سر المسيح
The Secret of Christ
الجزء الأول
بقلم
مجدى صادق
الطـــــبعة : الأولى 8 أغسطس سنة 2005 غربيـة
وتوافق سنة 1997 قبطيـة
وتوافق سنة 1992 للتجسد
رقــم الإيداع : 11142 / 2005
الترقيم الدولـى :
I.S.B.N. 977 - 17 - 2293
- X
الموقع على النت: www.oocities.org/thesecretofchrist
www.oocities.org/thelogoscenter
البريد الإلكترونى:
magdy2014@hotmail.com
مقدمة الطبعة الثانية 2007
هذه الطبعة مزيدة ومنقحة, وقد تضمنت مباحث
وإضافات جديدة كما تم إضافة قسم سادس إليها بعنوان " أسئلة والرد عليها "
وهذه الإضافات جميعا موجودة فقط فى الطبعات الإلكترونية للكتاب المنشورة
على الإنترنت بنظام
Html
أو PDF.
هذا الكتاب مفتوح أى أن نسخه وترجمته لا يعد
مخالفاً للقانون إلا أنه لا يحق لك التعديل فيه مطلقا، ولكن إذا رغبت فى
إعادة نشره وتوزيعه لأغراض الخدمة فيجب الحصول على نسخة محدثة منه من
المؤلف فإذا كان النشر تحت أى صورة لأغراض تجارية فإن
جميع حقوق الطبع والنشر والترجمة تكون محفوظة للمؤلف.
مقدمة
المحقق تاريخيا أن العقائد النسطورية كما هى فى
الحقيقة تمكنت منذ مجمع خلقيدونية عام 451 للميلاد من اختراق الكنيسة
الجامعة فصار ينادى بها كتعليم كنسى بحسب مذهب ثيؤدورت القائل بأن للمسيح
طبيعة إنسانية ( أى روح إنسانية ) مشخصة بأقنوم الكلمة ( أى بأقنوم العقل
الإلهى ) الذى أبطل عقلها البشرى وقام مقامه. فأله بذلك الروح الإنسانية
بأن جعلها واحدا معه فى اللاهوت بدون تغيير.
ورغم أن هذا التعليم ظاهر الفساد إلا أن
المجتمعون فى خلقيدونية أقروه كمعتقد كنسى رذلوا به المعتقد الأرثوذكسى
القائل بأن للمسيح الكلمة المتجسد روح واحدة لاهوتية هى الروح القدس, وهو
التعليم الذى صاغه كيرلس عمود الدين فى عبارته الشهيرة " طبيعة واحدة
لاهوتية للكلمة المتجسد " وهى العبارة التى فندت عبر العصور جميع مذاهب
أصحاب الطبيعتين أى مذاهب القائلين بروحين فى المسيح. تلك المذاهب التى
رغم اختلافها فى تفسير كيفية الاتحاد إلا أنها متفقة على أن الكلمة لم
يولد ولم يتجسد بل اتحد بإنسان مثلنا مولود من مريم يدعى يسوع المسيح.
والواقع أن القول بأن المسيح المولود من مريم
إنسان نظيرنا هو إنكار للاهوته وتجسده لأن القول بالتأنس أى إتحاد الله
الكلمة بإنسان هو إنكار لتجسد الكلمة وولادته من مريم لأن التأنس ليس
ولادة ولا تجسد بل حلول فى إنسان نظيرنا.
وقد أدخل الخلقيدونيين على طقس القداس صيغة
اعترافهم المؤسس على المعتقد النسطورى القائل بأن الله اتحد بإنسان تحييه
نفس إنسانية عاقلة ليقدمها لموت الصليب حتى بخروجها من الجسد يموت الله
الكلمة موتنا فيمسك من جسد الموت فى القبر مثل البشـر حتى اليوم الثالث
عندما تعود إليه الروح الإنسانية فتحييه وتقيم جسده المائت من الموت,
وهكذا بعودة الروح الإنسانية للجسد المائت الذى كان الله متحدا به فى
القبر صارت القيامة.
وهكذا صارت الروح الإنسانية هى روح القيامة
والحياة التى أقامت الله الراقـد كالبشر فى القبر بلا حول له ولا قوة
مترجيا الخلاص الذى تأتى به روح إنسانية لتهبه نعمة القيامة.
وهكذا قلب نسطور كضد للمسيح تدبير الخلاص رأسا
على عقب فصار الذى نزل من السماء من أجل خلاصنا ممسكا من جسد الموت فى
القبر إلى اليوم الثالث مترجيا عودة الروح الإنسانية إليه لتنقذه من جسد
الموت وتخلصه بإقامة جسده المائت من الموت.
وبهذا صار الله نفسه مدينا بحياته لهذا الإنسان
الذى به خلص.
هذه هى محصلة قبول هذا التعليم الفاسد الذى به
حقت فيهم كلمة الله القائلة " شعبى قد هلك بسبب الجهل ".
والسؤال هو ما هو الفداء الذى حققه الله الكلمة
باتحاده بإنسان ؟ هل أقام الله جسد الإنسان الذى اتحد به ؟ الواقع أن
العكس هو الصحيح لأن الروح الإنسانية هى التى بعودتها للجسد أقامت الجسد
المائت الذى كان الله متحدا به فى القبر.
والسؤال هو من خلص من ؟ ما فائدة التجسد إن كان
للروح الإنسانية القـدرة على إحياء جسدها ؟ وإن كان لها هذه القدرة فما
حاجتنا للروح القدس ومعمودية الميلاد الثانى.
إن التعليم بأن قيامة المسيح تحققت بروح
إنسانية لا بروح الله يضاد الحق الكتابى ويقلب تدبير الخلاص رأسا على عقب
إذا عوضا عن أن يخلصنا الله ويقيم جسده من الموت بروحه المحيى كباكورة ثم
يقيمنا نحن أيضا بروحه. يجعلونه هو نفسه ممسكا من جسد الموت المتحد به فى
القبر كسائر البشر مترجيا عودة روح إنسانية إليه لتقيمه من الموت.
وهكذا بسبب الجهل أبطلوا تدبير الخلاص وقلبوه
رأسا على عقب وداسوا ابن الله مستبدلين به إنسان نظيرنا قدموه للولادة
والصلب والموت والقيامة من الأموات ليفتدى الله الذى كان متحدا بجسد مائت
فى القبر ممسكا منه عاجزا عن إقامته وإبطال موته مترجيا عودة الروح
الإنسانية إليه فى اليوم الثالث لتنعم عليه بالقيامة من الأموات.
هكذا لو لم تعد الروح الإنسانية للجسد المائت
الذى كان الله متحدا به فى القبر لتقيمه لبقى الله فى جسد الموت إلى
الأبد. هكذا صار الله نفسه مدينا بحياته وإقامته من المـوت لهذه الروح
الإنسانية.
والواقع أن الدراسات المقارنة للأسس التى قامت
عليها النسطورية كشفت بما لا يدع مجالا للشك أنها نتاج فكر غنوسى متطور
غايته تأليه الخليقة ومعادلتها بالله.
فالفكر الغنوسى الذى يمثل جوهر النسطورية هو
فكر الحية القديمة الذى تبناه جماعة من وسطاء تحضير الأرواح الذين
اشتهروا باسم العارفين ( الغنوسيين ) لزعمهم بأنهم صاروا كالله عارفين
الخير والشر نتيجة أكل آدم من شجرة المعرفة التى بها انفتحت أعينهم
وأدركوا ألوهيتهم الكامنة فيهم بالحكمة الصوفية التى فاضت بها عليهم
الحية القديمة من خلال الرؤى والأرواح.
والواقع أن غاية الفكر الغنوسى هو تأليه
الإنسان وجعله المخلص والمحيى لنفسه فضلا عن إبطال التدبير من خلال تنزيه
الله عن الصورية والظهور والتجسد وإنكار صلبه وموته وقيامته بنسبتها إلى
إنسان لإفراغ تدبير الخلاص من مضمونه وقلبه رأسا على عقب.
لهذا نادى بعض أقطاب الغنوسية أمثال مرقيون
وباسيليدس ومانى بأن اليهود لم يصلبوا المسيح ابن الله بل شخصا آخر مختلف
حوله تراءى لهم أنه المسيح.
أما
كرينثوس الغنوسى
الذى عاش فى القرن الثالث الميلادى فقال أن المسيح حكمـة الله
اتحد
بجسد إنسان يدعى يسوع وعندما صلب فارقه المسيح حكمة الله وبالتالى وقعت
الآلام على الناسوت وليس اللاهوت.
أما نسطور فقال بأن كلمة الله اتحد بجسد إنسان
يدعى يسوع المسيح وعندما صلب فارقه الكلمة فصرخ الإنسان قائلا " إلهى
إلهى لماذا تركتنى " وهكذا لم تقع الآلام على الكلمة وإنما نسبت إليه
بسبب الإتحاد, ومع ذلك فقد أوقع النساطرة والغنوسيين الموت على الكلمة
بقولهم أن الروح الإنسانية فارقت الجسد فمات بينما ظل الكلمة محيى الكل
متحدا بالجسد المائت فى القبر إلى اليوم الثالث عاجزا عن إحياءه حتى عادت
إليه الروح الإنسانية وأحيته, وهكذا صارت قيامة الكلمة من الموت بروح
إنسانية.
ثم فى مجمع خلقيدونية فرض ثيؤدورت آراءه الأكثر
تطرفا على المجمع معلمـا بأن الكلمة اتحد بروح المسيح الإنسانية فشخصها
وألهها منذ تكوينها وبهذا صار المسيح إلها متأنسا أى من أنصاف الآلهة.
وهكذا فرض المجمع معتقد ثيؤدورت على الكنيسة
الجامعة كمعتقد كنسى رافضا التعليم بالطبيعة الواحدة اللاهوتية للسيد
المسيح.
ثم لم تلبث الغنوسية بظهور يعقوب البرادعى فى
القرن السادس الميلادى أن صاغت معتقد الطبيعة الواحدة بما يتفق وتأليه
المخلوق بالقول بأن طبيعة المسيح الواحدة ليست لاهوتية حسب التعليم
الأرثوذكسى ولا هى إنسانية حسب نسطور ومجمع خلقيدونية بل هى طبيعة جديدة
مؤتلفة ممتنعة الجنس أى ليست إلهية ولا إنسانية مشخصة بالكلمة. وبهذا
عدمت هذه الطبيعة الجديدة الممتنعة الجنس الإله والإنسان معا وبعبارة
أخرى ابتلعتهما. فصار الكلمة مشخصا لروح لا جنس لها.
إن هؤلاء الذين أعمى إله هذا الدهر أذهانهم
لئلا تضىء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذى هو صورة الله ( كورنثوس
الثانية 4 : 3 - 4 ) لم يدركوا أن المسيح ليس إنسان مثلنا فى جوهره ولا
هو روح إنسانية مشخصة بالكلمة ولا أنه بروح ممتنعة الجنس ليست إلهية
وليست إنسانية مشخصة بالكلمة. بل هو الله الذى كرسيه إلى دهر الدهور ..
الذى مسحه الله بزيت الإبتهاج ( أى بالروح القدس ) ( مزمور 45 : 6 - 7 ).
فالمسيح هو حكمة الله وصورة الله الممسوح منذ
الأزل ( الأمثال 8 : 12 , 23 ).
لهذا إذ وجدت أن الضرورة موضوعـة على رأيت
بنعمة الله أن أكتب ببراهين كثيرة مفندا للنسطورية وبدعها الخبيثة مظهرا
التعليم المستقيم حسب قانون الإيمان الرسولى " نؤمن برب واحد يسوع المسيح
ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور ".
ورغم علمى أن أكثر الذين تسممت أفكارهم بتعاليم
أصحاب الطبيعتين المنحرفة ليس فقط لا يقبلون التعاليم الصحيحة بل
ويقاومونها كما فى خلقيدونية إلا أنى عالم ومتيقن أيضا أن ليس أحد
يقدر أن يقول
يسوع رب
إلا بالروح القدس ( كورنثوس الأولى 12 : 3 ).
لذلك فمن يقول بأن يسوع المسيح المولود من مريم إنسان
مثلنا بجسد ذى روح إنسانية عاقلة اتحد به الله الكلمة فى وحدة الاسم
وكرامة البنوة بحسب نسطور. أو قال أن للمسيح روح إنسانية مشخصة بالكلمة
بحسب معتقد ثيؤدورت ومجمع خلقيدونية. أو قال بأن للمسيح روح ممتنعة الجنس
ليست إلهية ولا إنسانية مشخصة بالكلمة تعرف بروح الكلمة المتأنس بحسب
معتقد البرادعى ولم يستحسن أن يعترف حسب الحق المعلن بأن المسيح هو الله
الظاهر فى الجسد ( تيموثاوس الأولى 3 : 16 ) باشتراكه معنا فى اللحم
والدم ( العبرانيين 2 : 14 ) فلا يلومن إلا نفسه دمه على رأسه. لأن يسوع
المسيح المولود من مريم هو بالحقيقة القدوس ابن الله العلى صورة الله
الآب الذى ليس بأحد غيره الخلاص.
وأقول كما قال بولس الرسول " أشهدكم اليوم هذا أنى
برىء من دم الجميع لأنـى لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله. احترزوا إذن
لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا
كنيسة الله التى اقتناها بدمه
" ( أعمال 20 : 26 - 28 ).
لأنه مكتوب من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو
ثلاثة شهود يموت بدون رأفـة فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس
ابن الله وحسب دم العهد الذى قدس به دنسا وازدرى بروح النعمة مخيف هو
الوقوع بين يدى الله الحى.
لأن من يحسب أن دم المسيح دم إنسان حسب نسطور
أو دم كائن مركب من روح إنسانية مشخصة بالكلمة حسب خلقيدونية أو دم
كائن ذى روح ممتنعة الجنس ليست إلهية ولا إنسانية مشخصة بالكلمة حسب
البرادعى. ويحسب أن الروح التى أقامت جسد المسيح وأبطلت موته هى روح
إنسانية أو روح ممتنعة الجنس. فإنه يكون قد داس ابن الله وأزدرى بروح
النعمة الذى هو وحده روح القيامة والحياة.
مجدى صادق
القسم
الأول
تجسد الكلمة
The Incarnation of the
Word
الفصل الأول
لماذا تجسد الكلمة ؟
المبحث الأول
سقوط الإنسان وموته
الإنسان كائن مركب من
جسد ونفس وروح
( تسالونيكى الأولى 5 : 23 )
وهو مخلوق على صورة الله وشبهه ( تكوين 1 : 26 ).
وقد أوضح الكتاب أن
الروح
جوهر عاقل خالد لا يفنى ولا يموت ( لوقا 23 : 42 - 43 ) وأن الله
صورها
داخل الإنسان ( زكريا 12 : 1 ) وأن أمور الإنسان لا يعرفها إلا روح
الإنسان الذى فيه
(
كورنثوس الأولى 2 : 11 ).
ويستدل من التقليد أن الروح تقطن الجمجمة مركز التحكم فى الجسد البشرى.
أما
النفس
فقد أوضح الكتاب المقدس أن النفس هى الدم وأن
نفس الجســد
( أى قدرته التنفسية )
هى فى الدم
(
تثنية12: 23 ) ( لاويين 17 : 11 - 14 ) وأنها علة حياة الجسد ( تكوين 9 :
4
)
وأنها قابلة للموت والفناء وبموتها يفقد الجسد الحيوانى أى الحى بالدم
قدرته التنفسية والحركية فيموت ويعود إلى ترابه.
وقد أوضح الكتاب أن موت الإنسان كموت الحيوان
ونسمة واحدة
للكل كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما ( الجامعة 3 : 19 - 20 ).
ورغم أن الجسد الحيوانى القابل الموت واحد للكل إلا أن الإنسان المجبول
على صورة الله وشبهه هو الحيوان الوحيد الناطق بسبب الروح الكلمانية
الناطقة التى تسكنه وبموت النفس الحيوانية أى الدم تمسك روح الإنسان من
جسد الموت أى تحبس فيه فى رقاد الموت الأبدى الذى هو أجرة الخطية, وإذ
تعجز الروح عن إقامة جسدها المائت تمسك من الموت الذى يملك على الإنسان
إلى الأبد.
فالموت هو موت النفس الحيوانية الجسدانية أما الروح فلا تموت بل تمسك فى
جسد الموت أى تحبس فيه.
نخلص مما تقدم أن الروح الإنسانية لا تحيى الجسد بل الدم لأنها لو كانت
هى التى تحيى الجسد لأحيته بدون الدم. فإن عجزت عن ذلك فلا تكون هى علة
إحيـاءه بل الدم.
فالروح الإنسانية بالنسبة للجسد الحى بالدم هى كالسائق بالنسبة للسيارة
المتحركة بالبنزين.
فبدون البنزين أى الطاقة المحركة يعجز السائق عن تحريك سيارته رغم وجوده
فيها كما تعجز الروح بموت الدم الذى يمد الجسم بالطاقة والحيوية من خلال
عملية التمثيل الغذائى عن إحياء جسدها وتحريكه فتحبس فيه أى تمسك منه فى
رقـاد الموت الأبدى.
فالروح الإنسانية بموت الدم تمسك من جسد الموت فى رقـاد أبدى بلا أدنى
قدرة على تحريك الجسـد أو إقامته من رقـاده بعـد أن لفظ نسمته أى نفس
الحياة الذى يمنح الجسـد قدرتـه التنفسية فيصير الإنسـان جثة عادمة
الحيـاة إلى الأبـد ( إشعياء 66 : 24 ).
لذلك يقول داود النبى " أنر عينى لئلا أنام نوم الموت " ( مزمور 13 : 3
).
أى أن الروح بموت الدم تظل متحدة بجسدها المائت إذ تمسك منه وتحدر معه
إلى القبر فى رقاد الموت عاجزة عن تحريكه أو إقامته أو إحياءه.
فالموت هو موت النفس الحية أو الحيوانية وهى غير الروح التى جبلهـا الله
أولا داخل جسد آدم ولسبب ذلك صار الجسد يسمى جسد آدم. ثم نفخ الله فى أنف
آدم نسمة الحياة فصار آدم بسبب هذه النفخة الأولية فى أنفه متنفسا بحركة
أوتوماتيكية, وبها صار آدم
نفسا حية
أى حيـا بالدم كسائر الحيوانات من
ذوات الأنفس الحية
( تكوين 1 :
24 ).
وقد أوضح الكتاب الكيفية التى جعل الله بها آدم نفسا حيـة بالقول :
وجبل الرب الإله آدم الإنسان الأول ترابا من الأرض
ونفخ
فى أنفه
نسمة حياة
فصار آدم
نفسا حية
( تكوين 2 : 7 ).
فنسمة الحياة التى نفخها الله فى أنف آدم هى
التى أعطت مادة الدم الجسدانية قدرتها التنفسية فصار آدم نفسا حية أى حيا
بالدم الذى هو مادة حية متنفسة قابلة للموت والفناء.
ثم أوقع الرب الإله سباتا على آدم وأخذ واحدة
من أضلاعه وكساها لحما وبنى منها امرأة وأحضرها إلى آدم ( تكوين 2 : 20 )
فدعاهـا حـواء لأنهـا أم كل حى ( تكوين 3 : 21 - 22 ).
من ذلك نرى أن البشرية كلها جاءت من جسد واحد
لأن حواء التى منها كل أجساد البشر أخذت من جسد آدم.
وقد أوصى الله آدم بأن لا يأكل من شجرة
معرفة الخير والشر لأنه يوم يأكل منها موتا يموت ( تكوين 2 : 17 ).
وبداهة أن الموت هو موت النفس الحية أى الدم كما هو مكتوب النفس التى
تخطىء هى تموت .. موتا يموت دمه يكون على رأسه ( حزقيال 18 : 4 - 13 ).
ورغم وضوح الوصية الإلهية إلا أن حواء غرر بها بغواية الحية التى خدعتها
بالقول لن تموتا بل يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين
الخير والشر.
فمدت حواء يدها وأخذت من ثمر الشجرة المحرمة التى تم معالجتها بما أسماه
بولس الرسول بشوكة الموت. فأكلت حواء من ثمر الشجرة وأعطت زوجها أيضا
فأكل فسقطا معا تحت حكم الموت الأبدى الذى تحقق عمليا بموت النفس
الحيوانية أى الدم.
وبالسقوط أدرك أبوينا الأولين أن الله كان أمينا وصادقا من جهة حكم الموت
وأن إبليس المضل غرر بهما وخدعهما بقوله لن تموتا.
لذلك فإن ندم الإنسان علي فعلته ما كان ليوقف تأثير شوكة الموت التى صارت
تعمل فى جسده الحيوانى ليثمر للموت.
وبداهـة أنه لم يكن من اللائق أن يحقق الشيطان إنتصارا علي الله ويميت
الإنسان الذى خلقه الله على صورته وشبهه.
لهذا دبر الله وسيلة يخلص بها آدم من الموت لا تتعارض مع عدلـه وصدقـه
وهى أن يأتى بالجسد المائت إلى عدم موت بتقديم نفسه ذبيحة عنه فيوفى
العدل الإلهى حقه من جهة بموت نفسه الحيوانية عوضا عن نفس آدم, ومن
الجهـة الأخرى فإن الجسد إذ صار جسد الكلمة فإنه لم يعد مخضعا للموت إذ
صار محييا أى مقاما من الموت بروحه المحيى الذى هو الروح القدس, وبهذا
صار المسيح آدم الأخير أبا جديدا للبشـرية التى تتحول فيه إلى خليقة
جديدة محيية بالروح القدس الذى تناله باشتراكها باسمه فى المعمودية فتولد
ثانيا ليس من دم يموت كما فى الميلاد الأول بل مما لا يموت بالروح المحيى
روح آدم الأخير الذى نتحول فيه إلى خليقة جديدة روحانية أى خليقة مقامة
من الموت بالروح القدس المحيى.
لذلك إذ رأى الله أن إبطال موت البشرية التى كانت فى صورة الله لا يتم
إلا بحضور نفس
صورة الله
الرب يسوع المسيح الذى خلقنا على صورته وشبهه أرسل الله أبنه إلى العالم
لكى نحيا به.
لهذا أتى المسيح ابن الله بشخصه ثانيا لكى وهو
صورة الآب
يعيد تجديد خلقة الإنسان الذى صنعه على صورته وشبهه (
تجسد الكلمة 13: 7
) بمنحه قوة حياة جديدة ليس من دم يموت كالميلاد الأول بل مما لا يموت
بروحه المحيى.
لهذا صار من المحتم من أجل خلاصنا أن يتخذ
صورة الله
ذات الجسد المخضع للموت ليموت به كسائر البشر بموت النفس الحيوانية أى
الدم وبهذا يموت موتنا إنما بلا خطية محققا بذلك فداءً أبديا.
وإذ صار الجسـد الحيوانى القابل الموت جسـدا للذى هو بالطبيعة روحا محييا
( كورنثوس الأولى 15 : 45 ) فإنه لم يكن ممكنا أن يمسك من الموت مثل
أرواحنا ( أعمال 2 : 24 ) لأن الجسد صار خاصا بالذى به نحيا ونتحرك
ونوجد.
لذلك إذ صار الجسد خاصا بكلمة الحياة بطل الموت لأن الجسد بسبب الكلمة
الذى حل فيه بروحه المحيى صار غير مائت لأنه بمجرد موت النفس الحيوانية
أى الدم صار الجسد محييا بالروح القدس المحيى, وبهذا تحول الجسد من جسد
حيوانى أى حى بالدم إلى جسد روحانى أى محيى بالروح القدس الذى هو روح
المسيح روح القيامة والحياة ( كورنثوس الأولى 15 : 42 - 55 ) ( رومية 8 :
9 - 11 ).
فجسد المسيح وإن مات موتنا بموت الدم إلا أنه كان محييا ( أى مقاما من
الموت ) بالروح القدس المحيى الذى هـو روح المسـيح ( بطرس الأولى 3 : 18
) ( كورنثوس الثانية 13 : 4 ) آدم الأخير ( كورنثوس الأولى 15 : 45 ).
وبهذا أوجد المسيح بدم نفسه فداءً أبديا ( العبرانيين 9 : 12 ) عاملا
الصلح بدم صليبه ( كولوسى 1 : 2 ) مكفرا بدمه عن دمائنا لأن الدم يكفر عن
النفس أى الدم
( لاويين 17 : 11 )
لأن الدم هو النفس ( تثنية 12 : 23 ) وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة ( العبرانيين 9 : 22 )
وبالمغفرة المصالحة التى لنا بها قدوما بالروح الواحد لله الآب ( أفسس 2
: 18 ).
لهذا اقتضى تدبير خلاصنا أن يتخذ الكلمة لنفسه جسدا مثل أجسادنا يصير به
رأسا جديدا للبشرية لنتحول فيه إلى خليقة جديدة حية ليس بالدم المائت
الذى أخذناه من آدم الأول بل بقوة حياة جديدة بالروح المحيى غير المائت
الذى نأخذه من آدم الأخير ( كورنثوس الأولى 15 : 45 ) الذى يحيى أجسادنا
المائتة بروحه السـاكن فينا ( رومية 8 : 9 - 11 ) هذا الذى نناله بالدفن
مع المسيح فى المعمودية حتى باشتراكنا معه فى
شبه موته
نشترك أيضا بقيامته ( رومية 6 : 5 ).
فتصير الكلمة المكتوبة كما فى آدم يموت الجميع هكذا فى المسيح يحيا
الجميع ( كورنثوس الأولى 15 : 22 ).
من ذلك نرى أن الجسد الحيوانى هو جسد حى بالدم لا
بروح إنسانية حسبما يزعم نسطور, وأن قيامة المسيح وقيامتنا ليست بروح
إنسانية بل بالروح القدس المحيى الذى هو وحده روح القيامة والحياة.
لهذا كان أمرا محتوما حتى ينهض الجنس البشرى من
كبوته ويخلص من خطيته أن يتخذ كلمة الله جسدا بشريا من لحم ودم مثلنا حتى
متى إلتقى بموتنا في جسده الخاص أبطله بروحه المحيى فتصير الكلمة
المكتوبة إبتلع الموت إلى غلبة.
المبحث الثانى
كيف نرث خطية آدم ؟
من الحقائق الكتابية المعروفة أن الرب قال لآدم
أنه يوم يأكل من شجرة المعرفة موتا يموت فأكل آدم من الشجرة فصار تحت حكم
الموت الأبدى.
وواضح أن العنصر المائت فى الإنسان هو الدم
الذى هو نفس حية قابلة للموت هى علة حياة الجسد. لهذا فإنه بموت الدم
تعجز الروح عن تحريك الجسد فتمسك من جسد الموت إلى الأبد. لأن حياة الجسد
هى فى الدم.
لهذا يقول الكتاب " لحما بحياته دمه لا تأكلوه
" ( تكوين 9 : 4 ).
وأيضا تقول كلمة الله :
" إحترز أن تأكل الـدم لأن
الـدم هو النفـس
فلا تأكل النفـس مع اللحـم " ( التثنية 12 : 23 ).
ولما كان الدم هو وحده الذى تدنس بالخطية وصار
تحت حكم الموت الأبدى. لهذا كان هو وحده أيضا الذى يحتاج إلى كفارة.
الأمر الذى أوضحه الرب بقوله :
لأن
نفس
الجسد هي في
الدم
فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم ( أى دمائكم ) لأن الدم
يكفر عن النفـس ( اللاويين 17:11 ) وبدون سـفك دم لا تحصـل مغفرة (
العبرانيين 9 : 12 ).
كيف نرث دم الخطية ؟
أوضـح الكتـاب المقدس أن دم آدم الذى تدنـس
بالخطية وشـوكة
المـوت
(
كورنثوس الأولى 15 : 55 ) إنتقل إلينا بالوراثة أبا عن جد عن طريق زرع
الرجل, وهذا ما أوضحه سليمان الحكيم بقوله:
صورت جسدا فى جوف أمى .. و .. صنعت من الدم
بزرع الرجل ( الحكمة 7 : 1 , 2 ).
من هذه الآية يتضح أن أجساد البشر تتشكل فى
الرحم من بويضة الأنثى. أما الدم فيصنع من زرع الرجل الذى يخصب البويضة
ويمنحها الدم الذى هو سائل الحياة المدنس بالخطية وشوكة الموت, وهذا ما
أوضحه داود النبى بقوله :
هأنذا بالإثم صورت، وبالخطية ( أى بالدم المدنس
بالخطية وشوكة الموت
) حبلت بي أمي ( مزمور 51 : 5 ).
وأثبت بولس الرسول أن العالم كله صنع من دم
واحد بقوله:
صنع من
دم واحد
كل الأمم الساكنين على كل وجه الأرض ( أعمال 17 : 26 ).
من ذلك يتضح أن الدم الذى يسرى فى أجساد البشر
فى كل أنحاء العالم هو دم آدم الحامل شوكة الخطية والموت.
من أجل ذلك كإنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم
وبالخطية الموت, وهكذا إجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع (
رومية 5 : 12 ).
كيف نخلص من دم الخطية والموت
انتهينا فيما سبق إلى أنه بخطية الواحد قد ملك
الموت على جميع الناس, وأن الدم يكفر عن الدم.
ولكن من هو الفادى الذى يمكنه أن يبذل دمه عنا
ولا يمسك من جسد الموت مثلنا ( أعمال 2 : 24 ).
من هو الذى يقدر أن يأتى إلى العالم مولودا
بدون زرع رجل حتى يكفر بدم بلا عيب ولا دنس عن دم العالم.
من هو القادر أن يأتى إلينا بروح محيى (
كورنثوس الأولى 15 : 45 ) أى روح له القدرة على إبطال الموت وإقامة
الأجساد.
من هو
إلا
الذى شهد له المعمدان عندما نظره مقبلا إليه قائلا :
هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم ( يوحنا
1 : 29 ).
وهذا ما أثبته أيضا بطرس الرسول بقوله:
" عالمين إنكم أفتديم .. بدم كريم كما من حمل
بلا عيب
ولا دنس دم المسـيح " ( بطرس الأولى 1 : 18 - 19 ).
وهذا ما أثبته أيضا بولس الرسول بقوله :
" الذى بروح أزلى قدم نفسه ( أى دمه ) لله
بلا عيب
" ( العبرانيين 9 : 14 ).
" فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضا قيامة
الأموات لأنه كما
فى آدم يموت الجميع
هكذا فى المسيح سيحيا الجميع " ( كورنثوس الأولى 15 : 21 - 22 ).
مشيرا بذلك إلى أننا جميعا نرث الخطية والموت من آدم
الأول وأننا فى آدم الثانى ننال القيامة من الأموات.
وهذا ما أوضحه الرب نفسه بقوله لنيقوديموس "
وكما رفع موسى الحية فى البرية هكذا ينبغى أن يرفع ابن الإنسان لكى لا
يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه هكذا أحب الله
العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة
الأبدية " ( يوحنا 3 : 14 - 17 ).
وأيضا قوله لتلاميذه " أن ابن الإنسان لم يأت
ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فديـة عن كثيرين " ( متى 20 : 28 ).
وأيضا قال الرب لتلاميذه :
خذوا كلوا هذا هو جسدي وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم
قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد
الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ( متى 26 : 26 - 28 ).
فالمسيح قدم نفسه ذبيحة ليكفر بدمه عن دم البشر
جميعا لأنهم جميعا صنعوا من واحد هو آدم ( أعمال 17 : 26 ).
وقد
حمل
هو نفسه
خطايانا فى جسده
على الخشبة لكى نموت عن الخطـايا ( بطرس الأولى 2 : 24 ).
عالمين هذا أن إنساننا العتيق ( أى الجسد
الحيوانى الحى بالدم ) قد صلب معه ليبطل
جسد الخطية
كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية ( رومية 6 : 6 ).
وبه ( أى بالمسيح ) ختنتم ختانا غير مصنوع بيد
بخلع جسم خطايا البشرية
( بموت الدم ) بختان المسيح ( أى بمعمودية المسيح ) مدفونين معه فى
المعمودية التى فيها أقمتم أيضا معه .. وإذ كنتم أمواتا فى الخطايا وغلف
جسدكم أحياكـم معه ( كولوسى 2 : 11 - 13 ).
فالله إذ
أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد
لكي يتم حكم الناموس فينا .. وإن كان المسيح فيكم،
فالجسد ( الدم ) ميت بسبب الخطية،
وأما الروح ( الروح القدس ) فحياة بسبب البر, وإن كان روح الذي أقام يسوع
من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم
المائتة أيضا بروحـه الساكن فيكم ( رومية 8 : 3 ).
وهذا ما تحقق فى المعمودية التى فيها نولد
ثانية ليس من زرع يفنى. بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى
الأبد ( بطرس الأولى 1 : 23 ).
وهذا ما أعلنه الرب نفسه بقوله " إن كان أحد لا
يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله " ( يوحنا 1 : 13 ).
لهذا أمر الرب تلاميذه أن يذهبوا ويتلمذوا جميع
الأمم ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.
لهذا فإن من يؤمن ويتعمد باسم الرب " يولد ليس
من دم .. ولا من مشيئة رجل بل من اللـه " ( يوحنا 1 : 13 ) الذى سيحيي
أجسادنا المائتة بروحـه الساكن فينا ( رومية 8 : 3 ) لأن كل من تعمد باسم
يسوع المسيح يتعمد لموته ودفنه وقيامته .. لأنه إن صرنا متحدين معه فى
شبه موته نصير أيضا بقيامته .. فإن كنا قد متنا مع المسح نؤمن أننا سنحيا
أيضا معه ( رومية 6 : 3 - 9 ).
المبحث الثالث
هل روح الإنسان محيية ؟
إلا أن الحق المعلن كتابيا أن نفخة الله فى أنف
آدم صيرته نفسا حية أى حيا بالدم كسائر الحيوانات من ذوات الأنفس الحية (
تكوين 1 : 24 ) وأن موت الإنسان كموت الحيوان ونسمة
واحدة للكل .. كلاهما من التراب وإلى التراب يعـود كلاهمـا ( الجامعة 3 :
19 - 20 ).
المبحث الرابع
لماذا ولد المسيح بدون زرع
بشر؟
لما كان تدبير الخلاص يقتضى ظهور الله فى جسد
ضعفنا. فإن السؤال هو كيف يظهر الله الكلمة بين الناس فى جسد حى بالدم
نظيرنا بلا خطية ؟
منطقيا لم يكن هناك حل إلا أن يولد المسيح من
امرأة ليأخذ منها جسدا بشريا مثل أجسادنا إنما بدون زرع بشر حتى لا يرث
دم الخطية الذى نرثه أبا عن جد.
لذلك دبر الله من أجل خلاصنا أن يحل بقوته على
العذراء ليظللها حتى يصنع لنفسه بنفسه دما كريما بلا عيب ولا دنس يخصب به
البويضة التى يتشكل منها جسده البشرى, وهكذا صار دم المسيح وحده بلا خطية
كدم آدم قبل السقوط.
وبداهة أنه إذا ولد المسيح من أبوين كسائر
البشر فإنه يسقط بذلك شرطا جوهريا من شروط الفادى والمخلص وهو أن يكون
بلا خطية لأن دم الحياة البشـرية المدنس بالخطية أصله محمول علي زرع
الرجل. فإذا ولد الفادى بواسطة اجتماع رجل وامرأة يصير مثل البشر خاطئا
ومولودا بالخطية.
وإذا قال قائل وكيف لا يكون الجسد المأخوذ من المرأة
وحدها بلا خطية بما أن المرأة ذاتها من الجبلة المدنسة بالخطية ؟ نقول أن
دم الحياة ومصدره الحيوان المنوى ليس من المرأة بل من الرجل وما المرأة
إلا مستودع تتربى فيه خلية الزيجوت المخصبة بالدم كما تتربى البذرة فى
جوف الأرض.
وقد ثبت علميا أن دورة دم الجنين منفصلة تماما
عن دورة دم الأم, وكثيرا ما تكون فصيلة دم الجنين من فصيلة تختلف عن
فصيلة دم الأم.
من ذلك نرى أن الجسد مصدره بويضة المرأة والدم
مصدره زرع الرجل أى أن الجسد والدم هما نتاج اجتماع الذكر والأنثى الأمر
الذى أثبته سليمان الحكيم بقوله :
صـورت جسـدا فـى جـوف أمـى .. وصنعت مـن الـدم
بـزرع الرجـل ( الحكمة 7 : 1 - 2 ).
ولما كان الجسد مصدره المرأة فيكون أن كل من
ينتسبون بقربة من جهة المرأة يكونون من لحم وعظم واحد. وهذا ما أثبته
الكتاب المقدس ذلك إذ جاء فيه أن لابان قال ليعقوب ابن أخته إنما أنت
عظمي ولحمي ( تكوين 29 : 13 - 14 ).
أما الذين عصبتهم من جهة الرجل فيقولون إنما نحن دم واحد.
ولما كان الدم مصدره الرجل فيتضح من ذلك أن
الدم الذى يسرى فى أجساد جميع البشر هو دم آدم الذى يرثونه أبا عن جد,
وفى هذا يقول الكتاب :
صنع من دم واحد ( دم آدم ) كل أمة من الناس
يسـكنون على كل وجه الأرض ( أعمال 17 : 26 ).
لهذا عندما أراد الله الكلمة أن يتخذ لنفسه
جسدا بلا خطية ليظهر به فى الهيئة كإنسان أرسل روحه القدوس فحل على مريم
وظللها بقوة العلى أى بصورة الآب فأخصب بويضتها بقوته فصارت البويضة نفسا
حية أى حية بالدم.
وهذا ما بشر به الملاك العذراء مريم بقوله "
الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك لذلك القدوس المولود منك يدعى ابن
الله ".
لهذا كان دم المسيح هو الدم الوحيد الطاهر الذى
بلا عيب ولا دنس لكونه الوحيد الذى ولد بدون زرع بشر الأمر الذى أثبته
رسل الرب بالروح القدس القائل :
عالمين إنكم أفتديتم ..
بدم
كريم كما من حمل
بلا عيب ولا دنس
دم المسـيح ( بطرس الأولى 1 : 18 ) الذى
بروح أزلى
قدم نفسـه ( أى دمـه ) لله بلا عيب ( العبرانيين 9 : 14 ).
وهكذا اتخذ كلمة الله جسدا قابلا للموت مثل
أجسادنا لكى بموته يبطل موت الجسد بتصييره روحانيا أى محييا بالروح القدس
الذى هو روح المسيح المحيى.
لهذا إذ إلتقى الموت بجسد المسيح إبتلع ولم يعد
له وجود إذ صار جسد المسيح محييا أى مقاما من الموت بالروح القدس المحيى,
وبهذا صار المسيح باكورة بالقيامة من الأموات بالروح المحيى الذى أعطانا
إياه فى المعمودية التى هى شركة مع المسيح فى موته وقيامته لأنه إن
اشتركنا معه فى شبه موته نشترك أيضا فى قيامته بروحه الساكن فينا ( رومية
6 : 3 - 11 ) ( رومية 8 : 9 - 11 ).
المبحث الخامس
جسـد القيامة
يقول بولس الرسول :
لكن يقول قائل كيف يقـام الأموات وبأى جسـم
يأتون؟ يا جاهل الذى تزرعـه لا يحيا إن لم يمت والذى تزرعه لست تزرع
الجسم الذى سوف يصير .. هكذا أيضا قيامة الأموات يزرع فى فساد ( أى قابل
للعطب ) ويقام فى عدم فساد .. يزرع جسـما حيوانيا ( أى حى بالدم ) ويقام
جسما روحانيا ( أى محييا بالروح القدس ) يوجد جسم حيوانى ويوجد جسم
روحانى.
هكذا مكتوب أيضا صار آدم الإنسان الأول نفسا
حية ( أى حيا بالدم ) وآدم الأخير ( أى المسيح ) روحا محييا (
أى مقاما بالروح
القدس المحيى الذى هو
روح القيامة والحياة الذى سيبطل موت جسد البشرية ويقيمها بأجساد
روحانية أى بأجساد محيية بالروح القدس ) لكن ليس الروحـانى أولا بل
الحيـوانى ثم بعـد ذلك الروحانى .. لأن لحمـا ودمـا لا يقدران أن يرثا
ملكوت الله.
هو ذا سـر أقولـه لا نرقـد كلنا ولكننا
كلنا نتغير
فى لحظـة فى طرفـة عين عنـد البوق الأخير. فإنه سيبوق فيقام الأمـوات
عديمى فسـاد
ونحن نتغير.
لأن هـذا الفاسـد لابد أن يلبس عدم فسـاد وهذا المائت يلبس عدم موت, ومتى
لبس هـذا الفاسـد عدم فسـاد ولبس هذا المائت عدم موت. فحينئذ تصير
الكلمـة المكتوبـة إبتلـع الموت إلى غلبـة أين شـوكتك يا مـوت أين غلبتـك
يا هاويـة ( كورنثوس الأولى 15 : 35 - 55 ).
فالمسـيح آدم الأخير كما يقول بولس الرسول "
روحا محييا " وقـد دعى بأنـه " آدم الأخير " بسبب تجسـده وصيرورته أبا
جديدا للبشرية التى تتحول فيه بالميلاد الثانى إلى خليقـة جديدة حية ليس
بدم آدم الأول المائت بل بروحه المحيى غير المائت.
فالمسيح آدم الأخير رغم أنه بالطبيعة روحا محييا
إلا أنه اشترك معنا فى اللحم والدم القابل الموت لكى يموت موتنا بموت
الدم وهو ما تحقق بالفعل على خشبة الصليب بسفك دمه الذى بلا عيب ولا دنس.
عندئذ فى لحظة فى طرفة عين تغير جسـده بأن صـار غير مائت لأنه وإن ذاق
موتنا بحسب الدم لكنه كان محييا أى مقاما من الموت بالروح المحيى ( بطرس
الأولى 3 : 18 ).
من ذلك نرى أن المسيح لم يمسك من جسد الموت
لحظة واحدة ولا طرفة عين لأنه بمجرد موت النفس الحية صار جسده محييا أى
مقاما من الموت بالروح القدس المحيى لأنه وحده الذى له عدم الموت.
وفى هذا يقول القديس كيرلس :
إن الله الكلمة صار يدعى آدم الأخير لأنه صـار
البداية الجديدة للذين على الأرض لأن الخليقة الإنسـانية تحولت فيه إلى
الحياة الجديدة حياة عدم الفساد بالقيامـة من الأموات. هكذا صارت نهاية
الموت. لأن الذى بالطبيعة هو الحيـاة لم يقبل أن يخضع جسـده للفسـاد ( أى
لعطب الجسـد الناجم عن موت النفس الحيوانية أى الدم لأن الجسد صار فورا
محييا بالروح القدس ) لأنه لم يكن ممكنا أن يسـود الموت على المسيح (
أعمال 2 : 24 ) وبذلك أنعم علينا بالحياة وصارت الحياة هى العطية الصالحة
التى نلناها منه ( المسيح واحد 12 ص 100 ).
لهذا نسبحه قائلين :
قدوس الله قدوس القوى قدوس الذى لا يموت الذى
صلب عنا إرحمنا.
فالله الآب أرسـل ابنه الوحيد إلى العالم لكى
نحيا به ( يوحنـا الأولى 4 : 9 ) لا لكى تحييه روح إنسانية تحتاج إلى من
ينقذها ويقيم جسدها من الموت.
وفى هذا يقول هذا المبتدع :
وهكذا بصورتنا ( أى بالنفس الإنسانية العاقلة
حسب المفهوم النسطورى ) التى صارت صورته ( أى روحه حسب نسطور ) اختبر
موتنا لكى يؤسس بها القيامة عندما تعود نفسه الإنسانية العاقلة من الجحيم
وتتحد بجسده فى القبر وبذلك يبيد الموت بالموت. أما أنتم الذين تؤمنون
بجسد بلا نفس ( أى بلا روح إنسانية عاقلة ) فأنتـم تعجزون عن فهم الخطيـة
والدينونـة وانقضـاء المـوت وكمـال القيامـة ( ظهور المسيح المحيى فقرة
17 ).
وهكذا قلب التنين الجديد تدبير الخلاص كله رأسا
على عقب فصار الله هو المحتاج إلى الخلاص والقيامة من الموت بعودة الروح
الإنسانية إليه.
ويبدوا أن نسطور كان يرد على كتابات
لكيرلس فأورد عرضا بالفقرة رقم 17 من مؤلفه " ظهور المسيح المحيى "
المنسوب زورا للقديس أثناسيوس الرسولى دفع لكيرلس يقول فيه "
إذا كان الكلمة قد مات واحتاج إلى آخر لكى يقيمه وانتصر على الموت فلا
يكون نصر الكلمة بل نصر الذى أقامه
" مفنـدا بذلك معتقد نسطور القائل بأن الكلمة كان متحدا بالجسد المائت فى
القبر كسائر الموتى منتظرا عودة الروح الإنسانية إليه لتقيمه من الموت فى
اليوم الثالث.
من ذلك يتضح أن المعتقد النسطورى يقلب تدبير الخلاص رأسا على عقب.
أما التعليم الأرثوذكسى المتفق مع الحق الكتابى
فقد أعلنه أثناسيوس الرسولى فى عبارة وجيزة بقوله :
أن المسيح بعد أن أتى ببراهين كثيرة تثبت أنه
الله. قدم هيكله للموت عوضـا عن الجميع. أولا لكى يحرر البشـر من
الخطية الجدية
( التى نرثها من خلال دم آدم أبا عن جد ) وثانيا لكى يظهر أنه أقوى من
الموت بإظهاره أن جسده عديم الفساد كباكورة لقيامة الجميع ( تجسد الكلمة
20 : 2 ).
الفصل الثانى
المسيح فصحنا
يقول بولس الرسول :
أن فصحنا ( ذبيحنا ) المسيح قد ذبح لأجلنا (
كورنثوس الأولى 5 : 7 ).
وطبقا لشريعة الفصح دخل المسيح ( حمل الله الذى
يرفع خطية العالـم ) أورشليم فى يوم الأحد العاشر من نيسان ليكون تحت
الحفظ أربعة أيام حتى اليوم الرابع عشر من الشهر ( الأربعة أيام هى مدة
رمزية تشير إلى مدة بقاء البشرية تحت حكم الموت لمدة 4000 سنة حتى مجىء
المسيح الذى أبطل موتها بدم صليبه. لهذا أيضا أقام المسيح لعازر من الموت
بعد أن ظل ممسكا من الموت فى القبر لمدة أربعة أيام كرمز لإحياء البشرية
وإقامتها من الموت بمجىء المسيح فى الجسد بعد 4000 سنة من خلق آدم ) ثم
طبقا لتلك الشريعة يذبح الخروف فى عشية اليوم الخامس عشر الذى هو أول
أيام الفطير الذى يبدأ بانقضاء نهار الخميس وينتهى بانقضاء نهار الجمعة.
وحسب ناموس موسى يأخذون من دم الخروف ويمسوا به
العتبة العليا والقائمتين فى البيوت التى يأكلون فيها الفصح فلا تكون
عليهم ضربة الموت.
ثم بعد العشاء أخذ يسوع الحمل الحقيقى خبزا
وخمرا إذ هو كاهن إلى الأبد على طقس ملكى صادق ليس بحسب وصية جسدية بل
بحسب قوة حياة لا تـزول لأن أولئك بدون قسم قد صاروا كهنة وأما هو فبقسم
من القائل له أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكى صادق
( العبرانيين 7 : 16 - 22 ) وأعطى تلاميذه قائلا خذوا كلوا هذا هو جسدى
وأعطاهم الكأس أيضا قائلا خذوا اشربوا منه كلكم لأن هذا هو دمى الذى
للعهد الجديد الذى يسفك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا اصنعوا هذا لذكرى
( متى 26 : 28 ) ( لوقا 22 : 19 ).
وهكذا بذبيحة نفسه صنع يسوع الفصح الحقيقى
وأعطى تلاميذه جسده ودمه الذى للعهد الجديد الذى يسفك من أجل كثيرين
لمغفرة الخطايا.
وكانت شريعة الفصح تقضى بألا تكسر عظم من
عظامه لهذا تنبأ داود قائلا :
" أنه يحفظ جميع عظامه واحد منها لا
ينكسر " ( مزمور 34 : 20 ).
الأمر الذى أشار إليه يوحنا الإنجيلى بقوله :
أتى العسكر وكسروا ساقى الأول والآخر المصلوب
معه وأما يسوع فلم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات. لكن واحد من العسكر
طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء والذى عاين شهد .. لأن هذا كان ليتم
الكتاب القائل عظم لا يكسر منه وأيضا يقول كتاب آخر سينظرون إلى الذى
طعنوه ( يوحنا 19 : 32 - 37 ).
فالفصح اليهودى لم يكن سوى رمز للفصح الحقيقى
الذى هو المسيح الذى بمجيئه بطل الرمز الأمر الذى أوضحه بولس الرسول
بقوله :
لأن فصحنا أيضا المسيح قد ذبح لأجلنا ( كورنثوس
الأولى 5 : 7 ).
أى أن المسيح هو خروف فصحنا الذى افتدانا بدمه
الأمر الذى أثبته الرسول بقوله " عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى ..
بل بدم طاهر كما من حمل ( خروف ) بلا عيب ولا دنس دم المسيح الذى وإن كان
معروفا منذ القديم قبل إنشاء العالم لكنه أظهر فى الأزمنة الأخيرة لأجلكم
( بطرس الأولى 1 : 18 - 20 ) الذى بروح أزلى قدم نفسه ( دمه ) لله بلا
عيب ( العبرانيين 9 : 14 ) يبطل الخطية بذبيحة نفسـه " ( العبرانيين 9 :
26 ).
فالمسيح هو فصحنا ( ذبيحنا ) من يأكله يحيا به
( يوحنا 6 : 57 ) فلا تكون عليه ضربة الموت لأن من يأكل منه لا يموت (
يوحنا 6 : 50 ).
لهذا قال رب المجد يسوع المسيح :
الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن
الإنسـان وتشربوا دمه فليس لكـم حياة فيكم. من يأكل جسدى ويشرب دمى فله
حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير .. من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت
فى وأنا فيه. كما أرسلنى الآب الحى وأنا حى بالآب فمن يأكلنى فهو يحيا بى
( يوحنا 6 : 53 - 57 ).
من ذلك نرى أن المسـيح هـو حمـل الله الحقيقى
الذى يرفع خطيـة العالــم ( يوحنا 1 : 29 ) وهو فصحنا من يأكله يحيا به.
الفصل الثالث
القدوس الذى لا يموت
المبحث الأول
الميت الحى
يقول لوقا البشير أن يسوع على الصليب صرخ بصوت
عظيم قائلا :
"يا أبتاه فى يديك أستودع روحى ولما قال هذا
أسلم الروح" ( لوقا 23 : 46 ).
لقد صرخ يسوع بصوت عظيم معلنا أنه ابن الله
الوحيد بقوله يا أبتاه الذى هو واحد معه فى جوهر اللاهوت. فى يديك أى فى
صورة مجدك أستودع روحى أى الروح القدس المحيى الذى هو روح الآب أيضا,
ولما قال هذا أستودع الروح أى أودعها فى يدى الآب أى فى صورة الآب الذى
هو المسيح بهاء مجد الآب ورسم جوهره.
والسـؤال المطروح هـو إذا كان الثالوث فعل واحد
فلماذا صرخ الابن قائـلا : " يا أبتاه فى يديك أستودع روحى " ؟
الواقع أن هذه الصرخة كانت من أجل التدبير حتى
لا يظهر المسيح قيامته وقيامة الذين أقامهم معه فورا فيكون الإنقضاء
ونهاية الدهر. لهذا ستر المسيح حياته كباكورة فى يدى الآب أى فى يدى نفسه
إذ هو صورة الآب من رآه فقد رأى الآب.
وأيضا كانت الصرخة إعلانا للمختارين بأن
أرواحهم منذ هذه اللحظة لن تمسك من جسد الموت فى القبر كالسابق بل سوف
تستودع فى يدى الآب ( أى فى يدى المسيح صورة الآب ) لتكون مع المسيح فى
الفردوس حتى اليوم الأخير لأن حياتنا الآن مستترة مع المسيح حتى متى أظهر
المسيح حياتنا فحينئذ نظهر معه فى المجـد ( كولوسى 3 : 3 - 4 ).
لأن المسيح وإن مات موتنا على الصليب بسفك دمه
إلا أن جسده كان محييا أى مقاما من الموت بروحه المحيى أى بالروح القدس (
بطرس الأولى 3 : 19 ) إذ لم يكن ممكنا أن الذى هو الحياة والمحيى يمسك من
جسد الموت مثلنا لأنه وحده الذى له عدم الموت. لهذا إذ إلتقى الذى هو
الحياة والمحيى بالموت فى جسده الخاص على الصليب أباد الموت أى ابتلعه
كما تبتلع الظلمة من النور.
وبهذا صار المسيح هو البداءة بكر من
الأموات .. عاملا الصلح بدم صليبه .. ليحضرنا قديسين وبلا لوم أمامه (
كولوسى 1 : 18 - 22 ).
لهذا إذ أحنى الرب رأسه معلنا تمام الفداء إنشق
فى الحال حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل ( كإعلان عن تمام
المصالحة وزوال الحجاب الفاصل بين الله والناس بإبطال الخطية والموت
وردنا إلى الفردوس ) والأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت وقام
كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته, ودخلوا
المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين ( من الواضح وجود ربط بين حدثى الصلب
والقيامة لأن المسيح وإن أبطل الموت على الصليب بروحه المحيى
إلا أنه لم يظهر قيامته فورا إلا فى اليوم الثالث وعليه فأن قيامة
أجساد القديسين الراقدين إنما كانت بعد قيامته ) ( متى 27 : 51 - 53 ).
فالمسيح وإن مات على الصليب من ضعف الجسد بسفك
دمه الطاهر لكنه كان حيا بقوة روحه المحيى. لأن جسده تغير فى لحظة فى
طرفة عين بأن ألبس الكلمة جسده المائت عدم موت بقوة روحه القدوس مبطلا
موت الجسد حينئذ صارت الكلمة المكتوبة إبتلع الموت إلى غلبة ( كورنثوس
الأولى 15 : 42 - 54 ).
هذا التحول من الجسد الحيوانى للجسد الروحانى
هو ما حدث على الصليب فبمجرد موت المسيح بسفك دمه صار جسده مقاما بروحه
المحيى الذى هو الروح القدس وبهذا صار المسيح باكورة بالقيامة بالجسد
الروحانى الممجد.
وهكذا بإبطال الموت على الصليب إنشق فى الحال
حجاب الهيكل إلى إثنين من فوق إلى أسفل كإعلان عن تمام المصالحة وزوال
الحجاب الذى كان يفصل بين الله والناس وردنا إلى الفردوس الأمور التى ما
كانت لتتم إلا بإبطال موت البشرية ممثلة فى آدم الأخير رأس الخليقة
الجديدة الروحانية أى المقامة بالروح القدس. لهذا أيضا تزلزلت الأرض
والصخور تشققت والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين
وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة أى أورشليم السمائية
فردوس الله وظهروا لكثيرين.
والواقع أن فى الإشارة إلى دخول الذين أقيموا
من الموت للمدينة المقدسة برهان على أنها الفردوس الذى فتح أبوابه لقبول
أرواح المؤمنين كروح لص اليمين والذين أقيموا من العالم الأول باستحقاقات
دم المسيح على الصليب. ذلك أن المحقق كتابيا أن الفردوس وأورشليم
السـمائية هما موضع واحـد تقع فى وسطه
شـجرة الحيـاة
( رؤيا 2 : 7 ) ( رؤيا 22 : 1 , 2 , 14 )
وأن سماء الفردوس أى السماء الثالثة ( كورنثوس
الثانيـة 12 : 2 ) تقـع فى أقاصى الشـمال الكونى ( إشعياء 14 : 12
- 15 ) ( حزقيال 28 : 13 - 17 ) ( رؤيا 21 :
10 ).
وقد أشار بطرس ملمحا إلى أن الرب بشر الذين من
العالم الأول الذى فنى بالطوفان بما يقوم دليلا على أن الذين قاموا من
الموت هم من أبرار هذا العالم الذى إنتهى بالطوفان ( بطرس الأولى 3 : 18
).
كما أثبت بطرس الرسول أن المسيح وإن كان مماتا
فى الجسد ( أى بحسب الدم باعتباره المكون الجسدى القابل الموت ) ولكن
محيى ( أى مقام من الموت ) فى الروح ( بطرس الأولى 3 : 18 ).
وهذا برهان على أن المسيح بالموت على الصليب
داس الموت وأبطله. بمعنى أن جسد المسيح وإن ذاق موتنا بموت الدم إلا أن
جسده لم يخضع للموت ولو للحظة واحدة لأنه فى اللحظة التى لفظ فيها نسمته
صار جسده محييا أى مقاما من الموت بالروح القدس المحيى.
وأما عن قيامة الأموات الراقدين من عصر ما قبل
الطوفان فهناك إشارة فى الإنجيل بحسب متى تؤكد تحققها بعد قيامة المسيح
وخروجه من القبر.
والواقع أن ما حدث على الصليب هو عين ما سيحدث
للقديسين الأحياء فى اليوم الأخير فى لحظة الإختطاف لأنهم فى لحظة فى
طرفة عين سيتغيرون مماتين فى الجسـد بموت الدم ولكن مقامين من الموت
بالروح القدس المحيى على مثال ما حدث على الصليب مع الفارق أننا نأخذ
الروح كنعمة أما هو فبروحه الذاتى.
من ذلك نرى أن قول نسطور بأن روح إنسانية هى
التى أحيت جسد المسيح بعودتها إليه فى اليوم الثالث يضاد الحق الكتابى
المعلن بأن قيامة المسيح وقيامتنا إنما هى بروحه المحيى الذى هو الروح
القدس. فضلا عن أن قوله بأن روح إنسانية هى التى أحيت جسد المسيح المائت
إنما يكشف عن ذهن عاطل عن إدراك أبسط المسلمات البديهية وهى أنه إن كانت
أرواح البشر محيية كروح الرب المحيى لصرنا مثله غير مائتين وما كنا نمسك
من جسد الموت أبدا.
الوحيد الذى له عدم الموت ( تيموثاوس الأولى 6
: 16 ) أى الذى لا يمكن أن يمسك من الموت مثلنا ( أعمال 2 : 24 ) (
كورنثوس الثانية 13 : 4 ) هو المسيح الذى بروح أزلى ( العبرانيين 9 : 14
) أبطل موت جسده ليصير باكورة الراقدين مماتا فى الجسد ولكن محيى فى
الروح الذى فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التى فى السجن إذ نزل من قبل
الصليب إلى أقسام الأرض السفلى. الذى نزل هـو الذى صعد أيضا فوق جميع
السماوات لكى يملأ الكل ( أفسس 4 : 9 - 10 ).
فالمسيح ليس إنسانا مثلنا يمكن أن يملك عليه
الموت كسائر البشر بل هو حكمة الله الممسوح منذ الأزل الذى أتى إلينا فى
الجسـد من أجل أن يقيمنا من الموت بروحه المحيى فنحيا به لأنه فيه وحده
كانت الحياة ( يوحنا 1 : 4 ) لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيى كذلك
الابن أيضا يحيى من يشاء ( يوحنا 5 : 21 ).
لهذا قال لمرثا أخت لعازر :
أنا هو
القيامة والحياة
من آمن بى ولو مات فسيحيا وكل من كان حيا وآمن بى فلن يموت إلى الأبد.
أتؤمنين بهذا ؟ فقالت له نعم يا سيد أنا قد آمنت
أنك أنت المسيح ابن الله الآتى إلى العالم
(
يوحنا 11 : 25 - 28 ).
المبحث الثانى
الثلاث تقديسات
بعد أن أحنى يسوع رأسه على الصليب بإرادته وحده
معلنا أنه مات موتنا جاء رجل من الرامة اسمه يوسف يطلب الجسد من بيلاطس
الذى لما علم من قائد المئة أن يسوع قد مات وهب الجسد ليوسف الذى اشترى
كتانا نقيا ليكفن به جسد الرب.
وجاء أيضا نيقوديموس وكان من رؤساء اليهود وهو
الذى كلمه يسوع عن المعمودية والميلاد الثانى ومعه مزيج من مر وعود نحو
مئة منا.
فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب كعادة
اليهود ( يوحنا 19 : 41 ).
وجاء فى التقليد أن نيقوديموس لما رأى السيد مائتا
أخذه العجب واستولى عليه الذهول متسائلا كيف يموت رئيس الحياة الذى أقام
لعازر من الموت بعد أربعة أيام فصرخ قائلا " يارب. أين جبروتك؟ " وللحال
سمع الصديقان يوسف ونيقوديموس الملائكة يسبحون الله قائلين قدوس الله
قدوس القوى قدوس الذى لا يموت عندئذ إلتفت إليه يسوع فارتعد نيقوديموس
وصرخ قائلا يا من صلبت عنا إرحمنا
.
وهكذا أدرك الصديقان يوسف ونيقوديموس سر
التدبير فشرعا يكفنان جسـد الرب وهم يسبحانه قائلين " قدوس الله قدوس
القوى قدوس الذى لا يموت الـذى صلب عنا إرحمنا ".
وجاء فى قانون الدفن الذى يتلى فى يوم الجمعة
العظيمة ما يثبت ذلك إذ جاء فيه ما نصه :
" أتى الصديقان يوسف ونيقوديموس وأخذا جسد
المسيح وجعلا عليه طيبا وكفنـاه ووضعـاه فى قبر وسـبحاه قائليـن قدوس
الله قدوس القوى قدوس الذى لا يموت الذى صلب عنا إرحمنا ".
ثم فى القرن الخامس عندما ظهرت بدعة نسطور
المنكرة للاهوت المسيح وولادته وصلبه وقيامته استخدم الأرثوذكس الثلاث
تقديسات فى إثبات فساد المعتقد النسطورى وإثبات صحة المعتقد الأرثوذكسى
بأن يسوع المسيح هـو الله القدوس الذى لا يموت الذى ولد وصلب وقام.
عندئذ أصدر نسطور تعليماته باستقطاع الجزء الأخير من
الثلاث تقديسـات التى ترتلهـا الكنائـس فى صلواتهـا لأن عقيدتـه قائمـة
على أسـاس أن الله القدوس لا يولد ولا يصلب ولا يقوم من الموت وأن هذه
الأمور مختصة بالإنسان يسوع المسـيح المولود من مريم الذى اتحد به الله
الكلمة وبالتالى فإن التعليم الأرثوذكسى فى نظره هرطقة لأنه فى نظره يعنى
ولادة الله وموتـه وصلبـه. لهذا اتهم القائلين بالطبيعـة الواحـدة
اللاهوتية بأنهم ينسبون الولادة والآلام والصلب إلى اللاهـوت ودعاهـم
مؤلمى اللاهـوت زاعمـا أنهم يهينون اللاهوت بقولهـم أنـه قام حيـا
( ظهور المسيح المحيى فقرة 12 ص 30 ).
والواقع أن الله نفسه لا إنسان هو الذى ولد
وصلب وأبطل الموت وأظهر قيامته فى اليوم الثالث رغم أنه كان فى مقدوره أن
يظهر قيامته فورا ولكنه سترها هذين اليومين من أجلنا لأن حياتنا نحن أيضا
الآن مستترة مع المسيح ولكن متى أظهر المسيح حياتنا حينئذ نظهر معه فى
المجد ( كولوسى 3 : 3 - 4 ).
وهذا معناه أن قيامتنا الآن مسـتترة مع المسـيح
الذى ستر قيامته عن العالم ولكن متى أظهر المسيح قيامته حينئذ نظهر معه
فى المجد, وفى هذا يقول هوشع النبى :
يحيينا ( أى يقيمنا من الموت ) بعد يومين ( أى
بعد ألفى سنة من مجيئه الأول ) فى اليوم الثالث ( أى فى يوم إظهار قيامته
للعالم كله بظهور مجيئه ) يقيمنا فنحيا أمامه ( أى نظهر معه فى المجد ) (
هوشع 6 : 1 - 3 ) ( شرح إنجيل يوحنا 2 : 2 ص 187 ).
ولما كان الله الكلمة حسب نسطور لا يولد ولا
يصلب ولا يتألم ولا يقوم من الموت لهذا أوقع هذه الأمور على الإنسان الذى
اتحد به الله الكلمة ثم بموجب الإتحاد المزعوم صارت هذه الأمور الإنسانية
تنسب للكلمة فيقال بسبب ذلك أن الكلمة ولد إنسانيا وتألم إنسانيا وقام
إنسانيا أى بالإنسان المتحد به.
أما عقيدتنا الأرثوذكسية التى نجدها فى تعليم كيرلس فهى كالتالى :
أن ابن الله الوحيد تألم جسديا كما تتألم أرواح البشر جسديا دون أن يمـس
الألم جوهرها. لأن الروح لا يمكن أن يقع عليها شىء مما يقع على الجسد رغم
أنها تستشعر ما يقع بجسدها من عطش وجوع وجلدات وتعذيب رغم أنها فى ذاتها
لا تجوع ولا تعطش ولا تجلد وإن كانت تنفعل وجدانيا.
وفى هذا يقول كيرلس :
من جهة الابن الوحيـد فإننا نؤكد أنه تألم جسديا لأن جسده تألم.
ولكن أولئك يعتقدون أننا بذلك ندخل ما يسمونه هم "
تألم الله
" وهم لا يدركون التدبير لأنهم بخبث شديد يحاولون أن ينقلوا الألم إلى
إنسان متحد به وبذلك يصطنعون بغباوة توقيرا ضارا حتى أن كلمة الله لن
يعترف به أنه مخلص أعطـى دمه الخاص لأجلنا بل بالحرى سيقال أن إنسانا
مثلنا هو الذى أعطى دمه أى أكمل خلاصنا.
ولكن التفكير على هذا النحو يبطل التدبير ويقلب سر عبادتنا عمليا إلى
عبادة إنسان لأنهم لا يفهمون أقوال بولس بأن المسيح الذى حسب الجسد من
نسل داود هو رب المجد وهو الله المبارك إلى الأبد ( رومية 9 : 5 ) وهو
الكائن على الكل. مظهرا أن جسد الكلمة هو جسده الخاص وهو الذى سمر على
الخشبة لهذا السبب نسب الصليب إليه (
الرسالة رقم 46 : 10 ص 101 - 102
).
وردا على هذا يقول نسطور :
إن يوحنا الإنجيلى عندما قال أن " الكلمة صار جسدا " فإن هذا لا يعنى أنه
اتخذ جسدا بدون نفس إنسانية عاقلة حاشا لذلك حينما نقول جسدا فنحن نتحدث
عن إنسان (
الرسالة رقم 46 : 4 ص 97 - 102
).
لذلك إن قال أحد أن المسيح تألم لأجلنا بالجسد فهو لا يقول شيئا آخر سوى
أن المسيح تألم لأجلنا فى طبيعتنا ( أى بالروح الإنسانية ).
ويقول كيرلس أن هذا المجدف قد منح يهود اليوم
دالة عند الله بقوله لهم " إنكم صلبتم إنسانا وليس إلها " ما يؤدى
لتبرئتهم من دم الله الظاهر فى الجسد بقوله أن المسيح الذى صلبوه ليس هو
الله بل مجرد إنسان نظيرنا اتحد به الله الكلمة.
والواقع أن تعليم الاتحاد بين الله الكلمة وإنسان
يسمى المسيح بصرف النظر عن كيفيته المختلف حولها بين أقطاب النسطورية
يضاد التعليم الصحيح الذى تبرأ بولس الرسول من دم كل من ينادى بخلافه
بقوله:
" أشهدكم اليوم هذا أنى برىء من دم الجميع لأنى
لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله. احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية
التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التى اقتناها
بدمه " ( أعمال 20 : 26 - 28 ).
المبحث الثالث
آية يونان النبى
يقول متى البشير أن قوم من الكتبة والفريسيين
سألوا الرب قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم جيل شرير
وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبى. لأنـه كما كان يونان فى
بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان فى قلب الأرض
ثلاثة أيام وثلاث ليال ( متى 12 : 38 - 40 ).
بهذه الكلمات أعلن الرب أنه سيعطى نفسه آية
لجيله فكما كان يونان حيا فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا أيضا
سيكون ابن الإنسان حيـا فى قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال قبل أن يخرج
من جوفها حيا كيونان النبى.
لهذا بعد أن أكمل الرب خلاصنا كما تقدم وأبطل
الموت بموته على خشـبة الصليب المقدسة لم يظهر قيامته فورا لئلا متى أظهر
مجده وظهر أنه عديم الموت حلت الدينونة فورا.
لذلك ستر المسيح حياته وحياة كل الذين أقامهم معه ( متى 27
: 50 - 53 ) وكذا حياة كل الذين يخلصون من بعد باسمه.
وفى هذا يقول بولس الرسول :
إن كنـا قـد صرنـا متحديـن معـه
بشـبه موتـه
نصير أيضـا بقيامتـه ( رومية 6 : 5 ).
بمعنى أننا إن شاركناه فيما يشبه موته مماتين
مثله فى الدم وأحياء بروحه المحيى نصير أيضا بقيامته.
لأن حياتنا ( أى قيامتنا ) الآن مستترة مع
المسيح فى الله ومتى أظهر المسيح حياتنا حينئذ نظهر معه فى المجد (
كولوسى 3 : 3 - 4 ).
لهذا أحنى ابن الله رأسه كمائت وبعد أن
تحقق بيلاطس من موته وهب الجسد ليوسف الذى أنزله وكفنه ووضعه فى قبر
منحوت حيث لم يكن أحد قد وضع به قط وكان يوم الاستعداد ( أى اليوم السادس
الذى يستعدون فيه للسبت ) والسـبت يلوح ( لوقا 23 : 53 - 54 ).
وفى الغـد ( أى فى السبت ) الذى بعد الاستعداد اجتمع
رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس وقالوا له قد تذكرنـا أن ذلك المضل
قال وهـو حى إنى بعـد ثلاثـة أيام أقـوم فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث
لئلا يأتى تلاميذه ليلا ويسـرقوه ويقولون للشـعب أنه قـام من الأمـوات ..
فقال لهم بيلاطس عندكم حراس اذهبوا واضبطوه كما تعلمون فمضوا وضبطوا
القبر بالحراس وختموا الحجـر ( متى 27 : 62 - 66 ).
وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم
يعقوب حنوطا, وباكرا جدا فى أول الأسبوع أتين إلى القبر
إذ طلعت الشمس
وكن يقلن فيما بينهن من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ( مرقس 16 : 1 - 3
) وإذا زلزلـة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر
عن الباب وجلس عليه .. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات ( متى 28 : 1
- 4 ) فجاءت مريم المجدلية إلى القبر
والظلام باق
فنظرت الحجر مرفوعا من القبر ( يوحنا 20 : 1 ) لأنه كان عظيما جدا ( مرقس
16 : 4 ) فقال الملاك للمرأتين لا تخافا أنتما فإنى أعلم أنكم تطلبان
يسوع المصلوب ليس هو هاهنا لأنه قام كما قال ( متى 28 : 5 - 6 ).
من أقوال الإنجيليين يتضح أن الرب وضع فى القبر
فى نهار الجمعـة وظل به ليل ونهار السبت وليل الأحد أى أنه كان فى القبر
يومين وليلتين فى حين أنه ينبغى أن يبقى فى بطن القبر ثلاثة أيام وثلاث
ليال كما قال. فأين اليوم الثالث ؟
الواقع أن هذا اليوم الثالث جاء بطريقة معجزية
لأنه باكرا جدا فى ليلة الأحد والظلام باق جاءت مريم المجدلية ومريم أم
يعقوب إلى القبر وبينما كن فى طريقهن للقبر
إذ طلعت الشمس
بطريقة معجزية فصار نهار اليوم الثالث وبغروبها عاد الليل.
وكانت المجدلية ومريم الأخرى ما يزلن فى الطريق
إلى القبر يقلن فيما بينهن من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر وعندما بلغن
موضع القبر إذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج
الحجر عن الباب وجلس عليـه .. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات فجاءت
مريم المجدلية إلى القبر
والظلام باق
( بغروب شمس اليوم الثالث المعجزية ) فنظرت الحجر مرفوعا من القبر (
يوحنا 20 : 1 ) فقال الملاك للمرأتين لا تخافا أنتما فإنى أعلم أنكم
تطلبان يسوع المصلوب ليس هو هاهنا لأنه قام كما قال.
وهكذا أظهر القبر الفارغ قيامة الرب وخروجه من
القبر والحجر مختوم ومضبوط بالحراسات القائمة حوله والظلام باق.
وهكذا كما كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام
وثلاث ليال هكذا كان ابن الإنسان فى قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال (
متى 12 : 40 ) إلا أنه عجل اليوم الثالث فأشرقت الشمس فى الليل فصار نهار
وبغروبها عاد الليل.
والآية المعطاة لنا من عقد المقارنة بين يونان
والمسيح هى أنه كما كان يونان
حيا
فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا كان المسيح حيا
فى قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.
فالمسيح كما يقول بطرس الرسول " كان مماتا فى
الجسد ( أى حسب الدم باعتباره مكون جسدى ) ولكن محيى فى الروح ( أى مقام
من الموت فى الروح القدس المحيى الذى هو روح القيامة والحياة ) " ( بطرس
الأولى 3 : 18 ).
لهذا قيل عن موت المسيح أنه شبه موت ( رومية 6
: 5 ) لأن المسيح كان كالمائت وهو غير مائت بالطبيعة لأنه وحده الذى له
عدم الموت. لأن الكلمة كان حيا رغم أن جسده كان يذوق الموت ( المسيح واحد
12 ص 88 ).
لأنه وإن مات حسب الجسد بموت الدم لكنه كان
محييا أى مقاما من الموت بحسب الروح القدس المحيى إذ لم يكن ممكنا أن
يمسك المسيح آدم الأخير من الموت أو أن يسود عليه الموت ( الأعمال 2 : 24
) لكونه وحده الحى الذى لا يموت.
لذلك نسبحه قائلين :
قدوس الله قدوس القوى قدوس الذى لا يموت الذى
صلب عنا إرحمنا.
ثبوت إشراق شمس اليوم الثالث المعجزية تاريخيا
أثبت مرقس الرسول أن الشمس أشرقت فى الليل بينما كانت
المجدلية فى طريقها إلى القبر ( مرقس 16 : 1 - 3 ) وعندما وصلت القبر
وجدت الحجر مرفوعا والظلام باق وفقا لشهادة يوحنا ( يوحنا 20 : 1 ) أى أن
قيامة المسيح تحققت عقب غياب شمس اليوم الثالث المعجزية.
والواقع أن هذه الحقائق التى ذكرها الإنجيليون مثبته
تاريخيا إذ جاء فى تقرير أرسله بيلاطس البنطى حاكم اليهودية إلى طيباريوس
قيصر فى روما ما نصه :
فى إحدى المدن الشرقية التى تسمى أورشليم حيث
أقيم فيها معبد الأمة اليهودية. تجمع كل شعب اليهود وأسلموا إلى رجلا
يدعى يسوع وأقاموا ضده اتهامات لا نهاية لها. إلا أنهم عجزوا عن إدانته
فى أى شىء.
لكن كان لهم اتهاما واحدا ضده وهو قوله أن السبت لم
يكن يومهم الصحيح للراحة.
لقد صنع هذا الرجل كثيرا من الشفاء والأعمال
الطيبة فقد جعل العمى يبصرون وشفى البرص وأقام أمواتا وشفى مفلوجين ..
كما أنه عمل عملا أخر عظيما غريبا حتى بين
آلهتنا فقد أقام من الأموات شخصا يدعى لعازر وكان قد مضى على موته أربعة
أيام ..
كما أنه عمل عملا أخر عظيما حتى بين آلهتنا.
فقد أقام من الأموات شخصا يدعى لعازر وكان قد مضى على موته أربعة أيام ..
ثم أن هيرودوس وارخيلاوس وفيلبس وحنانيا وقيافا
ومعهم كل الشعب اسلموه لى لمحاكمته ونظرا لأن كثيرين أثاروا فتنة ضدى فقد
أمرت بصلبه.
وبينما كان يصلب كانت ظلمة على الأرض كلها
واحتجبت الشمس بالكلية وأظلمت السماء رغم أنه كان لا يزال نهارا حتى أن
النجوم ظهرت .. كما أن القمر الذى كان كالدم لم يسطع طول الليل رغم أنه
كان بدرا ..
وفى أول الأسبوع ( ليل الأحد الذى يبدأ من
الساعة السادسة مساء السبت ) حوالى الساعة الثالثة من الليل ( أى نحو
الساعة التاسعة من مساء السبت بتوقيتنا الحالى ويوافق الحادية عشر بتوقيت
جرينش ) توهجت الشمس كما لم تتوهج من قبل وصارت كل السماء لامعة وكما
يأتى البرق فى عاصفة كذلك ظهر فى الهواء رجال ذو هيئة علوية وفى صفوف
جميلة وقد كللهم مجد لا يوصف ومعهم جيوش لا تحصى من الملائكة وهى تنادى
قائلة المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.
وعند سماع أصواتهم تحركت الجبال والتلال ( أى حدثت
زلزلة عظيمة ) وتشققت الصخور وحدثت فجوات فى كل الأرض ( تفتحت القبور )
وفى وسط هذا الرعب
شوهد الموتى يقومون ثانية ..
وهذا ما أشار إليه متى الرسول بقوله "
والأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين
الراقدين وخرجوا من القبور
بعد قيامته
" ( متى 27 : 51 - 53 ).
القسم الثانى
سـر المسيح
The Secret of Christ
المقالة الأولى
المسيح صورة الله الممسوح
منذ الأزل
اعتقد أريوس أن المسـيح هو أول خليقة اللـه وأن
الله خلقه لأجل أعماله أى ليخلق به كل شىء لأن الحكمة ( المسيح ) قال فى
سفر الأمثال حسب إحدى الترجمات " الرب خلقنى أول طريقه من أجل أعماله " (
الأمثال 8 : 22 ).
أما الترجمة المعتمدة للآية فى كتابنا المقدس
حسب النص العبرى فهى :
" الرب قنانـى أول طريقـه من قبـل أعمالـه منذ
القـدم منذ الأزل مسـحت " ( الأمثال 8 : 22 , 23 ).
إن أول ملاحظاتنا على هذه الآية هو أن الحكمة هو
المتكلم بقوله " الرب قنانى أول طريقه من قبل أعماله " وهذا فى حد ذاته
برهان على أن الناطق بروحه فى الأنبياء هو حكمة الله التى قناها الله أول
طريقه أى منذ وجوده من قبل أعماله حتى لا يظن أحد أن الحكمة هو أول أعمال
الله أى من الأعمال وليس قبل الأعمال لهذا يقول الحكمة أيضا " منذ الأزل
مسحت منذ البدء ". أى أنه مسح مسيحا منذ الأزل.
فهل يستساغ عقلا أن يقال عن الممسوح منذ الأزل
أنه مخلوق أى من الأعمال؟
بداهة أنه لا يوجد مخلوق أزلى أى لا بداية له
لأن من كانت هذه صفته لا يعد من الخليقة بل فوق الخليقة لأن الأزلى واحد
هو الله.
إن نص الآية صريح أن الرب قنى الحكمة أى العقل
أول طريقه أى منذ وجوده من قبل أعماله منذ القدم أى منذ الأزل.
فإن سلمنا جدلا بمقولة أريوس الفاسـدة بأن
المسـيح حكمـة الله مخلـوق.
قلنا فمن خلقـه ؟
فإن أجابنا حسب معتقده بأن المسيح حكمة الله
خلق بواسطة حكمة ذاتية لله.
قلنا إن ما تقرره معناه أن الحكمة المخلوقة
يلزم أن تكون من الأعمال أى ضمن الخليقة لا سابقة عليها. أما الحكمة
الذاتية لله فيلزم أن تكون كائنة معه منذ الأزل من قبل أعماله.
ووفقا لأقواله المدونة نعتقد أنه يوافقنا
على ذلك.
وعليه نقول له إذن المسيح هو حكمة الله
الذاتية لأنه
كائن مع الآب منذ الأزل من قبل أعماله
وليس ضمن أعماله بل أن به صنع الله كل أعماله.
لهذا يقول الحكمة أيضا
منذ الأزل مسحت
منذ البدء .. لما ثبت السماوات كنت هناك .. لما رسم أسس الأرض كنت عنده
صانعا ( الأمثال 8 : 23 - 30 ).
فإن كان المسيح مجرد مخلوق فكيف أستطاع أن يقول
عن نفسه أنه مسح منذ الأزل بمعنى أنه كان مسيحا منذ الأزل وأنه عند بدء
كل عمل كان هناك صانعا.
وكيف يكون الحكمة مخلوقا وهو القائل :
اسمع لى يا يعقوب وإسرائيل الذى دعوته
أنا هو.
أنا الأول وأنا الآخر
يدى أسست الأرض ويمينى نشرت السماوات .. لم أتكلم من البدء فى الخفاء.
منذ وجوده أنا هناك
والآن السيد الرب أرسلنى وروحه ( إشعياء 48 : 12- 16 ).
فإذا كان الحكمة مجرد مخلوق فكيف تجاسر أن يقول
عن نفسـه " أنا هـو
"
أى "
أنا الله
" أنا الأول وأنا الآخر منذ وجوده أى منذ وجود الآب الموجود بذاته أنا
هناك.
فمن يكون الأول والآخر مؤسس الأرض وناشر السماوات الكائن مع الآب
أزليا والمرسل من الآب والروح القدس إلا الحكمة الأزلى الرب يسوع المسيح
الذى قال عنه بولس الرسول :
إنه حكمة الله ( كورنثوس الأولى 1 : 24 ) وصورة
الله غير المنظور بكر كل خليقة ( أى أولها بمعنى أنه الكائن قبل كل خليقة
إذ هو الأول والآخر ) الذى فيـه خلق الكل .. ما يرى وما لا يرى .. الكل
به وله قد خلق. الذى هو قبل كل شـىء وفيه يقوم الكل ( كولوسى 1 : 15 -
17 ).
والواقع أن الحكمة عندما قال عن نفسه :
" الرب قنانى أول طريقه من قبل أعماله منذ
القدم. منذ الأزل مسحت منذ البدء .. لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعا "
( الأمثال 8 : 22 - 30 ).
فإن هذا المفهوم لا يختلف عن مفهوم بدأة إنجيل
يوحنا القائل :
فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان
الكلمة الله. هذا كان فى البدء عند الله. به كان كل شىء وبغيره لم يكن
شىء مما كان.
فالحكمة أول طريق الله عبر عنها يوحنا
بالقول " فى البدء كان الكلمة ".
والحكمة قناها الله عبر عنها يوحنا بالقول "
والكلمة كان عند الله ".
وقوله كنت عنده صـانعا عبر عنها يوحنا بالقول "
به كان كل شىء وبغيره لم يكن شىء مما كان ".
لنتقدم الآن بعد أن ولجنا عبر أبواب علم
اللاهوت إلى أعماق السر سر المسيح
غاية الناموس والأنبياء الذى فى أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد
أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح. السر المكتوم منذ الدهور
فى الله خالق الجميع بيسوع المسيح.
لكى يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين .. بواسطة الكنيسة ورسل الرب الذين
عينهم بنفسه ليكونوا شهودا له فى كل المسكونة.
وهذه هى شهادة يوحنا :
الذى كان من البدء ( الأزل ) الذى سمعناه الذى
رأيناه بعيوننا الذى شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة فإن
الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التى كانت عند
الآب وأظهرت لنا ( يوحنا الأولى 1 : 1 - 2 ).
هذا الذى كان من البدء وسمعه الشهود ورأوه بأعينهم
ولمسوه بأيديهم سبق وأعلنه الرب بلسان النبى القائل :
استيقظ يا سيف على
راعى
وعلى
رجل رفقتى
يقول رب الجنود أضـرب الراعى فتتبدد الخراف ( زكريا 13 : 7 ) ( مرقس 14 :
27 ).
والكلمة المعربة رجل رفقتى تعنى أنه رجل كائن
مع رب الجنود منذ الأزل وأنه أنيسه منذ وجوده.
وهذا معناه أن هذا الإنسان أو الأنيس الكائن مع
الله منذ الأزل هو صورة الله بهاء مجده ورسم جوهره وقد استدعى عليه السيف
كناية عن أنه مزمـع أن يذبـح فدية عن أحبائه غنم رعيته.
فمن يكون هذا الإنسان الراعى أنيس الله منذ
الأزل إلا الرب يسوع المسيح نفسه المعين والممسوح أزليا الذى قال عنه
المعمدان :
" يأتى بعـدى
رجل
صـار قدامى لأنه كان قبلى " ( يوحنا 1 : 30 ).
أى أن الآتى بعده كان كائنا قبله لذلك صار
قدامه.
هذا الإنسان صارعه يعقوب فى العهد الأول حتى
مطلع الفجر. فدعا يعقوب هذا المكان " مرأى الله " قائلا لأنى نظرت الله
وجها لوجه ( تكوين 32 : 30 ).
فرغم أن يعقوب نظر وجه إنسان إلا أنه قال رأيت
الله وجها لوجه. أى أنه نظر صورة الله وجها لوجه.
هذا الذى نظره يعقوب وجها لوجه هو الذى رآه
حزقيال النبى جالسا على شبه عرش فوق مقبب الكروبيم ووصفه بقوله :
وعلى شبه العرش شبه
كمنظر إنسان
عليه من فوق .. هذا منظر شبه مجد الرب ولما رأيته خررت على وجهى ( حزقيال
1 : 26 - 28 ).
ويقول ميخا النبى أن الذى يخرج من بيت لحم أرض
يهوذا ليملك على إسرائيل مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ( ميخا 5 : 2
).
فى هذه الآية كشف ميخا النبى عن سر المسيح
بقوله أن هذا الذى يخرج من بيت لحم ليملك على إسرائيل مخارجه أى كينونته
فى دائرة وجوده الأزلية فى صورة إنسان كانت منذ القديم منذ أيام الأزل.
هذا الذى مخارجه منذ أيام الأزل نظر إشعياء
النبى مجده ووصفه قائلا :
رأيت
السيد
جالسا على كرسى عال ومرتفع وأهدابه تملأ الهيكل .. فقلت ويل لى .. لأن
عينى قد رأتا
الملك
رب الجنود ( إشعياء 6 : 1 , 5 ).
كما نظره أبو الآباء إبراهيم وأثبت السيد
المسيح ذلك بقوله لليهود :
أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح.
فقال له اليهـود ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت إبراهيم. قال لهم يسوع الحق
الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن ( يوحنا 8 : 56 - 58 ).
كما نظره كثير من البشر منهم موسى النبى الذى
تكلم مع الله وجها لوجـه معاينا صورة مجده ( عدد 12 : 8 ) وكذا يشوع بن
نون ( يشوع 5 : 13 - 15 ) ومنوح وامرأته ( القضاة 13 : 8 - 22 ).
والواقع أن السر المكتوم الذى لم يعرف به أجيال من
البشر, وهو أن للمسيح منذ الأزل صورة إنسانية وردت الإشارة إليه منذ بدأة
أول الأسفار المقدسة بقول الرب :
نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا .. فخلق الله
الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ( تكوين 1 : 26 - 27 ).
وأيضا جاء فى سفر التكوين أن الله جبل آدم
ترابـا من الأرض ما يدل على أنه أخـذ بيديه ترابا من الأرض وصنع منه جسدا
لآدم ونفخ فى أنفه نسـمة حيـاة فصار آدم نفسـا حيـة ( تكوين 2 : 7 ).
أى أن نفس أنف آدم مصدره نفخة المسيح فى أنفه
الأمر الذى أثبته إرميا النبى بقوله " نفس أنوفنا مسيح الرب " ( مراثى
إرميا 4 : 20 ).
وأيضا من الإشارات التى تدل على أن الله
كان فى صورة إنسان قول الكتاب
وغرس
الرب الإله جنة فى عدن شرقا.
وأيضا قول الكتاب عن آدم وحواء أنهما
سمعا صوت الرب
ماشيا
فى الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته
من وجه الرب الإله
( تكوين 3 : 8 ).
هذا السر أى ظهور الله فى صورة إنسان منذ
الأزل كان مخفيا فى القديم عن أجيال من البشر وأعلن فى العهد الجديد
لأجلنا.
الأمر الذى أوضحه بولس الرسول بقوله :
أنه بإعلان عرفنى بالسر كما سبقت فكتبت
بالإيجاز الذى بحسبه تقدرون أن تفهموا درايتى بسر المسيح الذى فى أجيال
أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه
بالروح .. وأنير الجميع فى ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله
خالق الجميع بيسوع المسيح لكى يعرف الآن .. بواسطة الكنيسة ( أفسس 3 : 4
- 10 ).
ويقول بولس الرسول أيضا :
بل نتكلم بحكمة الله فى سر. الحكمة المكتومة
التى سبق الله فعينها قبل الدهـور لمجدنا التى لم يعلمها أحد من عظمـاء
هذا الدهر لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد ( كورنثوس الأولى 2 : 7 - 8
).
وعن سر الحكمة المكتومة قال رب المجد :
فإن رأيتم ابن الإنسان
صاعدا إلى حيث كان أولا
( يوحنا 6 : 62 ).
لأن ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى
نزل من السماء
ابن الإنسان الذى هو فى السماء ( يوحنا 3 : 13 ).
من ذلك نرى أن ابن الإنسان الذى نظره التلاميذ
متجسدا بينهم كان أولا فى السماء فى صورة ابن الإنسان التى هى صورة الله
غير المنظور وأنه ليس إنسـان ولم يتخذ إنسان ولا روح إنسان بل هو نفسه
صورة الله الذى نزل من السماء وصعد وهو لم يزل فى السماء.
لهذا قال الرب خرجت من الآب وأتيت إلى العالم وأيضا
أترك العالم وأذهب إلى الآب ( يوحنا 16 : 28 ) وأيضا خرجت من الله وأتيت
لم آت من نفسى بل هو الذى أرسلنى ( يوحنا 8 : 42 ).
وأيضا قال الرب أنتم من أسـفل أما أنا فمن فوق. أنتم
من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم ( يوحنا 8 : 23 ).
وهكذا أيضا شهد المعمدان عن المسيح قائلا
الذى يأتى من فـوق هو فوق الجميع ( يوحنا 4 : 31 ).
وأيضا يقول رب المجد :
قـد
نزلت من السـماء
ليس لأعمل مشـيئتى بل مشـيئة الذى أرســلنى ( يوحنا 6 : 38 ).
وحتى نقطع الطريق على الذين يتخذون من هذه
الآية برهانا على أن المولـود من مريم إنسان مثلنا وأن له طبيعة ومشيئة
إنسانية مغايرة لطبيعة ومشيئة الآب ندعوهم لتأمل قوله "
قد نزلت من السماء
" ليدركوا أن المتكلم ليس إنسانا بل الرب من السماء وأنه بهيئة حقيقية أى
صورة وأنه قديم لا محدث معروف سـابقا قبل تأسيس العالم ولكن أظهر فى
الأزمنة الأخيرة من أجلنا بظهوره فى جسـد بشريتنا فى صورة الله التى له
أصلا التى نزل بها من السماء ولم يزل بهـا فى السماء إذ هو صورة الآب
الذى فى السماء بهاء مجده ورسم جوهره من رآه فقد رأى الذى أرسله ( يوحنا
12 : 45 ) لأن الراسل والمرسل واحد فى الجوهر.
أما قوله أنه نزل ليس ليعمل مشـيئته بل مشـيئة
الذى أرسـله فليظهر أن مشيئته بسبب تجسـده ليست مغايرة لمشيئة الآب
السماوى وأن مشيئة الآب السـماوى هى مشيئته التى نزل من السـماء ليتمها
لهـذا يقول أنـا والآب واحـد ( يوحنا 10 : 30 ) الـذى رآنـى فقـد رأى
الآب ( يوحنا 14 : 9 ).
وأيضا :
مجدنى أنت أيها الآب
عند ذاتك
بالمجد
الذى كان لى عندك
قبل كون العالم أنا أظهرت اسمك ( أى الاسـم المحتجب تدبيريا المعبر عن
صـورتك الحقيقية ) للناس الذين أعطيتنى من العالم
كانوا لك وأعطيتهم لى
( يوحنا 17 : 5 ).
وبهذا يؤكد المسيح أنه ابن الله الآب وصورته
الحقيقية وأن مجده مـن مجد الآب وأنه كان عند الآب قبل كون العالم وأنه
هو الإعلان والحقيقة لصورة الآب المحتجبة تدبيريا وأنه اسمه المعبر عن
كيانه الحقيقى الذى أظهره للناس الذين كانوا فى العالم يعبدونه من خلال
الظل والمثال
فصاروا يعبدونه الآن من خلال الصورة والحقيقة.
فالمسيح هو هو الظل والصورة المحتجب والظاهر. هو
المحتجب لكونه صورة الله الذى بطن نفسه أى أخفاها وسترها وحجبها وجعلها
سرا غير معلن وغير ظاهر تدبيريا, وهو الظاهر لكونه صورة الله الذى تبين
وظهر بعد الخفاء.
هذا السر سر العبادة الحقة لصورة الله غير المنظور سبق
دانيال النبى وأعلنها بقوله :
كنت أرى فى رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل
ابن إنسان ( صورة الآب ) أتى وجاء إلى القديم الأيام ( أى إلى الأزلى غير
المنظور المعبود من خلال الظل والمثال ) فقربوه قدامه ( أى جلس فى مجده
مبطلا بذلك عبادته الهيكلية من خلال الظل والمثال ) فأعطى سلطانا ومجدا
وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن
يزول وملكوته ما لا ينقرض ( دانيال 7 : 13 - 14 ).
هذا السر المكتوم الذى لم يعلم به أجيال من
البشر بأن صورة المسيح الإنسانية هى صورة الله غير المنظور بهاء مجده
ورسم جوهره وأنه بهذه الصورة ذاتها جاء إلى العالم فى الجسد ليصنع تطهيرا
لخطايانا قد أعلنه بولس الرسول بقوله :
الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع
وطرق كثيرة كلمنا فى هذه الأيام الأخيرة فى
ابنه
(
أى صورته ) الذى جعله وارثا لكل شىء
الذى به أيضا عمل العالمين.
الذى وهو
بهاء مجده ورسم جوهره
وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس فى
يمين العظمة فى الأعالى .. لأنـه لمن من الملائكة قال قط
أنت أبنى
أنا اليوم ولدتك .. وعن الملائكـة يقـول الصـانع ملائكته رياحا وخدامه
لهيب نار.
وأما عن الابن
(
صورة الآب ) كرسيك يا الله إلى دهر الدهور
قضيب استقامة
قضيب ملكك
.. من أجل ذلك
مسحك الله إلهك
بزيت الإبتهاج .. ثم لمن من الملائكة قال قط اجلس عن يمينى ( أى فى صـورة
مجدى ) حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك أليس جميعهم أرواحا خادمة مرسـلة
للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص ( العبرانيين الأصحاح الأول ).
هكذا نرى أن الذى هو بالحقيقة صورة الله غير
المنظور بهاء مجده ورسم جوهره الذى به عمل الله العالمين. الذى كرسيه إلى
دهر الدهور الذى مسـحه الله أبيه بروح قدسه هو الذى جاء واشترك معنا فى
اللحم والدم مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدى الذين تحت
الناموس لننال التبنى ( غلاطية 4 : 5 ).
هذا هو سر المسيح الذى قال عنه بولس رسول الأمم
العظيم :
أنه بإعلان عرفنى بالسر. كما سبقت فكتبت
بالإيجاز. الذى بحسبه حينمـا تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتى بسر المسيح
الذى فى أجيال أخر لم يعرف بـه بنو البشر كما قد أعلن الآن لرسله
القديسين وأنبيائه بالروح .. لى أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة
أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذى لا يستقصى وأنير الجميع
فى ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله خالق الجميع بيسوع المسيح.
لكى يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين .. بواسـطة الكنيســة ( أفسس 3 : 3
- 10 ).
السـر المكتوم منـذ الدهــور ومنـذ الأجيـال
لكنـه الآن قد أظهر لقديسيه ( كولوسى 1 : 26 ).
وعن هذا السر المكتوم كتب كيرلس عمود الدين
يقول ما موجزه :
أن الله رتب ثوبا لرئيس الكهنة على صدريته علقت
حجارة معينة عددها اثنا عشر حجرا وفى وسطها وضع حجران هما التميم (
الإعلان ) والأوريم ( الحقيقة ) هذه الإثنى عشرة حجرا تشير بوضوح إلى
خورس التلاميذ فى دائرة حـول المسيح الذى هـو الإعلان والحقيقـة الذى به
تبطل عبـادة الله من خلال الظـلال والأمثلـة ( الرسالة 55 : 28 ص 38 )
لأنه بظهور الصورة والحقيقة يبطل الظل والمثال.
وأيضا يقول موسى النبى فى كلمات البركة للاوى :
تميمه ( إعلانه ) وأوريمه ( الحقيقة ) يكونان
للرجـل الطاهر الذى جربـته فى مسـة ( التجربة ) وخاصمته عند ماء مريبة (
مياه الخصومة ) الذى قال عن أبيه وأمه لم أبصركما وبإخوته لم يعترف (
تثنية 33 : 8 - 9 ).
يا للأمر العجيب فهو يقول أنه إنسان
ولكنه يعلن مباشرة أنه الله الذى جربه إسرائيل فى مسة وخاصموه عند ماء
مريبة.
وهكذا أكد موسى بالدليل أن
المسـيح الذى جربـوه وخاصمـوه أى تأمروا عليه ورفضوه هو الله وليس إنسان
كما يتجاسر البعض أن يقولوا.
وها هو موسى يقدم دليلا آخر على أن
الإنسان الذى جربوه وخاصموه هو المسيح نفسه معرفا إياه بأنه الذى قال عن
أبيه وأمه لم أبصركما وبإخوته لم يعترف.
وهذا يذكرنا بما كتبه أحد الإنجيليين بقوله :
وفيما هو يكلم الجموع إذا أمـه وإخوتـه قد
وقفوا خارجـا طالبين أن يكلموه فقال له واحـد هـو ذا أمـك وإخوتـك واقفون
خارجا طالبين أن يكلموك فأجاب وقال للقائل له من هى أمى ومن هـم إخوتى ثم
مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمى وإخوتـى لأن من يصنع مشـيئة أبى الـذى فى
السـماوات هـو أخى وأختى وأمى ( متى 12 : 46 - 49 ) ( الرسالة رقم 55 :
30 ص 41 ).
من ذلك نرى أن الإنجيليين عندما كتبوا البشائر
كانوا مسوقين بروح المسيح الذى يرشدهم إلى كل ما كتب عنه فى أسفار
الأنبياء لنؤمن بأنه هو بالحقيقة المسيح ابن الله الحى الذى أتى فى
الجسد.
وفى هذا يقول بطرس الرسول :
أن المسيح وإن كان معروفا منذ القديم قبل تأسيس
العالم لكنه قد أظهر فى الأزمنة الأخيرة من أجلكم ( بطرس الأولى 1 : 18 -
20 ).
وفى آية واضحة تثبت أزلية المسيح وأنه الكائن
منذ الأزل وأنه هو هو الذى أظهر فى الأزمنة الأخيرة يقول بولس الرسول :
يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد (
العبرانيين 13 : 8 ).
من ذلك يتضح أن اسم " يسوع المسيح " غير مستحدث لسبب
تجسده بل أن هذا الاسم " يسوع " هو اسم الله الذى أخفاه تدبيريا وأظهره
فى العهـد الجديد لندرك حقيقة السر بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحى صورة الله غير المنظور
بهاء مجده ورسم جوهره وأنه هو هو غير متغير ماضيا وحاضرا ومستقبلا وأنه
هو الرب لمجد الله الآب ( فيلبى 2 : 11 ) أى أن يسوع المسيح صورة الله
واسمه وحقيقته الكيانية قبل ظهوره وبعده هو هو, وفى هذا يقول بولس الرسول
:
أن المسيح يسوع إذ كان فى
صورة الله
لم يحسب خلسة أن يكون مساويا لله لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا فى
شبه الناس ( فيلبى 2 : 5 - 7 ).
الذى وهو
بهاء مجده ورسم جوهره
وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس فى
يمين العظمة فى الأعالى ( العبرانيين ا : 3 )
صادقة هى الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح
يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا ( تيموثاوس الأولى 1 :
15 )
الذى هو صورة الله غير المنظور
.. الذى هو قبل كل شىء وفيه يقوم الكل ( كولوسى 1 : 15 ).
وفى هذا يقول الرب نفسه :
أنتم شهودى
يقول الرب
وعبدى الذى اخترته لكى تعرفوا وتؤمنوا بى وتفهموا أنى أنا هو ( أى أن
المسيح إذ كان فى صورة عبد شهد لنفسه وتلاميذه شهودا له بأنه صــورة الآب
وأن من رآه فقد رأى الآب )
قبلى لم يصـور إله وبعـدى لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيرى مخلص. أنا أخبرت وخلصت
وأعلمـت وليس بينكم غريب وأنتم شهودى يقول الرب
وأنا الله
( إشعياء 43 : 10 - 12 ).
وهذه هى شهادة يوحنا :
نحن قد نظرنا ونشهد أن الآب أرسل الابن مخلصـا
للعالـم. من اعترف بـأن
يسوع هو ابن الله
فالله يثبت فيه وهو فى الله ( يوحنا الأولى 4 : 14 - 15 ).
لهذا يقول بولس رسول الأمم العظيم أن غنى يقين
الفهم هو بمعرفة سر الله الآب والمسيح
المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ( كولوسى 2 : 2 - 3 ).
لأنه بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ( أى
الرب يسوع المسيح صورة الآب بهاء مجده ورسم جوهره ) ظهر فى الجسد (
تيموثاوس الأولى 3 : 16 ).
ولكن إن كان إنجيلنا مكتوما فإنما هو مكتوم فى
الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر ( أى الشيطان ) أعمى أذهان غير
المؤمنين لئلا تضىء لهم إنارة
إنجيل مجد المسيح
الذى هو
صورة الله
( كورنثوس الثانية 4 : 3 - 4 ).
المقالة الثانية
المسيح هل هو إله أم إنسان ؟
الفرق بين بدعة أريوس وبدعة نسطور تتلخص فى أن
الأول رأى أن المسيح مجرد إنسان مثلنا أما الثانى فقد اعتقد كأريوس أن
المسيح إنسان مثلنا ولد من العذراء إلا أن الله الكلمة اتحد به وصارا معا
يدعوان باسم المسيح باعتباره حسب المفهوم النسطورى الاسم الجامع
للطبيعتين أى للروحين الإلهية والإنسانية.
ويرى نسطور أن يسوع دعى باسم المسيح عند مسحه بالروح القدس
فى الأردن عندما حل الروح القدس عليه وبناء عليه رأى أن اسم المسيح لا
يخص الله الكلمة لأنه لم يمسح كإله وبالتالى لا يجب أن يستخدم اسم المسيح
فى حديثنا عن الله الكلمة بل نستخدمه فقط للإنسان المولود من نسل داود
لأنه هو الذى مسـح بالروح القدس ( المسيح واحد 6 ص 33 , 34 ) ( ظهور
المسيح المحيى فقرة 2 , 3 ).
وفى هذا يقول نسطور :
أن اسم المسيح لا يمكن أن يستخدم بدون الإشارة
إلى التأنس. لأنه كيف يمكن أن يدعى الله الكلمة باسم المسيح قبل تأنسه,
ولو كان اسم المسيح خاصا بالكلمة فقط ولا علاقة له بالتأنس لصار من
الحتمى أن نستخدم ذات الاسم " المسيح " للآب والروح القدس, ولسبب التأنس
مسح بالروح القدس ليس أن الكلمة قد مسح أو أنه يحتاج إلى المسحة, ولكن
أيضا لا يمكن أن تتم المسحة بدون اللاهوت فهو كإله مسح الإنسان الذى
اتخذه والإنسان الذى اتخذه هو الذى تقبل المسحة فمن الواضح إذن أننا لا
نستطيع أن نصف الكلمة بالمسيح بدون الجسد الذى اتحد به. فالكلمة لم يعرف
باسم المسيح إلا عندما اتخذ جسدا ( ظهور المسيح المحيى فقرة 2 , 3 ص 15 -
16 ) ( المسيح واحد 6 ص 34 , 35 ).
ويقول أيضا :
أن اسم المسيح لا يخص الله الكلمة لأنه لم يمسح
كإله لذلك إن قلنا أن الذى مسح هو الله فإننا نخطىء بذلك لطبيعة الابن.
لأنه إن كان الله الكلمة قد مسح بالروح القدس
فإننا سنضطر للاعتراف بأنه كان هناك أزمنة لم يكن فيها ممسوحا ( الرسالة
رقم 1 : 27 ص 16 ).
لأنه كيف يسمى ابن الله باسم المسيح ( باعتباره
إنسان حسب نسطور ) الذى سلمه الله الآب لأجل خلاص وحياة الكل ( الرسالة
رقم 1 : 32 ص 21 ).
ويقول نسطور :
أن اسم المسيح هو اسم مشترك بين
الطبيعتين لذلك حتى لا يظن أحد أن الكلمة خضع للآلام قدم اسم المسيح
كإنسان قابل للآلام وبهذا يقال أن المسيح غير قابل للآلام بلاهوته وقابل
لها بناسوته ( الرسالة رقم 5 : 5 ص 33 ).
أى أن معتقد نسطور قائم على أساس أن اسـم
المسيح لا يخص ابن الله بل يخص فقط الإنسان يسوع المولود من نسل داود
الذى سمى بالمسيح بسبب مسحه بالروح القدس فى الأردن ما يدل على جهله بسر
المسيح الممسوح منذ الأزل المعروف بهذا الاسم قبل تأسيس العالم وأنه هو
نفسه الذى صار حسب الجسد من نسل داود فى الأزمنة الأخيرة من أجل خلاصنا.
من ذلك نرى أن التنين الجديد كما يسميه كيرلس
عمود الدين ترك تقاليد الآباء الرسل وتعاليم الأسفار الموحى بها من الله
مخترعا ما يراه هو صوابا منكرا الحق الكتابى بأن المسيح ابن الله أتى
إلينا فى الجسد مولودا من امرأة بقوله أن الآباء القديسين لم يذكروا
ولادة حسـب التدبير بل تأنسا ( الرسالة رقم 5 : 5 ص 33 ).
وقد أوضح نسطور فى تعاليمه المضادة للحق
الكتابى أن لفظة " تأنس " تعنى أن الكلمة اتحد بإنسان. لأنه لم يتسلم من
آبائه أن الله الكلمة ولد من مريم بل اتحد بالإنسان المولود من مريم.
وبذلك أنكر نسطور ألوهية يسوع المسيح منكرا
كونه الكلمة المولود من مريم مبطلا بلفظة " تأنس " التى ابتدعها السر
الملوكى.
فصار بحق تنين جديد وبوق للروح المضل الذى وضع
يوحنا البشير قاعدة تمييزه وكشفه بقوله :
بهذا تعرفون روح الله كل روح يعترف بيسوع
المسيح أنه قد جاء فى الجسد فهو من الله وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح
أنه قد جاء فى الجسد فليس من الله وهذا هو روح ضد المسيح ( يوحنا 4 : 2 -
3 ).
من ذلك يتضح أن كل من لا يعترف بأن المسيح هو
الله الذى ظهر فى الجسد يصير ضدا لله لأن اسم المسيح يخص حكمة الله الذى
قال عن نفسه فى سفر الأمثـال " منذ الأزل مسحت " أى أن الذى مسح هو الله
الأزلى الذى مسح نفسه ذاتيا كمسيح منذ الأزل.
فالمسيح إذن هو اسم علم يخص الله الأزلى لا
إنسان.
هذه الحقيقة أثبتها أيضا داود النبى بقوله :
" كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك أحببت البر
وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسـحك الله إلهك بزيت الإبتهـاج أفضـل من شركائك
" ( مزمور 45 : 6 - 7 ).
إن الكلمات تفصح عن نفسها أن
الله ( الابن )
الذى كرسيه إلى دهر الدهور الذى يملك بالاستقامة مسحه
الله ( الآب )
بزيت الإبتهاج ( أى
بالروح القدس
) أفضل من شركائه ( أى من أولئك الذين صارت لهم شركة معه بالمعمودية )
بمقدار ما ورث اسما أعظم منهم هو اسم الله.
لأن الله الذى مسح ملكا هو ملك بالطبيعة بدليل
قول الكتاب " كرسيك
يا الله
إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك من أجل ذلك مسـحك الله
إلهك بزيت الإبتهاج " فالله إذن لم يمسح ليكون ملكا لأنـه ملك على الدوام
أى أنه مسيح وملـك بالطبيعة والجوهر لهذا فمسحته فى الزمان هى من باب
تقديس الذات لأجلنا حتى نمسح بمسحته ويظل هو متقدما فى كل شىء كمصدر ونبع
وأصل كل شىء.
لأن الماسح والممسوح والمسحة جوهر واحد هو الله. لهذا
فمسحة الابن إذ هى ذاتية أزلية هى أفضل من الذين يأخذونها كعطية ونعمة.
فالمسيح هو بالحقيقة الله الذى مسح بمسحة أفضل
من شركائه أى من أولئك الذين صاروا بالمعمودية شركاء الطبيعة الإلهية
بمقدار ما لمالك الروح من كرامة أفضل من الذين يأخذونه كعطية أو نعمة.
من ذلك نرى أن الذى مسح ليس إنسان بل الله (
الابن ) الذى كرسيه إلى دهر الدهور, وأن الذى
مسحه هو الله ( الآب ) بزيت الإبتهاج ( أى بالروح القدس ).
فالمسيح هو الله
لا إنسان الأمر الذى أثبته بولس الرسول بقوله :
البشـارة التى بشـرت بها لم أقبلها من
إنسـان بل بإعلان يسـوع المسـيح ( غلاطية 1 : 12 ).
وأيضا شهد فى مقدمة رسالته إلى أهل غلاطية
قائلا :
بولس رسول لا من الناس
ولا بإنسان
بل بيسوع المسيح ( غلاطية 1 : 2 ).
من ذلك نرى أن بشارة بولس وإرساليته لم يكونا
بإنسان ولا من إنسان بل بيسوع المسيح الذى أرسله إلى الأمم لينيرهم فى ما
هو شركة سر المسيح بقوله :
لى أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن
أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذى لا يستقصى وأنير الجميع فى ما هو شركة
السر المكتوم منذ الدهـور فى الله
خالق الجميع بيسوع المسيح.
لكى يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين .. بواسطة الكنيسة ( أفسس 3 : 3 -
10 ).
فإذا كان يسوع المسيح إنسان اتحد به الله
الكلمة حسب نسطور فكيف نستنير بالسر المكتوم فى أن الله الآب خلق كل
الأشياء بيسوع المسيح الذى هـو بالحق صورة الله وحكمته الممسوح أزليا.
من هو حكيم فلينظر لئلا يوجد ساقطا فى هرطقة أريوس
القائلة بأن المسـيح خالق العالم مخلوق تلك التى سقط فيها بجهل نسطور
ولاون ومجمع خلقيدونية وكل القائلين بروح إنسانية فى المسيح.
لأن هؤلاء الذين لسبب جهلهم إستبدلوا بالمسيح
صورة الله وحكمته إنسان نظيرنا قد صاروا لسبب جهلهم وعدم معرفتهم ضمن
أعـداءه القائمين ضد مجد لاهوته أى صورته فحقت فيهم كلمته :
" لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب فى الباطل قام ملوك
الأرض وتأمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه ( الأقنوم الثانى فى
الثالوث الذى كرسيه إلى دهر الدهور ) قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا
ربطهما الساكن فى السماوات يضحك. الرب يستهزىء بهم. حينئذ يتكلم عليهم
بغضبه ويرجفهم بغيظه. أما أنا فقد مسحت ملكى على صهيون جبل قدسى.
إنى أخبر من جهة قضاء الرب قال لى أنت ابنى (
أى صورتى ) أنا اليوم ولدتك ( أى أظهرتك من ذات الجوهر الذى لى ) إسألنى
فأعطيك الأمم ميراثا لك وأقاصى الأرض ملكا لك .. مثل إناء خزاف تكسرهم.
فالآن يا أيهـا الملوك تعقلـوا تأدبـوا يا قضاة الأرض .. قبلوا الابن (
أى قدموا له الولاء بالاعتراف به بأنه المسيح ابن الله ملك الملوك ورب
الأرباب ) لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق " ( المزمور الثانى ).
مما تقدم يتضح أن المسيح الرب مسح ملكا ليس أنه
مسح ملكا فى الزمـان إذ هو ملك بالطبيعة. لهذا قال الرب " مسحت ملكى " أى
أن الذى مسح ملكا هو ملك بالطبيعة وبالطبيعة مسح منذ الأزل لأن الروح
الذى يمسح هو روحه الذاتى لذلك فإن إعلان هذه المسحة فى الزمان هو من
أجلنا الأمر الذى أعلنه لنا الرب بقوله أما أنا فقد مسحت ملكى ( أى
المسيح صورة مجدى ) على صهيون جبل قدسى.
فالمسيح هو الله الذى يملك على جبل قدس الرب أى
مدينته المقدسة الأمر الذى عاينه يوحنا الرائى وأعلنه بقوله :
ثم جاء إلى واحد من السبعة الملائكة .. وذهب بى
بالروح إلى
جبل عظيم
عال وأرانى المدينة العظيمة أورشـليم المقدسـة ..
وعرش الله ( كرسى المسيح )
والحمل
(
المسيح ) يكون فيها وعبيده يخدمونه وهم سينظرون
وجهه
( الرؤيا 21 : 9 - 10 + 22 : 3 - 4 ).
هذه المدينة كما يقول الرائى هى مسكن الله مع
الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبا
والله نفسه
يكون معهم إلها لهم ( يوحنا 21 : 3 ).
مما تقدم يتضح أن المسيح هو الله نفسه لا إنسان وأنه صورة
الله الآب بهاء مجده ورسم جوهره الممسوح ملكا على أورشليم جبل قدسه.
المقالة الثالثة
هل لله صورة إنسانية ؟
يقول الكتاب أن الله صنع الإنسان على صورته
وشبهه .. على صورة الله خلقـه ( تكوين 1 : 26 - 27 ).
وقد أوضح الكتاب فى غير موضع أن المسيح هو صورة
الله غير المنظور وأنه مسح منذ الأزل وأن مخارجه أى دائرة وجوده منذ
القديم منذ أيام الأزل.
أما النساطرة فقد رأوا أنه أمر غبى أن نعتقد أن
لله صـورة إنسانية, ويقولون أنه أمر صحيح أن الإنسان صنع على صـورة الله
ولكن المثال ليس جسـديا فإن الله لا جسد له, وأن المقصود بصورة الله هو
أن الإنسان وحده من بين الخلائق الحية على الأرض العاقل الذى أعطاه الله
سلطانا على كل الأشياء التى على الأرض. لذلك يقول الكتاب أنه خلق على
صورة الله وشبهه.
وردا على ذلك نقول أن المسيح صورة الله غير
مخلوق لأن الآب لا يمكن أن يرى نفسه فى ابن مخلوق. لأن الابن كما يقول
الكتاب صورة أبيه ( تكوين 5 : 3 ) فكما يكون الوالد هكذا يكون المولود
منه. فالمولود من الجسد هو صورة الجسد وهيئته, والمولود من الله هو صورة
الله بهاء مجده ورسم جوهره, وظهـورات الله فى القديم تثبت وتبرهن على أن
لله صورة وهيئة منظورة وأن له عرش وموضع معلوم وفى هذا يقول الحكمة ذاته
:
سكنت فى الأعالى وجعلت عرشى فى عمود الغمام.
أنا وحدى جلت فى دائرة السماء ( بن سيراخ 24 : 7 - 8 ).
وفى ذات المضمون يقول أيوب النبى :
كيف يعلم الله هل من وراء الضباب يقضى.
السحاب ستر له فلا يرى وعلى دائرة السماوات يتمشى ( أيوب 22 : 13- 14 ).
وتسآل أيوب النبى عن مسكن الله وموضع
عرشه بقوله :
" أين الطريق إلى حيث يسكن النور ( الله )
والظلمة ( السحابة المظلمة التى تحجب عرشه ) أين مقامها. من يعطينى أن
أجده فآتى إلى كرسيه. ها أنذا أذهب شرقا فليس هو هناك وغربا فلا أشعر به.
شمالا حيث عمله ( أى حيث مقر كرسيه ) فلا أنظره يتعطف الجنوب فلا أراه "
( أيوب 23 : 3 , 8 , 9 ).
وقد بين أيوب النبى أن عرش الله كائن خلف سحابة
ممتدة على الشمال بقوله :
" يمد الشـمال على الخلاء .. يحجب وجـه
كرسـيه باسطا عليـه ســحابة " ( أيوب 26 : 7 , 9 ).
كما بين إشعياء النبى أن إله إسـرائيل
المخلص أى المسـيح قائم فى الشـمال ( إشعياء 41 : 25 )
على جبل الإجتماع ( أورشليم السـمائية ) فى
أقاصى الشـمال ( أى فى مركز دوران المجرة ) فوق مرتفعات السحاب ( إشعياء
14 : 13- 14 ).
لهذا عن المسيح وحده قيل " طأطأ السماوات ونزل
وضباب تحت رجليه. ركب على كروب وطار وهف على أجنحة الرياح. جعل الظلمة
ستره حوله مظلته ضباب المياه وظلام الغمام " ( مزمور 18 : 9 - 11 ).
من هذه الآيات وغيرها يصير محققا أن لله صورة
منظورة, وأن هذه الصورة هى المسيح القائم فى أقصى الشمال الكونى خلف
السحب الممتدة على الشمال الذى أتى إلينا متجسدا فى صورته التى صنعنا على
صورتها وشبهها.
أما قول النساطرة أنه قيل عن الإنسان أنه صنع
على صورة الله وشبهه لأنه عاقل مثل الله وله سلطان على كل الأشياء التى
على الأرض مثله فمردود بأن الملائكة أيضا عاقلة وأعطيت سلطانا لا على
الأرض بل على الكون وقوى الطبيعة لتديرها وتحفظها حسب مشيئة الله. فهناك
ملائكـة لها سـلطان على الهواء والريح ( رؤيا 7 : 1 ) وأخرى على النـار (
رؤيا 14 : 8 ) وأخرى على حركـة الأفـلاك ( رؤيا 8 : 12 ) ومع ذلك لم يقل
الله عنها أنها صنعت على صورته وشبهه.
الوحيد الذى قيل عنه أنه صنع على صورة الله
وشبهه هو الإنسان.
فإن كنا قد خلقنا على صورة الله وكان المسيح هو
صورة الله فنكون قد صنعنا على صورة المسيح ويكون المسيح هو الله الذى
صنعنا على صورته كشبهه وهو الذى جبل آدم ترابا ونفخ فى أنفه نسمة حياة
فصار آدم نفسا حيـة. أى أن
نفس أنف آدم مصدره المسيح الرب ( مراثى إرميا : 4 : 20 ).
وبهذا يصير محققا أن المسيح فى صورة الله خلق الإنسان
على صورته بعد أن أكمل خلق السموات والأرض وكل جندها وفى هذا يقول بولس
الرسول :
أنه بإعلان عرف بسر المسيح السر المكتوم منذ
الدهور فى الله خالق الجميع بيسوع المسيح ( أفسس 3 : 4 - 10 ).
والواقع أن طبيعة الله الأزلى الأبدى غير
المحدود لا تدرك بمقاييس الحكمة البشرية وإنما بما يعلمه لنا روح الله.
لأن أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. لذلك فإن ما نعرفه عن الله هو
ما أعلنه لنا بروحه ( كورنثوس الأولى 2 : 11 - 16 ) وفى هذا يقول يوحنا
الإنجيلى :
الله (
الآب
)
لم يره أحد قط
( يوحنا الأولى 4 : 12 )
الابن الوحيد الذى هو فى حضن
الآب
( أى الذى مع الآب ) هو خبر ( أى أظهره ) ( يوحنا 1 : 18 ).
وعلة ذلك أن الله يسـكن فى نور لا يدنى منه (
تيموثاوس الأولى 6 : 16 ) لهذا لم يره أحد من الناس قط بل ولا يقدر
أحد أن يراه إلا من خلال ابنه الوحيد الذى يمثل كيانه الحقيقى أى خبره
لأن الابن صورة أبيه بهاء مجده ورسم جوهره من رأه فقد رأى الآب لأنه
والآب واحد.
لذلك فإن تمام الإعلان عن الذات الإلهية يوجب
أن يكون لله صورة من ذات جوهره إذ لا يمكن للخالق والصانع أن يرى نفسه فى
صورة من جوهر مخلوق.
والواقع أن المناقشات حول تحديد طبيعة المسيح
هل هو إلـه أم إنسـان كانت تمثل بؤرة الصراع فى المجامع المسكونية الثلاث
ونقصد بهم مجمع نيقية المسكونى الأول ومجمعى أفسس الأول والثانى وفيها
انتصرت الأرثوذكسية بإثبات أن يسوع المسيح هو ابن الله الذى بعد أن تمم
خلاصنا جلس فى مجد أبيه.
فقد أثبت المجتمعون فى نيقية قانون
الإيمان الرسولى لحفظ الإيمان الأرثوذكسى ودحض الهرطقات التى تثار ضد
لاهوت ابن الله الوحيد بإثبات المعتقد القويم فى طبيعة المسيح بالقول :
نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد
المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير
مخلوق
مساو للآب
فى الجوهر الذى به كان كل شىء هذا الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل
خلاصنا
نزل من السماء
وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصلب عنا تألم وقبر وقام من
الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين
أبيه ( أى فى مجد أبيه ) وأيضا يأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات الذى
ليس لملكه إنقضاء.
أما المجتمعون فى خلقيدونية فداسوا قانون الإيمان الرسولى ولم يعترفوا
بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحى الذى نزل من السماء من أجل خلاصنا
مستبدلين به إنسان نظيرنا أسموه أيضا يسوع المسيح وزعموا بأن
الكلمة اتحد بروح هذا الإنسان وشخصها وألهها منذ نشأتها وصيرها واحدا معه
فى اللاهوت, وهكذا ببطل أفكارهم البائسة استبدلوا قانون الإيمان الرسولى
باعتراف يجحدون فيه لاهوت المسيح بالقول:
أومن واعترف أن هذا هو الجسد المحيى ( بروح إنسانية ) الذى لابنك الوحيد
ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أخذه من سيدتنا والدة الإله القديسة
مريم وجعله واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير .. أومن أن
لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.
وأيضا يعترفون بالقول " نعترف بأن أقنوم الكلمة اتحد بالإنسان يسوع
المسيح المولود من مريم بنفس عاقلة وجسد, وأن أقنوم الكلمة يجب الاعتراف
به أنه بطبيعتين ( روحين ) متميزتين متحدتين فى أقنوم واحد ( أقنوم
الكلمة ) غير منقسم إلى أقنومين ".
وهكذا بتعاليمهم اللامنطقية داسوا قانون الإيمان الرسولى وقلبوا تدبير
الخلاص رأسا على عقب.
ففى حين نؤمن بحسب قانون الإيمان الرسولى برب واحد هو يسوع المسيح ابن
الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق
مولود غير مخلوق مساو للآب فى الجوهر.
يعتقد النساطرة والخلقيدونيين واليعاقبة أن الرب الإله أخذ جسد المخلص
الإنسان يسوع المسيح الذى تحييه روح إنسانية وجعلها واحدا مع لاهوته بدون
اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير بكيفية مختلف حولها.
ففى حين يرى النساطرة أن الطبيعتين بعد الإتحاد قائمتين كل بأقنومها
الخاص. رأى الخلقيدونيين أن الطبيعتين بعد الاتحاد صاروا بقوام واحد هو
قوام اللوجوس. أما اليعاقبة فرأو أن الطبيعتين بعد الإتحاد صاروا طبيعة
واحدة ممتنعة الجنس ليست إلهية ولا إنسانية مشخصة باللوجوس.
وإظهار فساد جميع مذاهب أصحاب الطبيعتين لا يحتاج إلى برهان إذ يفضحه عدم
منطقيته لأنه إن كانت روح المسيح مؤتلفة فإنها تكون مركبة والمركب محدود
وعليه سيان كانت هذه الروح ممتنعة الجنس أو إنسانية فإنها تكون محدودة
فكيف تسكن فينا وكيف يتصور المسيح فى قلوبنا وكيف تحيينا إلا أن تكون روح
المسيح هى الروح القدس.
ولما كان الاعتراف بأن المسيح ابن الله الحى هو صورة الله الآب الذى
صنعنا على صورته كشبهه يضاد المعتقد النسطورى القائم على أساس الإعتقاد
بأن المسيح إنسان نظيرنا ولد من مريم وليس صورة الله. لذلك فقد حرموا
القائلين بذلك بزعم أن الله روح وليس صورة وأطلقوا على أصحاب الطبيعة
الواحدة اسم الخياليين لاعتقادهـم بأن للمسيح صورة إنسانية سمائية من ذات
الجوهر الإلهى غير المخلوق.
وردا على الذين لا يعترفون بأن المسيح هو ابن الله الحى وأنه صورة الله
غير المنظور نقول أن برهان الكتاب المقدس كاف وحده لأن يكون عقيدة
للإيمان المستقيم. فإن فشلوا فى قبول هذه البراهين بسبب تعصبهم لفكر
فلسفى معين ينزه الله عن الصورية والظهور والتجسم والولادة والصلب أو
لسبب تحزبهم لأرباب البدع فسيهلكون معهم فى فسادهم بابتعادهم عن العقائد
المقدسة وصخرة إيماننا بالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الحى ( متى 16
: 16 ) الذى هو صورة الله غير المنظور ( كولوسى 1 : 15 ) بهاء مجده ورسم
جوهره ( العبرانيين 1 : 3 ) الممسوح منذ الأزل ( الأمثال 8 : 23 ) الذى
كرسيه إلى دهر الدهور ( العبرانيين 1 : 8 - 9 ) المعروف سابقا قبل تأسيس
العالم ولكن أظهر فى الأزمنة الأخيرة من أجلنا ( بطرس الأولى 1 : 20 )
الذى سيأتى فى مجد أبيه مع ملائكته ويجازى كل واحد حسب عمله ( متى 16 :
27 ).
لأن حكمة الله اقتضت فى الأزمنة السابقة أن
يبقى سر المسيح مكتوما عن الرؤساء والسلاطين حتى يتمموا القصد الإلهى فى
المسيح يسوع من أجل خلاصنا لأنهم لو عرفوا فى وقته ما هو غنى سر المسيح
وأنه صورة الله وكمال الإعلان عن الذات الإلهية لما صلبوه.
فالخطية هى التى جعلت الله يستر وجهه عنا لأجل
التدبير ليظهر نفسه فى الوقت المعين من أجل خلاصنا بعد أن يتمم البشر
قصده بصلبه لأنهم لو علموا لما صلبوا رب المجد.
لهذا تنبأ إشعياء النبى قائلا :
قدسوا رب الجنود وليكن هو خوفكم ورهبتكم فيكون
لكم قدسا, وأما لبيتى إسرائيل فيكون حجر صدمة وصخرة عثرة وفخا وشركا
لسكان أورشليم. فيعثر به كثيرون ويسقطون فينكسرون ويعلقون فيقتنصون. أرسم
الشهادة أختم الشريعة بتلاميذى.
فاصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب
وأنتظره.
ها أنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب فى إسرائيل من عند رب
الجنود الساكن فى جبل صهيون ( إشعياء 8 : 13 - 18 ).
أى أن الرب صار للأمم قدسا أما لإسرائيل وسكان
أورشليم فكان حجر عثرة فرغم الآيات والعجائب العظام لم يؤمنوا به
فاقتنصهم ليتمموا قصده ويسقطوا فى الفخ الذى نصبوه له بتقديمه ذبيحة فدى
الشعب فلا يهلك كله ( يوحنا 11 : 50 ) وبهذا أتم النبوات عنه وختم
الشريعة بتلاميذه الذين صيرهم شهودا له بقوله :
أنتم شهودى
يقول الرب
وعبدى الذى اخترته لكى تعرفوا وتؤمنوا بى وتفهموا أنى أنا هو.
قبلى لم يصور إله وبعدى لا يكون.
أنا أنا الرب وليس غيرى مخلص. أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب
وأنتم شهودى يقول الرب وأنا الله ( إشعياء 43 : 10 - 12 ).
فالمسيح صورة الله إذ ظهر بين شهوده فى صورة العبد
شهد لنفسه وشهدوا له أنه والآب واحد وأنه صورة الآب وأن من رآه فقد رأى
الآب وأنه المخلص والمعلن لذات الله وأنه هو الله الذى ظهر فى هيئة العبد
وهم أى تلاميذه شهودا لذلك.
مما تقدم يصير محققا أن صورة المسيح الإنسانية هى صورة الله غير المنظور
وأنه ليس إنسان مثلنا بل هو الله الذى نزل من السماء من أجل خلاصنا.
ومن البراهين التى تحمل تحديا لفكر البشر بتوكيد حقيقة الصورة الإنسانية
لله الكلمة الذى نزل من السماء أن الرب إذ كان يتكلم عن جسده بأنه الخبز
المحيى النازل من السماء وأن الذى يأكله يحيا به. رأى تلاميذه أن الأقوال
صعبة فقال لهم أهـذا يعثركم ؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان
أولا ( يوحنا 6 : 62 ) مشيرا بذلك إلى قوله " ليس أحد صعد إلى السماء إلا
الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء " ( يوحنا 3 : 13 ) ما
يعنى عدم محدودية صورة المسيح الإنسانية, وأن من يتناول جسد الرب إنما
يأخذ فى داخله ابن الإنسان الذى من السماء أى المسيح نفسه الذى يتصور فى
كل من يتناول منه فيحيا به ويثبت فيه. لأن المسيح آدم الأخير وإن كانت له
صورة الإنسان إلا أنه الرب من السماء.
لهذا عقـد بولس الرسـول مفاضلة بين آدم والمسـيح بالقـول آدم الأول نفسـا
حيـة وآدم الأخير روحـا محييـا. الإنسـان الأول من الأرض ترابـى الإنسان
الثانى الرب من السـماء. فى آدم يموت الجميع, وفى المسـيح يحيا الجميع (
كورنثوس الأولى 15 : 45 - 48 ).
هذه البراهين كافية لإثبات أن هذا التعليم ليس بدعة بل أن من ينكره أو
يضحده هو المبتدع والضد للمسيح لأن من لا يصدق الله فقد جعله كاذبا. لذلك
نحن نؤمن بما يقرره الحق الكتابى لا بما يتصوره أو يقبله الجهال
والمبتدعين وأعداء الحق.
أما اعتراضهم القائل بأن الله روح وليس له صورة فمردود بما أثبته قانون
الإيمان الرسولى بقوله :
بالحقيقة نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل .. نؤمن برب واحد يسوع
المسيح ابن الله الوحيد ( أى صورة الله الآب الحقيقية ) المولود من الآب
قبل كل الدهور .. وأيضا نؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب.
هكذا أثبت قانون الإيمان معتقدنا فى الثالوث القدوس بأننا نؤمن بالله
الآب وبيسوع المسيح ابنه الوحيد أى صورة مجده وبالروح القدس المحيى.
فالآب له صورة منظورة هذه الصـورة هى
ابنه
يسوع المسيح
بهاء مجده ورسم جوهره
( العبرانيين
1 : 3 ) وروح هو الروح القدس المنبثق من الآب المعطى للخليقة بالابن (
شرح قانون الإيمان فقرة 30 ) ليتصور المسيح فينا بالروح القدس.
لذلك فإن نسـطور إذ هـو ربيب أريـوس يفصل مثله بين المسـيح صـورة الآب
وبين الآب ليجعـل المسـيح صـورة الآب من المخلوقـات أى إنسـان مثلنـا (
1
ضد الأريوسيين 7 : 22 ص 47
).
أما المسيح صورة الله الممسوح منذ الأزل فيقول :
منـذ الأزل مسـحت منـذ البـدء .. كنت كل يـوم لذتـه بهجـة دائما قدامـه (
الأمثال 8 : 23 , 30 ).
متى إذن لم يكن الآب يرى نفسه فى صورته أو متى لم يكن يبتهج حتى يتجاسر
أحد ويقول أن الصورة أى المسيح مخلوق مثلنا. فإن كان المسيح مخلوق مثلنا
كما يزعمون فكيف يستطيع الخالق والصانع أن يرى نفسه فى جوهر مخلوق.
فمثلما يكون الآب هكذا يجب أن تكون صورته ( 1 ضد الأريوسيين 6 : 20 ص 44
).
فمتى إذن كان الآب موجودا بدون ما هو خاص به ذاتيا أى الابن الذى هو صورة
وبهاء الآب شكله وحقيقته. لأنه بما أن النور موجود هكذا صورته أيضا أى
بهاءه وكيانه الحقيقى وهو رسمه الذى يعبر عنه تعبيرا حقيقيا كاملا, وكما
أن الآب كائن هكذا تكون حقيقته ( 1 ضد الأريوسيين 6 : 20 ص 43 ).
المقالة الرابعة
السجود للآب بالروح والحق
فى لقاء الرب بالسامرية قال لها :
" يا امرأة صدقينى أنه تأتى ساعة لا فى هذا
الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون .. لأن
الخلاص هو من اليهود, ولكن تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون
يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين. الله روح
والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا. قالت له المرأة أنا
أعلم أن مسيا الذى يقال له المسيح يأتى. فمتى جاء يخبرنا بكل شىء. قال
لها يسوع أنا الذى أكلمك هو " ( يوحنا 4 : 21 - 24 ).
أوضح الرب للسامرية أنه هو المسيح المنتظر الذى
بمجيئه تبطـل عبـادة الله الآب الهيكلية بأورشليم من خلال الظلال
والأمثلة بقوله تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب
بالروح والحق.
بمعنى أنه بمجىء المسيح صـورة الآب تأتى الساعة
التى فيها لا يستطيع أحـد أن يقدم سجودا مقبولا للآب إلا بالروح القدس
والحق الذى هو المسيح صورة الآب الحقيقية أى أنه يشترط لتقديم السجود
للآب أن يكون الساجد قابلا للابن الذى هو الطريق والحق والحياة ( يوحنا
14 : 6 ) وقابلا أيضا للروح القدس الذى نلناه فى المعمودية الذى لنا به
قدوما للآب.
لهذا قيل " من آمن وتعمد خلص " لأنه بالإيمان
نقبل المسيح الذى هو الحق وبالمعمودية ننال الروح بهذين تكون عبادتنا
مقبولة ويكون لنا بهما قدوما للآب.
لأنه كما يقول بولس الرسول " أن الذين هم فى
الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله وأما أنتم فلستم فى الجسد بل فى الروح
إن كان روح الله ساكنا فيكم .. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك
ليس له ( أى ليس له نصيب مع المسيح ) .. إذ لم تأخذوا روح العبودية .. بل
أخذتم روح التبنى الذى به نصرخ أبا أيها الآب .. وكذلك الروح أيضا يعين
ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلى لأجله كما ينبغى ولكن الروح نفسه يشفع
فينا بأنات لا ينطق بها " ( رومية 8 : 8 - 26 ).
فى العهد القديم عبد اليهود الله من خلال ظلال
وأمثلة أبطلت فى العهد الجديد بإعلان سر الآب والمسيح صورة الآب الذى ظهر
فى الجسد. فصرنا بقبول
الحق
الذى هو صورة الآب الحقيقية ننال
الروح
الذى هو روح المسيح الذى لنا به قدوما للآب.
لأن الناموس كان له ظل الخيرات العتيدة لا نفس
صورة الأشياء لهذا متى أظهرت الصورة بطل الظل ومتى أظهر الحقيقى بطل
الرمز والمثال.
العهد القديم أعلن بروح المسيح ليأتى بنا إلى
المسيح صورة الله الآب الحقيقية.
وبمجىء المسيح الذى هو الصورة والحقيقة للآب غير المنظور بطل الظل
والمثال, وصارت العبادة لصورة الآب هى وحدها المؤدية إلى الآب إذ بمجيئه
صار هو وحده الطريق والحق والحياة.
لهذا قال أيضا لتلاميذه ليس أحد يأتى إلى الآب
إلا
بى لو
كنتم عرفتمـونى لعرفتم أبى أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه ( يوحنا 14
: 6 - 7 ) الذى رآنـى فقد رأى الآب ( يوحنا 14 : 9 ).
سر المسيح إذن من خلال الظل غير مستحدث إذ هو
معروف سابقا قبل تأسيس العالم ولكن أظهر فى الأزمنة الأخيرة من أجلنا.
إن موسى الذى كان مثالا للمسيح وضع برقعا على
وجهه لأن شعبه لم يستطع أن ينظر وجهه لذلك حتى اليوم مازال البرقع نفسه
عند قراءة العهد القديم باق غير منكشف الذى يبطل بالمسيح ( كورنثوس
الثانية 3 : 13 - 15 ) أى أن المسيح رفع البرقع الذى كان يحجب وجه الله
بظهوره بين البشر لذلك نحن جميعا ناظرين مجد الرب بدون برقع الناموس.
ومع ذلك فالناموس هو مرآة للحقيقة أى أننا من
خلاله يمكننا أيضا أن نرى صورة المسيح كما فى مرآة ومنها نعرف صورة
المسيح الحقيقية
(
السجود والعبادة بالروح والحق المقالة الأولى ص 24 ).
لأن الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذى
أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله فى
وجه
يسوع المسيح ( كورنثوس الثانية 4 : 6 ).
لأنه قبل مجىء المسيح كنا محروسين تحت الناموس
مغلقا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن. فالناموس إذن كان مؤدبنا إلى
المسيح ( غلاطية 3 : 23 - 24 )
كما أوضح إشعياء النبى بروح النبوة أن النقاب
الذى كان يحجب وجه الله عن كل الأمم يرفع على جبل الجلجثة عندما يبطل
المسيح موتنا ببسط يده على خشبة الصليب كما يبسط السابح يديه ليسبح وذلك
بقوله :
ويزيل فى هذا الجبل ( جبل الجلجثة ) وجه النقاب. النقاب الذى على كل
الشعوب والغطاء المغطى به على كل الأمم, ويبلع الموت إلى الأبد .. ويقال
فى هذا اليوم هو ذا هذا إلهنا إنتظرناه فخلصنا .. لأن يد الرب تستقر على
هذا الجبل .. ويبسط يديه كما يبسط السابح يديه ليسبح ( إشعياء 25 :
7 - 11 ).
الأمر الذى أثبته الرب نفسه بقوله " متى رفعتم
ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إنى أنا هو " ( يوحنا 8 : 28 ) لأنه بصلب
المسيح تم القصد الإلهى الذى جعل الله يستر وجهه عنا حتى يظهر نفسه فى
الوقت المعين من أجل خلاصنا حتى يتمم البشـر قصده بصلبه على
مثال الحية
التى رفعها موسى فى البرية ليبطل موت مـن يلتفت إليه بالإيمان بأنه هو
الرب فاديه ومخلصه,
وفى هذا يقول إشعياء النبى :
" حقا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل
المخلص .. هكذا قال الرب .. إلتفتوا إلى وأخلصوا يا جميع أقاصى الأرض
لأنى أنا الله وليس آخر. بذاتى أقسمت خرج من فمى الصدق كلمة لا ترجع. إنه
لى تجثو كل ركبة يحلف كل لسان " ( إشعياء 45 : 15, 22, 23 ).
هذا الذى أقسم بذاته أنه له ستجثو كل ركبة هو
المسيح الإله الذى كان محتجبا وأظهر فى الأيام الأخيرة من أجل خلاصنا
الأمر الذى أوضحه بولس الرسول بقوله :
أن المسيح يسوع إذ كان فى صورة الله .. وضع
نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب .. لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ..
ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب ( فيلبى 2 : 5 - 11
).
المقالة الخامسة
هل اسم المسيح خاص
بإنسان أم بالثالوث؟
يقول ثيؤدورت أسـقف قورش وهـو من أشـهر
أعلام النسطورية فى مؤلفـه " الجامع للطبيعتين " المنشور تحت عنوان
"
كمال البرهان على حقيقية الإيمان "
منسوبا للقديس أثناسيوس الرسولى ما نصه :
" إن المسيح لو قال أنه الله لأدخل من آمن
به فى خطأ كبير لأن من قال الله فقد سمى الجوهر الإلهى وجمع فى قوله
الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس. فلو قال المسيح إنى الله فقد
نسب نفسه إلى الآب والابن والروح القدس وأن الأقانيم الثلاثة له وأنه
الوالد والمولود والمنبثق وذلك باطل وإذن لقلنا أن الجوهر كله قد تجسد "
(
الجامع للطبيعتين 3 : 5 ص 61 ).
وردا على ذلك نأتى بقول يوحنا البشير :
" فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله
وكان الكلمة الله .. والكلمة صار جسدا " ( يوحنا 1 : 1 , 14 ).
وأيضا قول بولس الرسول :
" عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد " (
تيموثاوس الأولى 3 : 16 ).
ما الذى نفهمه من ذلك ؟
نحن نفهم من ذلك وفقا للتعليم الرسولى أن
الكلمة هو الله الذى ظهر فى الجسد وأنه حيثما وجد أحد الثالوث فهناك
الثالوث القدوس كاملا.
وهذا التعليم هو الذى يتفق مع التعليم
الصحيح لأثناسيوس الرسولى القائل:
" أن الثالوث لا يتجزأ إذ هو واحد فى
ذاته. لأنه حيثما ذكر
الآب
ذكر ضمنا كلمته والروح القدس, وإذا ذكر
الابن
فإن الآب فى الابن, والروح القدس أيضا لا يخرج عن الابن. لأن من الآب
نعمة واحدة تتم بالابن فى الروح القدس, وهناك
طبيعة واحدة إلهية
وإله واحد
.. لهذا فإن بولس عندما قال " أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح " (
تيموثاوس الأولى 1 : 25 ) كان واثقا بأن الروح لم ينفصل عن الابن بل هو
نفسه فى المسيح كما أن الابن فى الآب ( الرسالة الأولى إلى سرابيون ف 14
ص 47 - 48 ) .
لأن التعليم بأن الكلمة أخذ جسدا لا يناقض
التعليم بأن الله ظهر فى الجسد. لأن الأقنوم
وفقا للمعتقد الأرثوذكسى لا يوجد بمعزل عن جوهره.
فالكلمة وإن كان هو الفاعل فى التجسد إذ هو
المشخص للجسد الذى اتخذه وصيره جسده الخاص فإنه لا يوجد بمعزل عن جوهره.
لأنه حيثما وجد الأقنوم هناك الجوهر كاملا فالآب موجود بذاته ناطق بكلمته
حى بروحه, والابن موجود بالآب حى بالروح القدس, والروح القدس موجود بالآب
ناطق بالابن.
من ذلك نرى أن الأقنوم لا يوجد أبدا بمعزل
عن جوهره الكامل مطلقا فحيثما وجد الأقنوم هناك الثالوث كاملا.
أما قول ثيؤدورت أن المسيح لو قال أنه الله
فقد نسب نفسه إلى الآب والابن والروح القدس وأن هذا حسب تصوره باطل لأن
معناه أن الجوهر كله قد تجسد أى اتحد بإنسان حسب مفهومه. فمردود بأن
المسيح ليس إنسان متحد بالكلمة بل هو نفسه كلمة الله وحكمته الناطق فى
الأنبياء الذى فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التى لأجلنا
باحثين أى وقت أو ما الوقت الذى كان يدل عليه روح المسيح الذى فيهم إذ
سـبق فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدهـا ( بطرس الأولى 1 :
10 - 11 ).
أى أن الروح القدس إذ هو روح المسيح سبق
فشهد لنفسه عن الآلام التى سيلقاها والأمجاد التى بعدها مبرهنا على أنه
الله لا إنسان وأن روحه أزلية ناطقة فى الأنبياء وبها قدم نفسه ( أى دمه
) لله بلا عيب ( العبرانيين 9 : 12 - 14 ).
وقد أوضح بولس الرسول من خلال كتاباته أن الآب
يرسل روح ابنه إلى قلوبنا ليتصور المسيح فينا ( غلاطية 4 : 6 , 19 ).
وهذا معناه أنه كما أن الابن هو التعبير
الكيانى وصورة الآب من رآه فقد رأى الآب. هكذا الروح القدس هو التعبير
الكيانى والصورة الموضحة للابن
.
الأمر الذى أثبته الرب نفسه بقوله لتلاميذه
عن روحه بأنه روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا
يعرفه وأما أنتم فتعرفونـه لأنه ماكث معكم ( أى المسيح ) ويكون فيكم (
يوحنا 14 : 17 - 20 ).
لأنه كما أن الابن فى الآب والآب فى الابن
هكذا أيضا هو فى الروح القدس والروح القدس فيه إذ هـو روحـه الذاتى
وتعبيره الكيانى.
لأن الرب هـو الروح
( كورنثوس الثانية 6: 17 ) الذى يرسله الآب
باسم المسيح
( يوحنا 14: 26 ) الذى يحل بالإيمان فى قلوبنا.
فالابن لم يأت باسم مختلف والروح باسم آخر. بل أتى كليهما باسم واحد لسبب
وحدة الجوهر لهذا كما أن الروح يسمى " باركليت " هكذا الابن أيضا يسمى
باركليت أى معزى بدليل قوله " أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر " (
يوحنا 14 : 16 ) وقوله معزيا آخر دليل على أن
وحدة الاسم بسبب وحدة الجوهر لا تبطل تمايز الأقانيم فى الثالوث.
فالآب
أظهـر ذاتـه بالابن الـذى فيـه عرف البشـر اسـم الآب وصـورتـه ( يوحنا 17
: 6 , 25 - 26 ) والروح القدس أتى باسم المسيح إذ هو صورة الابن الكيانية
( أمبروسيوس الروح القدس 1 : 13 فقرة 133 - 139 )
( شرح إنجيل يوحنا 4 : 3 يو 6 : 63 ص 175 - 176 ).
وخلاصة الأمر أن أيا من رأى المسيح صورة الآب فقد
رأى الآب والروح القدس أيضا لأن الابن هو الصورة الكيانية الموضحة لجوهر
الثالوث. لأن الابن هو بهاء مجد الله ورسم جوهره ( العبرانيين 1 : 3 )
لأن الرسم يظهر الأصل تماما والرسم موجود بكليته فى الأصل أى أن المسيح
صورة الله هو رسم الثالوث الكامل من رآه فقد رأى الآب والروح القدس جميعا
بسبب وحدة الجوهر.
لهذا قال الرب لتلاميذه ما مفهومه :
أن العالم لا يعرف روح الحق لأنه لم يراه
ولم يعرفه أما هم فيعرفونه لأنه فى وسطهم وسيكون فيهم
(
يوحنا 14 : 16 ).
وهذا معناه أن أيا من رأى المسيح فقد رأى روح
الحق أيضا.
وأيضا قال لتلاميذه :
" أنا فى الآب والآب فى. من رآنى فقد رأى
الآب. أنا والآب واحد ".
مما تقدم يتضح أن المسيح الأقنوم الثانى فى
الثالوث كائن بالآب فى الروح القدس, وأن التعليم بأن الكلمة صار جسدا لا
يضاد التعليم بأن الله ظهر فى الجسـد لأن الكلمة رغم كونه صـورة الله
وكمال الإعلان عن الثالـوث الواحد فى الجوهـر إلا أنه المختص بتشخيص
الجسد الذى اتخذه وصوره على صورة مجده.
لذلك لم يقل الكتاب أن أيا من الآب أو الروح
القدس قد تجسدا رغم أن الابن كائن بالآب فى الروح القدس الذى أبطل موت
جسده الخاص بتصييره روحانيا أى محييا بروحه المحيى الذى به صار أبا جديدا
للبشرية المولودة باسمه ميلادا ثانيا ليس من دم يموت كما فى الميلاد
الأول بل مما لا يموت بروحه الساكن فينا.
من هنا علينا أن نميز بين حلول المسيح فى
أجسادنا بروحـه المحيى حلول شركة ليمنحنا نعمة الميلاد الثانى والقيامة
من الأموات وبين حلوله فى جسـده الخاص حلولا تشخيصيا بروحه المحيى.
فالمسيح كلمة الله هو المشخص والمعلن لذات
الله إذ هو صورة الله. إلا أن وجود الكلمة لا يكون إلا بالآب فى الروح
القدس لأن الآب هو أقنوم الوجود الإلهى والروح هو أقنوم الحياة الذاتية
للآب والابن.
لهذا قال الابن لتلاميذه أنا فى الآب والآب
فى. من رآنى فقد رأى الآب. أنا والآب واحد, وأيضا أن روح الحق الذى
يعرفونه - أى المسـيح - ماكث معهم ويكون فيهم ( يوحنا 14 : 17 ) لأن وجود
الابن هو بالآب فى الروح القدس الذى هو روح الابن وتعبيره الكيانى الذى
يحمل اسمه ( يوحنا 14 : 26 ).
وأيضا فإن حلول أقنوم الروح القدس فينا
كنعمة لا يتم بمعزل عن جوهـره الكامل إنما اختص الروح القدس بالحلول فى
أجسادنا لأنه روح الحياة المحيى الذى باشتراكه فى أجسادنا يقوم مقام الدم
فى إحياءها. من ذلك نرى أن الأقنوم لا يوجد أبدا بمعزل عن جوهره.
لهذا قال رب المجد يسوع المسيح لتلاميذه :
" أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بى .. لو كنتم
عرفتمونى لعرفتم أبى أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه " ( يوحنا 14 : 1
- 7 ).
من ذلك نرى أن المسيح بقوله لو كنتم
عرفتمونى لعرفتم أبى أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه وأن من رآه فقد
رأى الآب. لم يدخل من يؤمن به فى خطأ ما. بل الواقع أن من لا يؤمن بأن
يسوع هو صورة الله الحقيقية وأن من رآه فقد رأى الله لكونه بالحقيقة الله
الظاهر فى الجسد هو فى خطر حقيقى. لأن المسيح صورة الله هو كمال الإعلان
عن ذات الله الحقيقية الذى إشتهى أنبياء أن ينظروه ولم ينظروا أما الذين
نظروه فشهدوا بالحق بأن هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.
المقالة السادسة
هل للمسيح روح إنسانية
مشخصة باللوجوس ؟
يقول الأب لويس برسوم الخلقيدونى المذهب :
" أن أقنوم الكلمـة بطبيعتين أى بروحين لاهوتية
وناسوتية متميزتين بعـد الإتحاد ".
والسؤال الذى يفرض نفسه ردا على هذه المقولة هو
كيف يعقل أن يكون للطبيعتين العاقلتين عقلا واحدا إلهيا؟ ثم بفرض إمكانية
ذلك جدلا أفلا يعنى هذا أن أقنوم العقل الإلهى بقيامه مقام العقل فى
الروح البشرية قد لاشاها وأبطلها بإبطال عقلها البشرى. لأن الطبيعة
الإنسانية العاقلة لا تدرك وجودها إلا بعقلها فإن لاشى اللاهوت عقلها
يكون قد لاشى وجودها ذاته.
أليس ما يقررونه هو عين البدعة المنسوبة
لأوطاخى؟!
ولا يظن أحد أننا بقولنا هذا نتجنى عليهم بل أن
هذا إقرارهم بأفواههم بشهادة الأب لويس برسوم نفسه الذى كتب يقول نقلا عن
ثيؤدورت أسقف قورش :
أن الطبيعة البشرية فى يسوع المسيح وإن كانت طبيعة
كاملة كل الكمال إلا أنـه ليس لها شخصية بشرية. لأن أقنوم الكلمة ضمها
إليه مباشرة منذ أول لحظة من كيانها, ومعنى ذلك أن طبيعة المسيح البشـرية
( أى روحه الإنسانية ) تقوم بقيام أقنومه الإلهى ( أى تشخص بأقنوم العقل
الإلهى لا بعقلها الخاص ) ولذا كان فى المسيح مسيحا واحـدا لا مسيحين لأن
أقنومـه واحـد هـو أقنوم الكلمـة الأزلـى ( الجامع للطبيعتين 3
:
4 ص 56 ) وبالتالى فالمسيح هو شخص إلهى لا بشرى.
هذه الأقوال التى يقررها الأب لويس برسوم ليس
لها سوى معنى واحد وهو أن الطبيعة اللاهوتية بأقنوم الكلمة لاشت الطبيعة
البشرية وابتلعتها منذ لحظة وجودها بإبطال عقلها البشرى, وهكذا وجدوا
ساقطين فى ذات البدعة التى اصطنعوها للإيقاع بأوطاخى وهو برىء منها وهم
ساقطون فيها.
لأن القول بأن الروح الإنسانية فى المسيح ليس
لها شخصية لأن الكلمة ضمها إليه منذ لحظة وجودها معناه أنه أبطلها بإبطال
عقلها منذ وجودها. لأن الروح الإنسانية لا قيام لها إلا بعقلها الإنسانى
إذ لا قيام لطبيعة عاقلة إلا بعقلها الخاص, ولا توجد روح بلا شخصية لأنها
إما أن تكون شخصا وإما أن تكون عدما. لأن العقل هو مركز الشخصية للطبائع
العاقلة الذى به تدرك وجودها ذاته فإن فقدت عقلها فقدت وجودها.
أما قوله أن الروح الإنسانية فى المسيح
لا قيام لها إلا بأقنوم اللوجوس فمعناه أن العقل البشرى قد فنى وتلاشى
وبالتبعية تفقد الروح الإنسانية وجودها.
ومع ذلك حتى إذا افترضنا جدلا أن اللوجوس أى
عقل الله اتحد بروح إنسانية وشخصها فإن المسيح لن يكون شخصا إلهيا كما
يزعم الأب لويس بل يكون شخصا من أنصاف الآلهة النصف إنسان والنصف إله.
لأن من كان بروح إنسانية مشخصة بعقل إلهى لا
يكون إلها ولا إنسانا بل من أنصاف الآلهة المركبة من جزء خالق وجزء مخلوق
وهذا باطل نقلا وعقلا لأن الشخص أما أن يكون إلها أو إنسانا ولا وسطية.
لأن الطبائع العاقلة لا تقبل التجزئة ولا التركيب, وفى هذا يقول أثناسيوس
الرسولى :
كيف احتملوا أن يدعى روح الابن مخلوقا ..
كيف لم يدركوا أنهم بجعل الروح من طبيعة مخالفة لطبيعة الابن لا يبقى
الثالوث واحدا بل مركبا من طبيعتين مختلفتين ( الرسالة الأولى إلى
سرابيون ف 2 ).
لأنكم الذين تقولون أن المسيح ليس مخلوقا
تقولون أن روحه ( أى الروح القدس ) مخلوقـة. أنه من السخافـة أن تذكروا
معا أشـياء مختلفـة فى طبيعتهـا ( الرسالة الأولى إلى سرابيون ف 9 )
فروح المسيح هو الروح القدس وهو غير منفصل عن
الكلمة ( الرسالة الأولى إلى سرابيون ف 31 )
لأنه أى شىء كان ينقص الله حتى يتخذ
لنفسه ما هو غريب عنه فى الجوهر ليشاركه مجده ( الرسالة الثالثة إلى
سرابيون ف 5 ).
أما الأب لويس برسوم فيستطرد قائلا :
أن أقنوم الكلمة هو وحده الذى تجسد وصار إنسانا
لا كل الثالوث الإلهى
وهذا واضح من قول البشير يوحنا " الكلمة صار جسدا "
.
وردا على ذلك نقول أن الأقنوم لا يوجد أبدا
بمعزل عن جوهره وأن تخصيص أقنوم الكلمة بالتجسد فلكونه العقل المعلن لذات
الله والمشخص لجسده الخاص لذلك فإن القول بتجسد الأقنوم الإلهى لا يضاد
القول بتجسد الجوهر الإلهى لأن بولس رسول الأمم يكتب قائلا:
عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد (
تيموثاوس الأولى 3 : 16 ).
وأيضا يقول أنه فى المسيح المذخر فيه جميع كنوز
الحكمة والعلم يحل كل ملء اللاهوت جسديا ( كولوسى 2 : 3 , 9 ).
وهذا معناه أن المسيح حكمة الله حل بكل ملء
لاهوته فى الجسد. أى أن حلول الابن فى الجسد إنما هو بالآب فى الروح
القدس. إذ الواقع أنه إن أنكرنا اشتراك الآب فى تجسد الكلمة فلن يكون
هناك تجسد أصلا لأن وجود الكلمـة فى الجسد إنما هو بالآب أى بأقنوم
الوجود الإلهى فى الروح القدس.
ثم
كيف نفصل الابن عن الآب وهو صورته
بهاء مجده ورسم جوهره أى تعبيره الكيانى
من رأه فقد رأى الآب
لأنه والآب واحد, وأيضا كيف نفصله عن روحه وهو تعبيره الكيانى الذى يحمل
اسمه من رأه فقد رأى الروح القدس. لأن من عرف الابن فقد عرف الآب والروح
القدس أيضا ( يوحنا 14 : 9 , 17 ).
ثم يأتى الأب لويس برسوم بأقوال لثيؤدورت منسوبة
لأثناسيوس فى كتابه إلى أنتيخوس تثبت معتقد خلقيدونية يقول فيها :
والواقع أن السؤال بهذه الصيغة يعد لا منطقى ومناف
للمعقول. تصور أننى أسألك بكم روح أنت ؟
سؤال لا يمكن طرحه لأن لله كما لنا كما لكل
الخليقة العاقلة روح واحدة ولـم ولن يوجد شخص بروحين أى أقنوم بطبيعتين,
وأيضا فإن جواب الأسئلة لا يقل عنها لا منطقية ولا معقولية. لأنه كيف
يكون للطبيعة الواحدة ثلاثة أقانيم وللطبيعتين أقنوم واحد؟! إن المنطق
السليم يأبى ذلك.
أما السؤال الصحيح الواجب طرحه فيما يتعلق
بطبيعة المسيح فهو الذى طرحه الرب على تلاميذه القديسين بقوله من يقول
الناس إنى أنا ابن الإنسان؟ وقد سأل ذلك لسبب صورته الإنسانية التى هى
أصلا صورة الله الآب الحقيقية. فقالوا له ما يعتقده الناس فيه. لهذا قال
لهم وأنتم من تقولون إنى أنا ؟ فقال بطرس أنت هو المسيح ابن الله الحى.
فطوبه الرب على ذلك وقال له على هذه الصخرة - أى على إقرار الإيمان هذا -
أبنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ( متى 16 : 13 - 18 ).
لهذا فإن إقرار إيماننا المطوب هو فى الاعتراف
بأن المسيح هو ابن الله الحى الذى وإن ظهر فى صورة ابن إنسان إلا أنه كان
فى صورة الله الآب الحقيقية.
لهذا قال بولس الرسول :
عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد, ولم يقل
عظيم هو سر التقوى الله اتحد بروح إنسان أو أنه وحد إنسانا من البشر
بنفسه.
المقالة السابعة
المقصود بالقول أن
الإنسان لا يرانى ويعيش
يقول الكتاب " كان منظر مجد الرب كنار آكلة على
رأس الجبل أمام عيون بنى إسرائيل " ( خروج 24 : 17 ).
فقال بنى إسرائيل " هوذا الرب إلهنا قد أرانا
مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار. هذا اليوم قد رأينا أن الله
يكلم الإنسان ويحيا " ( تثنية 5 : 24 ).
فقال موسى لبنى إسرائيل " فى اليوم الذى وقفت
فيه أمام الرب إلهك فى حوريب .. تقدمتم ووقفتم فى أسفل الجبل والجبل
يضطرم بالنار إلى كبد السماء .. فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون
صوت كلام ولكن لم تروا صورة بل صوتا .. فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم
الرب فى حوريب من وسط النار. لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالا منحوتا
لصورة ما شبه رجل أو امرأة " ( تثنية 4 : 10 - 16 ).
من هذه الآيات يتضح أن الله كلم بنى إسرائيل من وسط
النار فسمعوا صوته ولكنهم لم يروا صورته لئلا يحمقوا فى أفكارهم بسبب قلة
معرفتهم إذ كان الوحى فى مهده فيضلوا ويستبدلوا مجد الله الذى لا يموت
بشبه صورة إنسان يموت وهو المعتقد الذى سقط فيه بإظلام العقل رغم كمال
الوحى وتقدم المعرفة الأريوسيين فالنساطرة فالخلقيدونيين فاليعاقبة ثم كل
الذين
لم يعرفوا المسيح ولا الآب لأنهم لو
عرفوه لعرفوا الآب أيضا. فكان أن عثروا فيه باعتقادهم أنه إنسان مائت
مثلنا رغم أنه وحده الحى الذى لا يموت أى الحى على الدوام الذى أبطل
الموت بموته.
ويخبرنا الكتاب المقدس أن موسى كان يكلم الرب وجها لوجه كما يكلم الرجل
صاحبه ( خروج 33 : 11 ).
الأمر الذى يعنى أن موسى نظر وجه الرب
وهو ما أثبته الرب نفسه
بقوله
لهارون ومريم من خلال عمود السـحاب " اسمعا كلامى إن كان منكم نبى للرب
فبالرؤيا أستعلن له وأما عبدى موسى فليس هكذا بل هو أمين فى كل بيتى وجها
لوجه أتكلم معه .. وصورة الرب يعاين " ( عدد 12 : 6 - 8 ).
ورغم أن موسى نظر الرب عيانا إلا أنه قال له "
أرنى مجدك
" فصار موسى بهذا السؤال كرؤساء كهنة اليهود الذين نظروا المسـيح صـورة
الآب ولم يعرفـوه ( لأنه وإن لم يأتهم فى جبروت القوة إلا أنه أظهر لهم
مجده باجتراح آيات لم يصنع أحد مثلها قط ) فسألوه " إن كنت أنت المسيح
فقل لنا " ( لوقا 22 : 67 ) فقال إن قلت لكم لا تصدقون .. أنه منذ الآن
يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قـوة الله. فكأنه قال لهم كما قال لموسى
" أجيز كل جودتى قدامك وأنادى باسم الرب قدامك .. لكنك لا تقدر أن ترى
وجهى لأن الإنسان لا يرانى ويعيش ( أى أن الإنسان الطبيعى لا يقدر أن
يرانى ويعيش فى وضعية ظهورى فى نور لا يدنى منه ) .. هوذا إنى أضعك فى
نقرة من الصخرة وأسترك بيدى حتى اجتاز ثم أرفع يدى فتنظر ورائى وأما وجهى
فلا يرى " ( خروج 33 : 18 - 23 ).
لقد أراد موسى الذى يمثل بنى إسرائيل أن يرى الله لا
فى صورته الإنسانية التى خلقنا على شبهها بل فى وضعية سكناه فى نور لا
يدنى منه فقال له الرب
هو ذا عندى مكان، كأنما يعنى لقد دبرت لك الوسيلة لترى مجدى ولا تموت.
فإنى أحملك إلى سر التجسد بوضعك فى نقرة من الصخرة
فأجيز كل جودتى قدامك وأنادى باسم الرب قدامك ومع ذلك لا تقدر أن ترى
وجهى لأن الإنسان الطبيعى لا يقدر أن يرانى فى هذه الوضعية ويعيش إلا إذا
احتمى بالصخرة التى تمثل رمزيا المسيح. فاجتاز المسيح بكل جوده أمام موسى
الذى يمثل رمزيا بنى إسرائيل ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظروه لأن الرب حجب
أعينهم بيديه بظهوره فى صورة بشريتنا حتى اجتاز وأكمل التدبير بصلبه
عندئذ رفع يده أى صعد إلى مجده فنظر موسى أى شعب إسرائيل خلفه بعد أن عبر
دون أن يرى وجهه الأمر الذى أثبته الرب نفسه بقوله لبنى إسرائيل :
" لا تروننى من الآن حتى تقولوا مبارك الآتى
باسم الرب " ( متى 23 : 39 ).
أى أنهم لن يروه إلا فى مجيئه الثانى المخوف
آتيا على سحاب السماء فى قوة ومجد كثير ( لوقا 21 : 27 ).
لهذا قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس :
" احفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا
يسوع المسيح الذى سيبينه فى أوقاته المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب
الأرباب. الذى وحده له عدم الموت سـاكناً فى نـور لا يدنى منـه. الذى لـم
يره أحـد من الناس ولا يقدر أن يـراه " ( تيموثاوس الأولى 6 : 14 - 16 ).
مما تقدم يصير محققا أن لله الآب الساكن فى نور
لا يدنى منه صورة وهيئة منظورة هى ابنه بهاء مجده ورسم جوهره, وأن الآب
فى وضعية سكناه فى نور لا يدنى منه لم يره أحد من الناس قط بل ولا يقدر
أن يراه ويعيش إلا من خلال ابنه الوحيد إذ هو وحده صورته الحقيقية
المعبرة عنه. فالآب لم يأتى بصورة والابن بصورة أخرى. بل أن الآب لا يرى
إلا من خلال صورته أى ابنه بهاء مجده ورسم جوهره من رأه فقد رأى الآب
لأنه والآب واحد.
فالقضية إذن ليست حول هل لله صورة من عدمه على
خلاف ما يظن المنزهة الذين يتخذون من هذه الآية برهانا على إنكار الصورية
وأن المسيح ليس صورة الله مستدلين على ذلك بقول الرسول " الله لم يره أحد
من الناس ولا يقدر أن يراه " وهذا صحيح فى وضعية سكناه فى نور لا يدنى
منه. بل أن موسى نفسه لم يستطع أن ينظره رغم احتمائه بالصخرة أى بالمسيح
لأن المسيح حجب عينه حتى اجتاز مجده ولم ينظره موسى الذى يمثل إسرائيل
رمزيا الذى ما زال إلى اليوم يترقب رؤية مجد الله الذى اجتاز بينهم ولم
يعرفوه ولن يعرفوه حتى يقولوا مبارك الآتى باسم الرب.
فحقيقة المسألة إذن متعلقة لا بحقيقة أن لله
صـورة من عدمه بل فى مدى إمكانية البشر أن ينظروه أو يقتربوا منه حال
ظهوره فى نور لا يدنى منه.
وقد كشف يوحنا الرسول عن ماهية صورة الله التى
نظرها موسى والأنبياء بقوله " الله (
الآب ) لـم يره أحد قط ( يوحنا الأولى 4 : 12 )
الابن الوحيد الذى هو فى حضن الآب ( أى الذى مع الآب ) هو خبر " ( أى
أظهره ) ( يوحنـا 1 : 18 ).
بمعنى أن أحـد لم يرى الله ( الآب ) قط إلا من
خلال الابن الوحيد الذى يمثل كيانه الحقيقى لأن الابن صورة أبيه من رأه
فقد رأى الآب لأنه والآب واحد.
فالمسيح هو كمال الإعلان عن الذات الإلهية أى
أنه بالحقيقة والجوهر صـورة الله المعلنة
للبشر.
لهذا أظهر الله وجهه أى مسيحه تدبيريا لبعض آباء وأنبياء العهد القديم
ليخبروا عنه إلى أن يأتى فى الأيام الأخيرة بنفسه ليكلمنا من خلال ابنه
يسوع المسيح صورة الله بهاء مجده ورسم جوهره.
وفى هذا يقول بولس الرسول :
لأنكم لـم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار
وإلى ضباب .. وهتاف بوق .. بل قد أتيتم .. إلى وسيط العهد الجديد يسوع (
العبرانيين 12 : 18 - 24 ).
أى أنكم لم تأتوا إلى جبل مضطرم بالنار من
يقترب منه يموت بل إلى وسيط العهد الجديد يسوع الذى صالح الكل لنفسه
عاملا الصلح بدم صليبه.
فيسوع الذى أتوا إليه هو هو الذى ستر نفسه
تدبيريا فى العهد القديم وأظهر فى العهد الجديد. لهذا قال بولس
الرسول أن يسـوع المسـيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد ( العبرانيين 13 :
8 ) وذلك حتى لا يظن أحد أن اسم يسوع المسيح أو صورته استحدثا بسبب
تجسده. إذ الواضح وفقا للحق الكتابى المعلن أن الله خلق الجميع بيسوع
المسيح ما يدل على أن اسم يسوع هو اسم الله الحقيقى الذى أخفاه تدبيريا
من أجل خلاصنا وأظهره فى العهد الجديد ( يوحنـا 17 : 6 , 12 , 26 ) لكى
تجثو باسمه كل ركبة مما فى السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ويعترف كل لسان
أن يسوع المسيح هو الرب لمجد الله الآب ( فيلبى 2 : 10 - 11 ).
أى أن يسوع المسيح هو الله قبل تجسده وبعده لهذا عندما سأل فيلبس السيد
المسيح قائلا " يا سيد أرنا الآب وكفانا، قال له
يسوع
أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفنى يا فيلبس الذى رآنى فقد رأى الآب " (
يو 14 : 8 - 9 ).
كانت إجابة السيد المسيح لفيلبس تعنى أنه رغم أنه رآه زمانا هذا مدته إلا
أنه لم يعرفه كما لم يعرف الآب لأنه لوعرفه لعرف الآب أيضا.
لأن فيلبس ظن أنه قد عرف المسيح برؤيته له. فأراد أن يعرف الآب هكذا. لكن
يسوع أوضح له أنه بقوله هذا دل على أنه لم يعرف المسيح نفسه لأنه لو كان
قد عرفه لعرف الآب أيضا لأنه والآب واحد من رآه فقد رأى الآب.
القسم الثالث
طبيعة المسيح
The Nature of Christ
الفصل الأول
المقصود بالطبيعة
يقصد بالطبيعة طبع الشىء أى كنهه, والطبائع
ثلاث مادية ونفسانية وعاقلة.
أولا : الطبيعة المادية
يقصد بالطبيعة المادية طبع المادة من حيث
كونها عادمة الحياة ومع ذلك فقد ثبت أن للمادة أو للأجسام المادية عموما
تنظيم ذاتى سيبرنتيكى وأن لذرات العناصر ذاكرة تنظم حركتها وتعطيها
تميزها وتجعلها تتعرف على الذرات المشابهة لها وتتحد بها دون غيرها مكونة
عنصر معين أو مادة معينة.
ثانيا : الطبيعة النفسانية أو المتنفسة
ويقصد بها
النفس الحية من حيث كونها حياة مادية ذات صبغة تنفسية هى علة الحياة النفسانية أو
المتنفسة للحيوان والنبات.
وقد ثبت أن للنفس الحية تنظيم ذاتى سيبرنتيكى وأن
لها ذاكرة تفاعلية مثبتة فيها أكثر رقيا تنظم حركتها وتضبط العمليات
الحيوية فى الجسم كالحرارة والضغط والتنفس وما إلى غير ذلك وهى غير ناطقة
قابلة للموت والفناء.
وطبيعة الحياة النفسانية أو المتنفسة نوعان
حيوانية ونباتية.
ا - الطبيعة الحيوانية
يقصد بالطبيعة الحيوانية
النفس الحية
أى الدم ( تثنية 12: 23 ) من حيث كونها
مادة حية متنفسة هى علة حياة الجسد الحيوانى ( لاويين 17 : 11 - 14 )
المتنفس بطريقة أوتوماتيكية سيبرنتيكية تتم بمجرد تلقى
النفخة الأولى أو النسمة الأولى ( تكوين 2 : 7 ) دون أى تدخل من العقل أو الإرادة
البشرية.
لذلك فالأجسـاد الحيوانيـة أى الحية بالدم
هى أنفـس حيـة ( تكوين 2 : 7 ) ( تكوين 1 : 24 ) هذه الأنفس الحية لسبب
طبيعتها المادية وصبغتها التنفسية قابلة لسبب ضعفها للفساد والموت إذا ما
أصابها عارض حد من قدرتها على تجديد نفسها بما يحول دون تكرارية الحركة
التنفسية واستمرارها إلى ما لا نهاية.
والطبيعة الحيوانية أى النفس الحيوانية لها
ذاكرة تفاعلية أى غريزيـة مثبتة فيها أكثر رقيا من تلك التى للنفس
النباتية.
ب - الطبيعة النباتية
يقصد بالطبيعة النباتية النفس الحية
النباتية التى هى مادة الكلوروفيل من حيث كونهـا مـادة حية ذات صبغة
تنفسـية هى علة الحياة النباتية وهى كالدم من حيث كونها حياة نفسانية غير
ناطقة وبائدة أى قابلة للموت والفناء.
ثالثا : الطبيعة العاقلة
الطبيعة العاقلة أو الناطقة أو الكلمانية
يقصد بها الروح أى الجوهر الروحانى العاقل الخالد الذى لا يفنى ولا يموت.
والطبائع العاقلة ثلاثة إلهية وبشرية
وملائكية.
1 - الطبيعة الإلهية
ويقصد بها الروح القدس المحيى الذى هو روح
المسيح آدم الأخير ( كورنثوس الأولى 15 : 45 ).
والروح القدس الرب المحيى المنبثق من
الآب كطبيعة هو الوحيد الذى له القدرة على إقامة الأجساد وإحياءها لأنه
وحده روح القيامة والحياة.
وكما أن الله الآب وحده هو الذى له الحياة
فى ذاته وله القدرة أن يقيم الأموات هكذا الابن أيضـا إذ هو صـورة الآب
له الحياة فى ذاتـه وبالتالى له ذات القـدرة فى أن يقيم من يشـاء ( يوحنا
5 : 21 , 26 ) وهـذه الحياة الذاتية للآب والابن هى بالروح القدس المحيى
روح القيامـة والحيـاة الذى بـه نحيا ونتحرك ونوجـد ( أعمال 17 : 28 ).
فالطبيعة الإلهية موجودة دائما ومكتفية
بذاتها أى لها حياة فى ذاتها ومحيية.
2 - الطبيعة الإنسانية
ويقصد بها الروح الإنسانية التى يصورها الله
داخل كل إنسان ( زكريا 12 : 1 ) وهى جوهر روحانى عاقل خالد لا يفنى ولا
يموت ( لوقا 23 : 43 ) وهى كطبيعة غير مكتفية بذاتها إذ تحصل على وجودها
بالخلق وليس لها حياة فى ذاتها كما أنها غير محيية أى ليس لها القدرة على
أن تهب الحياة لجسدها الخاص ولا أن تحييه.
والروح الإنسانية تسكن الجسد الحيوانى الحى
بالدم لا بالروح لأن روح الإنسان كما قدمنا غير محيية وليس لها حياة فى
ذاتها لأن حياة جسدها الخاص ووجودها ذاته مستمد من الله الذى به نحيا
ونتحرك ونوجد. لذلك فإنها بموت الجسد الحيوانى تمسك منه أى تحبس فيه إلى
الأبد. لأن أجرة الخطية موت أبدى.
لهذا ومن أجل خلاصنا وإقامة أجسادنا من
الموت جاء آدم الثانى الرب من السماء بروح محيى غير مائت ليبطل موتنا
بروحه الساكن فينا الذى به نصير خليقة جديدة روحانية أى خليقة مقامة
بالروح القدس المحيى.
3 - الطبيعة الملائكية
ويقصـد بها الروح الملائكية وهى كأرواح
البشر غير مكتفية بذاتها وغير محيية وقد صورها الله داخل أجسـادها
المصنوعة من رياح نارية ملتهبة كما هـو مكتوب الصـانع ملائكتـه رياحـا
وخدامـه لهيب نار ( مزمـور 104 : 4 ) وأجساد الملائكة روحانية أى محيية
بالروح القدس المحيى.
وقد خلقت الملائكة بنوعيها السرافيم
والكروبيم فى صورة مركبات أو سفن طائرة ولها مظهر السحب.
وعن الأخيرة قيل ركب على كروب وطـار وهف على
أجنحة الرياح ( مزمور 18 :10 ) الجاعل السحاب مركبته الماشى على أجنحة
الريح ( مزمور 104 : 3 ) وعلى متن إحدى هذه المركبات صعد إيليا إلى
السـماء ( الملوك الثانى 2 : 11 ) كما أخنوخ أيضا ( بن سيراخ 44 : 16 )
وعلى متنها أيضا سيعودان إلى السـماء بعد أن يتمما شهادتهما ( رؤيا 11 :
12 ).
ونظرا لأن أجساد الملائكة روحانية أى محيية بالروح
القدس المحيى
لذلك فإن الملائكة الذين أخطأوا وسقطوا من الروح القدس لا يمكن تجديدهم
أى لا يمكن إحياءهم بالروح القدس مجددا بعد أن ينزع منهم فى يوم القضاء
العظيم.
أما البشر الذين يحسبون أهلا للقيامة من الأموات
فيصيرون مثل الملائكة وهم أبنـاء الله إذ هم أبناء القيامة ( لوقا 20 :
36 ) بسبب روح التبنى الذى هو روح المسيح الساكن فيهم ( رومية 8 : 15 ).
بمعنى أن البشر الذين سيحسبون أهلا للقيامة
من الأموات سوف يصيرون مثل الملائكة أحياء بالروح القدس الذى هو روح
القيامة والحياة.
مدلول الطبيعة فى الخريستولوجى
استخدم أباء الكنيسة الأولى المصطلح فيزيس (
طبيعة عاقلة ) للدلالة على الروح. أما كلمة فيزيقى فتدل على طبيعة مادية
كأجساد البشر والحيوانات والنباتات وكل ما هو مادى أو جسدانى أو حسى
كالدم الذى هو سائل الحياة المادية لجميع ذوات الأنفس الحية أو
الحيوانية.
وسوف نقصر بحثنا فى هذه الدراسة على بيان
مدلول طبيعة المسيح أى روحه هل هى لاهوتية حسب المعتقد الأرثوذكسى. أم
إنسانية حسب المعتقد الأريوسى. أم أن له طبيعتان أى روحان واحدة إلهية
وأخرى إنسانية حسب نسطور. أم أنه ذى طبيعة مركبة من روح إنسانية مشخصة
بالكلمة حسب المعتقد الخلقيدونى. أم أن له طبيعة ممتنعة الجنس لا هى
إلهية ولا إنسانية بل مؤتلفة من صفات الطبيعتين هى روح الإله المتأنس
المشخصة بالكلمة بحسب المعتقد اليعقوبى.
أهمية تحديد المصطلح طبيعة فى الحوار حول طبيعة المسيح
إن الخلاف الذى أثاره نسطور رئيس أساقفة القسطنطينية حول طبيعة المسيح لم
بكن خلافا لفظيا كما يظن البعض بل خلافا يمس جوهر العقيدة ذاته ويحولها
من عبادة المسيح صورة الله الآب غير المنظور إلى عبادة مسيح هو إنسان
نظيرنا وهذه هى خدعة ضد المسيح الأخيرة لإفساد الإيمان على الأرض.
لذلك فإن بدعة نسطور إذ تعلم بمسيح مولود من مريم تظهر وكأنها مسيحية
وأرثوذكسية وهى أبعد ما تكون عن ذلك إذ هى بدعة هلاك لأن مسيح أصحاب
الطبيعتين هو إنسان نظيرنا.
ففى أحدى عظات نسطور الأخيرة فى يوم الأحد 14 ديسمبر عام 430 حسب التقويم
الميلادى الغربى أقر بأن العذراء هى والدة الإله باعتبار أن العذراء ولدت
الهيكل الذى اتحد به الله الكلمة عانيا بالهيكل يسوع المسيح نفسه كإنسان
حسب معتقده
( الرسالة رقم 5 : 8 ص 35 )
(
مجموعة الشرع الكنسى ص 309
).
كما أقر مراوغا بأن العذراء ولدت الكلمة إنسانيا ( أى متحدا بإنسان )
عوضا عن القول بأنها ولدت الكلمة جسديا.
هل من فرق بين النسطورية والخلقيدونية واليعقوبية؟
المحقق تاريخيا أن الخلاف بين معتقدات أصحاب الطبيعتين من نساطرة
وخلقيدونيين ويعاقبة حول طبيعة المسيح لا يتصل بكينونة الإتحاد بين
الطبيعتين فى شخص المسيح الواحد بل بكيفيته.
إذ الواقع أن لا خلاف بين أصحاب الطبيعتين فى الاعتقاد بأن الله الكلمة
اتحد بإنسان نظيرنا ولد من مريم يدعى يسوع المسيح إنما الخلاف بينهما هو
خلاف فى تفسير كيفية هذا الإتحاد بين الطبيعتين.
ففى حين يرى نسطور أن الطبيعتين فى جسد المسيح متميزتين وأن لكل طبيعة
عقلها الخاص رأى ثيؤدورت أسقف قورش والخلقيدونيون أن اللوجوس اتحد بروح
الإنسان يسوع المسيح وصار هو المشخص لها بزعم أن روح المسيح الإنسانية هى
الروح الوحيدة التى بلا شخصية أى بلا عقل لأن اللوجوس أى العقل الإلهى
صار عقلها والمشخص لها منذ نشأتها وهكذا صـارت روح المسـيح الإنسـانية
مسـكنا لا ساكن وصارت بلا عقل بشرى لأن اللوجوس قام مقامه وهكذا صار
المسيح حسب معتقد خلقيدونية إلها متأنسا من أنصاف الآلهة النصف إله
والنصف إنسان.
أما اليعاقبة فنادوا بأن للمسيح بعد الاتحاد روح ممتنعة الجنس أى لا جنس
لها إذ
لا يصح
القول عنها أنها إلهية ولا إنسانية ولا كل منهما. بل هى روح مؤتلفة من
صفات الروحين استحدثت باسم المسيح أو الإله المتأنس
وقد تشخصت أيضا بالكلمة.
هل من اتفاق بين الأرثوذكسية وعقائد أصحاب الطبيعتين ؟
حاول بعض الكتاب غير المتخصصين التوفيق بيننا وبين الخلقيدونيين لا على
أساس معتقدنا بأن للمسيح الكلمة طبيعة واحدة لاهوتية بل على أساس البدعة
المنسوبة ليعقوب البرادعى القائمة على أساس الإعتقاد بأن للمسيح طبيعة
واحـدة من طبيعتين وهى البدعة التى تجعلنا من أصحاب الطبيعتين كنسطور
ويصير الصراع حول طبيعة المسيح هو صراع بين نساطرة حول كيفية الإتحاد بين
الطبيعتين.
ففى حين يرى أنصار خلقيدونية أن للمسيح روح إنسانية متألهة بالكلمة الذى
شخصها وقام مقام العقل البشرى بها. رأى أصحاب البدعة المنسوبة للبرادعى
أن للمسيح روح ممتنعة الجنس مؤتلفة من صفات الطبيعتين معا وأن هذه
الطبيعة اللا إلهية واللا إنسانية مشخصة أيضا بالكلمة.
والواقع كما تطالعنا كتب التاريخ أن اليعقوبية كبدعة روج لها متوحد
سريانى نسطورى يدعى يعقوب البرادعى صار أسقفا على الرها عام 541 للميلاد.
وجاء فى تاريخ النساطرة أنه منح كاهنين درجة الأسقفية فرقياه إلى درجة
البطريركية فشرطن أساقفة وكهنة لنشر بدعته بين القاطنين فى سورية وبلاد
ما بين النهرين وقد عرفت طائفته باسم اليعقوبية.
فاعتقد بعض مؤرخى الكنيسة الخلقيدونية أنهم أوطاخيين عندما تبين لهم أن
معتقدهم شبيه بالمعتقد المنسوب لأوطاخى لقولهم بأن للمسيح طبيعة واحدة من
طبيعتين فظنوا تبعا لذلك بأن هذا المعتقد المستعصى على أى تفسير منطقى هو
عين ما تدين به الكنيسة القبطية رغم أنها لا تمت لهذا المذهب بصلة. فضلا
عن أن أوطاخى نفسه ينكر فكرة الإتحاد بين الطبيعتين فى ذاتها فى حين
يعترف بها اليعاقبة, وأيضا فإن إيمان أوطاخى وديوسقورس هو أن للمسيح
الكلمة المتجسد طبيعة واحدة إلهية. فى حين ينكر اليعاقبة ذلك بقولهم أن
طبيعة المسيح الواحدة ( أى روحه ) ليست إلهية ( حسب أوطاخى ) ولا إنسانية
( حسب خلقيدونية ) بل هى روح لا جنس لها تشخصت بالكلمة فعرفت بروح الكلمة
المتأنس.
أيا كان الأمر فقد توهم بعض الباحثين المتأخرين أن معتقد اليعاقبة
السريان هو معتقدنا وأن الخلاف بين المعتقد الخلقيدونى القائل بأقنوم
واحد بطبيعتين ومعتقد اليعاقبة القائل بطبيعة واحدة من طبيعتين هو خلاف
لفظى. حتى قال أحد علمائهم " ما دامت قد جمعتنا شمس المعانى هل يفرقنا ظل
الألفاظ ".
ولا ندرى أى اتفاق فى المعنى بين القول بأقنوم واحد بطبيعتين والقول
بطبيعة واحدة من طبيعتين.
فالخلقيدونيين يقولون بأن للمسيح روح إنسانية مشخصة بالكلمة. فى حين رأى
اليعاقبة أن للمسيح روح مؤتلفة ليست إلهية ولا إنسانية أى لا جنس لها
تشخصت أيضا بالكلمة. أى أن روح المسيح حسب اليعقوبية أبطلت لا الروح
الإنسانية وحدها بل والإلهية أيضا.
أيا كان الأمر فإن عوام المسيحيين وبعض الباحثين فهموا مقولة أن المسيح
من طبيعتين مختلفتين بمفهوم أرثوذكسى باعتبار أن المقصود بالطبيعتين
الروح والجسد وأن اتحاد الطبيعتين فى المسيح يقصد به اتحاد الطبيعة
اللاهوتية بالجسد, وهو مفهوم مغاير لمفهوم النساطرة واليعاقبة
والخلقيدونيين الذين يفهمون الإتحاد بين الطبيعتين بأنه اتحاد بين روحين
بكيفية مختلف حولها, وأن الجسد يقصد به الإنسان كله, وبالتالى يفهمون
القول باتحاد اللاهوت بالجسد بأنه إتحاد بإنسان.
لهذا كان أمرا محتوما لتحقيق فهم ومعرفة صحيحة
دون لبس أو خلط أن نحدد منذ البداية أن المقصود بالمصطلح " طبيعة " فيما
يتعلق بطبيعة المسيح هى " الروح " سواء كانت روح الله أم روح إنسانية
عاقلة حتى لا يلتبس على أحد مفهومها على الوجه السالف إيضاحه فى صدد
الحوار حول طبيعة المسيح هل هى طبيعة واحدة لاهوتية بحسب المعتقد
الأرثوذكسى. أم طبيعتان لاهوتية وناسوتية بحسب نسطور. أم طبيعة إنسانية
متآلهة بتشخيصها بالكلمة بحسب خلقيدونية. أم طبيعة مؤتلفة من صفات
الطبيعتين ليست إنسانية ولا إلهية مشخصة بالكلمة بحسب معتقد البرادعى.
والفرق بين القول بطبيعة واحدة لاهوتية, وبين القول بطبيعتين متميزتين أو
القول بطبيعة إنسانية متآلهة أو القول بطبيعة لا جنس لها أى ليست إلهية
ولا إنسانية مشخصة بالكلمة هو الفرق بين عبادة المسيح كلمة الله المتجسد
وعبادة إنسان متحد بالله بكيفية ما بحسب مذاهب وعقائد أصحاب الطبيعتين.
بدعة القول بطبيعة واحدة من طبيعتين
إن التعليم بأن للمسيح طبيعة واحدة من طبيعتين هو بدعة
نسبت أصلا لأوطاخى لقوله " بطبيعة واحدة لاهوتية للكلمة المتجسد " فخيره
أصحاب الطبيعتين بين أن يقول مقولتهم بأقنوم واحد إلهى بطبيعتين بعد
الإتحاد أو ينسبوا إليه القول بالامتزاج والتلاشى. فلما رفض ألصقوا به ما
تخيلوه أو استنتجوه من قوله بطبيعة واحدة لاهوتية للكلمة بأنه يعنى بها
أن الكلمة كان بطبيعتين قبل الإتحاد ثم بعد الإتحاد صارت له طبيعة واحدة
لاهوتية من الطبيعتين ما يعنى ابتلاع الطبيعة اللاهوتية للطبيعة
الناسوتية.
ثم بظهور بدعة يعقوب البرادعى نحو سنة 544 للميلاد تصاعد مسلسل الإنحراف
العقيدى بتفسير بدعة الطبيعة الواحدة من طبيعتين على أساس القول بأن
طبيعة المسيح ليست لاهوتية حسب أوطاخى ولا إنسانية بحسب خلقيدونية بل هى
طبيعة لا جنس لها مؤتلفة من صفات الروحين الإلهية والإنسانية.
وقد فسر اليعاقبة معتقدهم فى الطبيعة الواحدة من طبيعتين بأنهم يعنون
بذلك أن طبيعة المسيح طبيعة فريدة ممتنعة الجنس لا هى إلهية ولا هى
إنسانية ولا هى بطبيعتين. بل هى طبيعة واحدة جامعة لصفات وخصائص
الطبيعتين معا.
ويرى اليعاقبة أن هذه الطبيعة أى الروح التى لا جنس لها بسبب تشخيصها
بالكلمة صارت تعرف بطبيعة الكلمة المتأنس.
وهذا معناه أن هذه الطبيعة التى لا جنس لها قد ابتلعت لا الطبيعة
الناسوتية فقط بل واللاهوتية أيضا بحيث نشأ عن الاتحاد طبيعة جديدة لا
تمت لجنس اللاهوت بصلة كما لا تمت لجنس البشر بصلة إذ هى حسب إقرارهم
ليست إلهية ولا إنسانية.
وخلاصة تعليمهم أن للمسيح أقنوم إلهى ( اللوجوس ) بطبيعة ( روح ) مؤتلفة
ممتنعة الجنس أى أنها طبيعة ليست لاهوتية ولا ناسوتية, وهذا التعليم هو
الأكثر تطرفا بين مذاهب أصحاب الطبيعتين.
والواقع أن التعليم بأن أقنوم الكلمة هو المشخص للطبيعة الواحدة الممتنعة
الجنس ينقضه ما نجده فى كتب اليعاقبة من أن أقنوم المسيح أقنوم من
أقنومين بما يعنى أن أقنوم المسيح مؤتلف من أقنومين أى أن أقنومه أيضا
ليس إلهيا ولا إنسانيا.
لأنه إن كانت الطبيعة المؤتلفة من طبيعتين ممتنعة الجنس هكذا أيضا ينبغى
أن يكون الأقنوم المؤتلف من أقنومين ممتنع الجنس كالطبيعة.
لأنه كيف للأقنوم المؤتلف من أقنومين أن يكون إلهيا
بما يعنى أنه لم يأتلف بل ابتلع أقنوم العقل البشرى.
بينما الطبيعة من طبيعتين تأتلف وتعدم الطبيعتين معا بحيث ينشأ عنهما طبيعة جديدة
ممتنعة الجنس
أى ليست إلهية
ولا إنسانية.
والواقع أن التضاد والتخبط فى تعليم اليعاقبة هو نتيجة منطقية لقيامه على
أساس بدعة هى نتاج فهم خاطىء لمفهوم الطبيعة الواحدة للكلمة المتجسد.
والواقع أن أكثر علماء اللاهوت من القبط الذين
حملوا لواء نشر التعليم المتعلق بطبيعة المسيح كانوا مجرد ناقلين بلا
إفراز أو تمييز بين ما هو نسطورى أو يعقوبى أو خلقيدونى أو أرثوذكسى
فجاءت كتاباتهم خليط بين هذا وذاك. رغم أن بعض التعليم كان يناقض بعضه
الآخر. حتى أن القمص فيلوثاؤس كفر الأنبا إيسيذورس ثم سقط فيما كفره فيه
دون أن يدرى.
وفى هذا يقول الأنبا
ايسيذورس نفسه فى مؤلفه " الخريدة النفيسة فى تاريخ الكنيسة " الجزء
الثانى. الجيل الثالث عشر ص 393 ما موجزه :
كثيرا ما اعتمدت على كتاب منارة الأقداس لابن
العبرى ( وهو عالم نسطورى ) فى مؤلفاتى وفعل مثلى القمص فيلوثاؤس فى
كتابه نفح العبير وأورد منه فى كتابه عدة أدلة تؤيد القول بوحدة المسيح
الطبيعية ومنها هذا الدليل:
" أن المولود أزليا من الآب والمولود محدثا من
مريم إذ قد صار فى الإتحاد واحدا وابنا واحدا من البنوتين كلتيهما ما عدا
أنهما لم يعدم كل واحد منهما بنوته. فكيف الطبيعتان والأقنومان أليس هما
فى الطبع واحد وفى الأقنوم واحد. كيف ذلك يمكن وهذا ليس يمكن ".
وقد أوردت هذا الدليل الذى اعتمد عليه ذلك
المرحوم لأنه رحمه الله حاول قبل تأليف كتابه المذكور " نفح العبير "
بعدة سنين أن يلطخ سمعتى بوصمة الهرطوقى لكونى قلت بقول العلامة ابن
العبرى وقد نسج على منواله البعض.
ويقول الأنبا إيسيذورس فى ذات المؤلف الجزء
الثانى تحت عنوان الجيل السابع ص 132 وما بعدها ما نصه:
كنت قد نشرت من عدة سنين نبذة ضمنتها مختصر
تعليم دينى قلت فيها " أن المسيح واحد من إثنين أقنوم من أقنومين جوهر من
جوهرين ابن من ابنين ".
ولما وصلت نسخة اليد المرحوم القمص فيلوثاؤس
انتقد العبارة الأخيرة وقال أنها لهجة غير أرثوذكسية. فأنا لاعتقادى بأن
المرحوم كان أغزر منى مادة وأكثر إطلاعا وأوسع نظرا ولكونى كتبت تلك
العبارة بلا سوء قصد بل لقصر فهمى عن الفرق بين تلك العبارة والعبارات
التى تقدمتها تركتها ولم أعد ألهج بها البتة ولكن الذى أدهشنى بالأكثر هو
أن ذلك المرحوم الذى وصمنى بالخطأ الموما إليه لم يسلم منه لأنه قد
استعمل نفس تلك اللهجة وأسندها إلى أحد الآباء الذين يفاخر من نسج على
منواله به وبعلمه ويستشهد بأقواله وتعاليمه تأييدا لمبادئه وهو الفيلسوف
الكبير ابن العبرى. فقد أورد ذلك المرحوم فى كتابه نفح العبير عدة أدلة
من كتاب منارة الأقداس لذلك الفيلسوف آخرها دليل رابع قال فيه : أن
المولود أزليا من الآب والمولود محدثا من مريم إذ قد صارا فى الاتحاد
واحدا وابنا واحد من البنوتين كلتيهما ما عدا أنهما لم يعدم كل واحد
منهما بنوته. فكيف الطبيعتان والأقنومان أليس هما فى الطبع واحدا وفى
الأقنوم واحدا. فكيف ذلك يمكن وهذا ليس يمكن ".
وبكل أسف أقول إنى بعد أن احتججت عدة مرات على
ذلك المرحوم بهذا البرهان لا يزال صدى انتقاده يجاوب فى مخيلة البعض
وتنفث أقلامهم سياقه بدون أن يكشفوا لى الخطأ ويبينوا لى وللعامة الفرق
بين " واحد من اثنين إلخ " وبين القول " ابن من ابنين " لأكون أسير فضلهم
.. ولست كغيرى أحاول وأتعامى عن نظر الحق ولو كشفه لى أصغر عضو فى
الكنيسة.
والواقع أن
مقصد ابن العبرى من قوله أليس هما فى الطبع واحدا وفى الأقنوم واحدا هو
أليس الطبيعتان بالاتحاد طبيعة واحدة مؤتلفة والاقنومان بالاتحاد أقنوم
واحد مؤتلف. فكيف الطبيعة تأتلف وتكون ممتنعة الجنس, والأقنوم لا يأتلف
ويكون إلهيا بما يعنى أنه ابتلع أقنوم العقل البشرى.
لأنه إن كانت الطبيعة المؤتلفة ممتنعة الجنس هكذا ينبغى أن يكون الأقنوم
المؤتلف ممتنع الجنس أيضا كالطبيعة.
ويقول القمص فيلوثاؤس فى مؤلفه نفح العبير ما
موجزه :
والواقع أن تعليم الإثنينية والإتحاد بصرف
النظر عن كيفيته ظاهر الفساد على كل وجه عقلا ونقلا, ويضاد التعليم
الأرثوذكسى بأن المسيح ابن الله هو صورة الله بهاء مجده ورسم جوهره الذى
جاء فى الجسد وظهر فى الهيئة كإنسان.
الفصل الثانى
المقصود بشركاء الطبيعة
الإلهية
انتهينا فيما تقدم إلى أن المصطلح طبيعة (
فيزيس ) فى الجدل المختص بطبيعة المسيح يقصد بها " الروح ".
فالطبيعة الإلهية يقصد بها الروح القدس
المحيى الذى هو روح الله الكلمة, والطبيعة الإنسانية يقصد بها الروح
الإنسانية العاقلة أو الناطقة أو الكلمانية.
وقد استخدم بطرس الرسول تعبير الطبيعة
الإلهية للدلالة على الروح القدس بقوله " لكى تصيروا .. شركاء الطبيعة
الإلهية " ( بطرس الثانية 1 : 4 ).
وقـد أوضح بولس الرسول أن الطبيعـة الإلهيـة
التى نشترك معها يقصد بهـا الروح القدس الذى هو روح الشـركة بقوله
" شـركة الروح القدس مع جميعكـم " ( كورنثوس الثانية 13 : 14 ).
من ذلك نرى أن الطبيعة الإلهية فى المصطلح
الكتابى يقصد بها روح الله أى الروح القدس الذى هو روح الشركة.
والسؤال المطروح هو كيف نصير شركاء الطبيعة
الإلهية أى شركاء الروح القدس ؟ وما غاية هذه الشركة ؟
الواقع أننا نصير شركاء الروح القدس
بالمعمودية التى فيها نحصل على الميلاد الثانى فنولد ثانيا ليس من دم
يموت كالميلاد الأول بل مما لا يموت بروح الله المحيى غير المائت الذى
بسكناه فينا تصير أجسادنا مسكنا للروح القدس الذى فينا الذى لنا من الله
( كورنثوس الأولى 6 : 19 ) وبشركة الروح القدس تصير لنا شركة أيضا مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح ( يوحنا الأولى 1 : 3 ) الذى يحيينا بروحـه
الساكن فينا ( رومية 8 : 9 - 11 ) فنصير بهذه السكنى أعضاء فى جسـد
المسيح ( كورنثوس الأولى 6 : 15 ) الذى نحيا به ويحيا فينا ( غلاطية 2 :
20 ).
أى أننا بسكنى روح المسيح فينا نصير أعضاء
حية فى جسده المحيى الذى هو الكنيسة ( كورنثوس الأولى 12 : 27 ).
من ذلك يتضح أنه بسكنى الروح القدس فى
أجسادنا تصير لنا شركة مع الآب والابن فى الجسد الذى يصير محييا أى مقاما
من الموت بالروح القدس المحيى الذى هو روح الآب و المسيح ابن الله.
هذا هو مفهوم الشركة وليس كما يحسب قوم أنها
شركة فى جوهر اللاهـوت لأن هذه الأخيرة قاصرة على أقانيم الذات الإلهية
التى تشترك فى جوهر اللاهوت.
أما شركتنا مع الروح القدس فهى شركة فى
الجسد الذى به نصير هياكل للروح القدس المحيى الذى هو روح المسيح.
أما غاية هذه الشركة فهى أن يحل الروح القدس
محل الدم المائت فى إحياء الجسد بتحويله من جسد حيوانى أى جسد حى بالدم
إلى جسد روحانى أى جسـد محيى أى مقام من الموت بالروح القدس المحيى.
إذ المولود من الجسد جسد هو, والمولود من
الروح هو روح.
فى الميلاد الأول ولدنـا من آدم بالدم فصرنا
من ذوى الأجساد الحيوانية أى الحية بالدم. أما فى الميلاد الثانى فقـد
ولدنـا من الله بالروح فصارت أجسـادنا محييـة أى مقامـة من الـموت بروح
الله المحيى غير المائت ( يوحنـا 1 : 13 ) ( يوحنا 3 : 6 ) ( بطرس الأولى
1 : 3 ).
فى الميلاد الأول ورثنا دم آدم الإنسان
الأول المدنس بشوكة الخطية والموت. لأننا جميعنا
صنعنا من الدم بزرع الرجل ( الحكمة 7 : 1 - 2 ).
لأنه صنع من دم واحد ( دم آدم ) كل أمة من
الناس يسكنون على كل وجه الأرض ( أعمال 17 : 26 ).
من أجل هذا قال داود النبى " بالخطية
( أى بزرع الرجل المدنس بالخطية ) حبلت بى أمى " ( مزمور 51 : 5 ).
أما فى الميلاد الثانى فنولد ثانيا ليس من
دم يفنى بل مما لا يفنى بروح الكلمة المحيية السرمدية أى الباقية إلى
الأبد.
مما تقدم يتضح أن الخطية وشوكة الموت كامنين
فى الدم الذى نرثه عن آدم أبا عن جد.
الوحيد الذى ولد دون أن يتدنس بدم الخطية الفاسد
هو المسيح لكونـه الوحيد الذى ولد بدون زرع رجل. لهـذا صار دم المسيح هو
الدم الوحيد الطاهر الذى بلا عيب ولا دنس الأمر الذى أوضحه بطرس الرسول
بقوله :
عالمين أنكم أفتديتم .. بدم كريم كما من حمل
بلا عيب ولا دنـس دم المســيح ( بطرس الأولى 1 : 18 ).
فالمسيح ولد فى شبه جسد الخطية ( رومية 8 :
3 ) لا فى جسد الخطية إذ ولد بطريقة معجزية بدون زرع رجل لهذا لم يرث
الخطية الأبوية أو الجدية الكائنة فى الدم الحامل حكم الموت الأبدى.
لهذا تحتم موت الدم ليتم فينا حكم الناموس أى حكم
الموت الأبدى الذى هو أجرة الخطية. لهذا وجب على من يتمم خلاصنا أن
يتوافر فيه شرطان جوهريان.
الشرط الأول
أن يشترك معنا فى جسد بشريتنا إنما بلا خطية ليكون أبا جديدا للبشرية غير
الخاطئة.
الشرط
الثانى أن يكون ذى روح محيى أى روح قادر على إبطال موت جسده الخاص وأجساد كل
الذين ينوب عنهم بموته بإشراكهم معه فى روحه المحيى فيتحولوا فيه إلى
حياة عدم الموت, وبهذا يصير أبا جديدا للبشرية التى تولد باسمه فى
المعمودية من الروح الذى يصيرهم خليقة جديدة روحانية أى خليقة محيية
بروحه المحيى.
لهذا تحتم على الفادى أن يشترك معنا فى شبه
جسـد الخطية إنما بلا خطية ليكفر بدمه عن دمائنا ليفتدينا ويموت عنا.
وتحتم على الفادى أيضا أن يكون ذى روح محيى
لأنه أى فائدة تعود عليه أو على البشرية ذاتها أنه بعد أن إفتداها صار هو
نفسه تحت حكم الموت عينه. أو أنه بعد أن افتداها عجز عن إحياءها وإبطال
موتها. لهذا تحتم أن يكون للفادى فى ذاته قوة حياة محيية قادرة على إحياء
جسده الخاص وأجساد كل الذين ينالون الميلاد الثانى باسمه فى المعمودية
التى فيها يصيرون خليقة جديدة روحانية أى محيية بالروح القدس المحيى الذى
يبطل موتنا.
والوحيد الذى له الروح المحيى روح القيامـة
والحيـاة القادر على أن يأتى بالجسد المائت إلى عدم موت هو صورة الله
ذاته الذى صنعنا على صورته وشبهه.
لهذا اقتضى تدبير خلاصنا أن يأتى المسيح
الذى هو صورة الآب فى شبه جسد الخطية ليدين الخطية فى الجسد أى ليبطل
حكمها فى الجسد.
وهكذا أخذ المسيح آدم الأخير جسـدا حيا
بالدم مثلنا ولكن بلا خطية حتى إذا مات موتنا بموت الدم فقد الموت سلطانه
وجبروته ولم يعد له وجود إذ لم يكن ممكنا أن روح المسيح المحيى الذى هو
روح القيامة والحياة يمسك فى جسد الموت أو يسوده الموت فيعجز عن إحياء
جسده وإقامته مثلنا بل العكس هو الصحيح لأنه وإن مات موتنا بموت الدم إلا
أن جسده ظل غير مائت لأنه وحده الذى له عدم الموت.
فروح المسيح المحيى لم تكن إنسانية كأرواحنا
لتخضع لحكم الموت وتمسك منه أو تذل لسلطانه إذ هى روح الحياة ذاتها. فإذ
صار الجسد جسد روح الحياة ذاتها فماذا نقول؟ لقد بطل الموت عندما إلتقى
بجسد هذا الذى به نحيا ونتحرك ونوجد.
لهذا يقول الكتاب أنه وإن كان قد صلب من ضعف (
أى ضعف الجسد الحيوانى القابل الموت ) لكنه حى بقوة الله ( أى بقوة
لاهوته ) ( كورنثوس الثانية 13 : 4 ) وأيضا مماتا فى الجسد ( أى فى الدم
باعتباره مثل اللحم مكون جسدى لهذا يسميان معا أو على إنفراد جسدا ) ولكن
محيى ( أى مقام من الموت ) فى الروح ( بطرس الأولى 3 : 18 ) وأيضا أن
الله ( الروح القدس ) أقامه ( أى أقام جسد الكلمة ) ناقضا أوجاع الموت إذ
لم يكن ممكنا أن يمسك منه ( أى يقبض منه ) ( أعمال 2 : 24 ) لأنه وحده
الذى له عدم الموت ( تيموثاوس الأولى 6 : 16 ).
وهكذا بالموت أباد الموت وأبطل سلطانه وفى
هذا يقول بولس الرسول :
فإذ قد تشارك الأولاد ( أرواح البشر ) فى
اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان
الموت ( العبرانيين 2 : 14 ).
هكذا أشترك المسيح فيما لنا أى فى الجسد
والدم المائت لكى يشركنا فيما له أى روحه لنحيا به ونصير فيه خليقة جديدة
روحانية أى خليقة مقامة من الموت بالروح القدس المحيى.
الخليقة الأولى أو العتيقة نفسانية أى حية
بدم أبينا آدم الأول هذا الذى يتوارثه الأبناء عن الآباء أبا عن جد
وبمقتضاه كنا ندعى أبناء لآدم. أما الخليقة الجديدة فهى روحانية أى محيية
بروح الله القدوس الذى نلناه فى الميلاد الثانى بالمعمودية وبمقتضاه صرنا
أبناء الله. لأن أبناء الله كما يقول الكتاب هـم الذين ولدوا ليس من دم
ولا من مشيئة رجل بل من الله ( يوحنا 1 : 12 - 13 ).
وفى هذا يقول بطرس الرسول :
مولودين ثانية ليس من زرع يفنى ( يموت ) بل
مما لا يفنى بكلمة الله الحية السرمدية ( بطرس الأولى 1 : 23 ).
لهذا قال رب المجد لا تدعوا لكم أبا على
الأرض لأن أباكم واحد الذى فى السماوات ( متى 23 : 9 ).
من ذلك نرى أن الحياة التى تحصلت عليها
الخليقة الجديدة بالميلاد الثانى بالمعمودية ليست من دم ولا من إنسان بل
من المسيح كى لا نعود نستعبد للموت.
وفى هذا يقول بولس الرسول :
" أم تجهلون أننا كل من تعمد ليسوع المسيح
تعمد لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات
بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا فى الحياة الجديدة ( أى فى الحياة التى
أخذناها بروح المسيح المحيى ) لأنه إن صرنا متحدين معه
بشبه موته نصير أيضا بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق ( أى الحى بالدم )
قد صلب معه ( أى مات معه ) ليبطل جسـد الخطية كى لا نعود نستعبد أيضا
للخطية ( أى للموت الذى بسـبب الخطية )
لأن الذى مات قـد تبرأ من
الخطية
( بموت دم الخطية ) فإن كنا قد متنا مع المسـيح نؤمن أننا سنحيا أيضا
معـه عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضا لا يسـود عليه
الموت بعد " ( رومية 6 : 3 - 9 ).
فالمعمودية هى خلع لجسم الخطية ( أى موت لدم
الخطية ) ودفن وقيامة مع المسيح ( كولوسى 2 : 11 - 14 ) وفى هذا يقول
بولس الرسول :
إن الذين هم فى الجسد ( أى فى دم الخطية
باعتباره مادة جسدانية ) لا يستطيعون أن يرضوا الله وأما أنتم فلستم فى
الجسد بل فى الروح إن كان
روح الله
ساكنا
فيكم
ولكن إن كان أحد ليس له
روح المسيح فذلك ليس له وإن كان
المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر ( أى بر الإيمان
الذى بمقتضاه نلنا المعمودية التى فيها أخذنا الروح ) لهذا إن كان روح
الذى أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم فالذى أقام المسيح من الأموات
سيحيى أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم ( رومية 8 : 8 - 11 ).
من ذلك يتضح أن الذين هم فى الجسد أى الذين
يحيون بقوة النفس الحيوانية سيموتون. أما الذين تحصلوا على الروح المحيى
أى روح المسيح فسيحيون.
هكذا مكتوب أيضا صار آدم الأول نفسا حية (
أى ذى حياة نفسانية قابلة للموت والفناء ) وآدم الأخير ( أى المسيح
) روحا محييا ( أى ذى روح غير مائت ومحيى ) (
كورنثوس الأولى 15 : 45 ).
لهذا قيل فى آدم يموت الجميع وفى المسيح
يحيا الجميع ( كورنثوس الأولى 15 : 22 ) لأن روح المسيح المحيى هو الروح
الوحيد القادر على إبطال موت الجسد إذ هو وحده المحيى. أما أرواح البشر
فليست محيية على الإطلاق ولو كان لأرواحنا هذه القدرة لما أمسكت من
الموت.
لذلك لم يكن ممكنا أن روح المسيح تمسك من
الموت كأرواحنا, وهذا كان ممكنا أن يحدث لو أن المسيح كان إنسانا مثلنا.
أما وأن المسيح ليس إنسانا بل الحكمة فى صورة إنسان فإنه ما أن إلتقى
بالموت فى جسده الخاص حتى لا شاه وأبطله فورا بروحه المحيى, وهكذا فى
لحظة فى طرفة عين تغير الجسد الحيوانى بموت الدم إلى جسد روحانى أى جسد
محيى بالروح القدس غير المائت. فصارت الكلمة المكتوبة إبتلع الموت إلى
غلبة ( كورنثوس الأولى 15 : 42 - 57 ).
من ذلك نرى أن الروح القدس المحيى هو الذى
سيحيى أجسادنا المائتة بروحه الساكن فينا ( رومية 8 : 11 ) وبهذه السكنى
نصير كما قدمنا شركاء الطبيعة الإلهية أى شركاء الروح القدس.
الفصل الثالث
عقيدة الكنيسة الأولى فى
طبيعة المسيح
عندما سأل يسوع تلاميذه قائلا من يقول الناس إنى أنا ابن الإنسان ؟ سأل
ذلك بسبب صورته الإنسانية التى هى أصلا صورة الله الآب حسب إعلان السر
المكتوم. فقال له بطرس ما يعتقده الناس فيه. فقال لهم يسوع وأنتم من
تقولون إنى أنا ؟ أجابه سمعان بطرس وقال
"
أنت هو المسيح ابن الله الحى
" وهذا معناه أن يسوع هو المسيح صورة الآب الحى على الدوام أى الحى الذى
لا يموت.
فقال له يسوع طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحما
ودما لم يعلن لك لكن أبى الذى فى السماوات, وأنا أقول لك .. على هذه
الصخرة - أى على إقرار الإيمان هـذا - أبنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى
عليها ( متى 16 : 13 - 18 ).
أى أن بنيان الكنيسة قائم على صخرة الإيمان بأن
يسوع هو المسيح ابن الله الحى الذى وإن ظهر فى صورة ابن إنسان إلا أنه
كان فى صورة الله الآب الحقيقية.
هذا الإيمان هو شرط العضوية فى جسد المسيح الحى
أى الكنيسة. لذلك إن كان أحد يبنى على غير هذا الإيمان فنصيبه البحيرة
المتقدة بنار وكبريت.
وفى هذا يقول يوحنا :
مـن لـه الابن فلـه الحيـاة ومن ليـس لـه ابن
الله فليسـت لـه الحيــاة ( يوحنا الأولى 5 : 5 , 12 ).
من اعترف بأن
يسوع هو ابن الله
فالله يثبت فيـه وهو فى الله .. كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من
الله ( يوحنا الأولى 4 : 15 + 5 : 1 ).
من ذلك نرى أن يسوع هو المسيح ابن الله وليس إنسان
مثلنا بمعنى أن روحه ليست إنسانية لأنه وإن ظهر فى الهيئة كإنسان أو كانت
له صورة ابن إنسان إلا أنه ليس إنسان من حيث جوهره الأمر الذى أثبته بولس
الرسول بقوله :
عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد (
تيموثاوس الأولى 3 : 16 ) وأيضا " أن المسيح
يسوع إذ كان فى صـورة الله .. ظهـر فى الهيئـة كإنسـان " ( فيلبى 2 : 5 -
8 ) ولم يقل أنه ظهر فى إنسان أو صار إنسانا أو وحد إنسانا من البشر
بنفسه. بل قال أنه وهو الله ظهر فى المنظر كإنسان لهذا قال أيضا :
" البشـارة التى بشرت بها لم أقبلها من إنسـان
بل بإعلان يسـوع المسـيح " ( غلاطية 1 : 12 ).
وأيضا شهد فى مقدمة رسالته إلى أهل غلاطية
قائلا :
بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح (
غلاطية 1 : 2 ).
من ذلك نرى أن اسم يسوع المسيح هو اسم الله
الذى وإن ظهر فى الهيئة كإنسان إلا أنه لم يكن إنسان بل صورة الله الذى
خلقنا على صورته وشبهه.
لذلك تردد الكنيسة فى صلواتها إقرار إيمانها
بلاهوت يسوع المسيح حسـب قانون الإيمان الرسولى بالقول :
نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد
المولود من الآب قبل كل الدهور .. مولود غير مخلوق مساو للآب فى الجوهر
الذى به كان كل شىء. الذى من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من
السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصلب عنا .. تألم وقبر
وقـام من الأموات .. وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين أبيه ( أى فى صورة
مجد أبيه ).
هكذا حسب قانون الإيمان يسوع المسيح هو ابن الله
الوحيد الذى من أجل خلاصنا نزل من السماء وولد من مريم العذراء وصلب ودفن
وقام من الأموات وصعد إلى السماوات وجلس فى مجد أبيه وليس إنسان متحد
بابن الله.
وقد قطع بولس الرسول الطريق على
النسطورية قبل أن توجد مثبتا ما سيتحد به الكلمة فى تجسده بأجلى بيان
بالقول :
فإذ قد تشارك الأولاد ( أى أرواح البشر ) فى
اللحم والدم ( أى مكونات الجسد الحيوانى ) اشترك هو أيضا فيهما لكى بموته
يبطل الموت ( العبرانيين 2 : 14 ).
والسؤال الذى يطرح نفسه هو كيف أبطل الرب
الموت بموته ؟
وردا على ذلك نقول أن الإنسان حسب عقيدة
الكنيسة الأرثوذكسية مركب من جسد ونفـس ( دم ) وروح ( تسالونيكى الأولى 5
: 23 ) وأن الموت هو موت النفس الحية التى فى الدم ( تكوين 9 : 4 ) (
لاويين 17 : 11 - 14 ) ( تثنية 12 : 23 ) ( حزقيال 18 : 4 - 13 ) وبموتها
تمسك الروح الإنسانية من جسد الموت إلى الأبد. لهذا تحتم حتى يبطل المسيح
آدم الأخير موت البشرية أن يشترك معنا فى اللحم والدم ( العبرانيين 2 :
14 ) ليكون قابلا للموت, ولكن إذ هو غير مائت بالطبيعة لأنه روح محيى (
كورنثوس الأولى 15 : 45 ) فإنه وإن مات موتنا حسب الدم إلا أنه بسبب روح
الحياة التى فيه ظل غير مائت فأبطل الموت بموته مبتلعا إياه إلى غلبة.
وهكذا صار المسيح آدم الثانى بالقيامة من
الأموات باكورة ورأسـا جديدا للبشرية غير المائتة وهو ما تحقق على خشبة
الصليب فبمجرد موت جسـد المسيح على الصليب بسفك دمه الكريم الذى بلا عيب
ولا دنس ( بطرس الأولـى 1 : 18 ) ( العبرانيين 9 : 14 ) أبطل الموت إذ
صار جسده فى لحظة فى طرفة عين محييا أى مقاما من الموت بالروح القدس
المحيى الذى هو روح المسيح. لأنه لم يكن ممكنا أن يملك الموت على المسيح
أو أن يمسك منه ( أعمال 2 : 24 ) إذ هو وحده الذى له عدم الموت (
تيموثاوس الأولى 6 :16 ).
لهذا تنبأ داود النبى قائلا بأنه لا يدع
قدوسه
يرى
فسادا ( مزمور16 : 10 ).
إذ لم يكن ممكنا أن يملك الموت على جسد
المسيح بموت الدم كسائر البشر لهذا بمجرد أن لفظ المسيح أنفاسه بموت الدم
صار محييا فى الحال بروحـه المحيى الذى لم يدع قدوسه يرى فسادا أى موتا
ولا للحظة وإلا كان هو نفسه فى حاجة إلى من يخلصه من سلطان الموت.
لهذا بمجرد أن إلتقى الموت بجسد مخلصنا بسفك دمه
وموته موتنا بطل الموت إبتلع إلى الأبد إذا صار جسد الكلمة محييا أى
مقاما من الموت بالروح القدس المحيى ( بطرس الأولى 3 : 18 ) ( كورنثوس
الثانية 13 : 4 ) وبهذا فقد الموت غلبته وسلطانه ولم يعد له أدنى وجود أو
تأثير.
أما أرواح البشر المشتركة فى اللحم والدم
فليست محيية على الإطلاق إذ ليس لها حياة فى ذاتها. لهذا فإنه بموت الدم
تمسك من جسد الموت وتعجز عجزا تاما عن تحريكه أو إقامته أو إحياءه. لأن
الروح الوحيد المحيى هو الروح القدس روح المسيح آدم الأخير الذى له وحده
عدم الموت الذى ابتلع الموت بموته إذ لم يكن ممكنا أن يمسك من جسد الموت
كأرواحنا إذ هو وحده القادر على أن يبطل موته وموتنا بروحه الذى صار
إلينا فى المعمودية التى فيها أقمنا من الموت. لهذا قيل مبارك ومقدس من
له نصيب فى القيامة الأولى التى هى قيامة مع المسيح فى المعمودية لأن
هؤلاء كما هو مكتوب ليس للموت الثانى سلطانا عليهم.
فالمسيح حسب التسليم الرسولى المسلم
للقديسين هو ابن الله الوحيد حكمة الله وكلمته الذى ظهر فى الجسد.
وعندما ظهر التنين الجديد أى نسطور وصنع تمايزا
بين أسماء يسوع المسيح ابن الله جاعلا اسم يسوع المسيح على حدة كاسم
لإنسان مولود من مريم واسم ابن الله على حدة كاسم للمولود من الآب قبل كل
الدهور زاعما أنه اتحد بالإنسان المولود من مريم معلما بذلك بطبيعتان أى
بروحان فى المسيح مبطلا بقوله هذا تدبير الخلاص. جاء رد كيرلـس الحاسـم
على دنس هذا التعليم الكفرى بعبارته الشـهيرة "
طبيعة واحدة إلهية للكلمة
المتجسد
" التى مفادها أن للمسيح كلمة الله المتجسد روح واحدة إلهية هى الروح
القدس المحيى.
بهذه العبارة دحض كيرلس مقولة أصحاب الطبيعتين
القائلة باتحاد الكلمة بإنسان يدعى يسوع المسيح, وهى البدعة التى يترتب
على التردى فيها السقوط فى شنيعة إنكار لاهوت المسيح ومجيئه فى الجسد.
لأنه إن كان المولود من مريم إنسان مثلنا يدعى يسوع المسيح فلا يكون هو
يسوع المسيح ابن الله
الذى نؤمن به
حسب الإعلان الإلهى بأنه
لما جاء ملء الزمان
أرسل الله ابنه
مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدى الذين تحت الناموس لننال
التبنى ( غلاطية 4 : 5 ).
لهذا رأى أصحاب الطبيعتين فى عبارة كيرلس
" طبيعة واحدة إلهية للكلمة المتجسد " أنها لأبوليناريوس تلميذ
أثناسيوس الرسولى الذى حرمته مجامع أصحاب الطبيعتين كمبتدع لاستخدامه هذا
المصطلح الأثناسيوسى ( Physis
) الذى يعنى فى المفهوم اليونانى طبيعة عاقلة فى دحض معتقدهم بطبيعتين
عاقلتين أى بروحين إلهية وإنسانية فى المسيح.
والواقع أننا مازلنا حتى اليوم نسمع صدى كلمات
نسطور وثيؤدورت والأنطاكى تردد القول بأن القديس كيرلس كان يستخدم مؤلفات
أبوليناريوس كما لو كانت لأثناسيوس, وفى هذا يقول فرند مجاوبا لهذا الصدى
بقوله " أن كثير من أفكار كيرلس أخذت مباشرة من الكتابات الأبولينارية
التى انتشرت تحت أسماء قادة أرثوذكس مثل أثناسيوس والبابا يوليوس ".
ويقول ستيفنسون " أن رسالة أثناسيوس إلى
يوفينيوم
Iovinumهى
لأبوليناريوس وقد حسبها كيرلس أنها لأثناسيوس "
.
والواقع أن حرم أبوليناريوس وأوطاخى هو حرم
لأثناسيوس وكيرلس ومقدمة لحرم كل أصحاب الطبيعة الواحدة اللاهوتية للمسيح
كلمة الله وهو ما تحقق فى خلقيدونية بحرم كل المعترفين بأن يسوع هو
المسيح ابن الله وليس إنسـان متحد بالله كما يعتقد كل القائلين بطبيعتين
عاقلتين فى المسيح.
فيسوع وفقا للحق الكتابى هو المسيح ابن الله الحى
الذى وإن ظهر فى صورة إنسان إلا أنه كان فى صورة الله الذى خلقنا على
صـورته كشبهه. الأمر الذى أثبته الرب نفسه بالقول فإن رأيتم ابن الإنسان
صاعدا إلى حيث كان أولا.
هذا هو سر المسيح المعروف سابقا قبل تأسيس
العالم ولكن أظهر فى الأيام الأخيرة لأجلنا. إذ لأجل خلاصنا نزل المسيح
ابن الله من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العـذراء وصلب ومات
لكى بموتـه يبطل المـوت ويهب القيامـة والحياة للذين فى القبور.
من ذلك يتضح أن
الله الكلمة لم يتحد بإنسان يسمى يسوع المسيح حسب تعليم ضد المسيح. بل أن
الكلمة هو نفسه يسوع المسيح ابن الله الحى بشهادة بطرس الرسول وشهادة
الأسفار المقدسة وقانون الإيمان الرسولى.
الفصل الرابع
عقيدة نسطور فى طبيعة المسيح
إن منشأ النسطورية كبدعة هو قيامها على
معتقد خاطىء بأن الإنسـان مركب من جسد تحييه نفـس إنسانية عاقلة هى علة
إحياءه لا النفس الحية التى فى الدم, وأن الموت لا يتحقق بموت النفس
الحيوانية بل بخروج النفس العاقلة من الجسد.
ومنشأ هذا المعتقد الخاطىء هو اعتقاد نسطور
بأن الله نفخ فى أنف آدم روح حياة عاقلة هى علة إحياء الجسد. اعتقادا منه
أن المقصود بالنفس الحية ليس الدم بل الروح.
فى حين أن الحق الكتابى المعلن هو أن الله نفخ
فى
أنف آدم نسمة حياة فصار آدم نفسا حية
أى أن جسده صار جسدا حيوانيا
متنفسا كسائر الحيوانات من ذوات الأنفس الحية,
وأن موت الإنسان كموت الحيوان
ونسمة واحدة
للكل كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما ( الجامعة 3 : 19 - 20 ).
أما نسطور فاعتقد أن النفس الحية هى الروح
وأنها محيية للجسد ومن هنا جاء خطأ النسطورية القاتل الذى أوردهم مورد
التهلكة.
والواقع أن سقطة نسطور هذه سبقه إليها
الصدوقيين الذين اعتقدوا معتقده بأن النفس الحية هى الروح ونتج عن ذلك
اعتقادهم بموت الروح بعد اصطدامهم بالآية القائلة " النفس التى تخطىء
تموت " فانتهوا إلى أنه بما أن الأرواح هى أنفس حية وقد صدر ضدها حكم
الموت فلا تكون قيامة ولا روح.
أما نسطور فلكى لا ينتهى إلى ما انتهى إليه
الصدوقيين من القول بموت الأرواح وفناءها قال أن الموت لا يعنى فناء
الروح بل يعنى خروج الروح الإنسانية من الجسد الذى يموت بخروجها منه
ويحيا بعودتها إليه إذ هى التى تحييه لا الدم.
وهذه النقطة أى تعريف الموت بأنه خروج النفس الإنسانية
العاقلة من الجسد هو برهان النسطورية أو الأساس الباطل الذى ترتب على
الاعتقاد فى صحته حتمية أن يتحد الكلمة بإنسان وحتمية القول بالطبيعتين
أى بوجود روحين فى المسيح الواحد.
فلكى يموت الله الكلمة موتنا حسب المعتقد النسطورى
كان لابد أن يتحد بإنسان مثلنا له روح إنسانية عاقلة لكى يقدمها للموت
الذى يتحقق بخروجها من الجسد ثم بعودتها للجسد فى اليوم الثالث تقيمه من
الموت.
هكذا صار محتوما حسب الفكر النسطورى أنه حتى
يتألم الله الكلمة ويمـوت موتنا ويقوم من الموت أن يتحد بإنسان مثلنا.
حتى متى تألم الإنسان ومات بخروج روحه من جسده. يموت الكلمة موتنا حتى
اليوم الثالث عندما تعود إليه الروح الإنسانية وتتحد بالجسد المائت
المتحد بالله فى القبر فتقيمه من الموت, وبهذا تتحقق قيامة الكلمة. ثم
بنسبة جميع الأفعال الإنسانية التى وقعت على الإنسان إليه تصير كما لو
وقعت على الكلمة. لأنه جعل ما يخص الإنسان المتحد به يخصه, وهكذا تألم
الكلمة وقام من الموت دون أن يتألم أو يقوم فعليا.
لهذا اقتضى التدبير حسب نسطور أن يتحد الله الكلمة
بالإنسان يسوع المسيح المولود من مريم من نسل داود حتى يصير كل ما يقع
على الإنسان من ولادة وصلب وقيامة وكأنها وقعت للكلمة إنسانيا أى بحسب
الإنسان المتحد به.
فالمسيح حسب نسطور ليس الله الكلمة متجسدا
بل إنسان مثلنا تحييه نفس إنسانية عاقلة اتحد به الله الكلمة بطريقة غير
مدركة حسب زعمه ليقدمه للصلب والموت والقيامة.
وهكذا أنكر نسطور لاهوت المسيح ومجيئه فى
الجسد بإنكار تجسد الكلمة بقوله
أن الكلمة لم يولد ولم يتجسد بل تأنس
أى إتحد بإنسان مثلنا الأمور التى
محصلتها إبطال التدبير والسقوط فى عبادة إنسان نظيرنا.
من ذلك نرى أن إقرار الإيمان النسطورى قائم على
أساس الاعتراف بأن الله الكلمة لم يولد ولم يتجسد من مريم بل تأنس أى
إتحد بالإنسان المولود منها دون أن يولد هو منها لأن الكلمة حسب تصوره لا
يولد من امرأة.
وهكذا بالإتحاد بين الله الكلمة
والإنسان يسوع المسيح المولود من مريم صار للكلمة المتأنس حسب نسطور روح
إنسانية عاقلة لكى يقدمها للموت الذى يتحقق بخروجها من الجسد ثم بعودتها
للجسد فى اليوم الثالث تقيمه من الموت فيحيا.
وفى هذا يقول نسطور فى مؤلفه " ظهور المسيح
المحيى " المنسوب زورا للقديس أثناسيوس الرسولى ردا على كتابات لكيرلس :
أنتم تقولون أن الكلمة اتخذ جسدا بلا جوهر عقلى (
أى بلا روح إنسانية عاقلة ) وهذا يعنى أنه عند الموت انفصل الكلمة عن
الجسد, وأن هذا هو الموت الذى حدث .. وهذا يعنى أن المسيح لم يمت موتنا
نحن بل موتا خاص به لو انفصل اللاهـوت عن الجسد .. وحسب رأيكم أيضا فإن
الكلمة هو الذى قام من الأموات لأن القيامة يجب أن تتم بقوة معينة فإن لم
تكن قد تمت بعودة النفس للجسد المتحد بالكلمة فقد تمت بقيامة الكلمة ذاته
وهو ذاته الذى نزل إلى الجحيم حيث الأرواح قد سجنت وهذا مضاد للتعليم
الصحيح
(
ظهور المسيح المحيى فقرة 16 ص 37 ).
وتتمة لذلك يقول ثيؤدورت أسقف قورش فى مؤلفه
" الجامع للطبيعتين " المنشور تحت مسمى "
كمال البرهان على حقيقية الإيمان " والمنسوب أيضا للقديس أثناسيوس
الرسولى ما نصه :
" هو الذى مات بناسوته المحتمل الموت
بمفارقة نفسه المخلوقة جسـده المخلوق .. حتى رد لاهوته نفس ناسوته ( أى
روحه الإنسانية ) إلى جسده فقام فى اليوم الثالث من الأموات " (
الجامع للطبيعتين 3 : 5 ص 66 ).
فكأن المسيح ما كان ليقوم من الموت لو لم
ترجع روحـه الإنسـانية لجسـده لتقيمه من الأموات فى اليوم الثالث.
لذلك فإن عقيدة نسطور القائلة بأن الكلمة
اتحد بجسد تحييه نفس إنسانية عاقلة
(
الرسالة رقم 50 : 3 ) هى روح المسيح الإنسانية
( الرسالة رقم 5 : 7 ) هو الدعامة
الرئيسية التى ترتكز عليها البدعة النسطورية وتميزها.
من ذلك يتضح أن قيامة جسد المسيح وفقا
لنسطور لم تكن بقوة الروح القدس المحيى الذى أبطل الموت بمجرد أن إلتقى
به فى جسده الخاص بل بقوة الروح الإنسانية التى فارقت الجسد فمات ثم
بعودتها إلى الجسد فى اليوم الثالث أحيته فقام المسيح من بين الأموات.
ويقول ثيؤدورت أسقف قورش ما موجزه أن نفس
المسيح الإنسية ( أى روحه الإنسانية ) بعد أن فارقت جسدها أنقذت أرواح
الصالحين من سجنهم ونقلتهم إلى الفردوس وفعلت ذلك بقوة اللاهوت الساكن
فيها لا يفارقها
(
الجامع للطبيعتين 4 : 1 ص 101 ).
والواقع أن تلك المقولة تهدم سر
التجسد لأن القول أن روح المسيح الإنسانية فارقت جسدها يدل على أن المسيح
مجرد إنسان فارقت روحه جسده وأن الكلمة لم يتجسد بل سكن إنسانا نظيرنا ما
يمثل إنكارا للتجسد والولادة.
أما قوله أن الروح الإنسانية فعلت ذلك بقوة
اللاهوت الساكن فيها أى أن روح الله بسكناها فى روح الإنسان مكنته من
تخليص أرواح الصالحين من سجنهم فيؤخذ على هذا القول أن الروح لا تسكن
روحا ولا تشخصها لأن الروح ليست مسكنا أو هيكلا بل الجسد. إذ المحقق نقلا
وعقلا أن الروح لا تسكن أخرى لأن الأرواح لا تسكن بعضها البعض إذ هى ساكن
لا مسكن.
من ذلك نرى أن تلك التعاليم المضادة للحق
الكتابى والمنطق ذاته لا يمكن أن تصدر عن القديس أثناسيوس الرسولى.
أما عقيدة أثناسيوس الحقيقية فى هذا
الصدد فيمكن تبينها من مؤلفه " تجسد الكلمة " والذى نقتبس منه قوله :
إن الكلمة أخذ
جسدا قابلا للموت ولكنه بفضل اتحاده بالكلمة لم يعد خاضعا للفساد ( الموت ) بمقتضى
طبيعته بل
خرج من دائرة الفساد
( الموت )
بسبب
الكلمة الذى أتى وحل فيه.
وهكذا تم عملان عجيبان فى الحال ( أى فى لحظـة فى طرفة عين )
أولهم
إتمام موت الجميع فى جسد الرب
والثانى
القضاء على الموت والفساد كلية بفضل اتحاد الكلمة بالجسد
(
تجسد الكلمة 20 : 4 - 6 ص 70 ).
لأنه إن كان الكلمة قد اتخذ لنفسه جسدا ..
فما الذى يصنعه الرب بهذا الجسد ؟ أو ماذا يمكن أن تكون نهاية الجسد إذ
حل الكلمة فيه ؟ لأنه لم يكن ممكنا إلا أن يموت إذ هو جسد قابل للموت
ليقدم للموت عن الجميع , ولأجل هذه الغاية صوره المخلص لنفسه على أنـه
كان مستحيلا أن يبقى مائتـا إذ صار هيكلا للحياة. لهذا فإذ مات كجسد مائت
عاد إلى الحياة بفضل الحياة التى فيه
(
تجسد الكلمة 31 : 4 ص 97 - 98 ).
أما كيرلس عمود الدين فيقول :
من ذلك نرى أن تعليم كل من أثناسيوس الرسولى
وكيرلس عمود الدين خلوا من التعليم بأن روح إنسانية هى التى خرجت من جسد
الكلمة فمات موتنا وبعودتها إليه ردته إلى الحياة.
إن العقيدة الأرثوذكسية قائمة على أساس
الإعتقاد بأن الكلمة اتخذ لنفسه جسدا قابلا للموت مثلنا حتى بموته يبطل
موتنا بروحه المحيى.
لهذا فإذ مات كجسد مائت بموت الدم أى النفس
الحيوانية عاد إلى الحياة فى الحال بفضل الروح القدس المحيى الذى فيه.
فمن هو حكيم فى عين نفسه هذا الذى يظن أن الروح
القدس المحيى الذى سيحيى أجسادنا المائتة بروحه الساكن فينا لم يكن قادرا
على إحياء جسده الخاص عندما مات موتنا بسفك دمه على خشبة الصليب بل أخضع
جبرا لسلطان الموت مثلنا ممسكا من جسد الموت المتحد به فى القبر منتظرا
عودة روح إنسانية إليه لتقيمه من الموت فى اليوم الثالث.
إن الموت بمجرد أن إلتقى بجسد الحياة فقد
سلطانه ولم يعد له وجود. فالكلمـة لم يكن فى حاجة إلى مخلوق ليعيد إليه
حياته بل نحن الذى نحتاج إليه ليقيم أجسادنا المائتة بروحه الساكن فينا (
رومية 8 : 9 - 11 ) ( حزقيال 37 : 14 ).
فهل لو أن الروح الإنسانية كانت محيية أى
قادرة على إبطال موت الجسد الحيوانى هل كنا نحتاج إلى الروح القدس المحيى
ليقيم أجسادنا من الموت.
الواقع أن الروح الإنسانية العاقلة ليست
محيية كروح الله لأنه وحده الرب المحيى ولو كانت أرواحنا محيية وقادرة
على إقامة أجسادها من الموت لما مات الإنسان أبدا لأن الروح لا تفنى ولا
تفسد ولا تموت.
أما الموت فهو موت الدم أو النفس الذى هو
مادة حية متنفسة يشترك فيها الإنسان مع سائر الحيوانات من ذوات الأنفس
الحية, ولو كان الموت هو بخروج الروح من الجسد فكيف تموت الحيوانات وهى
نفسانية لا روح لها ( يهوذا 19 ).
ولو أن النسمة التى جعلها الله فى أنف آدم
وصيرته نفسا حية هى روح محيى عاقل لصارت جميع الحيوانات من ذوات الأنفس
الحية ( تكوين 1 : 24 ) أرواحا محيية كروح الرب المحيى حال كونها نفسانية
لا روح لها ( يهوذا 19 ).
ولو أن حكم الموت والفناء قد صدر ضد الروح
لا النفس الحية لما كان للفداء نفع لأنه أى نفع يعود على روح صدر ضدها
حكم بإرجاعها للفناء والعدم كما يحدث للحياة المادية التى فى الدم.
كما أن الدم يكفر عن النفس لا عن الروح (
لاويين 17 : 11 - 14 ) وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة ( العبرانيين 9 : 22
).
لذلك إن كان الحكم قد صدر ضد الروح لا الدم
فلا شىء يكفر عنها بل تكون واجبة الفناء فلا تكون روح ولا خلود ولا
قيامة.
فالروح الإنسانية العاقلة كما قدمنا ليست
محيية وهى لا تحيى جسدها بل النفس الحية أى الدم. لذلك فإن الحكم صدر ضد
النفس الحيوانية التى يشترك فيها البشر مع سائر ذوات الأنفس الحية والتى
بموتها تمسك روح الإنسان من جسد الموت إذ تعجز عن تحريكه أو إقامته أو
إحياءه لأن أرواح البشر غير محيية لأن الروح الوحيد المحيى هو الروح
القدس الرب المحيى.
لهذا يقول القديس كيرلس عمود الدين :
من ذلك يتضح أن الدم وحده هـو الحامل الخطية
وحكم الموت الأبدى الذى ورثناه عن آدم أبا عن جد لأننا صنعنا من الدم
بزرع الرجل ( الحكمة 7 : 2 ).
أما المسيح فقد ولد بدون زرع بشر لهذا كان
وحده الذى بلا خطية. أما لو كانت أرواح البشر خاطئة وكان الكلمة قد اتحد
حسب نسطور بروح إنسانية خاطئة فلا يكون الكلمة بلا خطية بل يكون قد اتحد
بإنسان ذى روح إنسانية خاطئة.
كما أن نسطور يجهل المقصود بتجديد الروح
القدس الذى يعنى أن الروح القدس هو الحياة الجديدة التى تحل محل الدم
المائت فى إحياء الجسد وبهذه الحياة الجديدة نصير خليقة جديدة روحانية أى
حية بروح الله.
فإذا طبقنا نظرية نسطور فى وجوب أن
تحصل الروح الإنسانية الخاطئة أيضا على تجديد فيلزم فنائها كالدم وأن
يقوم الروح القدس مقامها فى إحياء الجسد بدون الروح الإنسانية التى صارت
عدما فهل هناك جنون أكثر من ذلك.
أما الحق الكتابى فيكشف لنا تحديدا عن ما
شاركنا به الكلمة فى تجسده وكيفيته بقوله على لسان بولس الرسول " فإذ قد
تشارك الأولاد ( أى أرواح البشر ) فى اللحم والدم اشترك هو أيضا فيهما
لكى بموته يبطل الموت وسلطان إبليس ويخلص كل الذين كانوا مستعبدين لحكم
الموت. لهذا لم يأخذ جسدا من الملائكة بل أخذه من نسل ابراهيم ( المسيح
واحد 4 ص 25 ).
ورغم أن الكلمـة شاركنا فى اللحم والدم إلا
أنه لم يأخذ الدم مثلنا من زرع الرجل المدنس بالخطية وشوكة الموت بل أخذ
دما طاهرا بلا عيب ولا دنس كدم آدم قبل الخطية بعمل وقوة الروح القدس
بدون زرع رجل لكى يكفر به عن دمائنا.
من ذلك نرى أن أرواح البشر بسبب اشتراكها فى
اللحم والدم المدنس بالخطية وشوكة الموت تشترك فى الخطية رغم أنها كأرواح
تخلق خلقا جديدا داخل أجسادها الأمر الذى أثبته زكريا النبى بقوله " يقول
الرب باسط السماوات ومؤسس الأرض
ومصور روح الإنسان فى داخله
"
( زكريا 12 : 1 ).
من ذلك نرى أن الله يصور أرواح البشر داخل
أجسادها بالخلق ومن ثم فهى طاهرة ولكنها تصير خاطئة بسبب اشتراكها فى جسد
الخطية أى الجسد الحى بدم الخطية.
أما المسيح فلكونه وحده الذى ولد بدون زرع
بشر قيل أنه أخذ شبه جسد الخطية أما نحن فلأننا ورثنا دم الخطية فقد صرنا
شركاء فى جسد الخطية لهذا صرخ بولس الرسول قائلا من ينقذنى من جسد هذا
الموت ( رومية 7 : 24 ).
فالخطية كائنة فى الدم ونرثها بالميلاد. لهذا قال
داود النبى :
ها أنذا بالإثم ولدت وبالخطية ( بزرع الرجل ) حبلت
بى أمى ( مزمور 51 : 9 ).
ويقول سليمان الحكيم " صورت جسدا فى جوف أمى
.. وصنعت من الدم بزرع الرجل " ( الحكمة 7 : 1 - 2 ).
من ذلك نرى أن الجسـد مصـدره بويضة الأم,
والدم مصـدره زرع الرجل. أمـا الروح فمصدرها الله الذى يصورها داخل جسد
الإنسان.
وما نقرره كان معروفا فى الكنيسـة الأولى
حيث يقول القديس هيلارى عن جسـد المسيح أن نفسه الحية أى دمه كان من صنع
روح اللوجوس وأن مادة الجسـم هى وحدهـا التى أخذهـا من أمه. لكن مادة
الجسـم لا تأخذ شكلها البشرى إلا بفعل النفس الحية أى الدم
لهذا كان دم المسـيح وحـده هـو
الذى بلا عيب ولا دنس ( بطرس الأولى 1 : 18 - 19 ).
هذا التعليم بأن دم المسيح هو وحده الذى بلا
عيب ولا دنس يثبت أن الدم وحده هو المحتاج للتكفير عنه بدم المسيح وهو ما
يهدم حجة من حجج النسطورية القائلة بضرورة أن يتخذ الكلمة روح إنسانية
حتى يخلص الإنسان كله جسدا وروحا.
لأن المنطق النسطورى السقيم حتم أن يأخذ
الكلمة الإنسان كله حتى يخلص لأنه إن أخذ الجسد وحده دون الروح يكون قد
ترك عنصرا هاما أى الروح دون خلاص ويكون بذلك قد فدى الحيوانات لا البشر.
إلا أن هـذا التعليم يضاد المعتقد
الأرثوذكسى الذى أثبته كيرلس عمود الدين بقوله " أن الجسد وحده هو الذى
سقط فريسة الموت لهذا كان وحده أيضا المحتاج لأن يرفع حكم الموت عنه
بالقيامة من الموت بأن يلبس عدم موت. أما الروح فلم تفقد خلودها " فضلا
عن كونها خلقا جديدا كما أوضحنا فأى خلاص تحتاجه إلا بإحياء جسدها الذى
سقط تحت حكم الموت الأبدى.
لهذا كان الجسد وحده هو الذى فى حاجة إلى قوة حياة
جديدة تقيمه من الموت. لهذا أخذ الكلمة جسدا مثلنا إنما بدم طاهر بلا عيب
ولا دنس ليكفر به عن دمائنا لأن الدم يكفر عن الدم وبدون سفك دم لا تحصل
مغفرة.
الفصل الخامس
عقيدة ثيؤدورت فى طبيعة المسيح
يقول ثيؤدورت أسـقف قورش وهـو من أشـهر
أعلام النسطورية فى مؤلفـه " الجامع للطبيعتين " المنشور تحت عنوان
"
كمال البرهان على حقيقية الإيمان "
منسوبا للقديس أثناسيوس الرسولى ما نصه :
وأن
أقنوم
اللوجوس ( عقل الله ) هو الذى أخذ طبيعة إنسانية ( أى روح إنسانية )
فضمها إليه فكان هو عقلها أى المشخص لها منذ أول لحظة من كيانها, ومعنى
ذلك أن طبيعة المسيح البشرية تقوم بأقنوم اللوجوس ( أى بعقل الله لا
بعقلها الخاص ) وإذ شخصها باللوجوس ألهها منذ لحظة وجودها.
فعلى هذا الوجه من الإتحاد إتحد الكلمة (
اللوجوس ) بالطبيعة البشرية ( أى بالروح البشرية ) بشخص ابن الله الوحيد
الجامع للطبيعتين
الإلهية والناسوتية المشخصة بأقنوم أزلى ( أى أقنوم اللوجوس ) بطبيعتين.
فهو مسيح واحد بأقنوم واحد أزلى ( الجامع للطبيعتين 3 : 4 ص 56 ).
وتعليقا على ذلك يقول خريسوستمس بابادوبولس
الأستاذ بجامعة أثينا :
إن روح المسيح الإنسانية هى الروح الوحيدة التى
لم يكن لها عقل خاص بها أى لم تكن شخصا خاصا
.
ويقول الأب فرنسيس فرييه :
أن طبيعة المسيح البشرية ( أى روحه الإنسانية )
هى الطبيعة الوحيدة التى ليس قيام بالذات ( أى ليس لها عقل بشرى خاص بها
) ولولا الوحى الإلهى لما استطعنا أن نعرف هذه الحقيقة
.
وهكذا صار ما جادت به قريحة ثيؤدورت المضطربة
وحيا إلهيا لولاه لما عرفوا أن للمسيح الإنسان المولود من مريم روح غير
عاقلة صار اللوجوس عقلها والمشخص لها وبهذا صار المسيح إنسانا متألها (
من منظور تأله الروح الإنسانية بالكلمة المشخص لها الذى جعلها واحدا معه
فى اللاهوت ) وإلها متأنسا ( من منظور تأنس الكلمة بتشخيصه روح إنسانية
وتصييرها روحه الخاصة ) وفى جميع الأحوال يصير المسيح كائنا من أنصاف
الآلهة المركبة من جزء إلهى وجزء إنسانى.
هذا التعليم الذى نادى به ثيؤدورت أسقف قورش
هو ذاته الذى أقره مجمع خلقيدونية الذى حرم نسطور بزعم أنه فصل بين
الطبيعتين ولم يوحد بينهما بتوحيد الأقنوم.
والواقع أنه بصرف النظر عن تفسير كيفية
الإتحاد بين الطبيعتين وبصرف النظر أيضا عن مدى معقوليته أو قبوله بين
أقطاب النسطورية أنفسهم فإن الإتحاد ذاته بين الطبيعتين اللاهوتية
والناسوتية هو جوهر النسطورية ومن هنا جاء اعتراف نسطور بقبول طومس لاون
الذى يعترف فيه بحفظ التمييز بين الطبيعتين وقد اجتمعتا فى الأقنوم
الواحد والذى محصلته إنكار لاهوت المسيح ومجيئه فى الجسد.
فماذا نقول تعقيبا على ذلك ..؟!
لقد ترك الهراطقة صخرة الإيمان التى أسس
الرب عليها كنيسته واخترعوا لأنفسهم ما يروه هم صوابا مبطلين الحق
الكتابى بتعاليم غريبة مشوشة تضاد التعليم الأرثوذكسى والتقليد الرسولى.
لأنه أين فى الأسفار المقدسة نجد صورة هذه
التعاليم المشوشة عن التأنس واتحاد اللاهوت بالناسوت والاعتقاد بمسيح
واحد موحد بتوحيد الأقنوم المؤلف من جوهر اللاهـوت وجوهر الناسوت الجامع
لهما بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تحول ولا تغيير.
هل يتفق هذا التشويش مع قول بولس
الرسول :
إذ قد تشارك الأولاد ( أرواح البشر ) فى
اللحم والدم اشترك هو أيضا فيهما لكى بموته يبيد الموت ( العبرانيين 2 :
14 ).
هل يفهم من هذا القول " اشترك فى اللحم
والدم " أنه اتحد بإنسان أو أنه اتخذ جسدا تحييه نفس إنسانية عاقلة حسبما
يزعم النساطرة والخلقيدونيين.
أم نفهم المشاركة هنا بمعنى اتخاذه الجسد
المكون من لحم ودم الذى تشترك فيه البشرية ليصير باشتراكه فى مالنا أى فى
الدم الذى هو علة حياة الجسد الحيوانى قابلا للموت مثلنا حتى بموته يبطل
موتنا ويشركنا فيما له أى روحه المحيى لنحيا به.
من ذلك نرى أن الإشتراك فى اللحم والدم هو تجسد لا
إتحاد بين روحين لاهوتية وناسوتية كما يزعم الهراطقة.
كما أن الكتاب لم يستخدم كلمة اتحاد بل كلمة
شركة بالقول إذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضا فيهما أى
فيما يشتركون فيه أى فى الجسد المكون من لحم ودم ولم يقل أنه اشترك فى
أحد الأولاد أو جعله واحدا مع لاهوته بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير
إلى آخر مخترعات أصحاب الطبيعتين.
وحتى إذا استخدم بولس التعبير إتحد باللحم
والدم عوضا عن التعبير اشترك فى اللحم والدم فإن مفهوم التجسد لن يتغير
بتغير الألفاظ المعبرة عنه.
والواقع أن مقولة أن الإتحاد هو بـدون
اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير هى من مخترعات نسطور التى ابتدعها لإثبات
تميز الطبيعتان فى المسيح وأنهما منفصلتان وأن كل طبيعة قائمة بذاتها حتى
بعد الإتحاد المزعوم.
هذه المقولة التى ما زال الخلقيدونيين
يتمسكون بها ظاهريا هى بلا مضمون لأن الروحان الإنسانية والإلهية فى
المسيح حسب نسطور متميزتان ولكل قيامها بأقنومها العقلى الخاص بها. أما
حسب ثيؤدورت فإن طبيعة المسيح الإنسانية لحقها التغيير إذ صارت مشخصة
باللوجوس الذى أبطل عقلها البشرى وقام مقامه, وبالتالى لم يعد فى المسيح
طبيعتان عاقلتان حسب نسطور بل طبيعة واحدة إنسانية مشخصة باللوجوس ( أى
عقل الله ).
وبذلك أحدث ثيؤدورت تشويشا فى الجوهر
الإنسانى بإبطال عقله الخاص وقيام اللوجوس مقامه محدثا بذلك تغييرا
وتركيبا فى الطبيعة الإنسانية بحيث صار للمسيح طبيعة واحدة أى روح واحدة
إنسانية مشخصة باللوجوس.
وبالتالى فإن القول بتميز الطبيعتان فى
المسيح قد بطل إذ يصير للمسيح روح واحدة إنسانية مشخصة باللوجوس وهذا
باطل إذ يترتب عليه إحداث تشويش فى الجوهرين الإلهى والإنسانى معا.
والواقع أن التعليم بأن المسيح ابن
الله مركبا من روح إنسانية بعقل إلهى هو بدعة تضاد الحق الكتابى المعلن
بأن المسيح ابن الله الحى هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.
أما التشويش الذى أحدثه الخلقيدونيين فى شخص
المسيح بجعله من أنصاف الآلهة النصف إله والنصف إنسان فهو من خطل العقل
المجرد من النعمة والفهم.
والواقع أنه رغم اختلاف النساطرة فيما بينهم
حول كيفية الإتحاد إلا أنهم متفقون على مبدأ الاتحاد ذاته لهذا فإن
حرومات كيرلس ضد النسطورية منصبة على جوهر النسطورية أى بدعة الإتحاد فى
ذاتها بصرف النظر عن كيفيته.
لهذا هاجم ثيؤدورت كيرلس بقوله :
أن كيرلس فى الفصل الأول ( الحرم الأول )
أبطل التدبير الذى صار لأجلنا معلما أن الله لم يأخذ طبيعة بشرية
( أى روح إنسانية ).
وفى عظة ألقاها ثيؤدورت بكنيسة أنطاكية قال
" إن الله اتخذ إنسانا ولئن أبى بعضهم ".
كما وضع ثيؤدورت مؤلفا بعنوان " دفاع الأسقف
ثيؤدورت عن ديودورس وثيؤدورس ( معلمى نسطور ) المجاهدين فى سبيل الإيمان
القويم " جاء فيه :
إن كتاب كيرلس ضد ديودورس كله على هذا النمط
" إنه لم يأخذ إنسانا لكن هو صار إنسانا. لم يتدبر فى الإنسان بل تدبر
جسديا. إن الوحيد نفسه تجسد وذاق الموت
".
أما لاون فقد امتدحه ثيؤدورت فى رسالة له
برقم 113 بقوله :
إن ما كتبتموه وحده يكفى للدلالة على طبعكم
الرسولى. أجل لقـد قرأنا ما كتبتموه بخصوص تجسد إلهنا ومخلصنا وأعجبنا
بدقة تعابيره فإنكم قد أوضحتم الطبيعتين معا الابن الوحيد المولود من
الآب الأزلى بحسب لاهوته, وطبيعته البشرية التى هى من نسل داود وابراهيم,
وأعلنتم أيضا أن هذه الطبيعة المتخذة هى مماثلة لطبيعتنا فى كل شىء ولا
تختلف عنها سوى أنها بقيت منزهة عن كل خطية لأن الخطية لا تصدر عن
الطبيعة بل عن
الإرادة الحرة, وتوضح كتاباتكم أيضا أن ابن الله الوحيد هو واحد وأن لاهوته لا
ينفعل .. ولهذا السبب قد اتخذ الطبيعة المنفعلة .. هذه هى التعاليم التى
مع ما يماثلها نجدها فى كتاباتكم وإننا لمعجبون بمعرفتكم هـذه الأمور
الروحية وقد أشدنا بنعمة الروح القدس المتكلمة بفمكم (
ثيؤدورت " تاريخ أصفياء الله " رسالة رقم 113 ص 10 - 13
).
الفصل السادس
عقيدة مجمع خلقيدونية فى
طبيعة المسيح
فهم نسطور تدبير الخلاص بطريقة تضاد الحق
الكتابى والتسليم الرسولى إذ اعتقد بأن الكلمة لم يتجسد ولم يولد بل تأنس
أى اتحد بإنسان مثلنا من نسل داود بنفس عاقلة وجسد بدون اختلاط ولا
امتزاج ولا تغيير ولا افتراق.
وعندما بلغ كيرلس أنباء هذه البدعة الجديدة
القائلة بالتأنس والإتحاد بين الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية فى شخص
المسيح كتب إليه مثبتا وشارحا الإيمان المستقيم بطبيعة واحدة لاهوتية
للكلمة المتجسد أى أن للمسيح كلمة الله المتجسد روح واحدة إلهية هى الروح
القدس.
إلا أن نسطور أغلق عليه فهم تعبير كيرلس "
طبيعة واحدة لاهوتية للمسيح الكلمة المتجسد " إذ كان يعتقد فى التأنس أى
فى اتحاد الله الكلمة بإنسـان يدعى يسوع المسيح فاستنتج من أقوال كيرلس
تبعا لذلك أنه بما أنه يعلم بطبيعة واحدة لاهوتية لما هو بطبيعتان حسب
تصوره
فإن هذا معناه أن الطبيعة اللاهوتية استغرقت الطبيعة الناسوتية ولاشتها.
والواقع أن تعليم كيرلس بالطبيعة الواحـدة اللاهوتية
للكلمة المتجسد لا يحتمل هـذا التخريج النسطورى لأن معتقد كيرلس المعلن
هو أن للكلمة المتجسد روح واحدة إلهيـة هى الروح القدس الذى به يدحض
أقوال المبتدعين بأن للمسيح روحان واحدة إلهية وأخرى إنسانية.
ذلك أن معتقد كيرلس مؤسس على الحق الكتابى بأن الكلمة
اشترك مثلنا فى اللحم والدم أى مكونات الجسد حتى يصير فى شبهنا لكى بموته
يلاشى الموت.
أما ما تخيلوه أو استنتجوه من أن القول بطبيعة واحدة
لاهوتية للكلمة يعنى أن الطبيعة اللاهوتية ابتلعت الطبيعة الناسوتية كما
تبتلع نقطة خل فى المحيط فيكشف عن ذهن عاطل عن الفهم السليم.
فعقيدة كيرلس المعلنة هى رفض فكرة الإتحاد
بين طبيعتين عاقلتين أى روحين لاهوتية وناسوتية فى شخص المسيح رفضا باتا
مقررا المعتقد القويم " طبيعة واحدة لاهوتية للكلمة المتجسد " وبعبارة
أخرى أن للمسيح كلمة الله المتجسد روح واحدة إلهية هى الروح القدس.
وعندما تجدد الصراع بين الأرثوذكسية
والنسطورية أعتقد لاون أسقف روما أن الخلاف بين كيرلس ونسطور كما صوره له
أقطاب النسطورية هو خلاف حول كيفية الإتحاد بين الطبيعتين وأن أصحاب
الطبيعة الواحدة اللاهوتية للكلمة المتجسد يقولون بابتلاع الطبيعة
اللاهوتية للطبيعة الناسوتية بحيث صار فى المسـيح بعد الإتحـاد طبيعة
واحدة لاهوتية إذ جاء فى طومس لاون أسقف روما ما نصه :
إنكم عند فحصكم أوطاخى سألتموه فأجاب " إنى اعترف
بأن الرب كان ذا طبيعتين قبل الإتحاد ولكنى اعترف بطبيعة واحدة بعد
الإتحاد. ثم يستطرد قائلا أنه من الإرجاف المزعج القول بأن الكلمة مذ صار
جسدا لم يكن فيه إلا طبيعة واحدة "
.
مما تقدم يتضح أن ما نسبه لاون لأوطاخى قائم
على إدعاءات خصومه من الهراطقة والمبتدعين فاسدى الذهن الذين نسبوا إليه
ما استنتجوه من رفضه الإقرار بالإثنينية وتمسكه بصورة الإيمان المستقيم
بالطبيعة الواحدة اللاهوتية للسيد المسيح.
والواقع أنه رغم المحاولات الدائبة من جانب
أقطاب النسطورية لطمس وتشويه الأقوال الأرثوذكسية أينما وجدت فقد جاء فى
طومس لاون أسقف روما ما يبرىء أوطاخى مما هو منسوب إليه لرفضه الإقرار
بمعتقدهم فى الطبيعتين بما نصه :
إن أوطاخى يجب أن يعتبر أنه لم يدرك سر هذا
الإيمان
لأنه لا يعترف بأن
طبيعتنا ( الروح الإنسانية ) موجودة فى ابن الله الوحيد
أما بواسطة صنعة الموت ( أى ببرهان طريقة الموت الذى يتحقق حسب نسطور
بخروج الروح الإنسانية من الجسد وهذه النقطة هى أساس القول بالطبيعتين أى
بوجود روحين فى المسيح لدى النساطرة ) أو بواسطة مجد القيامة ( أى ببرهان
عودة الروح الإنسانية للجسد المائت لتقيمه من الموت بحسب المفهوم
النسطورى ).
إن معتقد لاون بأن موت الإنسان لا
يتحقق إلا بخروج الروح الإنسانية من الجسد, وأن قيامة الجسد لا تتحقق إلا
بعودتها إليه. هى علة ترديه فى النسطورية. بل رأى فى ضرورة وجود هذه
الروح الإنسانية لأجل تحقيق هذين الأمرين بالذات أى الموت والقيامة برهان
صحة إيمانه.
أيا كان الأمر فإن القديس ديوسقوروس لم يقبل
هذا الطومس لأنه ما إن قرأه ووجد فيه بدعة القائلين بطبيعتين متحدتين فى
شخص المسيح حتى وقع بحرمه مع صاحبه
.
أما المجتمعون فى خلقيدونية فقبلوا هذا
الطومس وانتهوا بناء عليه إلى إقرار النسطورية بالقول بأن المسيح هو إله
تام وإنسان تام مولود بحسب اللاهوت من الآب وبحسب الناسوت ( الإنسان ) من
مريم.
وأن أقنوم الابن الوحيد يجب الاعتراف به أنه
بطبيعتين متحدتين معا بدون اختلاط ولا تغيير ولا انفصال لأن الإتحاد لم
يبطل اختلاف الطبيعتين.
وخلاصة هذا التعليم الكفرى بصرف النظر عن
كيفية الإتحاد بين الطبيعتين هو أن العذراء لم تلد الله الكلمة بل ولدت
إنسان اتحد به الله الكلمة.
وهكذا قبل الخلقيدونيين معتقد نسطور فى
الطبيعتين المتميزتين إلا أنهم خالفوه فى قوله بأقنومين فى المسيح بقولهم
بأقنوم واحد إلهى بطبيعتين متميزتين لاهوتية وناسوتية بعد الإتحاد. فصار
هذا التعليم أكثر تشويشا لطبيعة المسيح بجعلها طبيعـة لا هى إنسانية حسب
أريوس ونسطور ولا هى إلهية حسب كيرلس وخورس الرسل والآباء والأسفار
المقدسة بل طبيعة مركبة من روح إنسانية مشخصة بعقل إلهى فصارت هذه البدعة
بحق رأس البدع وقمة التشويش وعنوان الجنون.
لأنه أين فى الأسفار المقدسة نجد مثل هذا
التعليم المشوش بأن أقنوم الابن الوحيد يجب الاعتراف به أنه بطبيعتين أى
بروحين متحدتين ومختلفتين ما يعنى أن روح المسيح الإنسانية مشخصة
باللوجوس وهى بدعة أقل ما يقال عنها أنها نتاج ذهن مضطرب عاطل تماما عن
الإدراك السليم والفهم المنطقى والذى يترتب على الأخذ به نتائج غير
منطقية على الوجه التالى :
1 - إن القول بأن اللوجوس بروحين إلهية وإنسانية معناه أن
جوهر اللاهوت صار مركبا من خالق ومخلوق. كما أن القول بأن اللوجوس شخص
الروح الإنسانية معناه أنه أبطل عقلها البشرى وبالتالى وجودها. لأن الروح
إنما تدرك وجودها بعقلها فإن بطل عقلها بطل وجودها. إذا لا قيام لطبيعة
عاقلة إلا بعقلها الخاص فإن بطل عقلها بطل وجودها.
والواقع أن قبول هذا التعليم هو من
سفه العقل المجرد من النعمة إذ من البديهيات أن أى جوهر عاقل لا قيام له
إلا بعقله. فإن بطل وجود العقل بطل وجود الجوهر. فإن قالـوا أن اللوجوس
قام مقام العقل فى الروح الإنسانية فلا يكون قد أبطل عقلها فقط بل وجودها
ذاته, وبذلك يكونوا قد سقطوا فى ذات البدعة المنسوبة لأوطاخى وأوطاخى
منها برىء.
فضلا عن أن الروح البشرية العاقلة لا تشخص
بغير عقلها الخاص إذ هى سـاكن لا مسكن, وهى تشخص ولا تشخص إذ هى جوهر
روحانى عاقل, والقول بغير ذلك هو من خطل العقل.
2 - إن أقنوم الكلمة إذا شخص الروح الإنسانية جدلا فإنه
لا يشخصها بمعزل عن طبيعته الخاصة وعليه تكون الطبيعة الإلهية باللوجوس
قد لبست الروح الإنسانية وشخصتها مبطلة عقلها البشرى, وهذا باطل نقلا
وعقلا لأن الطبائع العاقلة أى الأروح لا تقبل التركيب أو الإضافة أو
التحول.
3 - إن القول بأن أقنوم اللوجوس بروحين إلهية وإنسانية
بعد الإتحاد وأن الإتحاد لم يبطل اختلاف الطبيعتين معناه أن الكلمـة هو
المشخص للروحين الإلهية والإنسانية. أى أن له روحين بعقل واحد وهذا باطل
نقلا وعقلا.
4 - إن اعترافهم بأن للمسيح روح إنسانية مشخصة
باللوجوس بعد الإتحاد المزعوم يقدمهم لعبادة إنسان متأله من أنصاف
الآلهة المركبة من نصف خالق ونصف مخلوق. أى أن طبيعة المسيح بالإتحاد
المجنون تصير مركبة من خالق ومخلوق, وبهذا يحولون سر التقوى العظيم إلى
عبادة كائن أسطورى من أنصاف الآلهة.
أما قولهم بأن الإتحاد لم يبطل اختلاف
الطبيعتين فهو عروج لرأى نسـطور القائل بأن الطبيعتين فى المسيح لم
يلحقهما أى تغيير وأن كل طبيعة قائمة بأقنوم العقل الخاص بها وهو ما يضاد
معتقدهم بأقنوم واحد إلهى بطبيعتان.
والواقع أن العروج بين رأى ثيؤدورت
ورأى نسطور فى كيفية الإتحاد ما يدل على ذهن مشوش غير قادر على إدراك
المتناقضات بينهما وأنه يستحيل القول بهما معا لأن مسيح نسطور هو إنسان
نظيرنا أما مسيح ثيؤدورت فمن أنصاف الآلهة.
وهم إلى اليوم لا يستطيعون أن يحددوا كيفية
الإتحاد بين الطبيعتين هل هو حسب نسطور أم حسب ثيؤدورت لأن الأول يميز
بين الشخصين والثانى يبطل الشخصية الإنسانية.
لهذا نراهم يعرجون بين الرأيين فحيثما ذكرت
الآلام والصلب والموت الذى يتحقق بخروج الروح الإنسانية من الجسد الذى
كان الله متحدا به أو القيامة التى تتحقق بعودة الروح الإنسانية إليه
فتقيمه من بين الأموات حسب تصورهم فإنهم عندئذ يقولون برأى نسطور القائل
بطبيعتين أى بروحين متميزتين فى المسيح لكل أقنومها العقلى الخاص بها.
لأن الأخذ بمعتقد ثيؤدورت المشخص لروح المسيح الإنسانية بأقنوم العقل
الإلهى فى هذه الحالة يجعل الآلام تقع على عقل الله نفسه لا على العقل
البشرى.
أما إن ذكرت الأمور المتعلقة بوحدة الشخص
والأقنوم فى المسيح فإنهم عندئذ يقولون برأى ثيؤدورت.
وكلا الرأيين ظاهر الفساد فالأول يرديهم فى
شنيعة عبادة الإنسان المخلوق دون الخالق أما الثانى فيرديهم فى هرطقة
عبادة إنسان متأله من أنصاف الآلهة.
إن جنون النسطورية وأنصار خلقيدونية يفوق كل
حد وكل تصور إذ هم لا يدركون أن ما انتهوا إليه من نتائج غير
منطقية سببه أنها بنيت على مقدمات خاطئة وضعوا بها أنفسهم خارج نطاق
الإدراك السليم ومع ذلك لم يدركوا الكفر العظيم الذى وضعوا أنفسهم فيه
ولا الخطر المحدق بهم لأنهم لا يفهمون ما يقولونه ولا ما يقررونه.
إذ كيف لا يدركون أن الطبائع العاقلة كاملة فى
ذاتها وتأبى التركيب والإتحاد بغيرها من الطبائع العاقلة ولو كانت
من ذات جنسها. فلا يمكن عقلا تصور أن عقل روح بولس يتحد بروح بطرس
ويشخصها بحيث يصبح لعقل بولس روحان. فإذا أصبح لبولس روحان وهذا محال
فأين روح بطرس وعقله ؟ إذ الواضح أنها لم تعد روحه بل روح الذى شخصها. ثم
أين عقل بطرس هل ابتلع ؟! وهل يوجد جوهر عاقل بروحان ؟
فإن كان القول بالإتحاد التركيبى بين
الطبائع المخلوقة لا يمكن أن يقول به عاقل فكيف ننسبه إلى الطبيعة
الإلهية كلية الكمال ونجعلها مركبة من خالق ومخلوق.
ثم كيف لعاقل تصور إمكانية وجود شخص أو عقل
بروحان أو يعتقد أن المسيح إنسان متأله من أنصاف الآلهة وأن روحه إنسانية
مشخصة باللوجوس.
هذا التعليم بأن للمسيح طبيعة إنسانية مشخصة
بالكلمة هو الذى أقره المجتمعون فى خلقيدونية فى جلستهم الخامسة بقولهم :
إن ربنا يسوع المسيح يجب الاعتراف به أنه
إله حق وإنسان حق
بنفس عاقلة
وجسد, وأن يسوع المسيح
الابن الوحيد يجب الاعتراف به أنه بطبيعتين متحدتين
بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
وهكذا جمع الخلقيدونيين بين معتقد ثيؤدورت
ومعتقد نسطور فى اعتراف واحد. رغم استحالة التوفيق بينهما. لأنه أنى يكون
للمسيح نفس إنسانية عاقلة إن كانت قد عدمت عقلها البشرى منذ نشأتها فصارت
مجرد ريح مادية لا يصح أن تسمى روحا إنسانية حتى وإن تشخصت بالكلمة. لأن
الروح الإنسانية لا تسمى إنسانية إلا إذا تشخصت بعقلها البشرى الذى
يخصصها.
الفصل السابع
عقيدة يعقوب البرادعى فى
طبيعة المسيح
أسس يعقوب البرادعى وهو أسقف نسطورى بدعته على أساس
البدعة المنسوبة لأوطاخى بأنه كان يعتقد بطبيعة واحدة من طبيعتين.
فى حين أن المحقق تاريخيا أن أوطاخى كان يعتقد بأن
للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية بحسب المعتقد الأرثوذكسى فقال أسقف سلوقيا
لأوطاخى بأنك مالم تقل بالاتحاد بين الطبيعتين فأنت تعتقد بالامتزاج
والتلاشى أى ملاشاة الطبيعة اللاهوتية للروح الناسوتية.
فقال أوطاخى
"
حاشا لى أن أقول أن ربنا من طبيعتين
"
.
من ذلك يتضح أن التعليم الذى أتى به يعقوب
البرادعى وهو أسقف نسطورى الأصل بأن للكلمة روح واحدة من طبيعتين إنما
أراد به مقاومة التعليم بأقنوم إلهى بطبيعتين بحسب خلقيدونية وهو المذهب
القائل بتأله الطبيعة الإنسانية فى المسيح بأقنوم الكلمة. مناديا بأقنوم
إلهى بطبيعة واحدة ( روح واحدة ) ممتنعة الجنس أى ليست إلهية ولا إنسانية
فريدة فى نوعها مؤتلفة من صفات وخواص الطبيعتين.
وفى هذا يقول العلامة ابن المكين اليعقوبى المذهب:
أن مراد الرسول من القول " والكلمة صار جسدا أن
الابن الأزلى اتحد بالابن الزمنى وصارا بالاتحاد شيئا واحدا فى الموضوع
وهو الشخص المشار إليه بيسوع المسيح,
وهو حقيقة ثالثة لا يصح عليها أنها إنسانية فقط ولا إلهية فقط ولا هو غير
كل من الإله والإنسان. بل هو الإله المتأنس ".
ويقول أيضا :
أن المفهوم من اسم يسوع المسيح أنه الكلمة
الأزلى ظهر متحدا بإنسان زمنى مخلوق محدث .. ولهذا نقول أنه جوهر من
جوهرين أزلى وزمنى
صار منهما حقيقة واحدة
تلك الحقيقة هى التى
نشير إليها باسم يسوع المسيح.
فطيبعة المسيح ( أى روحه ) وفقا لهذا
التعليم هى روح ثالثة لا هى إلهية ولا هى إنسانية ولا هى جامعة للطبيعتين
الإلهية والإنسانية بل هى طبيعة ثالثة محدثة فريدة فى نوعها هى روح
الكلمة المتأنس التى يشار إليها باسم يسوع المسيح.
وينكر الأنبا غريغوريوس تعليم العلامة ابن
المكين ظاهريا بقوله :
ولا يعتذر أصحاب الطبيعتين عن تعبير الطبيعة
الواحدة بزعم أن القول بطبيعة واحدة لها صفات الطبيعتين معناه القول
بطبيعة ثالثة. كلا فنحن ننكر القول بطبيعة ثالثة. لأن هذا القول يتضمن
الاعتقاد بالامتزاج والاختلاط, ولكننا نؤكد أن هناك
أمرا جديدا قد نجم عن الاتحاد
لم يكن حادثا من قبل
هو لقب الإله المتأنس أو هو لقب السيد المسيح. فهذا اللقب الجديد لا يصح
اطلاقه على الكلمة قبل التجسد بل هو اللقب الذى عرف به منذ يوم التجسد
فقط.
ولنا أن نتسأل عن كنه الطبيعة الجديدة التى
نجمت عن الاتحاد كما يقول نيافته هل هى طبيعة إلهية. أم إنسانية. أم
طبيعة جديدة مؤتلفة ممتنعة الجنس ليست إلهية ولا إنسانية مشخصة بالكلمة؟
لا شك أن اليعقوبية ترى بأن للمسيح طبيعة
جديدة فريدة فى نوعها. طبيعة لا هى إلهية ولا إنسانية ولا هى بطبيعتين
متميزتين بل هى طبيعة من الطبيعتين بإتلاف بين الصفات والخواص الخاصة
بالطبيعتين الإلهية والإنسانية معا
نجم عنه طبيعة جديدة لا جنس لها هى طبيعة الكلمة المتأنس أو السيد
المسيح.
ويقول الأنبا غريغوريوس فى سياق تفنيده
لمعتقدات خلقيدونية ما نصه:
إن الكنائس الأرثوذكسية لا تعترف بطبيعتين
متحدتين فى أقنوم الكلمة وفقا لإقرار الإيمان الخلقيدونى وأن هذه الأقوال
هى بدعة نسطور. كما تنكر الكنائس الأرثوذكسية على أصحاب الطبيعتين قولهم
بأن المسيح إله كامل وإنسان كامل لأن هذا التعبير يسلم إلى القول بشخصين
أو أقنومين فى السيد المسيح.
إلى هنا نحن متفقون مع نيافته أما ما تلا ذلك من قوله
" أن الكنائس الأرثوذكسية تلتزم القول
بإله متأنس
أو
كلمة متأنس,
وأن الطبيعة الواحدة للسيد المسيح جمعت صفات الطبيعتين, وأن الإتحاد بين
لاهوت المسيح وناسوته بلا مفارقة.
فإن هذه المعتقدات ليست أرثوذكسية بل نسطورية يعقوبية أى أنها من معتقدات
أصحاب الطبيعتين.
وقد فسر نيافته كيفية الإتحاد بين الكلمة
والإنسان بما يتفق جزئيا والمعتقد الخلقيدونى بقوله :
ينادى الأرثوذكسيين بالاتحاد بين اللاهوت
والناسوت فى أقنوم واحد ( أقنوم الكلمة ) وطبيعة واحدة ( روح واحدة )
جمعت بين صفات وخصائص اللاهوت والناسوت معا. على أن مركز الشخصية فى
الكلمة الذى صار إنسانا هو فى اللاهوت. لأن الناسوت غير مشخص.
وواضح أنه يقصد بالناسوت غير المشخص تلك الروح
الممتنعة الجنس التى ليست ناسوتية ولا لاهوتية والتى صار الكلمة مركز
شخصيتها.
أى أن الخلاف بين الخلقيدونية واليعقوبية هو فى
كنه الروح التى اتحد بها الكلمة. ففى حين شخص الكلمة روح إنسانية فى
المعتقد الخلقيدونى. شخص الكلمة روح ممتنعة الجنس أى ليست إلهية ولا
إنسانية فى المعتقد اليعقوبى.
أما قول نيافته بأن الكنائس الأرثوذكسية تلتزم
القول
بإله
متأنس
فإن هذا المصطلح نسطورى صرف يقصد به بحسب نسطور أن الله الكلمة اتحد
بإنسان يدعى المسيح. أما بحسب خلقيدونية فيقصد به أن الكلمة تأنس بأن
اتخذ روحا إنسانية صار هو مركز شخصيتها فألهها بأن جعلها واحدا معه فى
جوهر اللاهوت. أما بحسب البرادعى فيقصد به أن الكلمة تأنس بأن اتخذ روحا
ممتنعة الجنس ليست إنسانية ولا إلهية تشخصت بالكلمة الذى ألهها وجعلها
واحدا معه فى اللاهوت.
إن الذين يستخدمون مصطلح " إله متأنس " لا
يدركون أنه مصطلح غير كتابى يحمل فى طياته كل سم البدعة النسطورية لأن
معناه أن الكلمة لم يولد ولم يتجسد بل تأنس أى اتحد بإنسان مثلنا (
الرسالة الخامسة لنسطور ف 5 ص 33 ).
لذلك فالمعتقد الصحيح وفقا لحق الإنجيل هو أن
الله ظهر فى الجسد لا فى إنسان وأنه شاركنا فى اللحم والدم لا فى روح
إنسانية لكى بموته يبطل موت الجسد وسلطان إبليس.
أما الأنبا ساويرس ( وكان يعقوبى المذهب )فقد فسر الاتحاد بين الطبيعتين بحسب معتقد خلقيدونية
بقوله:
أن أقنوم لاهوت الابن كان متحدا بروح الجسد.
وأن روحه البشرية كانت متحدة بأقنوم الكلمة
( وهذا عين معتقد خلقيدونية لأن الروح التى شخصها الكلمة بحسب المعتقد
اليعقوبى ليست إلهية ولا إنسانية بل ممتنعة لا جنس لها فى حين أن روح
المسيح حسب خلقيدونية هى روح إنسانية مشخصة بالكلمة ).
ثم لم يلبث الأنبا ساويرس أن فسر الاتحاد بين الطبيعتين بكيفية مزج فيها
بين النسطورية والخلقيدونية بقوله:
أن ابن الله أخذ جسدا من مريم له روح عاقلة ناطقة ( بحسب المعتقد
النسطورى ) واتحد بتلك الروح العاقلة دون استحالة أو تغيير.
وهذا معناه أن الله الكلمة عندما اتحد بالروح الإنسانية لم يبطل عقلها
البشرى وبهذا صار فى الروح الإنسانية عقلان واحد إلهى والآخر إنسانى, لأن
الاتحاد بدون تغيير.
وبذلك خالف الأنبا إيسيذورس معتقد خلقيدونية الذى رأى أن روح المسيح
الإنسانية مشخصة بالكلمة كما خالف أيضا معتقد البرادعى الذى رأى أن روح
المسيح اللا إنسانية واللا إلهية مشخصة أيضا بالكلمة.
أما القمص تادرس يعقوب ملطى فقد فسر الاتحاد
بين الطبيعتين بقوله:
يصر القديس كيرلس على استخدام تعبير الاتحاد
الأقنومى رافضا التعبيرات التى استخدمها نسطور إذ دعى اتحاد الطبيعتين
اللاهوت والناسوت سكنى ( حلول ) أو التصاق أو شركة قوية حاسبا هذه
التعبيرات غير كافية.
ويقول الأب متى المسكين فى هذا الصدد ما نصه
:
أن الحلول الجوهرى معناه أن الروح القدس يحل
فينا بجوهره الإلهى الخاص وهذا المعنى سنرى القديس كيرلس يؤيده بحسب
الآية القائلة أنتم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ( رومية 8 : 9 ). (
كورنثوس الأولى 3 : 16 + 6 : 19 ).
أما عبارة الاتحاد الجوهرى فقد حرص القديس كيرلس
على قصر استخدامها فيما يخص اتحاد اللاهوت بالناسوت فى شخص المسيح. فقد
كان شغله الشاغل ضد نسطور أن يفرق تماما بين الاتحاد الأقنومى الذى تم فى
المسيح وبين الاتحاد بالمشاركة الذى تم فينا.
ونحن لا نشك فى نسبة تعليم الحلول الجوهرى
للروح القدس فينا لكيرلس لوجود ما يؤيده كتابيا.
ولكننا نرفض نسبة التعليم بالاتحاد الأقنومى
بين الله الكلمة والإنسان يسوع المسيح إلى كيرلس لأن هذا التعليم غير
كتابى وهو تعليم خلقيدونى صرف قائم على أساس بدعة أن الله جعل روح
الإنسان واحدا معه فى جوهر اللاهوت.
لأن الكتاب لم يقل أن الله الكلمة اتحد
أقنوميا بالجسد أو بروح إنسانية بل قال أنه فيه
جسديا ( أى فى جسد المسيح )
يحل
كل ملء اللاهـوت
(
كولوسى 2 : 9 ) ( كتاب الحياة الترجمة
التفسيرية ).
فإذا افترضنا حسب نسطور أن المسيح ليس هو الله
الكلمة بل مجرد إنسان نظيرنا يسمى المسيح فإن الله يكون قد حل فيه بكل
ملء اللاهوت فى جسده لا فى روحه كما يزعم الخلقيدونيين واليعاقبة,
وبالتالى يكون تعليم نسطور عن حلول الله فى جسد الإنسان يسوع المسيح هو
التعليم الصحيح المتفق مع الحق الكتابى وما خلاه هو باطل لو صح هذا
التفسير.
والواقع أن تعليم الاتحاد هو تعليم أصحاب
الطبيعتين بكافة مذاهبهم. أما تعليم كيرلس فيرفض تعليم الاتحاد جملة
وتفصيلا لتمسكه بصيغة الإيمان الرسولى بطبيعة واحدة لاهوتية للكلمة
المتجسد.
فضلا عن أن الاتحاد الأقنومى - وهذه مسلمة
بديهية - لا يكون إلا بين أقانيم الجوهر الواحد ولا يوجد اتحاد بين
أقانيم من جواهر مختلفة.
لهذا فإن التفسير الصحيح للآية أنه فيه
جسديا أى فى جسد الله الكلمة حل كل ملء اللاهوت.
وذلك حتى لا يفترض أحد أو يظن أن المسيح
الذى هو الأقنوم الثانى فى الثالوث بحلوله فى جسده الخاص حل بمعزل عن
الآب والروح القدس.
فالمسيح ليس غريبا عن الثالوث كما يحسب أصحاب
الطبيعتين بل هو الأقنوم الثانى فى الثالوث الذى حل فى جسده الخاص بكل
ملء لاهوته بأقنوم اللوجوس.
والسؤال الذى يفرض نفسه هو هل التعليم
بالاتحاد الأقنومى بين الطبائع العاقلة تعليم كتابى؟ وكيف يكون التعليم
بالحلول والشركة وهى تعبيرات كتابية غير كافية وهى التى استخدمها الرسل
فى كتاباتهم. من ذلك ما سجله بولس الرسول بقوله :
فإذ قد
تشارك
الأولاد فى اللحم والدم
اشترك
هو أيضا فيهما لكى يبيد بالموت ذلك الذى له سلطان الموت ( العبرانيين 2 :
14 ).
هذا هو التعليم الرسولى أن الكلمة شاركنا فى اللحم
والدم أى مكونات الجسد ولم يتحد أقنوميا بروح إنسانية بحسب المعتقد
الخلقيدونى ولا بروح لا جنس لها بحسب معتقد البرادعى. لأن هذه التعاليم
جميعا تصطدم بالحق الكتابى الذى يدمغها بالبطلان ويكشف عدم إدراكها
البساطة التى فى المسيح وأنها بجهالة عظيمة إنما تكرز بمسيح آخر غير الذى
كرز به الرسل.
لأنه أين فى الكتب المقدسة نجد
التعليم بابنين متحدين فى كرامة الاسم حسب نسطور أو بحلول الكلمة فى روح
إنسانية وتشخيصها بحسب تعليم ثيؤدورت ومجمع خلقيدونية أو فى روح ممتنعة
الجنس بحسب تعليم اليعاقبة.
والواقع أن تخبط اليعاقبة فى بيان طبيعة
المسيح هل هى طبيعة إنسانية مشخصة بالكلمة أما هى طبيعة مؤتلفة ممتنعة
الجنس مشخصة بالكلمة. أم أنها طبيعة بطبيعتين عاقلتين قائمتين فى جوهر
جديد بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. يثبت أن جميع معتقداتهم فى طبيعة
المسيح باطلة إذ هى مزيج من تعاليم النسطورية والخلقيدونية.
فالمسيح ابن الله الحى لا يمكن أن يستمد
صفاته وخواصه من أحد. بل هو مساو للآب فى الجوهر, وطبيعته لا يمكن أن
تكون مخلوقة ولا مركبة. لئلا يبدوا الله نفسه وكأنه من نفس جوهر
المخلوقات إن كانت له تلك الصفات التى تستطيع المخلوقات الحصول عليها.
إن الذين يجعلون اللاهوت مركبا أو مؤتلفا أو
موحدا مع مخلوق هم مثل المتصوفة والغنوسيين يعتقدون بأن الخليقة إلهية
بتأليههم المخلوق.
إن كان هذا معتقدهم فأى رجاء لهم ؟
إنهم بقولهم بأن الكلمة اتحد بمخلوق يحسبون
الله غير عادل إذ لا يحصى مع الله وكلمته سوى واحد من المخلوقات فقط.
لأنه إن كان الكلمة قد اتحد بروح إنسانية أو بروح لا جنس لها كما يقولون.
فإن ما اتحد به يكون ضمن الثالوث.
أين هذه الهرطقات من الحق الكتابى
الصريح أن الكلمة ( الله ) هو الذى ظهر فى الجسد لا فى إنسان.
إن الاسم " يسوع المسيح " ليس اسما خاصا
بإنسان ولم يستحدث بالتجسد كما يزعم أصحاب الطبيعتين والهراطقة بل هو
الاسم الخاص بصورة الله وكلمته الذى به خلق الله العالم الذى أعلنه لنا
فى العهد الجديد.
لأنه إن كان اسم يسوع المسيح خاص بإنسان
محدث بحسب زعم الهراطقة فكيف يقول الرسول أنه أعطى النعمة بأن يبشر بين
الأمم بغنى مجد المسيح وينير الجميع بشركة السر المكتوم منذ الدهور فى
الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكى يعرف الآن .. بواسطة الكنيسة ( أفسس
3 : 3 - 10 ).
من هو يسوع المسيح فى ضوء هذه الكلمات ؟ هل
هو الله؟ أم إنسان مثلنا ؟ أم أنه إنسان اتحد به الله الكلمة بكيفية
مختلف حولها بحسب مذاهب أصحاب الطبيعتين؟
لنطرح عنا كل تعليم يضاد الحق الكتابى
ولنتمسك بيقين الإيمان بصورة التعليم الصحيح المسلم للقديسين وشهادات
الرسل القائلين :
كل روح لا يعترف بيسوع المسيح ( الله ) أنه
قد جاء فى الجسد فليس من الله ( يوحنا الأولى 4 : 3 ).
فالمسيح حسب الجسد هو الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد آمين (
رومية 9 : 5 ).
وقد أوضح بولس الرسول بعبارة واضحة المقصود بالجسد الذى
شاركنا فيه الله الكلمة بقوله:
فإذ قد
تشارك
الأولاد فى اللحم والدم
اشترك
هو أيضا فيهما لكى يبيد بالموت ذلك الذى له سلطان الموت ( العبرانيين 2 :
14 ).
الفصل الثامن
الفرق بين المسيح والمؤمنين
المبحث الأول
الفرق بين المسيح والمؤمنين
فى
المعتقد الأرثوذكسى
أولا : الفرق بين المسيح والمؤمنين من حيث الهيئة
المسيح هو صورة الله الآب الحقيقية من رآه فقد
رأى الآب ( يوحنا 14 : 9 ) أما نحن فمخلوقين على صورة الله وشبهه ( تكوين
1 : 26 ).
والواقع أن الصورة هى التعبير الكيانى
للجوهر ولا يوجد جوهر بلا صورة لأن من كان بلا صورة هو عدم والعدم لا
يكون الله, وصورة الله وإن كانت متحيزة إلا أنها غير متناهية. إذ يمكنه
حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه أن يكون فى وسطهم بصورته الذاتية وأن
يتصور فى قلوبهم فى ذات الوقت
بذات الصورة بحضـور شخصى يختلف عن حضوره العام فى كل مكان.
وعليه فلا يظن أحد أنه لو لم يخالف آدم الوصية
لما ظهر الله فى صـورة إنسانية أو أن هذه الصورة محدثة أو مخلوقة. لأن
الله لا يمكن أن يرى نفسه فى صورة مخلوقة أو محدثة. لذلك فالمسيح صـورة
الله مولود من الآب منذ وجوده إذ هو بهاء مجده ورسم جوهره, وقد خلقنا على
صـورته كشبهه, ولسبب تدبير الخلاص وحـده حجب الله وجهـه عن البشر لأنهم
لو علموا لما صلبوا رب المجـد. لهذا فإن تجسد الله وظهوره بين البشر فى
العهد الجديد إنما كان بصورته الحقيقية التى صنعنا على صورتها كشبهها.
والواقع أنه لو لم يكن لله صورة من ذات جوهره
لكان ذلك نقصا وعجزا فى ذاته تعالى تحول دون ظهوره لمخلوقاته. لذلك فإن
كمال الإعلان عن الذات الإلهية لا يتحقق إلا بإظهار الله ذاته للبشر من
خلال ابنه أى صورته المعلنة لذاته بهاء مجده ورسم جوهره الأمر الذى أعلنه
الرب تصريحيا فى صدارة آيات الكتاب المقدس بالقول " نعمل الإنسان على
صورتنا
كشبهنا " ( تكوين 1 : 26 ).
والملاحظ أن لفظة " صورتنا " جاءت بصيغة الجمع
مما يدل على أن صورة الله المثلث الأوجه واحدة فى الجوهر. لذلك فإن أيا
من رأى الابن فقد رأى الآب والروح القدس أيضا لاشتراكهم معا فى وحدة
الصورة والاسم بسبب وحدة الجوهر.
لهذا قال الرب لتلاميذه :
إن كنتم قـد عرفتمونى لعرفتـم أبى أيضا, ومن
الآن
تعرفونـه وقد رأيتمـوه ( يوحنا 14 : 7 ).
وأيضا قال لتلاميذه :
أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا
آخر
ليمكث معكم إلى الأبد.
روح
الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه
لا يراه ولا يعرفه.
أم أنتم فتعرفونه
لأنه
ماكث
معكم
ويكون فيكم ( يوحنا 14 : 17 ).
لقد أثبت المسيح بقوله أطلب من الآب فيعطيكم معزيا
آخر روح الحق الذى لم يقبله العالم لأنه لم يعرفه وأما هم فيعرفونه أنه
هو نفسه روح الحق أى الروح القدس الذى يعرفونه وقد رأوه لأنه معهم ويكون
فيهم بذات الصورة ما يعنى أن للثالوث صورة وأسماء وجوهر واحد.
ثانيا : الفرق بين المسيح والمؤمنين من حيث مركز الشخصية
لما كانت أرواح البشر جميعا تشترك فى سكنى
أجساد حيوانية أى أجساد مركبة من لحم ودم تشخصها بعقولها وتصيرها أجسادها
الخاصة. اشترك هو أيضا بروحه فى ذات الجسد الحيوانى أى الجسد المركب من
لحم ودم وشخصه بكلمته وصيره جسده الخاص صائرا مثل البشر قابلا للموت حتى
بموته يبيد الموت.
أى أن العقل سواء كان إلهيا أم إنسانيا هو
مركز الشخصية فى الجسد الذى يسكنه ويصيره جسده الخاص بما يعنى أن مركز
الشخصية فى جسد المسيح هو اللوجوس أما فى سائر البشر فإن مركز الشخصية هو
العقل البشرى.
ثالثا : الفرق بين المسيح والمؤمنين من حيث الحلول
ينبغى أن نميز بين حلول الله فى جسده الخاص
بأقنوم الكلمة أى بأقنوم العقل الإلهى حلولا تشخيصيا, وبين حلوله فى
أجسادنا فى المعمودية بأقنوم الروح القدس المحيى حلول شركة ليقوم مقام
الدم المائت فى إحياء أجسادنا وإقامتها من الموت والذى بمقتضاه صرنا
شركاء الطبيعة الإلهية أى شركاء الروح القدس فى الجسد.
وبداهة أن الأقنوم لا يحل مطلقا بمعزل عن
جوهره الكامل وإنما يقدم الأقنوم على الجوهر لإظهار الأقنوم الفاعل فى
الحلول والذى يكون باللوجوس فى حالة التجسد وبالروح القدس المحيى
لأجسادنا فى حالة الشركة.
من ذلك نرى أن شركتنا مع الروح القدس المحيى
غايتها إحياء الجسد بمنحه عدم الموت بحلول المسـيح بالروح فى قلوبنـا (
أفسس 3 : 16 - 17 ). وهـو ما تحقق بالمعمودية كما هـو مكتوب أن كل الذين
تعمدوا بالمسيح قد لبسوا المسيح ( غلاطية 3 : 27 ) أى لبسوا الروح القدس
روح المسيح الذى يسمى باسم المسيح ويأتى باسمه ( يوحنا 14 : 26 ).
لأن الكلمة بعد أن أبطل موت جسده
الخاص أولا بروحه القدوس ليصير باكورة الراقدين. صار رأسا جديدا للبشرية
التى أقامها بروحه المحيى بموجب الميلاد الثانى فى المعمودية التى هى
شركة مع المسيح فى شبه موته حتى نشترك أيضا فى قيامته فنحيا به ومعه (
روميـة 6 : 3 - 5 ).
ورغم أن أجساد البشر بمقتضى الشركة تصير
هيكلا للروح القدس وأعضاء فى جسد المسيح من لحمه ومن عظامه ( غلاطية 2 :
20 ) ( غلاطية 3 : 27 ) إلا أن أجساد البشر تظل خاصة بالأرواح الإنسانية
التى تشخصها وكل ما يصدر عنها من أفعال هى إنسانية محضة.
المبحث الثانى
الفرق بين المسيح والمؤمنين
فى المعتقد النسطورى
المسيح حسب المعتقد النسطورى هو إنسان مثلنا اتحدت به الطبيعة الإلهية
فى وحدة الاسم وكرامة البنوة. وقد أثار كيرلس هذه القضية فى معرض تفنيده
للنسطورية معلما بأن ما ينادى به نسطور هو عبادة إنسان مثلنا لأن سكنى
الله فى إنسان مثلنا لا يمكن أن تصيره إلها يعبد لأن الله يسكن فى
الملائكة وفينا نحن بالروح القدس ( شرح تجسد الابن الوحيد فقرة 18 ص 36
).
فى المسيح ( باعتباره إنسان حسب نسطور ) حدث
إتحاد كامل وحقيقى. أما فينا نحن فعلى الرغم من أنه يحل فينا إلا أنه يحل
فينا ليس بجوهره بل بالنعمة. لأن فى المسيح وحده حل كل ملء اللاهوت جسديا
( كولوسى 2 : 9 ) ولم يحدث بأى نوع من المشاركة وإنما حدث اتحاد حقيقى
للطبيعة الإلهية التى اختارت سكنى لها فى الهيكل ( أى فى الإنسان حسب
نسطور ) الذى ولد من العذراء لأنه بالإتحاد وحده يسوع المسيح هو واحد
( شرح تجسد الابن الوحيد فقرة 27 ص 46 ).
والواقع أن المسيح ليس إنسان حل فيه كل ملء
اللاهوت حسبما يزعم نسطور بل هو كلمة الله وحكمته الممسوح أزليا الذى
شاركنا فى اللحم والدم لكى وهو غير المائت يصير قابلا للموت حتى بموته
يبطل موتنا.
أما إن كان المسيح إنسانا نظيرنا وحل فيه
الكلمة بكل ملء اللاهوت حلولا تشخيصيا فإن هذا الحلول لا يعد حلول تجسد
بل حلول تقمص ينزه الله عنه ( كورنثوس الأولى 14 : 32 ).
لأن حلول التقمص هو حلول استيلاء واغتصاب
وتنحية وقهر للروح الإنسانية بالإستيلاء على جسدها وتشخيصه سيان كان ذلك
بإرادتها أو ضد إرادتها.
أما قوله " أما فينا نحن فعلى الرغم من أنه
يحل فينا إلا أنه يحل فينا ليس بجوهره بل بالنعمة ".
فمردود بأن حلول الله فى أجسادنا
بأقنوم الروح القدس هو حلول شركة بالجوهر الإلهى ليمنح أجسادنا نعمة
القيامة. لأن الأقنوم لا يحل بمعزل عن جوهره وإنما يقدم على الجوهر ليبين
ما يخص الأقنوم من عمل فى الجسد الذى يحل فيه.
فأقنوم الكلمة هو المعلن والمشخص
لجوهر الله فى جسده الخاص.
أما أقنوم الروح القدس المحيى فمن جهة
التجسد هو روح المسيح الذى أبطل موت جسده الخاص فصار باكورة بالقيامة
بالجسد الروحانى الممجد أى المحيى بالروح القدس. أمـا من جهتنا فالروح
القدس هو روح الشـركة المحيى لأجسـادنا ( كورنثوس الأولى 6 : 19 ) (
رومية 8 : 11 ).
لذلك علينا أن نميز بين حلول الله فى
أجسادنا الخاصة بأقنوم الروح القدس المحيى حلول شركة ليمنح أجسادنا
القيامة والحياة ويصيرنا هيكلا له, وبين حلوله فى جسده الخاص بأقنوم
اللوجوس حلولا تشخيصيا.
فالحلول بالجوهر الإلهى
بأقنوم الروح القدس فى أجساد البشر هو حلول شركة. أما الحلول بالجوهر الإلهى
بأقنوم المسيح الكلمة
فى جسده الخاص فهو حلول تشخيصى.
والحلول الجوهرى سواء كان حلول شركة أو حلول
تشخيصى يختلف عن الاتحاد الجوهرى الذى لا يكون إلا بين أقانيم الجوهر
الواحد.
من هنا علينا أن نميز بين
الحلول بالجوهر بأحد أقانيم الذات الإلهية على الوجه السالف إيضاحه وبين
الإتحاد
الجوهرى بين أقانيم الجوهر الواحد ولا نخلط بينهما.
لأن الإتحاد الجوهرى أو الأقنومى لا يكون
إلا بين الأقانيم التى تشترك فى الجوهر الواحد ولا يوجد ولا يمكن أن يوجد
اتحاد أو اشتراك فى جوهر واحد بين طبائع عاقلة أو أقانيم من جواهر
مختلفة.
أما الإتحاد بين الطبيعتين الإلهية
والإنسانية كما فى حالتنا فهو إتحاد أو شركة بين طبيعتين فى جسد واحد
غايته أن تمنح الطبيعة الإلهية أجسادنا نعمة القيامة من الأموات. أما
الإتحاد بين الطبيعتين فى شخص المسيح حسب نسطور فهو بدعة محصلتها السقوط
فى عبادة إنسان مثلنا لأن المسيح حسب نسطور إنسان لا إله.
وعلى ذلك فإن التفسير الصحيح للقول " أنه فيه يحل
كل ملء اللاهوت جسـديا "
(
كولوسى 2 : 9 ) هو أنه فى المسيح حكمة الله حل
كل ملء اللاهوت جسديا وقيل هذا لئلا يظن أحد أن أقنوم المسيح حل فى الجسد
بمعزل عن أقنومى الآب والروح القدس. لذلك قطع بولس الرسول الطريق على
الذين ينحون هذا المنحى فى التفسير بهذه الآية التى تثبت أنه فى المسيح
حكمة الله حل كل ملء اللاهوت جسديا.
لأن حلول المسيح حكمة الله فى جسده الخاص
إنما هو بالآب فى الروح القدس.
فالمسيح حكمة الله المذخر فيه جميع كنوز
المعرفة والعلم هو مركز الشخصية فى الجسد الذى حل فيه بالآب حلولا
تشخيصيا بأقنوم الكلمة وأعطى جسده عدم الموت بأقنوم الروح القدس المحيى
الذى هو روحه الذاتى.
هذا هو المفهوم الصحيح للقول أنه فيه أى فى
المسيح حكمة الله حل كل ملء اللاهوت جسديا.
أما نحن فلا يحل فينا كل ملء اللاهوت بأقنوم
الكلمة بل بأقنوم الروح القدس ليمنح أجسادنا نعمة القيامة بروحه المحيى,
فحلوله فينا كما نرى هو حلول نعمة أو شركة. فإذا سقط إنسان من النعمة أو
ارتد عن الإيمان نزع منه الروح القدس.
أما قول نسطور بأن الحلول فى المسيح كإنسان
لم يحدث بأى نوع من المشاركة فهو بلا معنى. لأن حلول الله فى الإنسان هو
حلول شركة وليس حلول تشخيصى, وحتى بفرض أن الله حل فى إنسان حلولا
تشخيصيا فإن هذا الحلول لا يسمى تجسدا ولا ولادة بل تقمصا وإستيلاء, وهذا
ينزه الله عنه بشهادة بولس الرسول القائل " أن أرواح الأنبياء خاضعة
للأنبياء " ( كورنثوس الأولى 14 :32 ).
أى أن الله لا يمكن أن يتقمص أو يستولى على جسد
إنسان أو نبى أو ينحى شخصيته قسرا أو يغيبه لينطق من خلاله بكلمات ضد
إرادته.
المبحث الثالث
الفرق بين المسيح والمؤمنين
فى المعتقد الخلقيدونى
عندما زعم نسطور أن
الفرق بين المسيح والمؤمنين هو أنه فى المسيح وحده كإنسان حل كل ملء
اللاهوت جسديا أما فينا فحل ليس بجوهره بل حل بالنعمة. أثبت كيرلس
أن حلول النعمة هو بالجوهر وبالتالى فلا فرق بين المؤمنين ومسيح نسطور
لأن كل ملء الثالـوث القدوس الواحـد فى
الجوهـر يحل فينا أيضـا بالروح القدس ( المسيح واحد 11 ص 68 ) وبالتالى
فأنه لا فرق بين حلول الله فى المسيح وحلوله فى المؤمنين حسب المعتقد
النسطورى لأن مسيح نسطور إنسان نظيرنا الأمر الذى حرص نسطور على إبرازه
بقوله أن الإتحاد بين المسيح كإنسان والطبيعة اللاهوتية لم يبطل اختلاف
الطبيعتين لأن الإتحاد هو بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
لهذا رأى ثيؤدورت أسقف قورش النسطورى حتمية
أن يكون هناك فرق بين الإنسان يسـوع المسـيح والمؤمنين لرأب صدع
النسطورية حسب تصوره
فابتدع مقولة أكثر خبلا وإغراقا فى سفه العقل بقوله بأن أقنوم اللوجوس حل
فى روح المسيح الإنسانية فكان هو عقلها أى المشخص لها منذ أول لحظة من
كيانها وإذ شخصها باللوجوس ألهها منذ لحظة وجودها فصارت روح المسيح
الإنسانية مشخصة بالكلمة وبهذا صار المسيح إنسان متأله أو إله متأنس من
أنصاف الآلهة.
وعلى هذا فإن الفرق بين المسيح والمؤمنين حسب
ثيؤدورت هو أن اللاهـوت حل بأقنوم اللوجوس على روح المسـيح الإنسـانية
فشخصها وألهها منذ نشـأتها فصار المسيح إنسانا متألها من أنصاف الآلهة
أما فينا فإن الروح القدس لا يشخصنا ولا يؤلهنـا ولا يصيرنا من أنصاف
الآلهة.
أى أن الله الكلمة حسب ثيؤدورت لم يشترك معنا
فى اللحم والدم بل اشترك فى روح بشرية قام بتشخيصها بحيث صار هو عقلها
ومركز شخصيتها منذ لحظة تكوينها.
وهـذا معناه أن الله الكلمة لم يتجسد وأن يوحنا
اللاهوتى أخطأ بقوله " والكلمة صار جسدا " أى صار ذى جسد. لأن الله
الكلمة وفقا لثيؤدورت لم يتجسد بل سكن روحا إنسانية. أى أن الكلمة سكن
ساكن لا مسكن وهذا محال لأن الطبائع العاقلة تشخص أجسادها الخاصة ولا
تشخص من غيرها.
وكما أعرض ثيؤدورت عن أقوال يوحنا اللاهوتى
أعرض أيضا عن أقوال رسول الأمم العظيم القائل :
إذ قد تشارك الأولاد ( أرواح البشر ) فى اللحم والدم ( أى مكونات الجسد
الحيوانى ) اشترك هو أيضا فيهما لكى بموته يبيد الموت ( العبرانيين 2 :
14 ).
فهل يفهم من هذا القول " اشترك فى اللحم
والدم " ما يقول به ثيؤدورت بأن اللاهوت شخص روح إنسانية وصار هو عقلها
منذ لحظة تكوينها أو هل يسـتشف منه أن الله شارك أحد الأولاد فى لحمه
ودمه أو أنه اشترك فى أحد الأولاد وجعله واحدا مع لاهوته إلى أخر هذه
المخترعات الجنونية لأصحاب الطبيعتين.
نخلص مما تقدم أن حلول الله الكلمة فى
الإنسان يسوع المسيح حسب نسطور هو حلول شركة ما دامت الطبيعتان قائمتان
كل بجوهرها الخاص وبأقنومها الخاص.
أما حلول الكلمة فى روح المسيح الإنسانية
حسب معتقد ثيؤدورت ومجمع خلقيدونية فليس حلول شركة ولا حلول تقمص ولا هو
حلول تجسد لأن الكلمة لم يشخص جسدا خاصا به بل شخص روحا إنسانية بحيث صار
هو مركز شخصيتها مبطلا بذلك عقلها البشرى.
وهذا الحلول هو حلول تأنس بحسب المفهوم
الخلقيدونى ومقتضاه تأنس الكلمة بتشخيصه روحا إنسانية تصير هى علة حياته
وهذا باطل نقلا وعقلا. لأن المسيح ليس إلها متأنسا ولا إنسانا متألها من
أنصاف الآلهة الأسطورية بل هو الله الظاهر فى الجسد.
المبحث الرابع
الفرق بين المسيح والمؤمنين
فى المعتقد اليعقوبى
روح المسيح فى المعتقد اليعقوبى
روح فريدة فى نوعها
فهى
ليست إلهية ولا إنسانية
ولا هى
روح بطبيعتين
عاقلتين
بحسب اتحاد يحفظ تميز الطبيعتين والأقنومين لئلا يقعوا حسب تصورهم فى
الاعتقاد بابنين ومسيحين كنسطور الذى نادى باتحاد الطبيعتين بدون اختلاط
ولا امتزاج ولا تغيير.
لهذا هم يعتقدون أن الكلمة شخص طبيعة أى روح
ممتنعة الجنس ليست إلهية ولا إنسانية ولا بطبيعتين عاقلتين بل هى طبيعة
من طبيعتين مؤتلفتين تجمع خواص وصفات الطبيعتين الإلهية والإنسانية معا
دون أن تكون أى منهما على انفراد أو معا.
هذه الطبيعة المؤتلفة الفريدة فى نوعها هى
طبيعة المسيح أو الكلمة المتأنس بحسب معتقدهم.
من ذلك يتضح أن الفرق بين المسيح والمؤمنين فى
المعتقد اليعقوبى قائم على أساس أن طبيعة المسيح أى روحه فى المعتقد
اليعقوبى هى روح ممتنعة الجنس مؤتلفة من خواص وصفات الطبيعتين الإلهية
والإنسانية دون أن تكون أيا منهما على حدة أو معا مشخصة بالكلمة.
أما طبيعة المؤمنين فهى طبيعة إنسانية مجردة.
  
هوامش الجزء الأول
- الأنبا إيسيذورس " الخريدة النفيسة فى تاريخ الكنيسة " الجزء
الثانى ص 132 – 134
- الأنبا غريغوريوس " علم اللاهوت المقارن
" ص 120 - 121
|