب الأمة وغيره من الكيانات السياسية والمنظمات مهتما بمسألة دارفور بشكل مستحق نعرف أسبابه ومثلنا السوداني يقول "شن بكّى العين وسكّت النخرة!" دلالة على أن ما يصيب القلب من حزن يتصل بين سائر الجوارح. فأصدر العديد من الأدبيات ورعى المبادرات التي تصاعدت حتى وصلت لبلورة فهم القضية وحلها والمناشدة بشأن تحقيق الحل بشكل مفصل.. ولئن كان البعض من مثقفينا يرى أن ما يحدث في دارفور هو مثل الذي يحدث في غيرها من بقاع البلاد: نستثني الجنوب فخصوصية وضعه لا تجد مغالطين كثر.. أقول إذا كان بعضنا يغالط حول خصوصية دارفور، فالكثيرون داخل حزب الأمة لا يغالطون في ان الواقع على دارفور أكبر بسبب هوات أخرى غير التهميش الاقتصادي، دارفور لها تاريخ تباينه مع الوسط والشمال الأقصى أكبر من بقية بقاع كيان الشمال "صاحب الاسم".. ولو عدنا للتركية كحقبة وضعت فيها لبنة السودان الحديث التي عملت الحكومة الاستعمارية على إعادتها من بين الأنقاض التي قذفتها فيها المهدية فرممتها وبنت عليها.. لو عدنا لوجدنا الشمال والوسط حتى كردفان داخلين في عباية التركية منذ العام 1821.. إقليم التاكا الشرقي تبع عام 1840، أما دارفور فلم تدخل جبة التركية إلا في 1874م ثم سبقت الوسط والشمال في التحرر بيدي المهدية.. وإذا عاشت بقية أقاليم الشمال ستة عقود تركية فإنها –أي دارفور- لم تكمل حتى عقدا وحيدا. ولو عدنا لزمان الممالك الزرقاء والمشيخات لوجدنا تكوينات متعددة مثل تقلي والمسبعات والكنوز والمشايخ القبلية، ولكن كان أبرز اثنين من تلك الكيانات السياسية هما مملكتي الفونج في الوسط وشماله والفور في الغرب.. ذانك المملكتان تعاصرتا وتنافستا وكانتا ممثلتين تمثيلا دبلوماسيا منفردا في الأزهر الشريف "رواق السنارية ورواق دارفور". ولكن كثيرا من مثقفي الوسط ما فتئوا يدعون لسنار على أنها أساس هويتنا الجامعة. فتارة يقولون بالعودة، وأخرى ينادون بجمهورية سنار، وثالثة ينصبونها معينهم التاريخي الإسلامي الوحيد كما صنع أهل "الإنقاذ" في بعض أزمانهم.. لو أردنا أن نعرف مدى تفرد دارفور وموقعها من ضمير بلادنا لننظر لتلك التوجهات الثقافية الغالبة في المركز، ولنعلم أن ما بقلوب أهل دارفور ليس كالذي في قلوب أهل حلفا، ولا حتى أهل كسلا وإن استووا في التهميش الاقتصادي أو كادوا يستوون ونالهم من التهميش الثقافي نصيب كبير.. وليقرأ الواحد منا أو الواحدة مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم عن "التنوع الثقافي كغبينة سياسية" وذلك الذي شاع عن مجاهدي 2 يوليو 1976م حينما اتهمومهم تحت أبواق النظام المايوي المضللة بأنهم مرتزقة، ويعلم الله ما ارتزقوا بسوى وعد ربهم أن صدقوا عهدهم إياه، ويشهد الله أن النظام المايوي كان هو المرتزق ملأ جيوب عصبته بالدولارات خادما لمقام اليانكي (الأمريكاني).. قال أهل المركز عن أولئك الملبين نداء الوطن أنهم يتكلمون كلاما ليس سودانيا.. قال الدكتور عبد الله أنهم كانوا يتحدثون باللهجات الشائعة في غرب السودان!.. فتتبع قارئ الكريم.. ومثل ذلك الوجع الدارفوري كثير.. ولترجع لكتابات شاعرنا عالم عباس عن قضية المركز والهامش، إن له في ذلك مدادا حارا دلق!. يقول البيان الذي أصدرته شرطة ولاية الخرطوم عن أحداث "مايو": "بدأت الأحداث بقيام مجموعة من المشردين تحركهم بعض القوى والجهات السياسية صاحبة الغرض والمصلحة في إثارة الشغب".. ولو صح أن هنالك جهات سياسية صاحبة مصلحة في أن يقع القتل وسفك الدماء بين نازحين لا يستحقون سوى الرحمة ومزيد من التلطيف لنسيان أحداث مؤلمة كلمت جنوبهم وأدمت رؤاهم فهذا يعني أننا وصلنا حالة "نهاية السياسة" التي ذكرها د. عبد الله علي إبراهيم في كتابه "الإرهاق الخلاق".. حيث يتحول الجميع إلى مجموعة من العقارب في زجاجة مغلقة تلدغ كل منها الأخرى حتى تموت عن آخرها.. إن أي تدخل من أية جهة لبذر الفتنة في مثل هذا الموقف هو عمل لا مسئول بل ووحشي وهل نحرز الانتصارات على بعضنا الآخر على حساب دماء الأبرياء؟. ولكننا مهما تعاطفنا مع بيان الشرطة في ضرورة احتواء أي اتجاه للتخريب، فإننا لن نستطيع التعاطف مع الإشارة لهؤلاء المواطنين المكلومين الذين فقدوا ديارهم وأموالهم وذويهم ولاقوا الأهوال حتى يصلوا إلى دار ظنوها دار أمان داخل بلادهم لا يمكن أن نشير إليهم بالمشردين.. إن للتشريد تعريفات تخص الباحثين في حقول الاجتماع، ولكن لا يمكن بحال الإشارة للنازحين على أنهم مشردين.. وقبل أن ندين الجهات التي تريد الصيد في مياه عكرة فلنسأل ما الذي عكّر المياه؟ وكيف صدرت أوامر للنازحين بإخلاء المدرسة التي احتموا بجدرانها بدون أن يهيأ لهم بديل؟ ومن هو المسئول عن إيواء هؤلاء النفر الذين قتلوا ومزقوا وجوعوا في ممارسات حربية يقشعر لها بدن العالم الآن.. هل نحن فقط محصنون ضد الاقشعرار؟ ما الذي يجعلنا هكذا صم بكم عمي كأن على رؤوسنا ليس فقط الطير بل السكر؟ .. ولنعد لأوراق حزب الأمة.. ورقة أخرى هي لجنة المؤتمر الجامع والتي تكونت في نفس اليوم الذي صدر فيه نداء الحزب بضرورة الدعوة لمؤتمر جامع قومي يحل الإشكالية الدارفورية.. هكذا فرح الحزب أن النداء لم يلق أذن ميت كالعادة، وولج اللجنة فإذا بها موبوؤة بالمؤتمر الوطني حتى أرباعها الثلاثة ويزيد وقيل هي قومية، وأجندتها مسبقة الوضع، ولجانها الفرعية معدة برؤسائها ومقرريها.. فكان قول وفد الحزب حول ضرورة تكوين مؤتمر قومي بحق وحقيقة يبحث كافة الأجندة وليس فقط إعادة الإعمار والتنمية وحول تكوين اللجان الفرعية بالتراضي وكل ما قالوه كان حرثا للبحر، فانسحبوا، قال قائل ممن ادعوا بانهم يعارضون الخط الرسمي ويودون لو تكون كافة التكوينات قومية شاملة لكل الطيف السياسي، قال: سلبية منكم أن خرجتم.. قال قائل حزب الأمة: السلبية بقاءك ولو صح كلامك فأنت "مريّس.. ومتيّس!". لقد بح صوت حزب الأمة ولا يزال.. وها هي أخبار عن مكالمة هاتفية بين وزيري الخارجية الأمريكي والفرنسي يخططان لمؤتمر جامع في أبشي ليحل قضية دارفور.. وهؤلاء الناس لا يتكلمون عن المصلحة العليا للوطن ولا المواطنين ومثل الأفكار التي تستند عليها النداءات الداخلية، إن لهم أسلحة يخوفون بها ويلوحون: عقوبات.. إدانات.. إلخ. فهل حقا لا ننصت إلا لمثل تلك اللغة؟ وهل عهود الوطنية ومضابط التاريخ عندنا لا تساوي أن ننتبه؟!. والورقة الأخيرة هي اجتماع شبكة منظمات دارفور.. قال رئيس حزب الأمة منورا المكتب السياسي في اجتماعه بتاريخ الثلاثاء 9 مارس: دعينا لاجتماع هام لشبكة منظمات دارفور في يوم الجمعة القادم لبحث القضية والتحرك الإنساني السريع، إننا سنشارك في هذا الاجتماع وندعمه بكل ما نستطيع.. في ذلك الاجتماع وزعت دعوات لحضور اجتماع الشبكة على كل أعضاء المكتب السياسي. أما في الاجتماع التالي للمكتب السياسي بتاريخ الأحد 14 مارس فقدم تنوير عن اللقاء الذي ارتقبوه ونووا ان يدعموه.. .. قال من حضر من قيادات حزب الأمة: إنها ليست شبكة "بفتح الشين والباء" بل شبْكة "بكسر الشين وسكون الباء"!!.. هكذا اختتم ملف النفرة الطوعي من أجل دارفور بانسحاب قسم كبير من المدعويين..لقد كانت المنظمات التي حضرت في غالبها لا تحتفظ بالمسافة المطلوبة من الحكومة.. ولا الرسميين راعوا أصول الميزانية، بل تبرع كثير منهم بشكل ارتجالي كأن لا يوجد شيء اسمه ميزانية يخطط أسس الصرف وأوجهه ويقننها.. لقد صدم الكثير من الحاضرين بالشكل الذي ادير به الاجتماع، والخلط الفظيع بين مفاهيم العمل الطوعي والرسمي، لقد بدا المشهد مثل "شعقيبة" حكومية لكأنه وارد للحكومات أن تتخذ أسلوب "الشعقيبة" بكل تلك الأريحية.. وخرج الاجتماع بأرقام ضخمة تبرع بها الرسميون وبدون أن يفلح في استقطاب أي تجاوب من جماهير دارفور آنذاك –خارج حوش الحزب الحاكم- وما أكثرهم استعدادا للمشاركة ولكن داخلتهم الريبة!. لا شك أن التوجه الحكومي في إشراك الآخرين محمود.. ولكن لذلك التوجه استحقاقات أولها أن يوجد استعداد حقيقي للاستماع للآخرين واعتبار رؤاهم، وثانيها الاعتراف أن الحزب الحاكم ما هو إلا أحد الأحزاب السودانية ولا يحق له بحال أن يغلب عددا وينفرد سلطة على تكوينات يراد أن تكون قومية.. وأيضا، أن يدرك أن ليس كل المعارضة التي يواجهها من معارضيه هي بسبب كراهية –وإن بدا هو في إشاعتها- أو ردا على عدوان ابتدر به.. فهنالك الكثير من الحزبيين ومن المستقلين خارج الأحزاب مستعدون لطي صفحات الماضي –بدون نسيان ولا عفو- ولكن بتعال على لغة الانتقام وبإقبال على معالجة قضايا الوطن الملحة .. فقط أن يصدق في تلك المعالجة أهل السلطة!. وليبق ما بيننا نشرت في جريدة الصحافة بتاريخ 9 مارس 2003 عودة |