تركيب آخر لحياة وديع سعادة

 

2006

 

 

 

مرَّ ظلُّه على كائنات جديدة
لا أسماء لها ولا أشكال
لكنَّها وُلدتْ
هكذا سهواً
في نقطةٍ غريبة
بين الحقيقة والوهم

 

 


تركيبٌ آخر لحياة وديع سعادة

يأتي إليَّ أريجها من دون أن أمدَّ يدي
بمجرَّد نظرة تكون
وبنقرةٍ صغيرة على طاولتي تولد فراشاتٌ غريبة وتحوم عليها.
لا قَدَم بيننا بل عطرٌ يمشي
ليس بيننا كون، فقط هواءٌ أُشكّله كوناً جديداً
آخذُ زرّاً من سهوي وأُبكّلُ أعضاء
أبكّلُ أرضاً وشموساً وكواكب
أبكّلُ سهوات.
لا أقول "تعالَ"، فقط يمرُّ في بالي مجيء.
أرضٌ بلا مسافات
والسماء إذ تمطر فليست مشيئةَ غيومها، إنّها مشيئة بالي
والذين خلقوني تواروا والذين في بالي يولدون
وليس في كوني تفّاحة، ولا أفعى، ولا إله
أركّبُ، قطعةً قطعة، على مهلٍ، كوني
فراشاتُ بالٍ وأرضُ بالٍ وناسُ بال
كائناتٌ جديدة أُطْلقها في الساحات، وكائناتٌ أُلغيها
وأُغيّر وظائفَ الأعضاء، ووظائف حامليها.
أرضٌ بلا مسافات، وليس عليَّ أن تكون لي قَدَمٌ لأمشيها
عينٌ تجلب لي الأرضَ بالنظرة
وليس واجباً أن تكون لي يدٌ لأقطف زهراً. لا شيء واجبٌ عليَّ كي يكون لي كلُّ شيء.
ها إنَّ يدي تفكّك أصابعها، وقلبي يفكّك شرايينه، وعيني تفكّك حَدَقتها
أضعُ في يدي أصابعَِ بال، وفي قلبي شرايينَ بال، وفي عيني حَدَقةَ بال
وفي نهاري زمنَ بالٍ وعلى الأرض كائنات بالٍ جديدة
وإذا الرغبات عصتْ على البال، ألتقطُ كلَّ الرغبات بعدم الرغبة.
ليس النبع بيننا ولا المجرى، ولا مسافة بيني وبين البحر
يولد النبعُ منّي والبحرُ منّي، وليس عليَّ أن أجري لكي أصل
هناك هو هنا
والأرض الأخرى تمشي قبالتي ولا ألتفتُ إليها.
لم أكن أجري في نهر. كنتُ بمحاذاة الأنهار أنتظر مائي
أجلس على لا مكان، ولا يجلس معي زمن
وإذا جاء يومٌ قديم وجلس في يدي، أُعيده إلى أرضه القديمة.
رسمتُ لا مكاني وجلستُ. قعدتُ على خريطة بالي.
لا منعطفات ولا طرقات
وإذْ أُطلقُ عصافيري في الفضاء تبقى في قلبي
ذلك لأنّ الفضاءَ بالٌ والصوتَ بالٌ والمكانَ بال
ولأني لا أُنزّه الأيامَ في الوقت، بل في حديقة بالي.
يا عيني التي وحدها تشرق عليَّ، الشروق والغروب هما هنا تحت رمشي.
أُقيم في ظلّ إغماضةِ عينٍ وفي ظلّ انفتاحها، وليس في ظلّ الشموس البعيدة
ويا عشباً مولوداً من خطواتي أعيش تحت أوراقك
وتعيش معي أراضٍ ومجرَّات
وترقص مخلوقاتٌ وتغنّي.
واقفٌ هنا، حيث يعبر الجسرُ وليس الماشون عليه
يكفي أن أقف، لكي أصل.
يعبر الجسرُ بي ويعرف وجهتي، يعرف أن لا وجهة لي إلاّ الوقوف
المدى في عيني والأرض في قدمي
وإن احتجتُ إلى رفاق، هم تحت جفني
يتقلَّص الكونُ حتى يصير حدقتي
ويدي تطْلق خرافها إلى كون، مراعيه رؤية
يكفي أن تنظر حتّى تشبع
ويكفي ألاّ تنظر، لئلاّ تجوع.
لكنّي مشيتُ كثيراً حتّى صرتُ هنا. مشيت كثيراً حتّى وصلتُ إلى كون الوقوف
إلى الحياة التي بقَدَمٍ حرنة، ويأتي الكون إليها.
الأرض في قدمي والمدى في عيني، ما حاجتي إلى المشي؟
وقوفٌ، سكونٌ، صمتٌ، بهاء.
هل مرَّ ظلّي على شجرة؟ هل مرَّ ظلّي على هواء؟ ذلك أريجُ بالٍ يسبح، ذلك بخارُ سهوٍ يضوع
غيومي التي تمطر مائي
وأُوزّعُ منه في الساحات، على كائناتي الجديدة
على النظرات التي تصطفُّ مقاعدَ لأطفالي.
ها هو الكون يجلس أخيراً على حَجَرِ نظرتي
كوني الصغير الخفيف الذي يسعه حجر، وتحمله نظرة.
آتٍ من هناك، فارّاً، كي أستريح على حجر
آتٍ من الذي كان فسيحاً كي أجلس على نقطة
على شيء نحيل، لا هناك فيه ولا هنا.
آتٍ من مساحات، لكثرة ما كانت شاسعة لم أكن أرى شيئاً منها
إلى حَدَقةٍ صغيرة أعرفُ كلَّ سكّانها.
آتٍ من عيونٍ كثيرة
لكي أجلس في عيني.
 

 


يدٌ أخرى

الذي كانت له يدٌ بقبضةٍ وأصابع
وتريد أن تلتقط كلَّ الأشياء
له يدٌ أخرى الآن
ترفع مزهوَّةً
قبضةَ فراغها.
 

 


عينٌ أخرى

بالثقوب التي انبثقت من تيههِ
يرى،
عينُه الآن ثقبُ تيهٍ
وأفلاكٌ تدور في إغماضتها.

لم يكن يريد من عينه سوى
إغماضة
رموشُها دروبٌ للعابرين
وإذا انزلق أحدٌ
يسقط في حَدَقته.
عينٌ تحفظ أحياءه وأمواته
وهي مغمضة،
وإنْ هي في الماضي أرادت رؤية الكون فعلى جفنها اليوم
غبارُ كلّ الأكوان
غبارُ أمكنةٍ وأزمنة وقد غدتْ
نقطة
على جفنه.

فقط غبار
ولم يكن يريد سوى هذه النقطة
في عينه المغمضة.

 


كائناتٌ أخرى

من نسيمه العابر تولد كائنات
نسيميَّةٌ لا مكان لها
ولها الأحجام والأشكال كلُّها كي
تكون لها كلُّ الأمكنة.

الفضاء الذي روَّضَ نفسه بالفراغ
خلَقَ طيورَه،
والأرضُ التي حدَّقت طويلاً في يبابها حتى خلقتْ أشجارَها
تؤوي طيورَ فضائه
ريشاً لا يُرى
وأجنحةً لا تحتاج إلى هواء.

أرضٌ جديدة تدور في قلبه
وفي نسيمه عابرون جدد
لا تعرفهم دروبُ الرياح القديمة،
عابرون بلا شكل ولا ظِلّ
وإنْ أرادوا إقامة
ففي نفسه ثقوب
تكفي
لسكناهم النحيلة.

 


لثغٌ على الحافَّة

الآن
يبدأ لثغُه،
تأتأةٌ خارج الكلمات
والغابةُ التي ينظر إليها ويريد أن يقول لها شيئاً
تلملم أشجارها وتنأى
عن ذكرى ناسها الأوَّلين
وحيواناتها الأولى.

يتأتىء مقاطعَ لغةٍ ومقاطعَ مسافات
ويستعين بالفراغ الذي حواليه كي يتكّئ عليه
وبالعَصا التي قصَّبها في نومه
كي يمشي.

لثغٌ على الحافَّة
نقطةٌ نحيلةٌ فقط
كي يعبر
أو يسقط.

ويريد
أنْ يضع لغةً على الحافَّة
أنْ يضع أُذُناً
في النقطة.

 


تقريباً

تقريباً
اتَّكأَ
على نسمة
وأسبلَ بالَهُ على زمنٍ هوائيّ
مديد.

تقريباً
اتَّكأَ على خيال
يحوك قمصاناً للفراغ حتّى إذا
امتلأَ لا يبرد.

تقريباً على وشكِ
أن يقول شيئاً
على وشك أن ينظر إلى شيء.

تقريباً
على وشك أن يهجر البال والخيال
ويتّكئ
على عماه.

 


ذكرى هواء

لا يعرف من أين
في غياب الهواء
يأتي لهاثه،
ربّما هي ذكرى هواء
تمرُّ الآن في رئته.

الذكرى تمرُّ في الرئة أيضاً
واللهاثُ أحياناً ليس هواء
بل ذكرى
والداخلون والخارجون مع لهاثه ليسوا أهله ولا
مقيمين بل زوَّارٌ عابرون
ولا يُقيم في لهاثه بل
في عبورهم.

لا يعرف من أين يأتي لهاثه ولا أين يقيم
الهواءُ عَبَرهُ
وهو
عَبَرَ المقيمين فيه.
 

 


الرحلة

إليه فوراً
بلا نقلةٍ ولا رفّةٍ
كأنَّه ألغى الترابَ والشجرة والفضاء

يظنُّ أنَّه فيه
إنْ تحرَّك سيضيع
إنْ خطا
لن يصل.

 


لُغَتُه

لغتُه ذكرى لهاث
محميٌّ
في صمته.

 


اللغة

لا المنادي ينادي ولا المنادَى يصغي إنَّها الريح
تتحدَّث مع عبورها
ويرمي كلاماً في الريح
لا كي يقول شيئاً بل
كي تتفكَّك مفاصلُ الكلمات
وتندثر.

اللغةُ هي نثارها
الكلامُ هو
تبدُّدُ الصوت.

في اندثار الأحرف
في الريح
اللغة.
 

 


ضوءٌ آخر

على الجبل العالي أغمض عينيه
لا يريد ضوءاً قديماً مشى آلاف السنين كي يصل إليه
أغمض عينيه وانحدر
إلى الوادي
حيث الغور لا يكتسب ضوءه من الشمس بل
من تحديقِ حجرٍ في حجر.

 

 


قال

قال سيعيد تركيب حياته كي تُشْبه النسيم
وتتناسبَ مع الأشكال والأحجام كلّها،
رمى أعضاءً وأفكاراً وأهلاً وأمكنة
رمى جسداً وقمصاناً
كرَّ خيطان نفسه وبكَّلَ حياتَه
بِزِرِّ ريح
ودخلَ ثقوباً
دخلَ ظلاماً
وما عاد رأى كيف يعيد
حياكةَ نفسه.

 


في المكان حيث وقفتُ

في المكان الذي لا يعرف فيه أحدٌ أحداً، وحيث الجميع واقفٌ في انتظار أحدٍ وسوطُ العبور يضربه لكي يمشي
وقفتُ أنا أيضاً وقلتُ سأمشي، لكنّي أنتظر رفيقي.

في المكان الذي رسمتْه أساطيرُ الأرض الأولى،
في عيون الآلهة الحمراء ومشكّات مشاويهم وفي قرون الشياطين وشيّ أجساد المخلوقات، وقفتُ
في مكان البدء حيث الكون ينزل من براكين والناسُ تنبت من جمر
وقفتُ منتظراً رفيقي
يتصبَّب منّي بخارُ الخلق الأوَّل
ومموَّهاً بضباب الخلق الثاني
وقلتُ سأكمل الرحلة، سأمشي
لكني واقفٌ أنتظر وصولَ رفيق
واقفٌ أنتظرُ
وصولي.

 


كوكبٌ جديد

كوكب جديد يدور
في رأسه
وفيه مخلوقات غريبة
أجسادٌ كأنْ ليس فيها سوى نسيم
عيونٌ كسُحُبٍ ليست آتيةً من ماء
ولا ذاهبة إلى نهر
قلوبٌ كشطآن
تتمدَّد عليها أرواح ناعسة
كأنّما فلتتْ من عذابات تاريخ طويل
وجاءت
لتستريح.

كوكبٌ جديد في رأسه
ولا يعرف كيف يصاحبُ مخلوقاته الغريبة
ولا كيف يهجرها،
ينظر إليه مشغوفاً
ينظر إليه حائراً
ويسند رأسه على وسادة
وينام.
 

 


ارتدادات هواء

عوضَ أن يسمع الصوتَ يراه
آتياً، على عُكّاز، من أماكن بعيدة
تَعِباً
على كتفه حمولات كلام يريد أن يوزّعها على آذان
وعلى دروبه آذانٌ ترى
ولا تسمع.

عوضَ أن يرى الطريق يسمعها
مثلَ صدىً بعيد،
كأنَّه يمشي على ارتدادات هواء
وكأنَّ الأرض ليست تراباً
بل صوت.

ترابٌ يسمعه ولا يراه
وصوتٌ يراه ولا يسمعه
كأنَّما لا يسمع غير خرسه
ولا يرى غير عماه.

 


الوصول

يرمي قطعةً ويمشي خطوة
الحمولةُ الثقيلة تعيق سيره
تعيق وصولَه،
يرمي قِطَعاً عن كتفه
قِطَعاً من جسده
من قلبه من عينه من رأسه من ذاكرته
ويمشي،
كلَّما رمى قطعة مشى خطوة
وحين صار فارغاً تماماً
وَصَل.
 

 


لم يرَ

الذي أخذه إلى الطريق وَصَل قبله
والذي أخذه إلى الحافَّة تأخَّر عنه
يمشي وحده ولا يعرف
مَنْ أَخَذَه ومَن رماه
اجتازَ الطريقَ واجتازَ الحافَّة
ونَظَرَ من الطريق ونظر من الهاوية
ولم يرَ أحداً.

 


يطأ على ذكرى ظِلّ

يطأ على ذكرى ظِلّ
محاولاً جذْبَه خيالاً بعد خيال
كي يعيد حياةً ماتت إلى سريرها الأوَّل
وأرضاً أَفَلَتْ إلى بدء دورانها.

يجذب ظِلَّ حياته خيطاً خيطاً
محاولاً حياكة القميص الذي
ذات يوم
أراد أن يغطّي الحياةَ به
تحت الجسر، هناك، حين هجرها سكَّانُها
ونامت عاريةً في الجليد.

ظِلٌّ
يعيد حياكتَه قميصاً
يعيد حياكته حياةً
ويضع في القميص زرَّ وَرْد
حتّى إذا عاد رأى الحياة
يهديها وردة.

ظلٌّ
ينام هناك
على ترابٍ بعيد.
 

 


المسجَّى أمامي

الميت المسجَّى أمامي قطعةٌ منّي
رأيتُه ذات يوم صدفةً وقال: أنتَ قريبي
وأراه الآن بعد غياب طويل
مسجّىً على سريري.

قال: قريبي
وما كنتُ رأيتُه قبل القول ولا رأيتُه بَعده
لكنَّ قوله جعلني منه
وصرتُ مذ ذاك
قطعةً من غائب.

قال ومشى
واستمعتُ ومشيت
وكانت خطواتنا مشياً في غياب
أطأُ على غيابه ويطأ على غيابي
حتى التقينا:
قطعتين
من غياب
مسجَّاتين على سرير.

 


مِثْلَ ظنون

ظَنَّ الترابَ غيماً
سقطَ ويبسَ
محتفظاً من الفضاء بلهاثِ ناسٍ كانوا يعبرون
في صحارى حارقة.
ظنَّ الشجرَ أياديَ دُفنت تحت التراب
في حروب قديمة
والعشبَ كلماتٍ كان القتلى يريدون قولها وهم يحتضرون.
ظنَّ العصافير نظراتِ موتى
تبحث عن عيونها
والأحجارَ رؤوساً
تبحث عن أجسادها

وظنَّ
ما يظنُّه
ظنوناً.
 

 


مَزارعُ أخرى

قال ستمطر، ستمطر كثيراً
ومذ قال وهو جالسٌ ينتظر المطر
عينٌ على الفضاء
وعينٌ على التراب
حتَّى انفصلتْ عيناه
واحدةٌ في الأرض وأخرى في السماء ولم يعد يرى
لا غيماً ولا فضاءً
ولا تراباً.

قال سأزرع نباتاً جديداً
لا يحتاج إلى تراب ولا إلى ماء
دَخَلَ في خياله وزرعَ ظِلاًّ
ومذ ذاك وهو ينام
في ظِلّ خيال.
 

 


قال. . . أيضاً

مرَّةً أخرى قال
سأعيد تركيب حياتي
خَلَعَ يداً ووضع مكانها زهرة
خلع عيناً ووضع مكانها ثمرة
خلع قدماً ووضع مكانها شجرة
خلع فماً، أُذُناً، قلباً، رئة...
ومشى في حديقته الجديدة
يبحث عن نفسه
ولا يجدها.
 

 


في التراب

في الحديقة شيء مثل خيال
يمشي
يبحث عن شيء مثل خيال
سقطَ منه في التراب وهو يزرع بذوراً
وضاع.
في التراب خيال
ضاعَ من مُزارعٍ خيال
في ترابٍ
خيال.
 

 


يريد النمل أن يعبر

ضَعْهُ هنا على الحجر الذي كان رأساً
هذا الرأس كي يصير حجراً أيضاً،
وَضَعِ العينَ في ثقب الإبرة الذي كان أصلاً محجرَها
وخرجتْ منه لتحيك خيوطاً وتضعَ الكونَ في بيت عنكبوت،
ولا تأبهْ لليد بل ارمِها
في القمامة هناك
مع اليد الأولى التي جبلتْ تراباً،
وأخرجْ أذنيك من سَمَعِِهما
إلى الفضاء الأصمّ
وقدميك من الطريق،
يريد النملُ أن يعبر
ويغنّي
ولا يريد أن يسمعه
أو يراه
أو يلمسه
أحد.
 

 


أَقفلِ الباب أيضاً

أَقفلِ الباب أيضاً
قد تخرج أعضاءٌ منكَ وتضيع
تغافلك وتخرج إلى الشارع
وتصير أعضاءً لعابر مجهول،
فالأعضاء تلزمها أَقفالٌ
كي تبقى لصاحبها.

أَقفلِ الباب
وإلاّ تصير المجهولَ الذي
عَبَرَ على غفلةٍ أمام بيتك
واختفى.

 


... واغلقِِ الرموش

ولا تأخذِ العينَ في نزهة
فهي تضيع أيضاً ولا تعود تراك
تتبع عابرين مسرعين أو
تدخل في حدقة أعمى
تنبش ذكريات رؤاه التي
أنتَ لستَ فيها
فلا تكون في الحضور ولا في الغياب.

دعْ عينك في مكانها
واغلقِ الرموش
قد ترى عابرين كثيرين على جفنك
وكوناً بأكمله
في عماك.
 

 


الطريق

امحُ كذلك الظلَّ الذي رسمه عبورُك،
ظننتَ الطريقَ رسماً لدروب
والمشيَ خطواً على رسوم،
لكنَّ الطريق لم تكن خطوات
كانت الظلَّ
الممحوّ.

 


نوم المجرّات

مالَ على بالٍ، ونام
غَمَرَ أراضي بعيدة
في كواكب بعيدة
بزغتْ على وسادته وغنًّى لها
كي تغفو
غطَّى بلحافه مجرَّات باردة
مجرَّات جائعة تبكي على سريره
بحثَ لها عن نار
بحثَ لها عن طعام
في بهو مطبخ عتيق كان ذاكرتَه،
وما زال إلى الآن يهزُّ لمجرّاتٍ على زنده
علَّها تصمت
وتنام.

 


جَمْعُ نثار كلمة

أطلقَ كلماتٍ في الهواء وراح يلعب بها، مثل بالونات
يشدُّها ويرخيها... حتى انفجرتْ
واختلطتْ أحرفٌ بأحرف وضاعت أحرفٌ وما عاد يعرف
كيف يجمع الأحرفَ ولا كيف
ينطق بكلمة.

الكلامُ جَمْعُ نثارٍ، قال في قلبه
لَحْمُ أعضاءٍ لمجهولين ضائعين،
ومذ ذاك وهو يحاول
رتْقَ بالونات
ممزَّقة
في الهواء.
 

 


أين الحديقة؟ أين البيت؟

زرعَ ما كان يحلم به من أشجار وخضار
في حديقة شاسعة
وحين حان قطافها
خرجتْ من كتفه عوض اليد نسمةٌ وقالت:
أريد أن ألعب في الحديقة،
غادرَ الأشجارَ والخضار
وتركَ النسمةَ تلعب.

قال أَبني بيتاً
غُرَفاً تكون حدائق لأحلامي
بنى غرفاً كثيرة
وحين دخل ضاع
وما عاد يعرف أين البيت
ولا أين الحديقة.

 


ذاكرةُ طير

نَظَرَ إلى الفضاء واستلَّ ذاكرةَ طيرٍ ووضعَها في رأسه
جابَ بلداناً وقارَّات
حقولاً وتلالاً وودياناً وغابات
ووضَعَ بيضَهُ في أمكنة كثيرة
حطَّ فيها لحظةً
وما عاد.

نظر إلى الفضاء واستلَّ ذاكرةَ طيرٍ مهاجر
وكان كلَّ مساء
يأوي الطيرُ إلى بيته وينام في سريره
ويبقى هو
يطير في الفضاء.

 


خطوطٌ أخرى

ارسمْ نفسك نهراً، وَسِلْ
شيءٌ منك لعشب الحافَّة، شيء للحصى، شيء للبحر وشيء للبخار
سِلْ مع خطوط رسمكَ للماء
مائك الذي حاد عن الطوفان ولا سفينة له ولا نوح
الماءِ الذي شرد
وانتظرَ رسمَكَ
كي يعرف مجراه،
ارسمْه
وامنحِ العشبَ خطوطاً منه
ربَّما على الحافَّة عشب كان يرغب أن يكون كائناً آخر
وامنحْ خطوطاً للحصى
قد تكون للحصى رغبةٌ أن يمشي
وخطوطاً للبحر
قد تكون له رغبةٌ في أمواج جديدة
وخطوطاً للبخار
ربَّما بخاركَ يريد أن يعود إليك
ولا يعرف الطريق.
 

 


ولا تنسَ الشجرة الصغيرة

ولا تنسَ شجرة صغيرة
زرعتَها قبل أن تصير ماءً،
لقِّحْها بمائك الآخر
علَّها هي أيضاً تريد أن تصير كائناً آخر
علَّها تريد نسلاً غير نسل الثمرة الأولى، غير النسل المعلَّق على الغصون
لقِّحها بمائك الراكض
علَّها تريد عوض الثمار أطفالاً يركضون
ويلعبون حولها.

للأشجار أيضاً رغبة في المشي والسفر
ولها رغبةُ الأمَّهات في أطفال
لا يموتون في مكانهم،
قَبِّلْ جذورَ الشجر بمائك الآخر
ودعْها تخرج من التراب
وتمشي.
 

 


سَعَلَ ومضى

سَعَلَ ومضى
وجرى سعالُه وراءه
حاملاً تاريخاً من الدخان
تاريخاً من هواءٍ كان يختاره
هو
لحياته.

جرى سعالُه وراءه كي يذكّره
بصمتِ أنفاسٍ أخرى كانت تخرج مع سعاله
وكي يقول له
إنَّ لثغاً ما خرج من ذاك الصمت
لا يعرف ما هو
لثغٌ خرج هكذا فجأةً من أنفاسٍ رحلتْ
فما عاد نَفَساً
ولا صار كلمة.

جرى سعاله يبحث عنه
لكنه سَعَلَ
وغاب.

 


لا في التراب ولا في مناقيد الطيور

عرفتْه الطيورُ من عينيه
اللتين لا يزال يعيش فيهما نمل،
قال سأعيد تركيب حياتي ولكن
ظَلَّ نملٌ يدبُّ فيها
تعرفه العصافير جيّداً حين كانت تبحث عن طعام في حديقته.

أراد أن يخرج من تراب ويشكّلَ نفسَه هواءً
طار قسمٌ منه
وقسمٌ ظَلَّ في التراب
قسمٌ علا ولم يعد يراه
وقسمٌ غاص ولم يعد يجده،
وحين أراد استعادة أعضائه القديمة كانت تناثرت
وما عاد رأى نملاً في التراب
ولا نملاً في عينيه
ولا في مناقيد الطيور.

 


كان هناك

صَعَدَ عالياً على نسيان
وحين مرَّ طيفٌ قديم
انزلقَ على ذكرى وعادَ
إلى الهاوية.

كانت السلالم كلُّها من صُنْع غير راغبين في عُلُوّ
ومن صُنع ناسين كيف يحرّكون أقدامهم
وكان هو قاعداً معهم
صامتاً مثلهم
بلا حكاية ولا ذكرى
والزمن يمرُّ مثل ذبابة عابرة
لا يلتفت إليها أحد.

 


حيرة اليد

يفتح يده ويرى قوافل مشاة
تعبر في عروقها،
إلى أين يذهبون؟
إلى قلبه؟
أم إلى الجدران والأبواب حين يلمسها؟

هل
إذا لمس الأشياء
غادره إليها الساكنون في عروقه؟
لا يعرف
ويحار
هل يلمس شيئاً
أم يبقي يده
في الفراغ؟

 


حالات الآخر

أحاول أن أُسبل جناحاً مكانَ يدٍ غادرتْ، فأُسبل ذكرى يد
أُسبلُ ما تبقَّى في مكان اليد، ثغرةً في كتف، هوَّةً في العظام
أُسبلُ هوَّة في العظام وأطير
كوطواط
غائصاً أكثر فأكثر
في عتمة عظامي.

أُسبل ذكرى نظرة
مكانَ عينٍ غادرتْ
ذكرى مكان
مكانَ مكانٍ غادرَ
وأرى كائناتي شاردةً في براري شاسعة
لا تصل النظرةُ إلى حوافرها البعيدة وأناديها: تعالي
تعالي يا كائناتي
كوَّنتُ براريك الشاسعة من نقطة صغيرة
عودي إلى النقطة الصغيرة التي كانت
في قلبي.

أُسبلُ ذكرى يد وذكرى عين وذكرى مكان
أُسبل شطآناً للغرقى الآتين من بحارٍ تركت أسماكُها بعضَ عظامهم
أُسبل للحياة الأخرى للغرقى مكاناً على الحصى
الحصى الأبيض حيث كان مكانهم
حيث كانت حياتهم وضحكتهم وملمس أقدامهم الناعمة قبل أن تأخذهم البحار
أُسبلُ للمشدوهين بالفضاء حجراً على الأرض
للساعين وراء نار الجبل خيمةً لمبيتهم
وللمأخوذين بالنجمة الغريبة أُسبل ضوءاً خفيفاً من أجسادهم
وظلاًّ
كي يستريحوا.

يخرج الموتى منّي
وكذا الأحياء
ويرتطم بعضهم ببعض ولا يعود يعرف الحيُّ أنَّه حيّ
ولا الميت أنَّه ميت.
يدخلُ الموتى بي
وكذا الأحياء
ويختلط بعضهم ببعض ولا أعود أعرف أحيائي من أمواتي
ولا إذا أنا حيٌّ أو ميت.
يختلط الموتى والأحياء بي وأرتبكُ
باحثاً عن مقاعد لهم
وعن صحون
ولا أعرف كم عددهم وماذا يأكلون.
فيَّ ضيوفٌ كثيرون
من التاريخ كلّه
ولا أعرف كيف أكرّمهم على مائدتي،
بيدٍ غائبةٍ كيف أقدّم طعاماً؟
وكيف أرى ضيوفاً بعينٍ غائبة
وكيف أُجلسُ أحداً
على مكانٍ غائب؟

إنّي في وليمة
دعا الضيوفَ إليها شخصٌ آخر على الأرجح
وعلى الأرجح صرتُ ذاك الآخر الذي يسبل فراغاً
ويلقّمُ فراغاً لفراغ
يسبل شطآناً وأحجاراً وجبالاً ونجوماً وناراً وظلالاً
لم يرها
ولم يقعد عليها
سوى الفراغ.

 


أغنية الحافَّة

وَضَعَ قدمه على النقطة الأخيرة للحافَّة وراح يغنّي
لنسمة العدم الأولى التي ستمرُّ على جسده
وللفضاء الذي كان فارغاً
وسيمتلئ به الآن.

وَطَأَ على النقطة الأخيرة وراح يغنّي:
في الفجر تطلع الشمس وفي المغيب تغيب
والسنةُ فصولٌ أربعة
فيا للحياة الجميلة،
النهارُ ضوءٌ إنْ لم تكن غيوم
والليل عتمة
فيا للحياة الجميلة،
وللناس بيوت
والساكنون فيها مهما مشوا
لا يصلون إلى الباب
فيا للبيوت الجميلة.

وَضَعَ قدمه على الحافَّة وغنّى لمِزق ثوبه
التي لمح فيها ذات يوم ابتسامةً للفجر
وثغراً كاملاً للغروب
ولحياته التي رآها مثل حريق
شبَّ فجأةً في نزهة.

وَضَعَ قدمه على النقطة الأخيرة للحافَّة وراح يغنّي
للخطوة التالية.
 


***

 


لم يكن هو الذي مَرَّ
ولا ظلُّه
على كائنات جديدة
فقط كانا واقفين
في نقطة غريبة
بلا كائنات