كيف يحكمون

علي يس الكنزي/سويسرا
ali@ashshawal.com

  من أبواب متفرقة

يحررها من جنيف / سويسرا
علي يس الكنزي
Website http://www.ashshawal.com

باب
كيف يحكمون

هذا مقال أهدي معناه لحكام بلدي، وأقدم مغزاه لكل من اعتلى عرش الحكم في الدول العربية والإسلامية. وسيدرك الناس بعد قراءة مقالي هذا لماذا يكون العائد من الغرب منبهراً بما رأى ومفتوناً بما عايش من واقع، وداعياً بأن تهتدي بلداننا بنهج الغرب في إشاعة العدل والديمقراطية فهما أساس كل حكم. وتعود ذاكرة المرء المتعطشة لهذه المثل الرفيعة لأربعة عشر قرناً من الزمان أو يزيد، عندما جاء رجل فارسي يبحث عن أمير المؤمنين، فقيل له ذاك النائم تحت الشجرة، فقال قولته الشهيرة: "عدلت فنمت يا عمر". هذا ما كان بالمدينة. أما جرى في مكة فقد حث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض صحابته من المؤمنين والمؤمنات، الذين تعرضوا لعذاب أهلها وظلمهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، "فأن فيها ملك لا يظلم عنده أحد".

في مساء يوم الجمعة الثاني من هذا الشهر جلست الأمام التلفاز كعادتي لمتابعة النشرة الرئيسية للتلفزيون السويسري، والتي جاء في صدرها هذا الخبر: " المحكمة الإدارية المكونة من ثلاث قضاة تحكم بإعادة السيد هاني رمضان إلى موقع عمله"، وتم تفصيل وقائع الخبر لاحقاً.

أما جريدة التربيون دو جنيف السويسرية الصادرة صباح اليوم التالي، فأفردت جلَّ صفحتها الأولى مع صورة المعني، وصفحة داخلية بأكملها لهذا الخبر، وقالت بالخط العريض: " المحكمة الإدارية تصفع مجلس الدولة الحاكم، "ما يعادل مجلس الوزراء" وتحكم برد الاعتبار للسيد رمضان وتصدر حكماً بإعادته لموقع عمله الذي فقده بعد قرار صادر من ذاك المجلس".

الدكتور هاني رمضان، هو حفيد الأستاذ حسن البنا مؤسس حركة الأخوان المسلمون، وأبن الدكتور سعيد رمضان، أحد رموز هذه الحركة، الذي انتهت به الحياة مهاجراً إلى سويسرا هرباً من بطش عبدالناصر، حيث أنشأ مركزاً إسلامياً بجنيف، يقوم د. هاني بإدارته مع إمامة صلاة الجمعة فيه، وهو شقيق كل من جراح الأعصاب الشهير على المستوى الدولي الدكتور أيمن رمضان، والمفكر الإسلامي المعروف على النطاق الأوربي الدكتور طارق رمضان.

وترجع أحداث القضية عندما تعرض الإعلام الدولي لقضية المرأة النيجيرية المسلمة التي حوكمت بالرجم في شمال نيجريا،  فتصدى الدكتور هاني بكتابة مقال في صحيفة اللموند الفرنسية المعروفة، في شهر سبتمبر من عام 1999، مبيناً فيه أحكام حد الزنا في الشريعة الإسلامية.

أعيد نشر هذا المقال في صحيفة التربيون دو جنيف السويسرية والتي تصدر من جنيف، وقامت الدنيا ولم تقعد، وأندلق حبر كثير في هذه القضية وصار مصدر حوار حي ولعدة أشهر في الإذاعات المحلية والتلفزيون السويسري. فكل من أدلى بدوله في هذا الأمر من صحفيين وكتاب وسياسيين وجمهور، اعتبر أن السيد رمضان قد مس أعظم مقدساتهم وهي الحرية الشخصية، كما أساء بمقاله هذا لدولتهم العلمانية، وطالبوا بوقفه فوراً من العمل كأستاذ للغة الفرنسية للمراحل المتوسطة. قائلين أن معلم مثله سيفسد الأجيال التي تتلقى العلم على يديه. مما أجبر مجلس الدولة للاستجابة لهذه الضغوط والنظر في أمر السيد رمضان، فكلف أشهر القانونيين في جنيف وهو المدعي العام السابق وطلب منه دفع مرافعة تعطي الحق للمجلس بفصل السيد رمضان عن عمله. " الجدير بالذكر أن وظيفة المدعي العام، والتي تماثل وظيفة وزير العدل، يتم التعيين فيها بواسطة الانتخاب المباشر من الشعب، وذلك لضمان نزاهة وحياد شاغلها واستقلاله التام عن السلطة التنفيذية والقضائية".

واستناداً على الحيثيات القانونية التي تقدم به المدعي العام السابق، قرر مجلس الدولة "و بالإجماع الكامل في إحدى جلساته في شهر فبراير 2003، فصل السيد رمضان من وظيفته كمعلم معللاً قراره بأن هناك تضارب بين نشاطه الديني ونشاطه المهني "مدير مركز إسلامي وإمام مسجد ومعلم في المدارس الحكومية" بالإضافة لدعوته الصريحة لتقديمه للشريعة على القانون العلماني. وهلل لهذا القرار كثير من الناس، حتى نقابة المعلمين التي ينتمي إليها السيد رمضان. إلا أن السيد رمضان وهو مواطن سويسري بالميلاد، كان على وعي ودراية بأنه يعيش في بلد يحكمه القانون، ولديه ثقة مطلقة في نزاهة القضاء السويسري. فقام برفع قضية ضد الدولة متضرراً من الفصل التعسفي على حد قوله لأن جنيته الوحيدة هو أنه عبر عن رائه الحر كمواطن سويسري والذي يكفله له القانون. وكانت كل الدلائل تشير إلى أن السيد رمضان ومحامية يحرثان في البحر، خاصة في ظل الظروف الدولية القائمة التي تجتاح عالمنا اليوم. اصبح فيه التعاطف مع أي مسلم أو قضية إسلامية في الغرب ضرب من الخيال. علماً بأن الغرب يصنف السيد رمضان من الإسلاميين المتشددين، كما أن فرنسا تعتبره شخص غير مرغوب فيه Persona non grata . وتعرض المركز الإسلامي الذي يديره لإشاعة من وسائل الإعلام تقول بأنه يساند منظمة القاعدة، ويجمع تبرعات لصالحها. وأي عامل من هذه العوامل كفيل بأن يهزم السيد رمضان في أي محكمة في بقاع الأرض.

رغم كل هذه المؤشرات السالبة التي توحي بأن حكم المحكمة الإدارية لن يكون أقل إجحافاً من قرار مجلس الدولة. جاء قرار المحكمة وبعد أكثر من عام من تاريخ الفصل، مدهشاً ومحيراً وضرب عرض الحائط بكل التكهنات السابقة. وبرهن على أن القانون في سويسرا كالماء الطهور، لا لون ولا رائحة ولا طعم له. فهو مع الحق أين ما كان. وصدق محمد عبده حين قال: "في الغرب وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، وفي البلاد الإسلامية وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً.