احتفال اتحاد كتاب المغرب، فرع سلا

بالكاتب التونسي كمال العيادي

محمد معتصم

توطئة:

كم كنا سعداء في اتحاد كتاب المغرب، فرع مدينة سلا بإقامة احتفال تكريمي اقترحه عدد من الأصدقاء المغاربة بالكاتب التونسي المقيم بألمانيا بخزانة عبد الرحمن حجي. وهي فرصة انفتح فيها فرع سلا على التجارب المغاربية التي تسعى إلى فتح قنوات التواصل الثقافيةأمام الكتاب المغاربيين، وبالتالي فتح كوة في الجدار الأصم الذي لمَّا تستطع السياسة هدمه.

ولأول مرة في اتحاد كتاب المغرب، فرع مدينة سلا شهدت خزانة عبد الرحمن حجي، جمهورا نوعيا من كاتبات وكتاب حجوا إليها من مختلف أنحاء المغرب. حبا في الكلمة، وحبا في شخص كمال العيادي المبدع والإنسان.

وقد خلف اللقاء انطباعا جميلا في النفوس، استمر إلى ما بعد اللقاء، هناك بمدينة الدار البيضاء العامرة، وفي ردهات المعرض الدولي للكتاب. لكن الأبهى كان في التحول التاريخي، الذي تجمع فيه كتاب لم توحدهم غير "دروب" السليكون. وكم هو رائع أن تجمع المحبة الكتاب بعدما كانت تفرقهم الإيديولوجيا شيعا وقبائل. كان ذلك زمنا بهيا جميلا. وهذا زمن أبهى وأكثر تألقا.

لقد وحد موقع "دروب" الإلكتروني بين العديد من الكاتبات والكتاب المغاربيين، وجمع بينهم وبين كتاب عرب. وهذه إحدى حسنات التقنيات الجديدة التي ابتكرتها الثورة الحضارية الثالثة. وعبرها تتوحد الرؤى، وتنتقل الأفكار، ويتم تبادل الخبرات والتجارب والمعارف، حين تستغل بوعي مستقبلي وحضاري. وهو ما برهن عليه لقاء سلا عند الاحتفال بالكاتب التونسي كمال العيادي.

ومن حسنات اللقاء أن أغلب المداخلات انصبت على عمل واحد. ودرسته من جوانب متعددة. وكما سيقرأ المتلقي الافتراضي، سيجد الدراسات لم تكن محاباة لا كانت سطحية. بل وظفت كل خبراتها في الكتابة والدراسة والتحليل من أجل إنتاج كتابة واعية مفيدة مقدرة لقيمتها العلمية والأدبية. وهنا مجموع المداخلات التي اقترحت على الحضور الذي شرف اتحاد كتاب المغرب، فرع مدينة سلا، وترك أنفاسه الطيبة في فضاء خزانة عبد الرحمن حجي.

*********************************

****************

الجلسة الأولى

 د. مصطفى الشليـح

بُوشكيـن 

والأسيـرُ القيْـروانيُّ.

       للكلام دمعتان.

        للكلام دمعتان حانيتان على الكلام.

        ثم للكلام دمعتان حالمتان حائمتان حول قصيدٍ من غمام.

        هل كان الكلامُ رسائلَ مائية الحمام من باريسا إلى القيروانيِّ الحال والمقام ؟

       

للكلام دمعتان.

        للكلام دمعتان حاديتان بجعا أبيضَ والمسافات قتام.

        تقول باريسا : لبوشكين شمعتان.

ويقول كمال : للسهام روعتان. أهي باريسا أم بوشكين في البدء والختام ؟

 

للكلام خشعتان.

يقول السارد الشارد : أهذا سرد أم درسٌ أم سرّ أم رسّ أم سدّ أم دسّ ، فما بين سين وراء كان الستار، وكان السفارُ إلى سَوْرةٍ أو صورةٍ في الجدار، فأيٌٌّ جدار ؟

للكلام لوعتان.    

 

تأتي باريسا متوشحة بالنصِّ، كأنها القيروانية، لتستلبَ الممرَّ الحلقوميًّ الأزرقَ، زرقة عينيها، ولتنسبَ الكتابة إلى الكتابة، ولتنتسبَ إلى الربابة، في سؤالاتها البللوريةِ، عن الجدار والجوار والحوار، وعن الأسرار والأقدار والأعمار، وهلم راءً إلى صَبابات أو صُباباتِ ما ترقى من الدنان والجرار.

 

تأتي باريسا مطوحة بالزمن لتأتي مراوحَ من تاريخها وملامحَ من زمن آخر، وتذهبُ باريسا لكي لا تذهب لوامحَ لوائحَ من قصيدةٍ لبوشكين، وتسألُ باريسا لكي تتسلَل من الحكايةِ إلى الحكاياتِ التي استلمها البجعُ الوحشيّ رسائلَ من الماء لتقرأها جدائلَ ما اعتذرتْ لكنها عبرتْ حمائلَ لغوية إلى بوشكين حساما أو حماما مسافريْن إلى الحبِّ بالموتِ الجميل.

لكنها باريسا تأتي مجنحة بالسؤالاتِ لتلملم شتاتَ الكلماتِ من السؤالات، ولتغمغمَ، وقد اخترقتْ كتابَ الليالي بزرقة عينيها، واستبقتْ إلى الباب لترى العالم قيروانيا أزرقَ، ولترى المعالم حكيا أعمق، ثم لترى الخواتم نأيا أطرقَ من تأخر وفادةِ بجع وحشيٍّ هذا العام. تقول باريسا.

 

من البريد المبعثر إلى البريد المعطر تتحركُ باريسا بكل ابتسامتها المسافرةِ إلى أقاصي ذلك العمر الجميل غير الحفيل بارتماءات الأصيل أربعينيِّ النديِّ البليل. تتحرك باريسا لتكتب سيرتها قصة أو قصيدة أو نداءً يرتجفُ استجابة لنداء البحر، أو بُكاءً ينصرفُ إلى حكاياتٍ للبحر.

 

حكاية باريسا أنها أصغتْ إلى باريسا في يوم دجْن، وكان الممرُّ حلقوميّ الصَّوتِ والصَّدى، وكان شاعرٌ جاهليُّ الموتِ والندى يُعلق قصيدته على أستار ذاته، وكان عابرٌ إلى النصِّ والفوتِ والمدى يطوقُ ذاته بالرسوم المحْدقاتِِ بالمدار المحَدقاتِ في الإطار، ويخرقُ ما رتقته شهرزاد؛ ولكنَّ ليلَ ابن زيدون طويلٌ، وهذا الكمالُ القيروانيّ قنديلُ ليل العاشقين المديدِ الأسيل، وباريسا تشرئبُّ إصاخة سمع إلى نجوم الحكي، وتشيحُ بدمعتها عن حكيها كلما اختلسَ بوشكين الحكاية.

 

البريد المعطرُ يطوي المسافة كما الصوفيُّ يطوي ذاته ليكتبها.

تكتبُ باريسا أن موسكو أجملُ الآن.

ورأى كمال، في دمعة باريسا، خيطا يشده باتجاه الجانب الآخر عكسَ اتجاه الطائرة.

ورأى أنه كمنْ يستفيقُ من غفوةٍ عابرةٍ.

ثم رأى أنه عاد ثانية داخلَ نفس ذلك الحلقوم الطويل .. الطويل.

ما بين الرؤيا والرؤيةِ كانتِ الإشارة تستحلّ عبارتها لينسابَ البيانُ إلى اللابيان.

 

يكتبُ كمال عن موسكو.

قالَ إنه ألفَ المكانَ وألفه المكانُ، وكأنه يسحبُ الغرابة إلى خارج النصِّ.

لكنّ كلَّ شيء كان غريبا.

الإحساسُ، واللوحاتُ، وانفعالُ باريسا وإصرارُها، والطلاقة الغريبة لكمال، و..

هلْ ألفة المكان في غرابته أم صِرْفته في سراباته ؟

ثمة مشترك تخييليٌّ بين الغرابة والسراب، وثمة عالم أزرقُ يتوشحه بين السؤال والجواب.

 

السرابُ، في الصحراء، بوحٌ متوهَّمٌ الناظرين.

والسرابُ، في الجليد – وهو صحراءُ – جرحٌ متوسَّـمٌ في السامعين الناظرين.

وباريسا تحملقُ في الجدار، وتسألُ عن الرسوم والغرابة والسراب.

يقول كمال : " ... وهي تتفرسُ بدهشةٍ في جدران الغرفةِ أينَ اصطفت ْعشراتُ الصور المختلفةِ الأحجام والألوان والأشكال والمواضيع .. "

تتكسر الألفة وتستحمّ بغرابتها، من المنفتِح إلى المنغلِق، وتستعيرُ منها توجسَها، أوَ لم يكنْ كمال " مشدودًا متوجِّسا من شيء ما " ؟ شيءٌ ما يقدحُ نار الأسطورة ويجمحُ بالقادح إلى تأبطها دفعًا للغامض المجهول؛ أوَ لم يقلْ كمال " .. حدثتها بشكل لم أعهده فيَّ إطلاقا .. وكنتُ أختلقُ أغلبَ الحكاياتِ، والغريبُ أنني كنتُ أشعرُ بأنني أقولُ الحقيقة تماما .. وحتى هذه اللحظة، يخيلُ  إليَّ بأنّ والدي ماتَ استجابة لنداءٍ سمعه من عمق البحر، وبأنَّ كلب كافكا اسمُه - يوشا -، وهو أسود اللون، ويقفُ على قائمتيه الأماميتين – كما يفعلُ الشطارُ .. " ؟

 

السرابُ صورة والمخيالُ لغتها.

تتعدد اللغاتُ لكنّ الصورة تتحدثُ لغة الذاتِ، كأنها تغتسلُ في وادي التواقف، وكأنها تخلعُ نعليها لتتوضأ بماء الغيب. تتعدد الصورُ لكن اللغة تتحدث إلى التوحد وبه.

للصورة بابٌ على المنفتِح كلما غلقتِ الأبوابُ وخلا كلّ إلى كلٍّ، وما ثم إلا السدفة شوساءُ، وما ثم إلا السعفة خرساء؛ فبأيّ كلام يتنادى القلبُ والمكانَ المترقيَ إلى زمان الصورة ؟ وبأيِّ حمام يتراءى المقامُ والزمانَ المتدليَ إلى فسيفساء الجيرة والحيرة ؟

إن الصورة تأخذ الجدارَ إلى حيث لا جدار، وإنها لنزَّاعة به إلى فضاءٍ مُضاءٍ بالتلاشي في سديم التعالق بين الأزمنة، وفي نعيم أو جحيم التلاحق للأمكنة؛ ثم إن الصورة لجمَّاعة ما توزعَ، على أرصفةِ الذكرياتِ، من الشذرات لتكونَ لها نسقا، ولتكونَ بها أفقا، ولتكون منها شرَقا بالتداني زيدونيَ البرق، ومن الشرَق بالماء ما يكون عِـيًّا بيانيا عن الإعراب فياتيك بالإغراب طرْقا وطرُقا.

 

الغرابة والغربة والإغرابُ  سرابُ الذاهبين إلى جمرة المعنى في إبدالاتها، وإلى حمرة الذات في اشتعالاتها، وإلى خمرة الراحلين / الواصلين في تحولاتها، وقد اشرَأبتِ الكأسُ إذا شُربتْ، فلا حرف لذي عبارةٍ ولا طيف، ولا لغة إلا جسرنة الفراغ القائم بين الصور لتلافي شروخ الذات في مرايا الوقف.

هل كان كمال يؤولُ الجسرنة الذاهبة بالفراغ حين حديثِه إلى باريسا عن تلك الصورة ؟ وهل هي صور أم أنها صورة ذات تعدد أم أنها صورة واحدة توزعتْ، في توهم الناظريْن، إلى صُور لكيْ تنتظم اللغة ذهابا إلى احتمال البيان، أم هو الاحتواء الشذري للعالم بعيدا عن تواتراتِ وتوتراتِ ثقافةٍ يتمّ فيها تسييد الآخر التراثيِّ والمعاصر ضدا على الذات ؟

لم يأخذ كمال معه في رحلته / هجرته " إلى بلاد بريشت و هيغل ونيتشه وغوته سوى ديوان " أغاني الحياة " لأبي القاسم الشابي، ومسرحية " بيارق الله " للبشير القهواجي، و " حدث أبو هريرة قال .. " للمسعدي، ونسخة معربة من الكتاب المقدس، ومصحف للقرآن الكريم عليه إمضاء والدي رحمه الله "

من الرؤية البصرية إلى الرؤية القلبية للحرفِ تحولَ المسافرُ من الجبر إلى الاختيار؛ من اقتراف المُضيّ لإحراز شهادةٍ، قد تكون غيرَ ذاتِ جدوى كسائر الشهاداتِ الأكاديمية، إلى استشفافِ العمر سفرًا إلى العمر تمذهبا إبداعيا يُقفي على ما عداه.

لا صورة إلا الحرفُ، ومنْ كانَ على حرفٍ لا رؤية له.

 

للحرفِ عصاه التي تحيلُ الغرابة قرابة، وله فيها مآربُ أخرى، ثم له فلقُها الحكاية لتتناسلَ حكاياتٍ أخرى لا جدرانَ لها، وإنْ أقام لها السلوكُ طريقا بين الشوك والفتك حيثُ منعرجاتُ العدول، وحيثُ تهدجاتُ النصول، وحيثُ توهجاتُ الوصول؛ والطريق مسافة ما بينك وبينك فاستبِقْ ذاتك لتكونَ دواتك، واخرقْ عادتك لتكون شهادتك؛ ولا تكنْ حتى تكونَ.

 

يقول كمال : " .. وعدتُ إلى أرض الوطن .. ولكنني لم أحتملْ دعاباتِ الأصدقاء القدامى .. وصياحَ ديكة الصباح. لمْ أحتملْ حنانَ والدتي، وتصفحَ جرائدِ المساء، فغادرتُ الوطنَ ثانية .. "

 

هي ذي رتابة الأشياء لعلها لا تختلفُ عن رتابة ذلك الجدار المدجَّج بالرسوم وبالصور في تلك الغرفة المخصصةِ للآخر الأشقر. ولعلها لا تختلفُ عنْ ذلك المكان الموغل في رماديةِ الأصداء، أو لعلها تختلفُ إلى القرفصاء جلوسـًا بين يديْ الحكاية والإعادة؛ لكنه كمال ابتدر نسيانَ شمس المتوسط، وانتشرَ في الغمام الكونيِّ بجعا أبيض شاردا واعتذر للماء صادرا واردا ساردا، واعتمر الحقيبة واردا صوفيا إلى حيثُ الكلامُ يأتزرُ الفلسفة والقصيدة لكتابة الاحتمال في قراءةٍ للعالم بأبجدية الجمال.

 

هي شمسٌ منيرة سوداءَ، بلغة أحمد بن الحسين، تقترفُ الدعة اليومية حِذارَ المجهول. شمسٌ تؤرخ للخطى تأتي لتمضي ولا أثر على المسار تجرجرُ صاحبة ابن أبي ربيعة ثوبَها وتسحبه لكي لا يكون، ولكنّ باريسا لم تأتِ إلا بكلِّ ابتسامتها التي لا تخفي إلا دمعتها لتطرق بابا لغرفةٍ مرصودةٍ للأشقر الذي قد لا يكونُ. شمسٌ شقراء تأتي غِبا لتزداد حبا، ولتجوزَ طوقَ الألفة وتحوزَ شرقَ الغرفةِ بالسؤالاتِ عن الجدار، وعن الرسوم التي عبرتْ ذلك الممرَّ الحلقوميَّ الطويل كالثعبان في المطار.

 

الشمسُ الغبية، والرسومُ، والمكانُ المنفتحُ بقدر انغلاقه، والوجومُ المبتسمُ، والزمانُ المنشرحُ في حدود انطباقه، والقدومُ المنسجمُ كأنه دمعة باريسا أو كأنه البيانُ المنسفحُ، كتابَ صمتٍ، بوجود اختراقه، أو كأنه بوشكين شاعرًا وكمالٌ سائرا إلى عتمات النصّ بالعتباتِ الأولى تنسجُ شالها دمعة لباريسا.

 

باريسا التي تُنشِد شعرًا وتَنشدُ أمرا، فيا صاحبي هلْ نبكي أم نحنُ مُدركان قيصرًا ؟ قال كمال، والنقطة بسطة، وزمّ القلبَ ركابَ صحبةٍ وغربةٍ وكتابَ أهبةٍ وحبكةٍ إلى هناكَ حيثُ البسطة نقطة.

لا صورةٌ يا صاحبي.

إنَّ النقطة ألفٌ تسبكرّ إلى ذهول المعنى عن المعنى.

لا تنظر بأمِّ رأسك. انظركَ واقرأك واكتبك واسحبك؛ خارجَ المعنى، واخطبْ ودك وبَردك لتخضِّبَ، بالدم الشادي، بُردك وسَردك، واشربك حرفا أو طيفا أو حتفا.

لا تنظر بأمِّ رأسك، واسبرْ جدارك وجماركَ لكيْ تكون جوارك.

إنك إلى الرؤيا طريقٌ.

فاعبرْ عمرَك لتكون عمركَ، بين الحروفِ والسيوفِ والحتوفِ، كي تعبرَك.

 

قالَ كمال : " .. كان المهمَّ عندي عبورُ الممرِّ بأسرعَ ما يمكن .. "

وقالَ : " دعوتها لشرب فنجان من القهوة اللبنانية كانتْ أهدتها لي إحدى العابرات .. "

لكنه ما قال إنه عبر شمسـًا متوسطية أسلمها رسومَه كلها، وما سلمَ، قافلا إلى حكمةِ الشعر، حتى استلم التراثَ البديلَ لجدار كانَ زميلا في تلك الغرفة الموسكوفية، واتخذه إزميلا ينحتُ به تجربة أخرى في الوجود أو لعلها الامتداداتُ الكمالية في البحثِ عن الموجود المفقود.

لكنه ما قال إنّ الشعرَ رمته اختزله شابيَّ الأغاني للحياة، وما قال إنّ النثرَ أجمله مسعديـًا في " حدثَ أبو هريرة قال .."، فهلْ قالَ : ودعْ هريرة إنّ الركبَ مرتحلُ – فهلْ تطيقُ وداعا أيها الرجلُ ؟ وما قال إنّ بريشت سأله مسرحية البشير حتى يستكملَ التنظيرَ للفعل الدرامي، ولكنه قالَ إنّ المقدسَ دثره في الخروج الجديد أو في العروج المجيد إلى الكتابة عن باريسا وعينيها الزرقاوين.

 

عينان زرقاوان ما كانتا عابرتين، ولكنهما كانتا اللازورديَّ المطلقَ، والفضاءُ يسبقُ الفضاءَ إلى حكايةٍ ما برحتْ وسنى، متثنية الأعطافِ والألطافِ، في سؤالاتِ كمال، وما فتئتْ معنى، متدانيةِ الكافِ والنون متنائية القافِ والعرجون، كأنها من الكشفِ إشرافٌ في احتمالات كمال.

باريسا والبجعُ الوحشيّ والقصيدة المؤجلة، وما شاءتِ الزرقة من الكلماتِ عن بوشكين، وعن مخطوطه : " الأسير القيروانيِّ "، وعن محققه الافتراضيِّ كمال العيادي.

قيل إنه من تونس، وقيل إنه مواطن كونيٌّ. والله أعلم.      

باريسا ، ألكسندر بصيغة التأنيث، ما زالتْ عيناها زرقاوين كلما استلقتْ على قصيدةٍ لبوشكين  تبادلها عمرًا بعمر. باريسا أكاد أحدسها بوشكينًا إذا يكتبُ " الأسيرَ القيروانيَّ "، والحديثُ إلى الحبّ يجذبه مبارزة فرنسية الآخر. فلماذا يطفرُ الدمعُ من عينيْ كمال كلما قرأ أبا القاسم الشابي ؟

للكلام دمعتان حانيتان على ما تبقىَّ، في عينيْ باريسا، من الكلام.     

   *********************************

*************

د. نور الدين محقق.

 

                           شعرية الفضاء وبنية الشخصيات

                              في الأدب التونسي الحداثي

                                        - دراسة في قصص كمال العيادي –

 

  * تقديم منفتح:

  يعتبر الكاتب التونسي كمال العيادي من الكتاب المغاربيين الذين حافظوا على الكتابة باللغة العربية، رغم ابتعاده عن موطنه الأصلي تونس مدة طويلة، حيث تابع دراساته العليا بكل من روسيا وألمانيا، إلا أنه رغم إتقانه الكبير لهاتين اللغتين، فقد ظل متشبثا بلغته الأم، اللغة الأولى التي جعل منها لسانه الأدبي الذي يخاطب به العالم.هكذا نجد أن كتاباته الأدبية ستعلن عن وجودها القوي ،من خلال هذه اللغة ،في أجناس أدبية متعددة،منها الشعر،والقصة،والرواية.كما حرص على إقامة حوار حضاري، بين الأدب العربي والأدبين الروسي والألماني، عن طريق الاهتمام القوي بترجمة هاتين الثقافتين إلى اللغة العربية.ونظرا لهذا التنوع الأدبي العميق، سنقف في هذه الدراسة، عند كتاباته السردية، محاولين ضبط شعرية الفضاء فيها وكيفية تعبير الشخصيات عن دواخلها داخل هذا الفضاء المختلف ذاته.

 1-شعرية الفضاء وتعدديته:

   يشكل الفضاء أحد العناصر الأساسية في السرد، سواء القصصي أو الروائي، فهو الذي يربط الأحداث المحكية، ويمنحها المجال لكي تتطور، وتتبع الخط السردي المرسوم لها بإحكام، كما أنه يتداخل مع الزمن إلى الحد الذي يتحول صحبته إلى كرونوطوب متكامل، لا انفصام له، كما يذهب إلى ذلك ميخائيل باختين، في دراساته السيميائية الحوارية.هكذا تتطلب دراسة هذا الفضاء احاطة كبرى بمختلف مكونات النص السردي المدروس، بغية الوصول إلى ضبط كل الميكانزمات  المشكلة له.وهو ما سنحاول فعله، ونحن نقترب من القصص التي صاغها يراع كمال العيادي، لكنها مع ذلك فهي حين تلج إلى بيت التخييل تأخذ بعدا خاصا، لا ينتمي إلا لقلم الكاتب، بحيث تحس بذلك التفرد الذي يمنحه لها، وكأنه ينفثها سحرا في مرآة الكتابة.هكذا نرى كيف يتحول فضاء مطار موسكو، وهو فضاء واقعي إلى فضاء منفتح على التخييل، بحيث يتحول ممره العادي إلى ممر ثعباني لا ينتهي، إلا ليبدأ من جديد.ذلك أن هذا الممر، يصبح حدا فاصلا بين حياتين، حياة أولى كان السارد فيها يعيش بين أهله، وحياة أخرى ثانية مفتوحة على المجهول، بكل غرائبيته ومخاوفه، ولكن أيضا إغراءاته.ليتم الانتقال إلى فضاء موسكو باعتباره فضاء للغربة.هذه الغربة التي ستحول الذات إلى متلق لعلوم الآخر و لثقافته.ومع مرور الوقت،سيتحول فضاء الغربة ليصبح فضاء للألفة ،فضاء للصداقات،فضاء للتأملات.يقول السارد معلنا ذلك ببهاء ما يلي: " عرفت الكثير بذلك، وجبته جنوبا وشمالا، وتعلمت مجاهل لغته، ومغاليق أسراره، وكنت صديقا وفيّا للبجع الأبيض."في هذا الفضاء الواقعي الذي تحول بفعل التخييل الذاتي الذي مزجه بالرغبات، إلى فضاء مليء بالحيوية، وبالتعددية المرآوية، التي تتجاوز حدود الذات لتصب في محيط الآخر، مؤثرة فيه، ومحولة إياه، من إطار البعد إلى إطار القرب.يتجلى ذلك بكامل الوضوح في فضاء البيت،الذي يختزل هنا في غرفة مؤثثة بطابع الهوية الشخصية المعبر عنه جسديا، وثقافيا ورمزيا حتى. الغرفة في قلب موسكو، لكنها تحمل تونس معها عن طريق استحضارها بواسطة الصور، الغرفة في قلب الثقافي الروسية، لكن الثقافة العربية كانت حاضرة فيها، وهو ما يجعل منها فضاء مفتوحا على الآخر، لكنها فضاء يحتفظ بهويته الخاصة التي تميزه.إن فضاء الغرفة هنا، يتحول إلى فضاء كوني بكل المقاييس، من حيث الرؤى والتعبير الجمعي الكوني.يقول السارد واصفا فضاء هذه الغرفة الكونية ما يلي: " في جدران الغرفة أين اصطفت عشرات الصور المختلفة الأحجام والألوان والأشكال والمواضع.كانت لوحات غريبة فعلا ،تجمع بين رسم لوجه توت غنج آمون،وآخر لبيكاسو،وسلفادور دالي،وبوب مارلي،و ألان بارك،والحبيب بورقيبة ،وكلاوسكينسكي،و أوجين يونسكو،وليرمنتوف،ووالدي رحمه الله،وغيرها..وعند الجانب الآخر، كانت ترقد مجموعة ضخمة من الكتب باللغة الروسية والعربية والفرنسية، وكومة أخرى من الصحف والمجلات وأوراق مبعثرة، وأوراق متناثرة هنا وهناك ". إن الفضاء هنا يشي بشخصية صاحبه، ويشكل امتدادا روحيا له، بل إن الفضاء هنا يتحول إلى مساعد قوي للشخصية، بحيث من خلاله وبواسطته، قد حدث التآلف الروحي بين السارد وبين صاحبته باريسا. وعن طريقها بينه وبين البجع الوحشي الأبيض.أما في قصة "إنها لندن يا عزيزي" التي يتعالق عنوانها مع عنوان رواية حنان الشيخ الشهيرة، فإن الفضاء الذي تتناسل فيه خيوطها، هو فضاء ألمانيا، وبالتحديد، ميونيخ، دون أن تتم طبعا الإشارة إليه. الفضاء هنا هو فضاء حميمي، فالسارد يتكلم لنا عن بيته الخاص، وكما يشير باشلار، فالبيت، هو فضاء الألفة بامتياز، تجد فيه الذات صورتها الحقيقية التي تسعى لأن تكونها كما هي. وكما يقول غريماس، اذا كان هناك مساعد فهناك معيق أيضا.المعيق هنا هو زوجة السارد نفسه،فهي تفرض عليه في فضائه الحميمي هذا ،أن يخضع لنظام صارم ،عليه ألا يتخطاه.الكتب مصففة بنظام، وكل في محله.وفي غياب هذا المعيق، سيجد السارد حريته المطلقة، ليغوص في هذا الفضاء، بل انه سيصل إلى أعمق ما فيه.هذا الأعمق، هو "المخزن".يعلن السارد عن ذلك بهذه اللغة التي تتدفق حبا وعشقا .يقول "نزلت المخزن، متلهفا، ورحت أبعثر بسادية كرادين الكتب العربية، ابن عربي، سميح القاسم، طاغور، ادغارألان بو، دستويفسكي، كانط، إصدارات دار الساقي، إصدارات دار الجمل، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، طه حسين، ألف ليلة وليلة، الطبري، ابن الأثير، الجاحظ...مئات الكتب التي أرغب في حملها معي جميعا، ولكن لا رغبة لي اليوم في تصفحها." هكذا نلاحظ أن الفضاء في قصص كمال العيادي، فضاءات عميقة، ترتبط بالذات الساردة، وتصبح جزءا من كيانها، بحيث في غياب هذه الفضاءات لا وجود لهذه الذات، وهو ما يشكل في الكتابة السردية الحداثية، ما يسمى بالتضعيف التخييلي، بحيث يتحول العالم التخييلي، إلى عالم متكامل العناصر.كل عنصر فيه، يحمل الوجه الآخر في العنصر السابق عليه أو الآتي بعده.ففي هذه الكتابة، لا مجال لانفصام الفضاء عن الشخصية ولا الشخصية عنه.إنهما يتكاملان ويتواجدان في بوتقة زمنية حدثية واحدة، مانعة جامعة بتعبير مناطقة السرد.

 2- بنية الشخصيات والرؤى العلائقية:

   تتنوع الشخصيات التي يخلقها يراع الكاتب كما العيادي، من حيث البناء والرؤية للعالم، والبعد العلائقي مع غيرها من الشخصيات الأخرى، التي تتقاسم معها نفس الفضاء، وهي في اختلافها وتعددها هذا، تمنح للنص السردي دينامية متجددة باستمرار، ورغم هذا الاختلاف الحاصل بينها، فهي تلتقي في كونها شخصيات غير نمطية، شخصيات دينامية متحولة على الدوام.وهو ما سنقوم بعملية توضيحه اعتمادا على الدراسة السيميولوجية التي جاء بها فليب هامون، والمعنونة ب "سيميولوجية الشخصيات الروائية".

    1-2-الشخصيات البنائية:

  نقصد بالشخصيات البنائية، تلك الشخصيات التي تنبني من خلال تشكلات النص، أي باعتبارها، كما يقول فليب هامون، «مورفيم غير ثابت ومتجل في دال لا متواصل، يحيل على مدلول لا متواصل"، ص26 (الترجمة العربية) وهو ما يجعل منها، لا يمكن أن تكتمل في عملية نموها إلا حين ينتهي النص الذي توجد فيه.و هو ما نرى أن الكاتب كمال العيادي يحرص على نهجه في كل قصصه.فشخصية باريسكا ألكسندروفنا ،تحضر بقوة في القصة الحاملة لعنوانها،فالسارد منذ البداية قد بأرها ،بحيث سلط عليها ضوء التوجيه،لكن حضورها هذا،يتم عن طريق الفعل الذي تمارسه داخل بنية التحول في النص،لا اعتمادا على عنصر التوارد فيه.فالشخصية الأولى في النص، هي شخصية السارد، الذي يحكي لنا الوقائع التي أحاطت به، وهو هناك في دار الغربة، الممثلة في موسكو كمدينة، وحي الطلبة كفضاء سكني.تقدم هذه الشخصية في بداية اللقاء بها، بشكل يركز على قوتها، والسلطة القوية الممنوحة لها، فهي المسؤولة عن مبيت الطلبة، ولها كامل الحق في طرد أي واحد منهم إذا لم يلتزم بشروط العقد المبرم، لكنها في العمق، وهذا هو عنصر المفاجأة الذي تقدمها القصة، يتمثل في كونها كانت عاشقة للشعر، وبالضرورة للبجع الوحشي، كما تجليا عند بوشكين. السارد هنا سيستطيع أن يزيل القناع الوظيفي عن وجه هذه السيدة الطيبة، و يمنحها الألق الحقيقي اللائق بها. وفي مقابل هذه الشخصية يخلق السارد شخصية مغايرة لها في قصته:" إنها لندن يا عزيزي" تلك هي شخصية الزوجة الألمانية، بغض النظر عن مدى مطابقتها للواقع أو غير مطابقتها له.الزوجة هنا متسلطة صارمة، فيها كل خصائص الواقع، لكن السارد هو كاتب منفلت زئبقي، محب للفوضى المنظمة.يقدم لنا السارد هذه الشخصية المسماة: قيزيلا، انطلاقا من جنسها الألماني ولونها الأشقر، وسلطتها الفعلية داخل فضاء البيت، مما يجعل من لحظة غيابها لحظة مرجوة ومبتغاة. وهي الرغبة التي في عملية تحققها، ستنطلق الذات الساردة على سجيتها، باحثة عن مقومات هويتها الأولى التي تتمثل هنا، في الذات العربية لغة وتخييلا و محبة.هذا التقابل بين الشخصيات من عوالم مختلفة وفضاءات مختلفة، تمنح للمتلقي تنوعا في الرؤى، خصوصا وأن الذات الساردة، تتكلم عن نفسها مستعملة ضمير المتكلم، مما يجعل من هذه القصص، تشكل اتحادا قصصيا، يمنحها طابع الرواية وأفقه. توازيا مع هذه الشخصيات الأنثوية، تحضر الذات الساردة معلنة عن انتصارها المعنوي، وهو انتصار يرتبط دائما باستعمال الكلمة والالتجاء إلى عالم الكتب.

     2-2-الشخصيات المرجعية:

 أما بخصوص الشخصيات التي يطلق عليها فيليب هامون اسم الشخصيات المرجعية، أي الشخصيات التي تحيل على مرجعية تاريخية أو أدبية أو اجتماعية محددة، فنجد حضورها قويا في هاتين القصتين معا.في الأولى تحضر شخصية بوشكين عن طريق الاستحضار بهذا الشكل الانسيابي المتدفق.يقول السارد في هذا الصدد ما يلي:" و كنت أعرف ،كما يعرف كل طلبة صفي بأن ألسكندر سرغاييفيتش بوشكين،ولد في موسكو، وبأنه تربى على عشق الحرية..و أنه بدأ بكتابة الشعر وقرضه في سن مبكرة جدا.."، و في الثانية تحضر الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ عن طريق التآلف البهي مع كتبها. يقول السارد ما يلي: " ظللت أبعثر الكتب في توتر حتى طالعني وجه حنان الشيخ، اللبناني الأصيل مقلوبا.عيناها الواسعتان مثل فنجان قهوة يمنية، شعرها الأسود الفاحم، ورشمة شفتيها مثل طائر غائر في السماء".

 هكذا نرى أن عالم الشخصيات هو الآخر عالم غني متنوع، منفتح على الآخر، وعلى عوالمه، كما ينبغي أن يكون الانفتاح.

* خاتمة مفتوحة:

  هكذا يتبين لنا أن عالم الكاتب القصصي –الروائي كمال العيادي، هو عالم تخييلي خصب، عالم يتشكل من الذات الساردة وهمومها، وهي تلتقي بفضاءات مختلفة أيضا، لكنها سرعان ما توحد هذه الفضاءات، وتجعل من الشخصيات ذات قربى مع العوالم الذاتية لها.

 

____________________________________________________________

*مراجع:

1- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى1987.

2-فيليب هامون: سيميولوجية الشخصيات الروائية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الكلام، الرباط 1990.

 

*************************************

*************************************

بقلم أنيس الرافعي

الوجه والقناع في قصص كمال العيادي

إن السرد الذي يقترفه الأديب التونسي كمال العيادي حمال وجه وقناع، يتبادلان باستمرار المواقع كما لو كانا حارسين في دورية لا نهاية لها.فالكاتب يدفع الوجه لان يتأمل بين حين وآخر القناع من الجانب الموازي. يحب أن ينظر إلى نفسه من الخارج. أن يفكر بذاته انطلاقا من عقل ووجود غريبين.ويوثر على وجه الخصوص أن يتمراى عبر حواس شخوصه وعدوى وجوههم، فينتهي به الأمر إلى الارتقاء إلى مرتبة القناع.

وعليه، فمهما صغنا من أسئلة حول الوجوه سوف نعثر دائما على أجوبة بعكس الاتجاه الذي تسير فيه الأقنعة. إذ أن قصص كمال العيادي يكتبها في منجز التخييل القناع، أما في خيال المتلقي فيتولى الوجه إعادة كتابتها فحسب.تماما كما يكتب التاريخ المنتصرون ويعيد كتابته المهزومون.

الوجه في قصص كمال العيادي هو الهزيمة النكراء، أما القناع فهو الانتصار الأكيد.

ففي قصة(انيتا) نلفي القناع زوجا متذمرا يكيل لجمجمته ضربة عقب باب تلو جدار، كلما همت الزوجة الضارية أن تجار بعقيرة الشكوى والليل وغيمة السجائر.وفي ذلك دليل حاسم على لا نسقية الوجه ورفضه المطلق لأي طراز من الاحتواء المؤسساتي البليد. القناع يبدو ظاهريا كأنه واقع تحت وطأة هذا الاخصاء الاجتماعي الممض، لكن الوجه يشهر خلاصه باختياره الأبدي أن يكون ضميرا منفصلا خارجا عن واو الجماعة.

وفي قصة( سردوك) نعثر على القناع فحلا، شجاعا، حواما، لا هثا في كل حدب وصوب وراء ماكينة النساء، وملوحا بقدرات استثنائية على الخلط بين فتحة الرقبة ومدخل السروال كما يليق تماما بديك حقيقي. وذاك بالتأكيد إعلان صريح من لدن الوجه عن عطش جنسي وارف وعن ذكورية متعالية لا تقبل الدحض. ونكاية في نظريةالسيد فرويد شخصيا، يتعاضد الوجه والقناع باعتبارهما المعادلين الموضوعيين لتحالف الوعي واللاوعي ، ليكشفا بلا حياء عن رغباتهما الليبيدية الدفينة على رؤوس الأشهاد و العزاب والقراء.

وعند الانتقال إلى قصة( رسالة مستعجلة إلى حبيبتي الالكترونية) نقبض على القناع متلبسا مع سبق الإصرار والهوتمايل بسطري خيانة لا غير من عشيقة شديدة الافتراضية والحصار. سطران يستعيرهما الوجه للكشف عن رغبة مزمنة لحيازة حب مستحيل و خارج قواعد السماع والقياس والأعراف في أزمنة الحواسيب التي بلا قلب.

أما قصة( المربوع) فتسلط الأضواء الكاشفة على جدلية التصور وتناقضاته بين كل من القناع والوجه. القناع مؤمن على شاكلة المرحوم مونتيسكيو بان التاريخ لا يتحرك إلا بالدماء، في حين أن الوجه مفند عنيد لطرح من هذا العيار الطوباوي الحالم لما اكتشف بعد فوات الأوان وفيما أمه تقوده بدموعها الفسيحة إلى مركز الأمن بان التاريخ رواية بوليسية قامت بغتة أياد مجهولة بقطف بعض من صفحاتها الأخيرة.

في قصة ( باريسا) القناع شاب وفي لمزاجية الثلج، يعبر المسافة الفاصلة بين القيروان والبلد الغامض ، بينما الوجه بذات الوفاء يعيد الطائرة كهلا ليجتاز المسافة الناعمة بين الكسندروفا وميونيخ حيث لا يعتذر الماء ولو لمرة واحدة عن تأخر كلب كافكا والبجع الوحشي.إنها لعبة تنس من دون شبكة بين ذاكرتين طاعنتين في الحنين والأمكنة ومضرجتين بالاغتراب والجروح النرجسية .

ولو عرجنا على قصة ( حميد ميتشكو) سوف نجد أن القناع زائر بالغ الإخلاص كما يجب لرجل الميترو البرتقالي الذي مات منذ يومين في آخر غرفة الغسيل بآخر طوابق الحياة. حكاية متألقة بأوجاع ظهر جمة وديون فسيحة وكسور مزدوجة في الروح وبطاقة دهشة معتبرة لوجه ما زال على قيد الصداقة والوفاء الجميلين لكل الكائنات الأمارة بالهامش والآيلة للنسيان القاسي.

وعند استقراء القصة البديعة الموسومة ب(صاحب ربطة العنق الخضراء) نعثر على واقعة التقاء القناع بوجهه ذات حانة ألمانية كما التقى بورخيس الشاب ببورخيس العجوز في إحدى حدائق بوينس ايرس. القناع كان مزودا باعتقاد شاهق أن الأمر واقعي على نحو لا غبار أو مطر عليه وليس ثمة مجال أو زجاج لانعكاس الصورة على الواجهة، بينما الوجه كان على قناعة راسخة بأنه لم يتواجد على الإطلاق وفي أي يوم من الأيام في عين المكان.

وأخيرا، في القصة الرائعة المعمدة ب( رحلة إلى الجحيم) يحترف القناع لعب دور قناع آخر في عرض مثير لبث الرعب في نفوس الجمهور.قناع القناع يتمادى في تقمص شخصية السفاح فرايدي الذي يتسلل إلى الأحلام ليقطع الأوصال ويمزق الأعضاء بوحشية جديرة بالفصل الرابع من رواية “نادي القتلة” لتشاك بولانياك، لكن الوجه يرده سريعا إلى جادة البراءة فينتهي إلى تحطيم الدمية الملونة المصنوعة من البلاستيك المقوى كي يستعيد آدميته المسفوحة على الركح.ولتذهب ال100 أورو إلى الجحيم.

تعددت الأقنعة والوجه واحد تلكم هي خلاصة هذا الحفر الاركيولوجي العاشق في الطبقات السرية لقصص كمال العيادي.القناع يمارس هوايات شتى إلا أن ميله الحقيقي يكون دائما إلى مهنة الوجه.القناع ليس لقاء عرضيا ، بل هو كنز ابدي للوجه. يظهر القناع كالسحر ويختفي بالسرعة ذاتها. انه هبة نكسبها دون توقع ونفقدها دون استحقاق كي نصل في نهاية المطاف إلى الوجه.

وباختصار كلما أوغلنا في شك الأقنعة إلا وازداد يقين الوجه وضوحا وجلاء تماما مثل انقشاع صورة فوطوغرافية في مرآة تطاير ضبابها.

والصورة الفوطوغرافية، طبعا، لمبدع عربي متميز اسمه كمال العيادي وحده من يعرف ما الذي وقع أو يقع أو سيقع تحديدا في الجهة الأخرى، أي ما يعتمل وراء أو أمام الوجوه تارة، والأقنعة تارة أخرى، أو ما وراء أو أما م الوجوه والأقنعة تارة واحدة.

البيضاء في 03-02-2006

 

*************************************

************************************

د . أحـمـد زنـيـبـر

مـــــداخــــــل

إلـى شـعـر  كـمـال الـعـيـادي

يكتسي الحديث عن تجربة الكاتب التونسي كمال العيادي، أهمية بالغة بالنظر إلى رصيده الأدبي المتنوع، الضارب في شتى الألوان الكلامية، من شعر وقصة ورواية ومقالة ورسالة،، ولعل هذا التنويع في مجال الكتابة، يعود، بشكل أو بآخر، إلى تلك السيولة الأدبية التي يتوافر عليها الكاتب، من جهة، وإلى ذلك الانجذاب الذي تحدثه الكتابة لديه، كفعل وممارسة، من جهة ثانية.

 وهو فوق هذا وذاك، قارئ نهم وناقد متمكن من أدواته التحليلية، لا يتهاون في متابعة أو ملاحقة الأعمال والدراسات الأدبية والنقدية، إن بالتعليق أو بالتعقيب، كما هو الحال في نهجه لما يعرض من مواد في موقع "دروب" الإلكتروني.

هذا الموقع الذي يعود له الفضل في تعرفنا على عدد كبير من الأدباء والأديبات، من مختلف الأقطار العربية، حيث حصل التواصل وتبادل الرأي مع كثير منهم ومنهن.

والشاهد عندنا، هو حضور هذا الأديب القيرواني، الذي نحتفي به اليوم تجسيدا لتواصل حقيقي تم وجها لوجه وصوتا وصورة، بعدما كان مجرد تواصل رمزي ومجازي خلف شاشة الحاسوب وعبر الشبكة العنكبوتية ...

ولما كان المحتفى به متنوع الاهتمامات، كما ذكرنا، منصرفا إلى عدد من الألوان التعبيرية؛ فإننا سنقتصر في هذه المداخلة النقدية الاحتفائية، على تجربته الشعرية فحسب، من خلال عينة من نصوصه المنشورة بموقعه الإلكتروني:  www.kamal-ayadi.com  في محاولة لملامسة هذا الفضاء الإبداعي ومقاربة موضوعاته، بناء وتصويرا ودلالة وإيقاعا.

خلف الأديب كمال العيادي، عدة نصوص شعرية تباينت بتباين مقاصدها وروافدها، من جهة، وتفاوتت بتفاوت حجمها وقيمتها، من جهة ثانية؛ على أن أغلب عناوين هذه النصوص ذات دلالات عميقة مرتبطة بالنص والتجربة في آن. ومن ثمة لم يكن عجيبا أن نجد تلك العناوين تبوح ببعض أسرار النص وتوجه القارئ المفترض إلى مقصدية الشاعر ورسالته الفنية. نذكر من هذه العناوين مثلا: زفرات قلب الشاعر/ مرثية القمر الأخير/ المنام/ في منفاهم: برقيات إليهم أينما كانوا/ أحجية/ أسمع نشيجها من بعيد.. وغيرها من العناوين التي تسير في نفس الاتجاه.   

تختزل نصوص كمال العيادي ألوانا من التداعيات والانزياحات، منها ما ارتبط بتداعيات الذات والآخر، ومنها ما اتصل بانزياحات الواقعي والمتخيل. وبين هذا التداعي وذاك الانزياح ما تداخل فيه الذاتي بالموضوعي، حيث اشتغال الذاكرة واشتعالها إعرابا وإغرابا، وحشة وبهجة، لتغدو الذات، في ظل ذلك، موزعة بين الحضور والغياب، مضطربة بين انتظار وانكسار. يقول الشاعر في مقطع من قصيدة "أسمع نشيجها من بعيد":

وحدي

هذا الصمت المطبق حد الموت

لماذا لا أرى من وطني

غيرَ شاهدة القبر

وسطرين من الشعر

ولد وعاش إلى حين، فمات

أنا الذي لم يدِبْ في مسالكه

غيرُ دود الأديم

ولم يُطرب سمعَه

غيرُ قرع الكؤوس

وترانيمُ آذان الفجر والصلوات

ربي الشرقي

إلاهي الغربي

خبأت حزنيَ الدفين عن الأحبة

وضربت في الأرض ما اتسعت

بما ملكت يدي

فأثقل سمعي، وقلبي وذاكرتي

وأعني ربي، وأنا أفتح للصباح نافذتي

حتى لا أسمع صوت نشيجها

يسوطني من بعيد

هكذا، كلما هاج الشوق وانتفض الحزن، واشتعل القلب حنينا وأنينا، كان الوطن والمعشوقة أول ما ينجذب إليهما الشاعر، في ذات الآن، رغبة منه في مقاومة البعد وسلطة النسيان. يقول الشاعر من نفس القصيدة:

ودربت ذاكرتي، ما استطعت

على النسيان

قايضت الأهل والأصدقاء

بسبائك الصمت الرصاصي

ولكنــني

ومنذ عشرين سنة أو تزيد

يخيل لي كل صباح

وأنا أفتح نافذة غرفتي

بأنـني أسمع صوت نشيجها من بعيد

ومن ثمة، لا غرابة أن تشتغل الذاكرة، من جديد، مسكونة بالوطن والأشياء مهووسة بكل ما يمت لها بصلة، جلية أو خفية، يعقد خلالها الشاعر المقارنة تلو الأخرى بين حاضره وماضيه، ويستحضر أيامه ويسترجع أحلامه، سواء في يقظته أو نومته. يقول من قصيدة "المنام" :

جنود لا حصر لها

تعسكر بين مخدتي والمنام

أرفع غطاء الصوف القديم

لعل النوم منشغل بفتيل الشمعة

هناك، عند كوة الجدار

أنهض.

لاشيء، غير زوج حذائي المقلوب

وقصاصة من الورق الأصفر

ربما كنت كتبتها منذ عام:

... ....

جثت الأهل والأحبة والأبطال

تتكور لحاف السرير

تصطك أسنانها من البرد

وفي رئتي يضوع بخور القيروان.

وكما توسلت نصوص العيادي بالذاكرة والتاريخ، استندت كذلك إلى الذات، في تمظهراتها المختلفة، ضعفا وخوفا، طموحا وجموحا، وفي اشتباكاتها وانفلاتاتها أيضا. وذلك عبر غنائية عذبة وشجية، تصعد زفرات زفرات، كما هي زفرات قلب الشاعر. يقول كمال العياي:

أنا المكور كاللوز الفج. خاتم رسائل

حبه أنا

أنا النابض فيه. وإني النداء والخباء

أشجار منذورة ثمارها لرموش

النساء أنا

الأسود الأخدود، وملح الجفون الذي لا

يخون أنا

اسوق جمر الحزن للمناديل الوردية

وأقرع طبولي

لأدل السائلين وقطاع طرقي عني.

والعابرين.

آيتي الليل والقمر ورجع الأنين

أنا البدء فيه

وإني الآخر والمنتهى.

فعلام لا يراني، بعيونه كلها؟

وعلام يصم آذانه

فلا يوجعه هذا العواء؟

بالشعر إذن، يحول الشاعر واقعه وتجربته الإنسانية، عبر تراكيب فنية تضفي على النص مسحة جمالية مطلوبة، إضافة إلى تلك الصور الشعرية المكثفة، التي تمتح من مرجعيات متعددة، وجدانية وفكرية وفنية.

ثمة أبعاد موضوعاتية تتخلل المنجز العيادي، تجعل منه نصا منفتحا على كل الاحتمالات وعلى كل القراءات الممكنة واللاممكنة أيضا.

ثمة خطاب مرئي ولا مرئي، في نفس الوقت، يمزج بين العفوية والقصدية، تارة، وبين ظاهر المعنى وباطنه، تارة أخرى. يقول الشاعر من قصيدة "في منفاهم: برقيات إليهم أينما كانوا":

خذ !

هذه جمرة أخرى

سنشوي عليها الليلة

ما تبقى من الذكريات.

سنتحلق حولها بجذل

نعدد أسماء الملوك والنادلات.

سنخفف عقاب الأشجار، إن شئنا

إلى أقل من عام.

وقد نطلق سراح العشب أيضا

بعفو شامل، لا رجع فيه.

خذ !

ونحن نبحث في مداخل القصيدة العيادية، يلفت انتباهنا ذلك الحضور القوي لعنصر الطبيعة، في بعديها المكاني والزماني، وفي تجلياتها المتعددة والمتنوعة، وهو ما يسمح للشاعر بتكثيف تخيلاته الشعرية وتلويناته الفنية، داخل القصيدة الواحدة. وسواء أتعلق الأمر بالطبيعة الحية أم بالطبيعة الميتة؛ فإن هذا التوظيف غالبا ما ينسجم ومقصدية الرسالة الإبداعية، التي يتوخى الشاعر إبلاغها، تمثيلا وتدعيما. يقول في قصيدة "مرثية القمر الأخير" :

هناك بعيدا،

حيث لا زعتر يعانق شباك العرعر. ولا ريح طريدة.

كان الذئب الرمادي الجريح

يسوي من صوف الأوهام وسادة

تعدل وضع رأسه صوب كتف الجبل اليسار

ليرفع للقمر بعواء الوداع الأخير.

تماما كما وعد أمه وهي تموت..

في ضوء ذلك النهار البعيد.

لم تعبث به الريح، ككل مساء

لم تستهزئ به سناجب الجوز البري كعادتها

لم تتخذ اليرقات مفاصل فروته ممرا للحاء الأشجار.

لماذا تأخر القمر هذه الليلة؟

والواضح أنه، في مثل هذا المقطع، بما يرمز إليه من علاقة مفترضة بين الذئب الجريح والقمر، يحيلنا إلى مدخل جديد لقراءة تجربة الشاعر كمال العيادي، ويتعلق الأمر بالنثرية التي يتوسل بها. فأنت تراه، في هذا المقطع وغيره، يجاوز بين الشعر والنثر، ولا يضع حدودا جمركية بين الجنسين، يضاف إلى ذلك استغناؤه عن الوزن الخليلي وعدم الالتزام بتفاعيله وتفعيلاته إلا ما جاء عفوا؛ وإنما يقدم تجربته بإيقاع بديل يتمثل في إيقاع الذات الشاعرة، من جهة، وفي إيقاع القصيدة ذاته، من جهة ثانية.

ولنا في شعر الشاعر نماذج كثيرة تقوم على هذا المنحى الإيقاعي، حيث تجانس الأصوات وتناغم الكلمات وتوالي التكرارات واستدعاء أساليب الإنشاء كالأمر والاستفهام والنهي والنداء.. وما إليها من مكونات ما يسمى بالإيقاع الداخلي للقصيدة، كما في هذا الاختيار:

يا وحدي المر. يا وحدي المر

أحرق بخوري عند كل أصيل

كل بيت دخلته قبلت كل زواياه

وأحرقت ملحي لقراه

ثم ضوعت دخان بخوري وأعشابي

عند مفاصل كوته وزواياه

هن حروفي وطلاسمي. هن النساء

وهن نون الضاء في أدمعي

أنا المفتاح المسنون من خشب الصندل

أنا المسكون بمصابي وبالحنين

منذور نبضي للأنين

ولفتح مغالق صناديق الياقوت في خبايا صدورهن

هن وشفاههن. هن

وخبايا الكبد واللسان. وما لا تعرفون فيهن. وهن

النار والنور في مدافنهن

وقدري أن أكون رسولهن لهن

أحترق بهن ولا أشكو لهن من نارهن

أنا خشب الصندل المعطر بريح السفن القديمة

وهن الأتون

فهل روي عن خشب لا يخشى نار الأتون؟

تلك إذن، بعض المداخل، التي انبنت عليها تجربة الأديب كمال العيادي، في مجال الشعر، تكشف عن غنى منجزه ومدى إبداعيته. إنها تجربة تستمد حضورها من التاريخ والذاكرة ومن اليومي العابر منه والظرفي. إنها، كذلك، تجربة يقودها سؤال مركزي يتلخص في سؤال الذات والهوية.

لقد تغنى الشاعر بالأرض والوطن والطبيعة والحبيبة، عبر استحضاره لصور فنية من هنا وهناك، وعبر وسيط لغته المنسابة، التي جمعت بين البساطة والتركيب، من ناحية، وعبر التداعيات المختلفة، التي رافقته، كشاعر، ووجهت، بصورة أو بأخرى، ذوقه وعيه الجماليين ، من ناحية ثانية.

 

ســلا في 11/02/2006

***************************

***************************

الجلسة الثانية

د. الحبيب الدائم ربي

صنعة التقابل والتناص في قصة

"باريسا ألكسندروفنا والبجع الوحشي"

لكمال العيادي

                                                                

             قد يشكل انفلات أدوات اشتغال الكتابة في  نص "باريسا ألسكندروفنا والبجع الوحشي"- للكاتب  التونسي، المقيم بألمانيا، والمحرر الأدبي لـ"دروب"، كمال العيادي- مأزقا حقيقيا ومربكا للترسيمات الديداكتيكية المعنية  بأجناسية النصوص؛ من منطلق كونه، وإن انتظمته حاضنة القصة القصيرة، قد  يتقاطع وأجناس سردية مختلفة كاليوميات وأدب الرحلة والسيرة ...  بيد أن هذا الانفلات بالذات هو ما يشكل شعرية  النصوص  الأدبية  وإبداعيتها، مادام التجنس ليس معطى جاهزا  و مستقلا عن سيرورة الإنتاج  والتلقي. فالكتّاب، حسب رولان بارت، لا يؤشرون على هويات نصوصهم إلا حينما تراودهم  شكوك بشأن مراعاتها لحدود انتمائها المفترض إلى شجر السلالة. ولعل محمد العيادي  بتأطيره لهذا النص تحت يافطة الــ"سرد"تارة وتحت يافطة القصة تارة أخرى*، كان شديد الوعي بهذه الحقيقة، حيث تتأبى كتابته- لا في هذا النص وحده- على التصنيف الجامد ضمن منظومة  السرد المتحركة. ولئن كان الكاتب هنا قد رسم ملامح نصه وفق محددات قصصية (الأمكنة، الأزمنة، الشخوص والوقائع) فإنه سرعان ما اختط للنص مدارا أوسع ضمن مجرة  الحكي بوجه  عام، مداخلا  بين مكونات عديدة  في فسيفساء مطبوعة  بغير قليل من الانسياب والدقة. من ثم فإن متن الحكاية،الذي يبدو، للوهلة الأولى، خادعا  ببساطته سرعان ما يتشظى ويتشعب طوائف قددا. فالسارد  يستعيد - بنوستالجيا حارقة-  ذكرياته مع الأفضية والشخوص  حين كان "طالبا للعلم أو لبعضه"  بموسكو السوفياتية، موظفا في ذلك آليتي الانتخاب والإقصاء.وهو بذلك يمارس انتقاء واعيا  لما ينبغي استحضاره أو حذفه، بمقدار ما تحتاجه هندسة البناء النصي. ورغم أن شخصية باريسا  ألسكندروفنا- المسؤولة السابقة عن مبيت الطلبة- تمثل نواة التبئيرالحكائي إلا أنها ليست سوى ذريعة شارطة لانثيال الذكريات التي يستحضرها السارد.. اعتمادا على التقابل  والتناص كقيم توليفية وجمالية:

 1-التقابل أو التحول

             من المعلوم أن الطباق والمقابلة تلوينان بلاغيان ينضويان ضمن مبحث علم البديع والمعاني. وهما يقومان، على التوالي، بإيراد اللفظ المفرد ونقيضه في المقام الواحد، أو بإيراد المعاني وما يخالفها على التوالي، لأغراض تحسينية وبيانية. والانتقال من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص ليس اعتسافا في حق المصطلحات والمفاهيم،وإنما هو أحد مرتكزات الغراماتولوجيا(نحو النص) الحديثة. وقارئ "باريا ألكسندروفنا والبجع الوحشي" سيلاحظ، بلا شك،  أن  معماريتها تتحكم فيها، بدءا من العنوان كأيقونة سيميائية منفتحة على كل التوقعات الممكنة، مجموعة من التقابلات( الوطن/الغربة،اليوم/ الأمس،حاضر موسكوالروسية/موسكو السوفياتية،العجائز/ الصبايا، بن لبنان/قهوة موسكو، النفور/الرضا...إلخ) التي تطاول أغلب المكونات الجوهرية البانية للنص. وهي لا تقتصر فقط على التناسبات الخارجية وإنما تركز أيضا، وبالأساس، على ما هو جواني وحميمي  من حيوات الشخوص . فالمراوحة السردية بين زمكانين    سمحت للحكاية الإطار بتشغيل  تقابلات نووية وحكايات عنقودية  متنوعة. عبر مساحات شاسعة من الاختلافات، بل والتناقضات كتلك التي توجد، تزامنيا، بين درجات الحرارة في الوطن(ثلاثين فوق الصفر) ودرجاتها في الغربة(ثلاثين تحت الصفر) أو، تعاقبيا، بين الماضي(الاتحاد السوفياتي) والحاضر(جمهورية روسيا). فــ"حدود العالم تغيّرت بشكل جذري، بحيث لا يمكن الاستمرار في خداع التلاميذ بتعديل  حدود روسيا الجديدة  فقط عن طريق إضافة  تقاطعات ملتوية  بقلم  العناوين الأسود، حتى تبدو كآثار حلازين غمست في الحبر، ولكن برسوم  وقتيّة جديدة  تأخذ في الاعتبار كلّ البلدان النابتة حديثا بالكتلة الشرقيّة سابقا"( من قصة حميد ميتشكو).

           والماقبل  والمابعد ناظمان مركزيان تنهض عليهما،تركيبيا ودلاليا، خوارزميات هذا النص.إذ في البين بين يشتد التوتر ويتعمق التقابل. لقد كان اجتياز"الممر الفاصل بين الطائرة ومطار موسكو الدولي"لحظة فارقة في حياة السارد/ البطل لأنها ستنقله من النقيض إلى النقيض ." ونحن نعبر المسافة الفاصلة بين الطائرة، وذلك البلد الغامض، كنت مشدودا ومتوجسا من شيء ما، وكانت بي رغبة في العدو، باتجاه المطار أو العودة حيث الطائرة.... كان المهم عندي هو عبور الممر بأسرع ما يمكن".     لهذا فمهما كان الممر قصيرا   فإن آثاره النفسية، بما هو فضاء عتبة، ستكون نافذة وعميقة.  "لم يكن   ممرا عاديا، ولكنه كان حلقوما طويلا مثل الثعبان".   بكل ما يحمله هذا التشبيه من إيحاءات ورموز.. فحياة السارد في موسكو القديمة عرفت حدين فاصلين: ما قبل التعرف إلى باريسا وما بعد التعرف إليها، وموتيف" البن اللبناني المحنك" في تعارضه مع "قهوة روسيا الكريهة"(التذكير والتأنيث هنا ليسا اعتباطيين) جعل باريسا، التي "كانت ابتسامتها تخفي فعل الزمن على وجهها بشكل مدهش"، "عند الرشفة الثالثة" تنسى" ما جاءت من أجله، وكانت آخر آثار الغضب تتراجع في زرقة عينيها". لـ"تتعرى من أقنعة الوظيفة"، و" تتحول من امرأة تستشيط غضبا إلى امرأة وديعة تتلو أشعار ألكسندر بوشكين ،    " وهي تمسك نفسها من البكاء بصعوبة". بل إن الشعر نفسه- وشعر بوشكين تحديدا- سيصبح بنكهة مخالفة في ذائقة السارد عند لقائه بباريسا. " ورغم عشقي للكلمة وشغفي الشديد بالشعر، فقد مرت سنتان قبل أن أتعرف إلى باريسا ألكسندروفنا". بيد أن هذا التحول – بمفهومه الأرسطي-لا يمس عناصر الحكي في عزلتها الأحادية بل في تفاعلها مع بعضها.أي أنه تحول مزدوج ومتعدد يتم فيه تبادل المواقف والأدوار والانتقال بين الأطوار..فبينما كان السارد، هو البادئ  إلى اختلاق الحكايات الغرائبية لباريسا غدا هو المستكين لسماع حكاياها. والنفور من ديار الغربة والحنين إلى الوطن،ما فتئا، عنده، أن  تحولا إلى خلافهما لحظة العودة. "وأحسست بأنني عدت ثانية داخل نفس ذلك الحلقوم الطويل الذي كان يربط بين الطائرة ومطار موسكو الدولي، وكانت دمعة باريسا ألكسندروفنا- خيطا- يشدني باتجاه الجانب الآخر عكس اتجاه الطائرة". وعلى غرار مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" – الذي كان يتصرف في الغرب كشرقي وفي الشرق كغربي- فإن السارد في نص محمد العيادي بدوره،حين عودته إلى أرض الوطن،فقد بوصلة الأحاسيس، ولم يعد يحتمل " دعابات الأصدقاء القدامى" ، و" صياح  ديكة الصباح!" ، ولا حتى " حنان والدته وتصفح جرائد المساء". ولأنه ما من خيار أمام حالة اللاتوافق هذه فلن يكون أمام البطل غيرالرحيل، الحقيقي أو الرمزي، بيد أن سارد"باريسا ألكسندروفنا والبجع  الوحشي" لن يلقي بنفسه في النهر كشأن شخصية الطيب صالح،وإنما سيختار الغربة، من جديد(ألمانيا هذه المرة). ولن يحمل معه سوى كتب عربية مختارة بعناية، في مقدمتها بالطبع، ديوان" أغاني الحياة"لأبي القاسم الشابي، ككناية على حب الوطن على علاته، و الرغبة في الاستمرار رغم كل الأحداث التي عصفت بالاتحاد السوفياتي- موطن الذكريات- والذات والوطن والأصدقاء والبجع الوحشي! مادام الشعر هو كيمياء التحولات كلها، والملاذ حين لا ملاذ. كما أوصت بذلك باريسا وهي تودع السارد في المطار:"إذا عصفت بك الأحزان فلذ ببوشكين...وحين تقرأ له،تذكر جيدا أنه كان يخاطب الورد بأسمائه، وأنه كان يعتذر للماء عن تأخر البجع الوحشي..."..

2-التناص:

       يستوحي كمال العيادي دوما في نصوصه، وفي "باريسا ألكسندروفنا..." بالذات، مجموعة من النصوص الغائبة: لفظا أو تلفيظا،نصيا أو تحويرا، تصريحا أو تلميحا، مما يضفى على كتاباته سمة التعدد النسقي.أي التعدد داخل عضوية الوحدة النصية. والاستحضار لديه لا يشترط، دوما وبالضرورة،  وجودا نصيا مرجعيا سابقا للكتابة. فهو قد يختلق نصوصه المرجعية من دون كينونة سالفة، موحيا في الآن ذاته بمنجز متحقق خارج ما تشيده الكتابة عنده. والمرجح أن نصوص الانطلاق عند الكاتب هي في الغالب    جزء لا يتجزأ من نسيج نص الوصول، مع ما في هذا التقسيم المنهجي من شطط أصلا. والسارد نفسه في إحدى التعريات الميتاحكائية يقول: "وكنت أختلق الحكايات. والغريب أنني كنت أشعر بأنني أقول الحقيقة تماما". والحقيقة هنا هي ما يبنيه الخطاب السردي لا ما يحاكيه من وقائع محتملة. ولمحدودية الحيز في القصة القصيرة والجنيسات الدائرة في فلكها فنادرا ما يلجأ الكاتب إلى الاقتباسات، الخارجية، المسوّرة بعلامات التنصيص إلا لضرورات لازبة. لما في ذلك من إنهاك لسنخ النص المنذور إلى التركيز والضغط. والواقع أن تقنية الاستدعاء بقدرما هي ثابت من ثوابت الكتابة الروائية- نظرا لسعة صدرها كمحفل أدبي تلفيقي- فإنها (أي تقنية الاستدعاء) ، في السرود القصيرة، مجازفة لا يركبها إلا من يمتلك القدرة  على تدبير إكراهات الأحواز(جمع حيز) المجهرية بمهارات جراح رقمي.ويبدو أن كمال العيادي يلجأ، بقصدية لا لبس فيها، إلى بعثرة نصوصه  بخلق بؤر جذب وتوتر،الواحدة تلو الأخرى، مهددا بتفجير جسد النص، كإحدى الممكنات القصوى. لكنه وفي اللحظة الحاسمة( لحظة تحول معطف غوغول إلى رقع،وذئب بول فاليري إلى قطيع أكباش!) ،يعيد، بالرتق، النص الخَلق- بكسر اللام- إلى  نص جديد، متماسك وصلب!

    وكما تمحورت الحكاية حول الوشائج التي آلفت بين السارد  وألكسندروفنا، شكّل ألكسندر سرغاييفيتش بوشكين من جهته، بشخصه وشعره ، مناصا كبيرا تلتقي حوله باقي التفاعلات النصية الأخرى. علما بأن مفهوم النص، قد يتجاوز ما هو لفظي وكتابي إلى مختلف الأنظمة الإشارية والأنساق الدالة، وفقا لما انتهت إليه التنظيرات البويطيقية(الشعرية) حول ظاهر النص وحبله السري.هكذا إذن يحضر بوشكين الموسكوفي الذي "تربى على عشق الحرية" ، القارض للشعر" في سن مبكرة جدا"،الغاوي لــ"التنظيمات السرية" والمنخرط "في الجمعيات المعارضة للنظام القيصري الرجعي". بوشكين  الذي  تعرض "للنفي والاصطدام بالقيصر" والذي قضى ، في النهاية " إثر مبارزة دبرت له مع ضابط فرنسي". وتحضر بالتالي أعماله الشعرية الفذة: يفغين أونيغن، وروسلان لودميلا،  ونافورة باغشي سراي، والأسير القوقازي،...بل و يحضر مقطع من قصيدته"روسيا" يقول: " إني أحس سماع أصوات البعوض... وصوت أفراح الصبيان فوق المرتفعات... حيث يثيرون الصخب... كي تأتي الصبايا". وفي خلفية هذه الإعارة النصية أصداء لنصوص بوشكينية أخرى تؤثث الفعل الثناصي دونما إفصاح عن ذاتها: "كنت أحفظ عن ظهر قلب- كما يقال- ستة مقاطع من شعره رغم أننا كنا مطالبين بحفظ مقطعين فقط".

               إن بوشكين، في كليته الوجودية والرمزية، باعتباره رافدا أساسيا  من روافد نص"باريسا ألكسندروفنا والبجع الوحشي"، ينسج تقاطعات علائقيه مع نصوص أخرى، لفظية، تحضر عبر عناوينها الكبرى المميزة كـ:"أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي،ومسرحية "بيارق الله" للبشير القهواجي، ورواية"حدث أبو هريرة قال..." للمسعدي، ونسخة معربة من الكتاب المقدس،والقرآن الكريم،أو يشار إلى أصحابها كـبراشت وهيغل ونيتشه وغوته...أو بواسطة جوامعها الجينيالوجية( مجلات، كتب، جرائد، رسائل، إلخ): "كانت ترقد مجموعة ضخمة من الكتب باللغة الروسية والعربية والفرنسية، وكومة أخرى من الصحف والمجلات العربية، ورسائل مبعثرة، وأوراق متنائرة هنا وهناك.".  فضلا عن حكايات ملفقة ووهمية كتلك التي يرويها السارد عن والده أو عن "يوشا" كلب بوشكين. وهي في الغالب مبتورةعمدا،وملء فراغاتها متروك لنباهة المتلقي وسقوفه التخييلية. تماما كالصفحات التي كان منتظرا من السارد تحبيرها يوم الامتحان. "وعرفت عنه ما يكفي لأسود بياض عشر صفحات عند الامتحان آخر السنة الدراسية". وبما أن صنعة الكتابة عند كمال العيادي تتوسل الترسيب والإركام لتخليص النصوص القصيرة من خفتها المحتملة، فإن الكاتب باشر في "باريسا ألكسندروفا  والبجع الوحشي"، إلى جانب التقابل والتحويل الحكائين،  عملية تلفيظية تم بمقتضاها تصيير ما ليس لغويا   نصا لغويا.وعليه سيغدو تمثال بوشكين نصا داخل النص، مثله مثل باقي الصور والرسوم الحاضرة الغائبة، "المختلفةالأحجام والألوان والأشكال والمواضيع" :"رسم لوجه الفرعون توت  عنخ آمون، وآخرلبيكاسو، وسالفادور دالي،وبوب مارلي،وألان باركن والحبيب بورقيبة،وكلاوس كينسكي،وأوجين يو نيسكو، وليرمنتوف"،وصورة والد السارد وغيرها..

             واللافت أن كمال العيادي في قصصه، ومنها هذا النص، يمشي في الاتجاه المعاكس لما يلجأ إليه سواد كتاب القصص والروايات، فهو يخاصم كل الابتزازات الشكلية والمضمونية ليقدم نصا عاريا إلا من أدبيته المرهفة وعمق أغواره.ذلك أنه لا يتخفى،مثلا، وراء" عنصر التشويق" أو خلف جرعات زائدة من اللقطات الساخنة كي يخفي عجزا أو يحتال على قرائه. ولكنه يقدم، في السطور الأولى، أوراقه دفعة واحدة. في خلاصات مركزة؛ من قبيل:"حدثت بعد ذلك حوادث شتى، وفرغت من نفسي بذلك البلد، حتى اكتفيت أو كدت، وألفت المكان حتى كاد يألفني، وقدمت له أجمل سنوات شبابي قربانا... وكنت راضيا وأكثر." أما الآصرة التي توجد بين سارد  كمال  العيادي وباريسا الأربعينية فهي شفافة وبريئة كما لا يقع في القصص،عادة، بين رجل وأنثى يتعارفان ويتآلفان. إنها ليست شيئا آخر غير شعر بوشكين. بيد أن "كشف المستور"، في ومضات سريعة، قد يشد انتباه القارئ إلى دقة التفاصيل الآتية، ويغريه  بالنهل من العيون الدفاقة،عند كل حدب وصوب، من نهر السرد الهادئ المنساب.الصادق والمقنع، حيث تتصادى القصة القصيرة بالحكاية واليومية والسيرة والرحلة والقصيدة في تناغم وانسجام.

              وعليه فإن تجربة كمال العيادي في الكتابة السردية والقصصية تنماز بالغنى والتنوع على صعيد البنيات التركيبة والدلالية . والتجريب عنده تحكمه غائية تحصيل طحين وفير من دون فائض جعجعة..فالبساطة والتقاط التفاصيل الدقيقة والمؤثرة في سيرورة الأفراد والجماعات، والمزج بين الواقعي والتخييلي ، بين التاريخي واليومي، بين الذاتي والموضوعي ، بين المعرفي والاستتيقي، قد يسمح لنصوصه، على قصرها ،كشأن قصص بورخيس وبول بولز ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وسواهم....باستثمارات تتعدى الحوامل الورقية إلى إمكانية معانقة محاتد ترابطية جديدة.

* تم إدراج نص" ألكسندروفنا والبجع الوحشي" تحت يافطة السرد، بينما هي مدرجة في موقع الكاتب الشخصي ضمن جنس القصة القصيرة.    

 ********************************

*************************************

أحمد الكبيري.

الفانوس والممسوس 

عندما جئت إلى موقع دروب تسكعت قليلا في حدائقه وقطفت من ورده وأزهاره ورياحينه، ما لم أقو على فعل مثله في أية حديقة أخرى التي كنت في الغالب أكتفي منها بشوكة وجرعة هواء  قبل أن أواصل تسكعي دون التفات..ومع مرور الوقت وجدتني في هذه الدروب ببيت وعائلة وباب يطرقه من حين لآخر جار أو صديق أو عابر كلام..

فكانت المصادفة وكان اللقاء بهذا الكمال العيادي الذي سوف أطلق عليه فيما بعد لقب الممسوس... ليرد علي " حرام عليك يا أحمد، أنا سميتك الفانوس وأنت تسميني الممسوس" فقلت له: "والله يا أخي إنك لممسوس بحق. إني تعبت من ملاحقتك في هذه الدروب لاهثا، فيوم بعد يوم ترفع عمود المنافسة عاليا.." وبالفعل مجاراة كمال العيادي في نهجه، يتطلب محركا من فولاذ ورئتين، واحدة بنفس للقراءة وأخرى بنفس لمحاورة النصوص والتعليق عليها..والنتيجة إدمان لا مناص منه، حتى فيروس فتاك، يصيب كل الأجهزة بأعطاب الفناء. وإلا أصابك مس عيادي.

وكيف لا يكون الشخص ممسوسا، وهو متى دخلت دروب  ومن أي باب شئت، تجده حاضرا، محلقا وجهه، عاقدا خيوط حدائه، ورابطا في شياكة رقبته بربطة عنق زاهية الألوان ومضمخا حضوره بأريج يمتزج فيه المرح بالحزن وسلاطة اللسان..شامتا في الجميع..مرددا في سخرية:" أنا الأول دائما"..

وهذا المس ليس في سلوك العيادي وحده وإنما في نصوصه أيضا..فالقارئ لما ينتجه كمال العيادي من نصوص سيلاحظ بأن هذه الأخيرة تتميز بالتنوع، فالرجل  كما يكتب القصة،  يكتب الشعر، والرواية والمقالة ويترجم. فهو غير مخلص لصنف إبداعي معين..

ثانيا، هذه النصوص نفسها مسكونة بلعنة التشظي..فهي موزعة بين أزمنة مختلفة، وجغرافيات كثيرة، وشخوص لا حصر لهم..وهي في البداية والنهاية ماهي إلا ترجمة المس الذي دفع كمال العيادي أن يكون ممتدا وشاسعا في تجربته الحياتية التي بدأت بتونس، البلد الذي يلفه كالمغرب البحر من جهتين والصحراء من جهتين.. وانتهت بألمانيا، وبالضبط بغرفة بنافذة واحدة بميونيخ الرمادية، مرورا بموسكو وعواصم أخرى...يقول كمال العيادي في إحدى نصوصه" حكاية السنوات العشرين": " عشرون سنة مضت يا سيدي ، لم يحدث خلالها أن سمعت نباح كلب، ولم تفاجئني عنزة، ولم تخفني بقرة هائمة في غبش الفجر. العالم ضيق يا سيدي، وربما كان من الأفضل إعادة توزيع المدن بشكل لائق.

عشرون سنة، كنت مشغولا عنك وعن القيراوان. جربت أن أقيس حدوح الأرض بخطواتي، ولكنني لم أخط شبرا واحدا. والذنب ليس ذنبي يا سيدي فالمدن متشابهة"...

ويستخلص من هذه الفقرة القصيرة، كما يمكن أن يستخلص من باقي

النصوص  الأخرى لكمال العيادي، ميزة الكتابة ونكهة الذات العيادية وحلولها بنصوصه.  ذلك أن صدق التجربة،  يجعل نصوص العيادي قريبة من الوجدان، ونافذة إلى القلوب وصعبة النسيان..فالعيادي بقدر ما يحسن وضع الإطار ويؤثته

بما يلزم من ديكورات وتفاصيل وجزئيات بقدر ما يتحكم في تحريك عجلة الزمن

بفتح نوافذ متعددة في النص الواحد ليطل على الماضي أو المستقبل أو ليطل فقط على راهنية الواقع، مبدعا كتابة تجعلك داخلها معنيا بتفاصيلها وكأنك المعني الأول والأخير بها.0 تقول القاصة  لطيفة لبصير في إحدى تعليقاتها على نص لكمال العيادي: " عينك رأيت بها الآخرين، أحسست بكثافة الأشياء والعين النهمة التي تلتهم كل المحطات المهملة والشعوب الغريبة عن الأوطان دون شعور بذلك.." وفي إحدى تعليقاتها تتساءل  المبدعة التونسية آسية السخيري " قل لي يا كمال كيف لك أن تكون شاسعا إلى هذا الحد؟"

وطبعا كمال العيادي لن يجد جوابا لهذا السؤال، لأنه مشغول بديون الوقت التي استلفها من زمنه القادم، فهو دائما يقول إني أعمل أربعة وعشرين ساعة، وأستلف بعض السويعات القليلة مما تبقى من العمر لقليل من الراحة..وهو لا يسدد أبدا ديونه المستحقة، لأنه مفلس وقت على الدوام.

وحتى لا أطيل عليكم، فكمال كما عرفته سواء من خلال نصوصه وتعليقاته، أو من خلال مكالماتنا الشبه يومية، بواسطة الهاتف، فهو إنسان مرح كطفل، وعميق كأي مجرب خبر الحياة وخبرته، وفي ومتواضع بشكل رهيب لأصحابه ولمعلميه،

ذكي كثعلب وساخر كقرد، وسليط اللسان كعجوز شمطاء، ولكنه بقلب من حليب والأهم أنه مبدع كبير.ودائما يقول لي: أنا سعيد ومغتبط وأحسد بك نفسي..كوننا مثل نصفي فولة، ذائقة وذوقا ونصا وموقفا ومرحا وسخرية وقلبا ومئات الصفات المتشابهة " لكني لا أصدقه،لأنه  يعرف كيف ينفخك كبالون حتى ما إذا طرت عاليا رماك بسهم دقيق كرأس إبرة أو تركك في الأجواء العالية حتى يسقطك الصقيع مرتخيا..لكن للحقيقة وللتاريخ وللإبداع  أقول:"إن النص الذي ينزل دروب ولا يركله كمال العيادي فهو نص يتيم" وأنا فخور جدا بصداقته ومحبته وركلاته التي تطير نصوصي عاليا.

 

*******************************************

********************************

بورتريه

المبدع كمال العيادي سوبرمان الدروب الباذخة

عبد الرحيم العطري

من تكون أيها ال " كمال " ؟ يا من أدمن قراءة بوشكين و غوغول و كل الرائعين من أرض الثورة المثلى، من تكون أيها " القيرواني" البهي ؟ يا من هاجر بدءا إلى المسرح و غاص في عشقه حتى الألم و الألق أيضا، برفقة أب الفنون لا أظنك كنت تفرح إلا بنصوص بيكيت و بريخت و سارتر و أرتو … لا أظنك إلا قادما من مسرح العبث كما عبث أيامنا الفادحة هاته ، لن تكون إلا عبثي المبنى و المعنى ، تسافر بين الدروب القصية بحثا عن الحقيقة الهاربة ، تكتب و تنزف و تحترق ، فالانكتاب عندك أيها المسرحي و الشاعر و القاص و الصحفي ، أكبر من أن يكون مجرد ترف فكري .

قلبك النازف حبا و عمقا إنسانيا لن يكون مفتتنا قبلا إلا بالأسئلة الكبرى التي أثارها نيتشه و كل الألمان الرائعين ، أراك دوما تمقت الضفادع التي لا تجيد سوى النقيق كما كان يقول نيتشه، و بالمقابل تهفو إلى إعادة الدفء إلى السوبرمان الميت فينا ، لن تكون إلا نتشويا أتعبه هذا الإنسان ، فبات يحلم بإنسان آخر و بعالم آخر يشع نقاء و بهاء، لهذا تحلم و تحلم إلى أن يتحقق الحلم ، تفرح كثيرا بكل رقم قياسي تحطمه هذه الدروب ، بكل شمعة توقدها في عتمة الليل العربي .

من تكون أيها القادم من القيروان ، يا من جرب كل فنون الشعر و النثر ، يا قادما إلينا من الركح الجميل ؟؟؟ في كل التعليقات التي تكتبها احتفاء و فرحا بكل الزميلات و الزملاء في دروبنا البهية أكتشف فيك شخصا آخر ، أنت المائة و ربما الألف في واحد ، رجاء لا تخف ، إنني لا أتهمك بالفصام ، بل أتهمك بالتعدد الباذخ ، كما المسرح الشامل يا سليل الخشبة و الأدوار .

جئت أيها ال " كمال " إلى عالمنا الرديء هذا في زمن النكسة ، ذات يوم ستيني كئيب انمسخت فيه أحلامنا البلا حدود ، جئت تحمل بين أعماقك كفرا بالموت الرخيص ، لهذا كنت دوما تمارس التواطؤ مع الحياة و الحب و الجمال . و منذ بداية الثمانينات بدأت تعلن عن الكاتب الغائر فيه ، عن الشاعر المتوثب في أعماقك ، عن القاص و الصحفي و المسرحي و كل كائنات القلم الجميل ، استقبلتك أحضان" القدس العربي" و "أخبار الأدب" و" نزوى" و مواقع وادي السيليكون بعدا . لهذا لم تسرقك " التجارة الدولية " التي تخصصت فيها دراسيا من دنيا الأدب ، بل أدمنت الحب و الوفاء لشيطان الشعر و الإبداع في كلياته و أسئلته و شواغله الكبرى .

على حواف القلب الشريد ، و من تفاصيله الدقيقة تهدينا مراثي للقمر الباكي ، في منامات الأطفال ، تسمعنا نشيجها من الأقاصي البعيدة ، تذكرنا بأحجيات الشتاء و حكايا الجدة الراحلة ، من منافي الروح تبرق إلينا ، و أينما كنا، شعرا جديرا بالقراءة و الاستماع ، لأنه شعر معتق قادم من زفرات قلب يدمن الحب و الوفاء . الشاعر فيك يا كمال يحترف بناء صور شاعرية ، يحتفي بالأضداد في تناقضها المختلف ، لا يرضى بالخطابي و التقريري كما لا يختبئ وراء الغموض و الرمزية المطلقة ، الشاعر فيك يعلن عن نفسه منذ العتبة الأولى ، لأنك شفاف حد الانكشاف و التجلي .

عبر القص اللذيذ  تأخذنا إلى عوالم التشظي و الانحراق ، برفقة شخصيات عجائبية من كل أقاصي العالم ، من روسيا و القيروان و ميونخ بدرجة أكبر ، إنها فعلة الترحال ، بصماتها بادية على محياك الأدبي ، لن تمنع نفسك يا كمال من الغرق في الشعر الروسي و العبق القيرواني و السؤال الألماني ، مع باريسا ألكسندروفا و حميد ميتشكو و آخرين يصعب حصرهم ، توصي بشيء من الحلم لموت القيروان ، لكنك تنسى  أن الموت الفضيل يكون بدون وصية ، فقط هناك بقايا حناء و رسائل مغشوشة ، هو ذا الزمن الفادح يسقينا من شرابه الرخيص ، يفجعنا في الأحبة و الأصدقاء ، يسرق منا أجمل الأوقات ، و مع ذلك يستيقظ الشاعر في أعماقك ، الشاعر المفتون بالحياة ، ليعلمنا دروسا في غير الانحناء ، كما دنقل و هو يكتب وصية الرحيل عند مشانق الاسكندر. فمن تكون أيها القيرواني المسافر الذي زاده الحب و الإبداع ؟ يا من يحرص دوما على ألق موقع ال " الدروب " ؟ يا محرر القسم الأدبي كما تعلن عن ذلك هذه ال "دروب " ؟ أيها المايسترو كما تناديك دوما شاعرة الأطلس مليكة مزان ؟

أحيانا أجدك على درب الدروب رجل إطفاء بامتياز تصب خراطيم مياه  على الحرائق التي تشتعل من حين لآخر في رحاب التعليقات ، تدواي الجراح ببلسم الحب و الامتنان ، تحيي فينا ثقافة الاختلاف و الانتصار لكل ما هو جميل مهما كانت المسافة ضوئية  بيننا و بينه ، لكن في مرات أخرى أجدك تشعل الحرائق ، و تدعو لقلب الطاولات ، يستيقظ السؤال الألماني فيك ، و تدعو إلى المساءلة و النقد لا المهادنة و الانبهار الزائد . و بين الحالتين معا يظل كمال العيادي فيك كما هو ، سوبرمانا محلقا في الأعالي حريصا على جمالية الدروب الباذخة ، منشغلا حد الامتلاء ببناء العائلة الدروبية الكبرى ، يوزع الحب على كل الوافدين إلى موقع دروب ، يحييهم بأبهى العبارات ، يشجعهم على تكريس الحضور و إدمان الانكتاب و لما لا الاحتراق و الانجراح أيضا ، فالكتابة بالنسبة إليه غير ذات معنى ما لم تكن مقرونة بالدم ، ألم يقل الحلاج بأن ركعتين في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم ، فما بالك بصلاتهما بعدا ؟

كمال العيادي ينفر من الجاهز ، يرتحل عبر أزمنة شتى ، ليجيب عن سؤاله المركزي : ما معنى أن تكون كاتبا اليوم ؟ ما معنى أن تكون مفتتنا بالحبر و تسويد البياض ؟ ذلك ما يجيب عنه كمال العيادي عبر تعليقاته في دروبنا الباذخة ، عبر قصصه التي لا تنتهي و أشعاره المحلقة في الأعالي ، على امتداد أسفاره القصوى من القيروان إلى روسيا فألمانيا إلى دروبنا جميعا ، عبر ذاك كله نكتشف حقيقة سوبرمان شاعري يكتب من أجل الحب و الحياة .  و عبر ذلك كله لا نكتشف مرة أخرى حقيقة هذا السوبرمان ، فمن تكون أيها ال "كمال العيادي " ؟؟؟؟

ملحوظة : من حين لآخر تسرقني صرامة البحث السوسيولوجي من دنيا الأدب الباذخة ، إنني غارق آنا في كثير من الالتزامات البحثية الميدانية ، لكن لأنك جدير بالحب و التقدير أيها العزيز كمال العيادي ، و لأنك ستحل ضيفا عزيزا علينا بحاضرة سلا البهية ، فقد سرقت نفسي من نفسي لأكتب لك و عنك هذا البورتريه الذي لن يوفيك حقك ، هذه مجرد تحية استقبال لسوبرمان الدروب الباذخة ، تقبلها مني أيها العزيز.

 

******************************************

****************************************

 

فاطمة ناعوت

 

الطفولة والسخرية من أجل ترويض الوجود

ترويض المرأة

كانت المرأةُ، ولا تزال، المادةَ الخصبةَ الأولى في إبداع الرجل طوال الوقت، والمعين الرئيس الذي ينهل منه مخيالُه قبل أن يمسك بمبضعه الفنيّ: ريشةً كانت في يد التشكيلي، قلمًا في يد الأديب، أو إزميلا في يد النحات، ليشرعَ في رسم نصِّه الخاص الموازي للوجود والذي ولابد سوف يفوقه جمالا، وليس الجمال هنا حكمًا قيميًّا بقدر ما هو إشارةٌ إلى الانحراف الضروري عن الواقع كحجر أساس لكل عمل إبداعي. فالإبداع طوال الوقت لا يبدأ إلا من نقطة انحراف وتنافر مع الوجود وإلا صار محاكاةً وتقليدًا ساذجًا تتفوق عليه كاميرا صغيرة ثمنها لا يزيد عن عملة ورقية واحدة. وكان ترويضُ المرأة من قِبَل الرجل أحد أهم أهدافه منذ البدء. و”الترويض” بمعناه المعجمي الواسع سوف يتخذ مضاربَ وألوانًا شتى. الرجل يروِّضُ المُهرَ كي يعلمه السير، والشاعر ارتاضت له القوافي الصعبةُ. فالرياضةُ تدريبٌ لعضلات الجسد كي تغدو مرنةً طيّعة، ومنها الرياضيات Mathematics وهي ترويض خلايا الذهن وتطويعها، والمجمل لأصل الكلمة كما في المعجم هو استبدال الحال المذمومة بالحال المحمودة.

بين شكسبير والعيادي

واجتهد الرجل في ترويض المرأة عبر التاريخ. حينًا كي تحبه، وكي يسوسها ويلينَ شوكتها حينا آخر. فالبشريّ يؤمن طوال الوقت بأن السفينة لابد لها من ربّان واحد، والمرأة طوال التاريخ رفيقٌ مشاكس لم يقبل أن يسلّم الدفّة كاملةً للرجل الذي اِستُخلِف في الأرض بقرار إلهي “ذكوري” واعتبر ذلك حكمًا نهائيًّا لا طعنَ فيه ولا استئناف. عالج شكسبير سياسة المرأة في مسرحية Taming of the Shrew “ترويض الشرسة” على نحو كوميدي ساخر مثل صديقنا العيادي في قصتة “آنيتا”. لكن النحو الشكسبيري كان نحوًا كلاسيكيًّا ينزع إلى المفهوم التقليدي لفكرة القوة والاستخلاف في الأرض وقانون البقاء للأقوى بيولوجيًّا، وهنا يتفوق الرجل لا محالة وتخسرُ المرأة. سوى أن كمال العيادي، الأديب التونسي الذي حقق معادلة بشرية فريدة في الجمع بين اللذاعة والدِعة، وبين القسوة التي تقترب من السادية وبين الرقة التي تنهل من الطفولة، فتجد جملته الأدبية قد تجمع بين مفردتين إحداهما عذبةٌ كقطرة ماء النهر، والأخرى حادةٌ موجعة كنصل سكين، في قصته “آنيتا” نحا نحوًا مغايرًا وطازجًا في شأن ترويض النمرة السرمدي. هنا رجلٌ سلّم سلفًا بضعفه حيال امرأةٍ تملكُ نقيضين لا قِبل لرجل متحضر بدحرهما: ضعفها البيولوجي كأنثى، في مقابل سلاطة الكلمة وعنفها. الزوج التقليدي القديم لن يقف طويلا أمام مشكلة كهذه لأنه حلّها منذ اللحظة الأولى بكسر عنق المرأة وتهذيب لسانها، وهو ما فعله بطلنا الشكسبيري القديم. لكن نصًّا يسبح في الألفية الثالثة سوف يعالج المشكلة ذاتها على نحو مغاير تبعا لقانون التحضر والحقوقية الإنسانية التي لم تكرسها ثقافة القرن السابع عشر بمنظومته الحضارية آنذاك. الترويض العصري الذي لجأ إليه بطل قصة العيادي سوف ينتهج نهجا ذهنيًّا ماكرًا لأن ثقافة عصره تفوّت عليه إمكانية حل المشكلة “بسَوط نيتشه” الشهير الذي أوصى كلَّ رجلٍ بحمله كلما ذهب إلى امرأته.

الطفولة الكامنة

بطلنا العياديّ عالج أزمته عن طريق إعادة اكتشاف الطفل الكامن داخل كل رجل واستحضاره من مخازن الذات كي يلعب لعبته المرحة مع الطفلة الكامنة داخل زوجته الشرسة آنيتا. وليس من الصعوبة اكتشاف أن الذات الراوية تنطق بلسان الطفل ليس فقط على المنحى المضموني، بل فنيًّا أيضًا، وذلك من خلال طرائق السرد والصياغة اللغوية. تذبذب الحكي الذي يشي باللعب أو بعدم اليقين أو بالسخرية من الحياة، فهنا: “لنتّفق في البداية, على أنّه من حقّي أن أضرب رأسي. أوّلا لأنّه رأسي, وأنا حرّ أن أفعل به ما أشاء. وثانيا لأنّه يستحقّ الضّرب.” هذه عبارة طفولية بامتياز رغم ما تحمل من مرارة وسخرية سوداء. فالطفل يوغل في مفهوم “التملّك” و”الحيازة” قبل أن يتعلم قوانين الحياة الأخرى، فتعتمره الرغبة في امتلاك كل الموجودات وحتى إساءة التصرف بهذه الملكية قبل أن تهذبه القوانين العرفية التي وضعها الإنسان لتنظيم نزعات الإنسان.

السخرية كملمح جماليّ

أما “السخرية” و”اللعب” الفني فهما الملمحان الرئيسان لهذا العمل كما هما في كثير من نصوص العيادي. ومنها قول الجملة ثم نقضها: “ولذلك أضرب رأسي يوميّا. ربّما أبالغ حين أدّعي بأنّني أضرب رأسي يوميّا”، وهو خط من تيار الوعي الذي يعتمد الاستسلام التام للتداعي الحر للأفكار ثم رصدها، فنيًّا، كما هي دون تنميق بلاغي ما يعطيها طابعًا رعويًّا طبيعيًّا ثريًّا بعيدا عن صالونات التجميل الصناعي. الزوج الذي أعيته السبل في تهذيب لسان زوجته السليط، سوف يلجأ في آخر الأمر إلى تراكمه المعرفي والتجريبيّ علّه يجد الحل، فيستخرج من تاريخه القديم طفلا ماكرًا كان يظن أنه غادره بعدما لم يعد في حاجة إليه. طفلٌ تعلّم من كليلة ودمنة ومن قراءاته القديمة في قصص الجنيات وحواديت الجدات أن الثعلب يتماكرَ على عدوه فيحاكي دورَ الميّت أو الضعيف المنهزم حتى يفوّت على خصمه فرصة النيْل منه. الزوج الذي أقرَّ بهزيمته أمام لسان زوجته سوف يدخل في روعها أنه مقبلٌ على الانتحار حتى يرهبَ جانبها فتعيش في قلق دائم. لكنه لن يفعل ذلك على نحو مباشر ساذج عن طريق إعلامها رأسًا بقراره الخطير، بل سيدبر الأمر على نحو أيروني Ironic عن طريق اللعب مع زوجته لعبة ماكرة فيقوم بنثر قصاصات ورق على مكتبه مكتوبة باللغة العربية التي لا تعرفها الزوجة، وهنا وهناك كلمة أو كلمتان بالألمانية كي يتقن رسم صورة المرتبكين والمتوترين المقبلين على إنهاء حياتهم حزنًا ويأسًا. وفي المقابل سيلجأ إلى حيلة حرية “المخيال” كي يثأر منها ويمثّل بها، حيث لا قانون حضاريًّا أو عرفيًّا أو جنائيًّا يحاكمنا على خيالنا، ولذلك: “كنت أشبعها لطما وأقضم جزءًا صغيرا من أنفها المدبب وأطرحها أرضا وأرفسها بكلّ ما أوتيت من قوة, وأتلذذ جَلدها بالسوط وشدّها من شعرها القصير, وتثبيتها على لوح خشبيّ ودق كفيها إليه بمسامير كبيرة, كلّ ليلة, في خيالي المرهق”.

الصورة الشعرية

بوسعنا أن نلمح براعة رسم الصورة المشهدية عند العيادي وهي أداة أخرى يتقن اللعب بها إلى جوار الآيرونية. أذكر أنني قديما قرأت له قصة عن بيت الأشباح في الملاهي كان يصف فيها مأساة لابسي أقنعة المسوخ والأشباح الذين ينحصر دورهم في الحياة في إرهاب وترويع اللاعبين ويُحسب نجاحُهم بمدى علوّ صرخات الخائفين، وبعدها لم أدخل بأطفالي مرةً إلى دار ملاهٍ إلا وتذكرت القصة، وتعاطفت مع المسوخ والوحوش. والعمل الفني الناجح هو الذي يجعل العالم يتغير في عينيك بعدما تقرأه كما قال أحدهم. والأمثلة على براعة العيادي في رسم الصورة الشعرية لا حصر لها في واقع الحال، لأنها بطول أعماله وعرضها حتى ليمكن للمرء صادقًا أن يقول أن بعض قصصه هي قصائد نثر مطوّلة بسبب زخم الصور الشعرية بها: “…. عند عودتي كلّ ليلة لتقف لي بين ثقب الباب ولحاف السّرير الأزرق المكويّ بعناية”، أو “كان عجوزا غابرا مجعّدا. يسعل كامل الوقت ويخرم في الهواء قاعدة الكرسيّ الهزّاز المغلّف بسبابته وإبهامه. موسّعا في ثقب وهميّ لا أراه.” أو “فكنت أعدّل ملامح وجهي قبل وضع المفتاح في ثقب الباب مباشرة”.

العمق الدلاليّ

الفن الأدبي الرفيع في النهج الحداثي وما بعد الحداثي يبدأ وينتهي عند قول كلامٍ يبدو بسيطًا جدًّا ومألوفًا ولا مجاز مهوّمًا فيه سوى أنه يحمل مستويات من العمق لا تعطي نفسَها إلا عبر قراءات وتأويلات منفتحة ومتعددة. حين نتأمل جملة كهذه “وسألني عمّا إذا كنت أحلم باللّغة العربيّة أو الألمانية”، على تلقائيتها وكوميدية طرحها فهي تحمل مضامينَ فلسفيةً وخيوطًا نقديةً عديدة، وقد بحث فيها علماء السيكولوجي والألسنيات طويلا، كيف نفكر؟ كيف تنبت الفكرة في أذهاننا؟ وبأية لغة؟ وهؤلاء الفرانكوفونيون في بلاد المغرب العربي والبوليفونيون في المهاجر الغربية، هل يفكرون ويحلمون؟ بالعربية أم بلغة أخرى، إن سلمنا أصلا أن الفكرةَ تحتاجُ إلى لغةٍ ما كي تنبثق في المخ. ثم “… بعد نزع حذائي ووضعه عند الزّاوية اليسرى, محاذرا أن يكون وضعه قريبا أكثر من اللاّزم من الحائط. تماما كما يليق بزوج يتألّم.” هكذا يلاعب البطلُ زوجتَه “مضمونيًّا”، ويلاعب الكاتبُ قارئَه “فنيًّا”، وكأن للحذاء وطريقة وضعه على الأرض علاقة وثيقة بحال الشخص المتألم، وهي لعبة ذكية ترمي بالقارئ فورًا في فخ التصديق وتورطه في خيوط النص، لأن الفن، على عكس الحياة، يصل للروح والعقل مباشرة كلما تجاوز المنطق القارَّ المألوف وابتعد عنه.

رسم الرائحة

“ولا احتمل رائحة الدّجاج المسلوق والزّيوت الغريبة التي تنبعث منها” يجيد العيادي “رسم الرائحة”، وليس في عبارتي هنا مجازٌ لغويّ، فهو يعرف كيف يرسم للرائحة صورةً مشهدية تكرسّ ملامحها “الحواسيّة” حتى يغدو بوسع القارئ بعدها أن “يلمس الرائحة بأنفه” بالفعل. بل أكثر من ذلك أنه يعرف كيف يرسم للقيم “المجردة” كالنفور والألم والخيانة رائحةً ما. أذكر في قصة أخرى له بعنوان “موت بدون وصية” أنه رسم رائحة “الخيانة الزوجية” بقوله :” رائحة تشبه رائحة الدجاج ليس الدجاج تماما, ولكنها رائحة الطيور الصغيرة تماما، الطيور الصغيرة المذعورة حين تراها وهي تسقط في الفخ وتجري نحوها, ثم تمسكها لمدة طويلة، وتسمع دقات قلبها مثل مراوح الهواء وحين تضعها في القفص وتشم يديك المبللة بالعرق والمتسخة ببثور الريش”.

أجملُ “الحكي” أكذبُه

وبعد كل هذه المعارك الزوجية والحيل الذهنية واللعب المتبادل بين الزوجين المتنافرين يفاجئنا المؤلف في آخر سطر ربما بأن الأمر ليس كما فهم القارئ، وأن السارد لم يكن صادقًا كل الصدق فيما زعم وفيما حاول أن يوقع في روع قارئه الطيب الذي صدقه وتعاطف معه ومع أزمته طوال الحكي، لأننا لن نجد في نهاية القصة إلا زوجيْن متحابيْن وهو ما يحل لغز بقائهما لعشر سنوات معا رغم كل تلك المكائد الصغيرة بينهما. ” آنيتا جاوزت الحدّ. أضرب رأسي بقوّة على الباب أو على الحائط. أو ببساطة هكذا. بقبضتي أو بكفيّ. لأتلذذ طعم ريقيّ المرّ , وأنا أرى كلّ ذلك الذّعر والفزع الشّديد في عينيها. في عيني حبيبتي وزوجتي – آنيتا-.”
———————————————————–
محوّل لقصّة آنيتا بأرشيف الكاتب :
http://www.doroob.com/?p=3202

**********************************************

***************************************************

بقلم: د. محمد جاهين بدوي

قراءة في قصيدة: مرثية القمر الأخير لكمال العيادي

* * *
مدخل:
الذئبُ أحَدُ كواسِرِ البرّ وسباعه التي تمتاز بالسرعة في ملاحقة طرائدها، والحذر الشديد، والخفة الفائقة حركةً ويقظةً، وهو لا يصبر على الجوع، وليس يصطاد في الغالب إلا ليلا، وبخاصة في الليالي القمرية، ليتبيّن فرائسه، ولذلك يقضي معظم الليل ساهرا، ومن شقائه بالسهر وفرط إجهاده لا يكاد يخطئه من رماه، وليس يخرج للصيد غالبًا إلا في شكل جماعات.
وهو مشهور كذلك بغدره حتى على بني جنسه من الذئاب، وقد ضُرِبَ به المثل في كل ما ذكرنا، فقالت العرب في أمثالها: ” أحذرُ من ذئبٍ”(1) ، وفي تصوير ذلك وبيان هيئة نومه للدلالة على شدة حذره، وهو من أروع ما قيل في تصوير الحذر، قول حُمَيْد بن ثور:
يَنَامُ بإحْــدَى مُقْلَتَيْـهِ ويَتَّــقي بأُخْرَى المنَايَا فَهْوَ يَقْظَانُُ هَاجِــعُ
وقالوا أيضًا: ” أخَفُّ رَأْسًا من ذِئْبٍ ” (2)، و ” أجْوَعُ من ذئبٍ ” (3)، وفي دعاء العرب على أعدائهم: رماه الله بداء الذئب، وداء الذئب هو الجوع، وهو لذلك لا يصبر على جوع، فإن أخطأه صيده، وعزّ عليه ما يأكل حاول إدخال النسيم إلى جوفه يتعزّى بذلك.
ومن غدره ببني جنسه أنه إذا رأى صاحبه جريحا انقضّ عليه، لأن منظر الدم يثيره، ويهيّج نهمته، ويثير شرهه، وفي ذلك قال الشاعر:
وكُنْتَ كَذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَمًا بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أحالَ عَلَى الدَّمِ
كما يعرف الذئب بقوة حاسة الشم لديه يستعين بها على تعرّف الأشياء واستشعارها من بعد، كذلك يُعرف باسترواحه في مشيته، أي انتقاله من جهة اليمين إلى جهة اليسار والعكس، يراوح بين ذلك من باب الحذر واتقاء ما قد يباغته من الأخطار، وهو ما يُعرف في اللغة بالتّذَاؤُب، فهو منسوب إلى الذئب، ومأخوذ من هيئته في تلك الأحوال (4).
وفي تنسّم الذئب الريح، واسترواحه في مشيته أنشد أبو الرديني العكلي فيما رواه الجاحظ:
يَسْتَخْبِرُ الرِّيـحَ إذَ لَـمْ يَسْمَــعِ بِمِثْــلِ مِقْرَاعِ الصَّـفَا الموقَّـعِ (5)
وقد أورد الجاحظ هذا الشاهد في معرض حديثه عن الوسيلة الخامسة من وسائل البيان، وهي ” النِّصْبَةُ ” أي الهيئة الدالةُ على حال صاحبها بدون لسان، أو توظيف إشارة، فالعرب تعرف هيئة الذئب على ذلك النحو يمدّ أنفه في تلك الصورة المعروفة، يتشمّم الريح، ويستخبرها، ويصغي لحديثها، ويترجم عنها وحيها، فكأن رأسه في تلك الحالة مِعْولٌ أو إزميلٌ حادٌّ مسنون.
والذّئبُ من فصيلة الحيوانات الثديية آكلة اللحوم، وهو من أفراد العائلة الكلبيّة، ويُعدّ الذئبُ الرماديُّ من أقوى أفراد هذه العائلة، وأقدرها على التحمّل، ولا يحيا في الصحاري والبراريّ بخلاف الذئب البرّيّ، ولا يألف كذلك قمم الجبال، وإنما يألف بيئات الغابات، وتلك التي حوّلها الإنسان (6).

***
ولعلّ أول ما يتقاضانا حقّه في التوقّف عنده بالنظرة المتأملة في هذه القراءة لقصيدة كمال العيادي إنما هو العنوان: مرثية القمر الأخير، هل كان العنوان فُسْطَاطَ القصيدةِ، وعَمُودَ خيمتها الذي قامت عليه، كما قيلَ في صفة العنوان قديما؟ ، أو بصيغة أخرى: هل كان هذا العنوان غالبًا على النصّ، ومهيمنًا عليه، أم غلبَ النصُّ العنوانَ، وهيمن عليه، وجعله قِرَائيًّا تابعًا له، ومتفرّعًا عنه، ومنبثقًا منه؟ أم تماهى النصّ والعنوان وصارَا لحمة واحدة، ونسيجًا حيًّا مُتَوَاشِجَ الشريانات، والخلايا والمسامّات؟
الحقّ أن العنوان والقصيدة تَمَاهِيَا في تواشُجٍ بنيويّ، وانصهار دلاليّ ورؤيويّ واحد، فالقارئَ للقصيدة لا يجد مرثيةً صريحةً جهيرةً للقمر الأخير، وإنما يجد نفسه أمام مرثية للذئب: الذات والذكريات والعوالم والطموحات، قد غُلّفتْ بأطياف القمر: الحلم والمثال، هذا الآفل البازغ على المستوى النفسيّ للذئب السارد المتذكّر، على نحوٍ تَمَاهَى فيه إشاريًّا الراثي والمرثيّ، والحاضر بالآفل، فإذا رثاء الحُلم رثاءُ الذات الحالمة، لتوحّدهما، وصيروتهما شيئًا واحدا.
ولعلّ في وصف القمر بِـ”الأخير” في العنوان ما يعطيه بُعْدًا إشاريًّا كاشِفًا جديدا، يؤكّد لدينا أن الرثاء للذئب: الذات والقمر: الحلم معًا، فوصف القمر بالأخير يجعلنا نتساءل: أهو أخيرٌ في ذاته؟ فلن يكون ثمة بزوغٌ أو تجلٍّ على سائر العوالم والدنا؟ أم هو أخير بالنسبة لذات مُدْرِكِيهِ والناظرين ضياءَه؟
والواقع أنه أخيرٌ من هاتين الزاويتين الإدراكيتين: زاوية خصوصيته في ذاته، وامتيازه من سائر الأقمار، ومباينته لها، وزاوية خصوصية النَّاظِرِهِ، المتماهي به، السابح في مداراته الضوئية، ومعارجه الروحية، وإذن فرثاؤه يعني رثاء رائيه ومتشوّفه، إذ ليس لأحدهما وجود متحيّز مستقلّ عن وجود الآخر. !
والقارئ المتأمّل لصورة ” الذئب” في مرثية القمر الأخير، في ضوء ما ذكرنا من علائم الذئب والموروث المشهور من خصاله في الذاكرة العربية يجد حضور كثير من هذه العلامات في صورة الذئب العياديّ، وغياب بعضها الآخر، وحلول صفاتٍ أخرى مغايرة تؤكّد أنسنة هذا الذئب على المستوى الدلالي، وإعادة تشكل ملامحه شعريا ليكون ناطقا رسميا باسم السارد الشاعر، وحاملاً دلاليا وشعوريا في هذه التجربة الشعرية ذات الطابع السردي.
يقول الشاعر:
” هُنَاكَ..
هُنَاكَ بَعِيدًا، عِنْدَ أسْفَلِ جَبَلِ الكِلْسِ المحْرُوقِ.
كَانَ الذِّئْبُ الجَرِيحُ..
يُجَاهِدُ لِرَفْعِ رَأْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى.
لماذا تأخَّرَ القَمَرُ هَذِهِ اللَّيْـلَةَ ؟
ربّما حَجَرٌ تَدَحْرَجَ بفعل الرّيح.
ربّما كُرَتَانِ مِنْ نُدَفِ الثَّلْجِ القَدِيمِ.
هُنَاكَ.. بَعِيدًا..
حَيْـثُ لا زَعْتَرٌ يُعَانِـقُ شِبَاكِ العَرْعَرِ. ولا رِيحٌ طَرِيـدَةٍ.
كان الذئبُ الرَّمَادِيُّ الجَـرِيـحُ..
يُسَـوِّى مِـنْ صُوفِ الأَوْهَامِ وِسَادَةً..
تعدّلُ وَضْعَ رَأْسِهِ صَوْبَ كَتِفِ الجَـَبلِ اليَسَـارِ
لِيَرْفَعَ لِلْقَمَرِ بِعُوَاءِ الوَدَاعِ الأَخِيرِ.
تَمَامًا كَمَا وَعَدَ أُمَّه وهي تَمُوتُ..
في ضَوْءِ ذاكَ النَّهَارِ البَعِيدِ.
لم تَعْبَثْ بِهِ الرِّيحُ, كَكُلِّ مَسَاءٍ..
لم تستهزئْ به سَنَاجِبُ الجَوْزِ البَرِّيِّ كَعَادَتِهَا..
لم تتخذ اليرقاتُ مَفَاصِلَ فَرْوَتِهِ مَمَرًّا لِلِحَاءِ الأَشْجَارِ.
لماذا تأخَّرَ القَمَرُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟

في بداية بوحه وإفضائه يطوّح بنا الشاعر بعيدا من خلال هذه الإشارة المكانية المكرورة المؤكدة في قوله: ” هناك.. هناك.. بعيدا..” ليدفع عن ذهن المتلقي وَهْمَ قرب مكان هذا الذئب، ويؤكد بينونته وغربته، من خلال تحديد مكان بعينه ذي طبيعة مخصوصة، ربما تكون كاشفة إشاريا، وذلك بقوله: ” عند أسْفَلِ جَبَلِ الكِلْسِ المحرُوق..”، فما جبل الكِلْسِ هذا فيما يبدو لي سوى بناية من البنايات الحديثة أو ناطحة من ناطحات السحاب في مدينة من مدن الثلج والضباب، فالكِلْسُ كلمة معرّبة تعني الجِصّ، وهو مما يُبْتَنَى به إذا أُحْرِقَ وصار قِرْمِيدًا، ويُتّخَذُ طلاءً كذلك…
وإذن فنحن أمام ذئب رماديّ، وفي تحديد اللون ها هنا دلالة على أصالة عنصر هذا الذئب وقوّته، وقدرته الفائقة على التحمّل، فهذي بعض خصائص هذه الفصيلة من الذئاب.
وفي وصفه كذلك بأنه جريح إشارة إلى أنه يكون في أسوأ حالاته ضعفًا وانكسارًا وإحساسًا بالانهزام والضعف، لأن الذئب يكون كذلك عندما يكون جريحًا، بخلاف الأسد الذي يكون في مثل هذه الحالة يكون أشرس وأضرى، وأشدّ بأسًا وفتكًا!
وهو كذلك ” هناك بعيدا بعيدا” يجلس تحت بناية شاهقة سامقة تشبه في موروث ذلك الجريح صورة جبل، وهو ” يُجَاهِدُ لِرَفْعِ رَأْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى ” ولا يغفلنّ القارئ عند تأمُّلِ هذه العبارة الحاليّة عما تحتمله في طياتها صيغة “المجاهدة” من بذل أقصى الجهد، وشرف المجاهَدِ من أجله، ونُبْلِ مقصده، بل وقُدُسِيَّتِهِ، كما هو مستقرّ في الوجدان العربيّ، ولا يخفى كذلك ما في ” رَفْعِ الرَّأْسِ ” في هذا الوجدان من بُعْدٍ دلاليّ كِنَائِيّ يمثّل العزّة والكبرياء، وتحقُّق الذات على نحو يشعرها بالزَّهْوِ والمباهاة، والمجاهدة من أجل استعادة ذلك تعني فيما تعني حضور دلالات الانكسار والإحباط وطأطأة الرأس، وهذه المعاني كلها تحتملها هذه العبارة بالإضافة إلى تقديمها للصورة المشهدية ممثلةً في محاولات ذلك الذئب الجاهدة المتكررة، كما يفهم من صيغة المضارع ” يُجَاهِدُ” وذلك ” لِرَفْعِ رَأْسِهِ مَرَّةً أخرَى”…
وبينما الذئب كذلك إذا هذا السؤال اللهفان يقفز في فضاء اللوحة: “لِمَاذَا تأخَّرَ القَمَرُ هذه اللَّيْلَةَ؟” مقررا حضوره الذهني والنفسي بدلالاته الرمزية لدى ذلك الذئب الجريح، فإذا كان حضور القمر لازما لتمكين الذئب من الإشباع على المستوى الحسي، فإن غيابه يعني الجوع والتيه والضلال والحيرة القاتلة، وغيابه على المستوى الروحي يعني فيما يعني كذلك الجوع الروحي، والحرمان العاطفي والوجداني، بوصف ضوء القمر لازما وجوديا لتحقق الأماني وحضورها.
وهذا المعنى هو ما يؤكده تكرُّرُ هذه العبارة التي هي أشبه بلازمة نغمية ذات دلالة محورية في هذه القصيدة، مقررةً غيابَ القمر الحلم الأمل والرمز والكشف والإشراق والهداية الروحية والوجدانية، وحضور كل نقائض ذلك من دلالات الخوف من المجهول، والوحشة والتيه، وتواري الأمل، واحتجاب الحلم.
ثم يعود السارد الشاعر إلى تأكيد بُعْدِ الذئب المكانيّ وغربته، وذلك بغير وسيلة، منها التكرار والإلحاح على توظيف إشارات البُعْدِ المكانيّ: ” هناك بعيدًا..”، ومنها تقرير خلوّ ذلك المكان الذي ينفرد فيه ذلك الذئب الجريح الغريب مستوحشًا من ملامح بيئته الأصلية، وسماتها الجغرافية التي تمنحها خصوصيتها وتميّزها، فهذا المكان البعيد حيث بناياتُ الجِصّ والكِلْسِ لا يوجد به “زَعْتَرٌ” ولا “عَرْعَرٌ “، وهي نباتات تبدو للوهلة الأولى لصيقةً بالبيئة المحلية العربية، بل وتشكّل مِيسَمًا دلاليًّا لهذه البيئة لارتباطه بها، وتميّزها به، كما نرى في قول الصِّمّةِ بن عبد الله القشيريّ وقد أُزْعِجَ عن وطنه إزعاجًا غير رفيق، فهو يملأ رئتيه من ريحه وطيبه قبل أن يفارقَهُ إلى غير رجعة، إذ يقول:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ مِنْ عَـرَارِ
بالإضافة إلى أنّ الزعتر والعَرَار والعرعر (7) من “المشمومات” المميزة بنفاذها ودلالتها التي تذكّر ذلك الذئب الجريح المغترب بروائح بيئته ومرابع صباه وطفولته، وكما لا توجد في ذلك المكان النائي القصيّ رِيحُ زعتر ولا عرعر لا توجد “رِيحُ طَرِيدَةٍ”، وما ريح الطريدة هذه إلا أشباح الآمال والأماني التي يطاردها ذلك الجريح الغريب، فلا هو بقي له زعتره وعرعره وعَرَارُه، ولا لاحت له بوارق النور، أو حملت له الريحُ ريحَ الطريدة المرتقبة المتربّص بها.
وهيَ إشارة تتكرّر في ثنايَا النصّ وتضاعيفه مؤكّدةُ من طَرْفٍ خفيٍّ مُبَايَنَةَ الذئبِ العياديّ لسائر الذئاب، وهي إشارة أكل هذا الذئب للزَّعْتَرِ والعَرَار، وتشكّله في دمه ودماء إخوته، وانسرابه في خلاياهم، فإذا هو بعضُهم يسري في عروقهم، وهم منه، عَلَى نَحْوٍ تتواشجُ فيه هذه العناصر بدلالاتها مشكّلةً البيئة الوطن والأمّ والماضي لذلك الذئب الجريح، ترى ذلك في أحاديث الذئب واسترجاعاته الذاتيّة، ونكوصاته إلى أزمنة الدفء والحُنُوّ وألفة الأهل والإخوان، حيث يقول:
” كَانَ الغَابُ أَخْضَرَ كُلّ أَسْرَارِ الفُصُولِ..
وَكَانَتْ عِظَامُنَا لَوْزًا وتِينًا وقِشْرَةَ عُودٍ يَافِعٍ”.
” الزَّعْتَرُ رِيحُ كُلِّ الغَابِ..”
” أَمَّا دِمَاءُ أُمِّي وَإِخْوَتِي فَحَوَامِضُ التِّينِ والزَّعْتَرِ.”

والمعلومُ أن الذئاب من آكلات اللحوم فلا تأكلُ تِينًا ولا لَوْزًا ولا زَعْتَرًا ولا تستخدم في مطعومها هذا البَهَار المسمّى العَرَار، وهذا مايؤكّد لدينا مباينة الذئب العيَّاديّ بما يجري في دمه من حوامض التين والزّعتر لسائر ذئاب الغاب.
وإنه ليُمَنّي نَفْسَهُ الأمانيّ، ويعلّلها بالأوهام ” يُسَوِّي مِنْ صُوفِ الأوْهَامِ وِسَادَةً..” لعلّهَا ” تُعدّلُ وَضْعَ رَأْسِهِ صَوْبَ كَتِفِ الجَبَلِ اليَسَارِ.. لِيَرْفَعَ لِلْقَمَرِ بعُوَاءِ الودَاعِ الأخير..”.
وإنّي ليخيّل إليّ أن الشاعر السارد قد قصد إلى إحداث لونٍ من التقاطع النصّي والتماسّ الدلاليّ العكسيّ المباين بين ” كَتِف الجَبَل اليَسَار” في النصّ الذي بين أيدينا بوصف هذه الجهة في السياق ” قِبْلَةً ” يتوجّه إليها النداء الأخير والنجوى الضارعة في لحظة تشبه لحظة الاحتضار الأخيرة يذرفها الذئب تجاه معشوقه القمر الحاضر الغائب، أقول: قَصَدَ السارد إحداث تقاطع وتماسّ دلالي معكوس بين الجهة اليسرى للجبل ها هنا والجهة اليُمْنَى في الموروث الروحي والقرآني للجبل، حيث التيمُّنُ والتماسُ البركة وانتظار الفيض والإشراق، كما نرى في قوله تعالى: ” وَنَادَيْنَاهُ من جانبِ الطُّورِ الأيمنِ وقرّبناهُ نَجِيًّا” ( مريم: 52) وقوله في موضع آخر: ” وَوَاعَدْناكُمْ جَانبَ الطُّورِ الأيْمَنِ ونزّلْنَا عليكم المنَّ والسَّلْوَى..” ( طه: 80).
والظاهر من السياق في الآيتين أن اليُمْنَ والبركة والفتوحات كانت قرينة الظرفية المكانية اليُمْنَى، والجبال ليس لها يمينٌ أو يسارٌ، كما يقول أهل التفسير، وإنما اليمين واليسار من جهة الناظر إليها، فالمقصود التيمّن والتبرّك.
فكأنّ السارد قد قصد أن الذئب قد ولّى وجهه شطر الجهة الخطأ التي لا يُنتظر منها الإشراق، أو إجابة الدعاء، أو رجع النداء.
إن القمر في هذه اللحظة الطقوسيّة الشعائرية الأخيرة ليستحيل في ذهن الذئب ونفسه إلى معادل للعشق المطلق، والقبلة الروحية المنشودة، وليس مجرد ظرف أو حالة جغرافية أو ظاهرة كونية ملائمة لحالات سلوكية بعينها ترتبط بنشاط الذئب وحركته الأثيرة في الليل المقمر.
ثم تتداعى إلى ذهن السارد مجموعةٌ من الصور الاسترجاعية تنثال انثيالا في مخيلة الذئب الجريح، كاستدعائه لصورة أمّه لحظة احتضارها، وما صَاحَبَ ذلك من شعور باليتم، وإحساس بالفقد، واستدعائه لصور حركته ونشاطه الدءوب مُرَاقِصًا الريح، متشمّمًا أحاديثها، متسمّعًا بأنفه أخبارها، ككلّ مساء، تناوشه السناجب هازئةً، وتعابثه مخاتلة، ككلّ مساء، مستحضرا مع كل ذلك إحساسًا قاتلا بالعجز والوهن والهمود.. حتى القمر ذلك الممعن في الغياب يحرمه من توديعه الوداع الأخير.
ثم يستمرّ الشاعر السارد في المراوغة والمخاتلة الفنية منوّعًا على بعض مياسم الذئب الحقيقية، محدثًا تلك المفارقة الدلالية بين سيمياء الذئب الغادر في الواقع وسمياء هذا الذئب العيادي الودود الحميم، فهو على الرغم من كونه جريحا نازفًا يتمنى أن يكون له في هذه اللحظة الآنية الحاضرة أختٌ أو صديقٌ أو رفيقٌ من عشيرته، يلعق جراحاته، يأسوها، ويطبّ لها، ولا يخشى انقضاضه عليه، أو فتكه به، على غير المألوف المعروف من عادة الذئاب:
لَوْ أُخْتٌ أَوْ صَدِيقٌ أَوْ مِنَ العَشِيرَةِ رَفِيقٌ..
يَلْعَقُ جِرَاحِي كُلَّ مَسَاءٍ, وَلاَ يَفْتَرِسُنِي آخِرَ فَتِيلِ اللَّيْلِ.
وهذا ما يلحّ الشاعر على تأكيده مقرّرا بينونة ذئبه لسائر الذئاب في خلائقهم وخصالهم، وعشقهم الطقوسيّ للقمر في موضع آخر من القصيدة، حيث يقول على لسان الأم في سياق وصاياها الحميمة، وبثّها أخلاق النبل في أبنائها:
“الذِّئْبُ لا يَخُونُ العَشِيرَةَ وَلاَ يَنْسَى مَوَاعِيدَ القَمَرِ”.
وتتداعى إلى ذهن ذلك الذئب الأسيان صورة الأمّ بعيدا غريبًا عن الآل والإخوة والبلد، حين كانت الأمّ تَبْذُلُ ذَاتَ ذَاتِهَا، وتلقي بنفسها في خضمّ التحدّي وَلُجِّ الأخطار لتكفي صغارها عَضّ المقادير، واجتياح المحاذير، كَكُلّ الأمّهات، وكيف كان يزعجها ويبلغ بها ذروة ألم الوجدان، ومشارف اليأس والقنوط أن ترى أحدَ أبنائها مفتونًا بالآخر المغَايِرِ في الجنس والوطن والسجايا والخصال، منبهرًا مأخوذًا بحدود ” الغَابِ ” القُصْوَى، حيث الطُّمُوحُ للنُّزُوحِ، والأحْلاَمُ الخُضْرُ، والأمانيّ العِذَابُ، يقول:
“كَانَتْ لَنَا أُمٌّ حَنُونٌ.
تَلْعَقُ أَضْلُعَهَا لِكَيْلاَ نَمُوتَ..
تَهِمُّ بِطَرِيدَةٍ, كَكُلِّ الذِّئَابِ الأُمَّهَاتِ..
ولكنّها تَئِـنُّ مِنَ الْوَجَعِ وَالقُنُوطِ..
حِينَ تَسْتَشْعِرُ انْبِهَارَنَا بِحُدُودِ الغَابِ.
كانَتْ تَقُولُ لأَشْقَانَا: خِفْتُ أَلاَّ تَعُودَ..
خِفْتُ يَا وَلَدِي الحَبِيبَ.
لماذَا تَأَخَّرَ القَمَرُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟

ويُلِحُّ الشاعر على تصوير درجة حنان الأم ومطلق حنوّها على أولادها، في وَقْتٍ يفتقر فيه إلى الحدّ الأدنى من هذا الدفء، وذلك الحنان، ويستشعر غياب ذلك كله في واقعه الجريح النازف:
” اللّيلُ بَيْتُنَا وَعَدُوُّّنَا يَا أَوْلاَدِي النَّهَارُ..
” كَانَتْ تَقُولُ وَهِيَ تَفْرِشُ فَرْوَتَهَا لِنَنَامَ:
امْلَئُوا قُلُوبَكُمْ بِرَائِحَةِ الدَّمِ الحَارِّ..”

وما أرْوَعَ هذه الجملة الحالّيّةَ المردوفةَ بذلك التعليل البديع ” وَهِيَ تَفْرِشُ فَرْوَتَهَا لِنَنَامَ ” في الكشف عن مقدار حُنُوِّ تلك الأم وحَدَبِهَا على صغارها عندما يفترشون فراءَها، ويتخذون منه فراشهم ليستشعروا السكينة والأمان في حضن أمهم، وإنها لتدغدغ حواسّهم بالتخييل والإيهام، وقد عضّهم الجوع بنُيُوبِهِ، وكاد يطحنهم بأضراسه، فتعلّمهم كيف يشبعون ويقنعون تخيٌّلاً وتَوَهُّمًا: ” امْلَئُوا قُلُوبَكُمْ بِرَائِحَةِ الدَّمِ الحَارِّ “، وهذا شأن الذئب في الحقيقة كذلك إذا عزّ عليه القوت، وَلَوَاهُ مِنْ حَيْثُ أَمَّـهُ وقَصَدَهُ، كما كان الشَّنْفَرَى يقول في لاميَّتِهِ، تَنَسَّمَ الريحَ واستنشأها، وملأ جوفه بها، لتلهيه عن الجوع، وتعينه عليه، وهذا نظير شدّ الأحجار على البطون لمقاومة الإحساس اللذّاع بالجوع في بني البشر.
وكذلك تتداعى إلى ذهن ذلك النازف مواجعه وذكرياته وأشجانه قبل دمائه وأخريات أنفاسه مشهدٌ آخر من مشاهد الغياب، والإبحار في اليباب، وهي صورة فَقْدِ ” الذّئْبِ الأَبِ” الذي غاب في ظروفٍ مشابهةٍ، متورّطًا في ذاتِ الخطأ، وهذا مبعث إحساس الذئب الابن بالحسرة والندم، وتأنيب الذات، وجلد الضمير، فما كان ينبغي أن يدخل في صراع غير متكافئ، مع عدم وجود الزّاد الروحيّ الذي يُستمدّ من ” القَمَرِ ” مصدر الإشعاع الروحيّ، وقوّة النفس والوجدان:
مَا كَانَ يَنْبَغِي مُصَارَعَةُ الوَحْشِ الْمُحَنَّكِ.
أَخْطَأْتُ مِثْلَ أَبِي.
مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُهْمِلَ مَوَاعِيدَ القَمَرِ هَذَا الخَرِيفَ.
لماذا تأخَّرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟

ولينتبه القارئ منذ بداية المقطع الماضي أن السارد الراوي قد اختفى إلى غير رجعةٍ، لتحلّ محلّه الأنا / الذات الساردة المفضية، وهذا أنسب لطبيعة البوح والإفضاء التي تتميّز بها المقاطع التالية، حيث تتدفّق الذكريات والصور الذهنية الماضوية على نحو حميم، يعمّق إحساسنا مع الذئب بالفقد واليتم والوحشة والاغتراب الروحيّ، هذه الأحاسيس التي تتضافر كافة الصور التخييلية في المقاطع التالية في تشكيلها بأدق تفاصيلها موشّيةً حواشيها بالاسترجاعات التي تتداعى ذهنيا في حميمية آسرة دامعة، تفيض أسًى وحسرةً ووحشة وغربةً، حين يستحضر مَقُولاتِ الأمّ، ونصحها الحميم، وبثّها وتلقينها أبناءَها خبراتها ووصاياها، كما أشرنا إلى ذلك، أو حين تقول باكيَةً الإلفَ والزَّوْجَ الحبيب والأبَ الغائبَ الحاضر بمناقبه ورائع سجاياه، بوصفه الذئب ” المثال “:
بِئْسَ الذِّئَابُ بِلاَ إِبَاءٍ.
لَمْ أرَهُ يَوْمًا عَابِسًا..
ولَمْ يُخَلِّفْ يَوْمًا طَرِيدَةً..
ولكنَّ الأسَدَ أسَدٌ !

وتلعبُ ” الرِّيحُ ” في محكيّ الذئب الوجدانيّ، وترجيعه الذّاتيّ في هذه اللحظات دور الوسيط اللغويّ والإشاريّ المعروف لدى الذئاب عامةً، ويُحْسِنُ ذئبنا العيّاديُّ النبيل توظيفها، والتَّنْوِيعَ عليها، والإيماء إليها، والتلويح بها في هذا السياق كلَّ الإحسان، فهي التي “تَسُوقُ الغَمَامَ”، وهي التي ” تَلْهُو بِقِلاَعِ النَّمْلِ” من الضعاف المساكين، وهي دائمًا تُسِيءُ التوزيع، ولا تحسن تقسيم الثروات فقِسْمَتُهَا دائما ضِيزَى، فهي ” تبلّل الْجَدَاوِلَ” الصغيرة ” بِرَذَاذِ مَصَبِّ وَادِيهَا”، وهي التي ” تُلَمْلِمُ رِيحَ الأزْهَارِ ” حاملَةً رَسَائِلَ الشَّبَقِ والعِشْقِ والنُّهْمَةِ والشَّرَهِ “مِنْ بَيْنِ أفْخَاذِ الأَرَانِبِ ” إلى ” أُنُوفِ الثَّعَالِبِ والذُّكُورِ”، قسَمًا هي الريحُ، قسمًا هي الريح، ( أوَ لَيْسَتْْ الرِّيَاحُ لَوَاقِحَ؟ )، وبذلك تغدو الرياح معادلاً حسيًّا للأقدار، تحكي فِعْلَهَا بِهِ، وتَذَاؤُبَها معه ذات اليمين، وذات الشمال، فهي التي تَقْبِضُ وَتَبْسُطُ، وتُعْطِي وَتَمْنَعُ، وتُطْمِعُ وتُؤْيِسُ، وتُعِزّ وتُذِلُّ، وتَخْتَصُّ برحمتها من تشاء، وتأتي دائما بما لا تشتهي السُّفُنُ كما علّمنا شَاعِرٌ ذِئْبٌ ذاتَ قَصِيدٍ، وهذا حالها دائمًا مع البشر والذئاب، أو مع الذئاب البشر، والبشر الذئاب:
أَشَمُّهَا الرِّيحُ..
قَسَمًا هِيَ الرِّيحُ..
تَسُوقُ غَمَامَ الشَّمَالِ صَوْبَ هِضَابِ الجَنُوبِ..
وَتَلْهُو بِقِلاَعِ النَّمْلِ إلى حِينٍ..
أَشَمُّهَا الرِّيحُ..
قَسَمًا هِيَ الرِّيحُ..
تُبَلِّلُ الجَدَاوِلَ بِرَذَاذِ مَصَبِّ وَادِيهَا, عِنْدَ أَسْفَلِ الجَبَلِ البَعِيدِ..
وَتُلَمْلِمُ رِيحَ الأَزْهَارِ.
وَحَوَامِضَ نِدَاءِ الخُصُوبَةِ مِنْ بَيْنِ أفْخَاذِ الأَرَانِبِ..
سعوقا لأُنُوفِ الثَّعَالِبِ والذُّكُورِ.
هِيَ الرِّيحُ..
قَسَمًا هِيَ الرِّيحُ.

والمعروف من خصال الذئب في علاقته الطبيعية بالريح بوصفها وسيطًا إِدْرَاكِيًّا، ونَاقِلاً دلاليًّا يتعانق مع تلكم الصورة التي شكّلها الشاعر لعلاقة ذئبه بالريح، بعد أن حَمَّلَها رسالته، وخلع عليها من ذاته، وجعلها تتخلّق بين يديه كائنًا رامزًا، وإشارةً كاشفةً عن موقف الشاعر الذاتي والفكريّ من عوالمه ودُنَاه، من خلال هذا العالم البديل بشخوصه ووجوهه وأقنعته المستعارة، وطقوسه الشعائرية، ومفرداته وسائر كائناته التي تشكّل ملامح منظومته، فإذا هو يحلّ بها، ويتوحّد معها، مُفْضِيًا من خلالها بثّه ووَجْدَه.
ولْيَلْحَظ القارئ ما في هذا التكرير والترجيع اللحنيّ على هذا النحو التقطيعيّ من مشابهة لتقطيع أنفاس المحموم وتتابعها، وتردّد كلماته في حلقه، وهذا المنحى الأسلوبي، والنسق النغمي هو ما سيتبدّى لنا في أجلى صوره من خلال المقطع النشيجيّ الأخير، هذا الذي تتقاطع فيه أحاديثُ الذات، وهمهماتُ الوجدان، والصورُ الذهنية المتداعيةُ في مخيلة الذئب الجريح، فكأنها هذيانُ المحموم، أو أضغاثُ الأحلام، وأخلاطُ الرؤى، تتشكّل أمام ناظريه، وتُرَجَّعُ أصداؤُها في أذنيه في تتابع إيقاعي ونغميٍّ يَهْوِي بنا إلى قرارة النهاية، ونهاية القرار:
- لَوْ أُخْتٌ أَوْ شَقِيقٌ يَلْعَقُ جِرَاحِي.
- لِمَاذَا تَأَخَّرَ القَمَرُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟
- كَانَتْ أَحْلاَمُنَا الأَرْضَ والسَّمَاءَ..
والجَبَلُ يَفْرِدُ جَنَاحَيْهِ شَطْرَ الغَابِ.
تَعِبْتُ.
لا شَىْءَ أميّزُ رائحتَه.
غَيْرَ هَذَا البَخُورِ.
كَأَنِّي بِأَصْوَاتِ العَشِيرَةِ خَلْفَ الجَبَلِ..
كَأَنِّي بِأَصْوَاتِ الطُّبُولِ…
وَخَطْوٍ يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الجَبَلِ..
عَلاَمَ يَرْتَعِشُ جَسَدِي يَا تُرَى؟
وَعَلاَمَ مِثْلُ دَبِيبِ النَّمْلِ..
يَصَّاعَدُ مِنْ كُلِّ مَفَاصِلِي؟
لَمْ يَبْقَ في الوَقْتِ مُتَّسَعٌ هَذِهِ اللَّيْلَةَ…
أَهْمَلْتُ حِسَابَ مَوَاعِيدِ القَمَرِ.
سَأُغْمِضُ عَيْنَيَّ, عَلَّهُ يَأْتِي…
تَعِبْتُ. لَمْ يَبْقَ في الوَقْتِ مُتَّسَعٌ.
سَأَنَـامُ (8).

ويطّرح الذئبُ كل حذره المعهود، ويسلمُ للنوم أجفانه، فقد طال سهره وسُراه، وأَلَحَّ عليه نزفُ المواجع والمواجيد، وتناهشته الوحشة واستبدّت بفؤاده، حين عزّ الرفيق والصديق والشقيق، وشطّ المزار، ونأت الديار، واحلولكتْ الدُّنَا، وانبهمتْ المسالكُ والدّرُوبُ، وأفَلَتْ الأقمارُ مع الآفلين، وآنَ لِنَوْمٍ طَوِيلٍ أن يكحّل أجفانًا طالما أضناها التشوّفُ والترقّبُ وانتظارُ ما لا يجيء، ولكنها فيما يبدو إغماضة الحالم الذي عزّ عليه إدراك مراداته في يقظته، أو في واقعه الجريح، فإذا هو يرجوها في منامه أو في……
وبعدُ.. فلا تزعم هذه القراءة لنفسها تفسير النص أو تأوّله، فهذا أمر لا يطيقه إلا الراسخون في الشعر، مِمَّن يُكَاشَفُون بأمْرِ وَحْيِِهِ، وتتنَزّل عليهم تجلّيَّاتُهُ، وما نَحْنُ بتأويل ذلك من العالِمين، فالنصّ الأصيل حَمّالُ وُجُوهٍ، وثيابُه التنكُّريّةُ التي يتلوّن فيها كما تتلوّنُ في أثوابها الغول لا حَصْرَ لها، وأقنعتُه المموّهةُ أكثر من أن تُحْصَى، والزاعمُ لقومه أنه قد أُوتِيَ سِرَّ شَيْءٍ من ذلك مُدَّعٍ لنُبُوَّةِ الشِّعْرِ، لم تجتمع له في دعواه البينات، ولا خوارق العادات من المعجزات أو الكرامات، وإنما نحنُ مسترقون للسمع، نلقي أسماع القلوب لنجوى الشعراء، وهَسِيسَ مواجيدهم، وحَسِيسَ أفئدتهم وقلوبهم، وما نقول إلا ما استطعنا قبضه والإمساك به من تلك النجوى، قبل أن يصعقنا فيحجبنا عن السمع ذلك الشهاب الراصد.
مُصَفَّى مودّتي، وخالص مَحَبَّتِي لأَخِي وشقيق روحي على النَّوَى والبعادِ كمال العيّادي، ذلك الذئب القيرواني النبيل الودود.

* * *
- - - - - - - -
الهوامش:
1- مجمع الأمثال للميداني، المثل رقم 1204
2- المرجع السابق، المثل رقم 1350
3- السابق، المثل 994
4- لسان العرب: ذأب. والمتذائبة من الرياح التي تجيء من هاهنا مرة ومن هاهنا أخرى، وأصله من الذئب إذا حذر من وجه جاء من آخر.
5- يراجع موسوعة عالم الحيوان، دار الراتب الجامعية، بيروت، 2/8/10
6 – البيان والتبيين للجاحظ 1/ 86
7- العَرَار: البَهَار الذي يقال له عين البقر، وهو بَهَارُ البرّ، ويسمّى النَّرْجِسَ البرّيّ، وهو نبتٌ جعد له ريح طيبة، وله فقاحة صفراء تنبت أيام الربيع، يقال لها: العَرارة، وأما العَرْعَرُ فشجرٌ جبليّ عظيم لا يزالُ أخضر، ويُسَمَّى السَّرْوَ، وله ثمرٌ أمثال النبق يبدو أخضر، ثم يبيضّ، ثم يسودّ، حتى يكون كالحمم فيحلو ويؤكل، واحدته عرعرة.(لسان العرب: عرر، بهر) .
8- مرثية القمر الأخير.
http://www.doroob.com/?p=3520
د. محمد جاهين بدوي
gaheenbadawy@hotmail.com
بيشة – السعودية
2 محرم 1427هـ
1 فبراير 2006م

 

الرجوع