|
تصريحات الرئيس جمال عبد الناصرالى مجلة آخر ساعة عن العدوان الثلاثى٥/١٢/١٩٥٦ا تصريحات الرئيس جمال عبد الناصر إلى مجلة آخر ساعة عن العدوان الثلاثى٥/١٢/١٩٥٦
إن العمليات العسكرية التى بدأت فى سيناء مساء ٢٩ أكتوبر لها مقدمة صغيرة، أحب أن أمر بها قبل أن أدخل إلى الموضوع.. مقدمة صغيرة.. مقدمة سياسية شهدتها مدينة نيويورك - مقر الأمم المتحدة - فى مطلع شهر أكتوبر نفسه الذى شهدت الأيام الأخيرة منه عمليات سيناء.
فى أكتوبر بحث مجلس الأمن مشكلة قناة السويس، وانتهى فيها إلى مبادئ ستة تستهدف الوصول إلى حل سلمى لهذه المشكلة، رأى أن تدار حولها مفاوضات تكفل للعالم المهتم بالملاحة فى قناة السويس كل ما يدعوه إلى الاطمئنان على حرية هذه الملاحة وعلى كفايتها.
وقبل أن تنتهى جلسات مجلس الأمن، وبعد أن انتهت جلسات مجلس الأمن؛ كانت هناك اجتماعات تعقد فى مكتب "المسيو داج همرشولد" - السكرتير العام للأمم المتحدة - ويشترك فيها الدكتور محمود فوزى - وزير خارجية مصر- و"المستر سلوين لويد" - وزير خارجية بريطانيا - و"المسيو كريستيان بينو" وزير خارجية فرنسا.
ولم تكن هذه الاجتماعات التى تعقد فى مكتب السكرتير العام للأمم المتحدة، وبحضوره، هى المفاوضات التى دعا إليها مجلس الأمن، وإنما كانت من غير شك الاتصالات الاستكشافية التى لابد أن تسبقها. وانتهت اجتماعات نيويورك إلى تفاهم على بعض النقاط، ثم افترق المجتمعون على أن يلتقوا مرة ثانية قريبة ليواصلوا البحث، ويتموا تنسيق وجهات النظر، وتركوا "للمسيو داج همرشولد" مهمة تحديد موعد الاجتماع المقبل.
ولم تمض أيام حتى تلقت الحكومة المصرية رسالة من السكرتير العام للأمم المتحدة يقترح فيها مكان الاجتماع الجديد وزمانه، وكان المكان هو جنيف، وكان الزمان هو يوم الاثنين ٢٩ أكتوبر.
وبعثت مصر من فورها إلى السكرتير العام للأمم المتحدة تخطره بموافقتها على المكان والزمان اللذين اختيرا للاجتماع، هذا بينما تلكأت الحكومة البريطانية، والحكومة الفرنسية معها.
ثم بدأت الأخبار تجىء من لندن وباريس بأن الأمر ينطوى على أكثر من تلكؤ، وبات واضحاً أن لندن وباريس تحاولان انتحال المعاذير حتى تتهربا من الموعد المضروب يوم ٢٩ أكتوبر. لقد كانت الحكومتان - حكومتا لندن وباريس - قد ارتبطتا بموعد آخر فى نفس يوم ٢٩ أكتوبر فى صحراء سيناء وليس فى جنيف!
ولم يكن الاجتماع مع مصر وإنما كان مع إسرائيل، ولم يكن لإيجاد حل لمشكلة قناة السويس، وإنما كان القصد من الاجتماع الثلاثى الجديد هو تدمير مصر تدميراً كاملاً شاملاً.. أجل تدميراً كاملاً شاملاً.
وتلك هى الحقيقة التى لا تستطيع أطراف المؤامرة الثلاثية الآن إنكارها أو التنصل من تبعاتها، وهى الحقيقة التى لا يستطيع هؤلاء الأطراف الثلاثة أن ينتحلوا لها عذراً من إقدام الحكومة المصرية على تأميم قناة السويس.
لقد أوضحت المؤامرة - طريقتها، وخطتها، والأطراف المشتركة فى تنفيذها - أن الأمر لم يكن أمر قناة تمر فى مصر، وإنما كان الأمر أمر مصر كلها.. مصر نفسها بكل ما تمثله اليوم، وكل ما تنادى به، وكل ما كرست حياتها من أجله؛ لأنه دورها الذى لامناص لها من القيام به.
إن فرنسا مثلاً لم تحاول أن تخفى أن حماستها فى قتال مصر كانت دفاعاً عن موقفها اليائس فى الجزائر، وبريطانيا مثلاً لم تحاول أن تخفى أن فى الجذور الدفينة لعملها ضد مصر؛ أن قوة مصر العسكرية - كما قال المسئولون الإنجليز فى مجلس العموم البريطانى - أصبحت خطراً يهدد بريطانيا.
وإذن فالمؤامرة لم تكن تقصد إيجاد حل لمشكلة قناة السويس، ولو كان ذلك هو الهدف لتم اجتماع جنيف، وإنما كان القصد أبعد من ذلك، وأعمق، وأشمل، الأمر أمر بلد يريد أن يستقل، ولكن هل يرضى له الاستعمار أن يستقل؟.. وكيف يستقل؟
الأمر أمر بلد يريد أن يصبح قوياً، ولكن هل يرضى له الاستعمار أن يقوى؟ وكيف يقوى؟
الأمر أمر بلد كسر احتكار السلاح، ولكن هل يرضى له الاستعمار أن يكسر احتكار السلاح؟.. وكيف يسمح له؟
الأمر أمر بلد يدعو للحرية، يدعو بها لنفسه وللآخرين، ولكن هل يتركه الاستعمار يدعو للحرية؟.. وكيف يتركه؟
الأمر أمر بلد يريد أن يحرر اقتصاده، ولكن هل يرضى الاستعمار أن يتحرر اقتصاده؟.. وكيف يتحرر؟
الأمر أمر القومية العربية التى أصبحت عقيدة منطقة بأسرها، ولكن...
لقد كانت هذه هى الأسباب الحقيقية لاجتماع أطراف المؤامرة الثلاثية فى سيناء، كانت تلك تمهيداً للمقدمة للعمليات العسكرية التى بدأت مساء ٢٩ أكتوبر.
منذ اللحظة الأولى التى تلقينا فيها التقارير عن الهجوم الإسرائيلى، أدركنا أننا نواجه هجوماً عسكرياً حقيقياً وليس مجرد حادثة من الحوادث التى كثر تكرارها على الجنود. وكانت الأنباء الأولى عن هذا الهجوم تبين أن اتجاهه كان الطريق الجنوبى مـن سيناء، وهو طريق لم يكن الإسرائيليون يستطيعون منه إلحاق أى خسائر بأفرادنا، هذا إذا كان الأمر مجرد غارة من الغارات التى يشنونها للانتقام؛ ذلك أن كل مراكزنا على الطريق الجنوبى خالية تماماً، ليس فيها إلا نقط حدود لمجرد الإنذار والتبليغ.
ولقد كانت أوضاعنا الدفاعية فى ذلك اليوم كما يلى:
- قطاع غزة: كان الحرس الوطنى يتحمل مسئولية الدفاع عنه من غير عتاد ثقيل، مع الطلائع الأولى لجيش فلسطين، فقد كنا ندرك دائماً أنه من الناحية العسكرية البحتة يسهل عزل هذا القطاع عن باقى الجبهة.
- خط الحدود المصرية ـ الفلسطينية: وكانت هناك ست كتائب من القوات المسلحة النظامية تتولى الدفاع عنه على النحو التالى:
١ - رفح: ويتولى الدفاع عنها كتيبتان من المشاة بأسلحتهما.
٢ - العريش: ويتولى الدفاع عنها كتيبتان من المشاة بأسلحتهما المعاونة، ومنها أُرطة من دبابات "الشيرمان" الأمريكية، وكذلك كانت العريش مقر منطقة الشئون الإدارية.
٣ - أبو عجيلة: ويتولى الدفاع عنها كتيبتان من المشاة بأسلحتهما المعاونة.
وكانت كل قوة الجيش الضاربة تعسكر غرب القناة، وكان تقديرنا العام للموقف الذى بنى على أساسه توزيع قواتنا فى الجبهة، هو كما يلى:
- إذا كان هدف إسرائيل هو القيام بحوادث أو غارات؛ فإن اتجاهها يجب أن يكون إما إلى قطاع غزة، وإما إلى مواقعنا المتقدمة على الحدود؛ فهناك يمكن إلحاق خسائر بنا فى الأفراد تخدم الغرض المقصود من القيام بالحوادث والغارات.
- أما إذا كان هدف إسرائيل هو القيام بهجوم عام على مصر؛ فإن الطريق الذى يجب أن تأخذه قواتهم هو الطريق الجنوبى؛ حتى تستطيع قواتهم القيام بحركة التفاف حول الطريق الأوسط المؤدى إلى أبو عجيلة. وإذن فيجب أن تبقى قواتنا بعيدة إلى الوراء، حتى تكون فى الموقف الذى يسمح لها باختيار الوضع الملائم لها، واختيار مكان المعركة.
كان هذا هو التقدير العام للموقف، وضع منذ أغسطس سنة ١٩٥٥، وظل سارياً حتى يوم ٢٩ أكتوبر سنة ١٩٥٦، يوم بدأت المؤامرة.
وأترك الآن قواتنا ومواقعنا، وأنتقل إلى قوات العدو ومواقعه، وحين أتكلم الآن عن قوات العدو ومواقعه، فأنا لا أعتمد فى هذا على الاستنتاج ولا على الظن؛ وإنما أفعل ذلك معتمداً على الحقائق المستمدة من وثائق العدو ذاتها.
لقد أسقطت مدفعية الأردن طائرة "الكولونيل إساف سمحونى" الذى كان مكلفاً بقيادة عمليات سيناء، كانت أوراق الضابط الإسرائيلى بقرب جثته مع حطام الطائرة، ومن هذه الأوراق، وعلى أساس ما فيها، مؤيداً بما رأيناه أمامنا فعلاً من تحركات وعمليات؛ أبنى كلامى.
لقد كانت الخطة الإسرائيلية - أو بمعنى أدق دور إسرائيل فى المؤامرة الكبرى - كما يلى، طبقاً لنصوص الوثائق، وبينها أوامر العمليات الفعلية التى كانت مع جثة "إساف سمحونى":
١ ـ اللواء رقم ٢٠٢: ومهمته احتلال منطقة ممر ميتلا، وعملياته لتحقيق هذا الهدف هى:
- تهبط الكتيبة رقم ٨٩٠ بالجو عند سدر الحيطان.
- تتحرك قوات اللواء من الكونتيلا، ثم إلى نحل، ثم إلى سدر الحيطان، ثم تتجه إلى ممر ميتلا.
٢ ـ المجموعة رقم ٣٨ المكونة مما يلى:
- اللواء السابع المدرع.
- اللواء الرابع المشاة.
- اللواء السابع والثلاثون مشاة.
ومهمتها التقدم رأساً إلى الإسماعيلية، بعد احتلال أبو عجيلة.
٣ ـ المجموعة رقم ٧٧ المكونة مما يلى:
- اللواء السابع والعشرون المدرع.
- اللواء الأول المشاة.
- اللواء الحادى عشر مشاة.
- اللواء الثانى عشر مشاة.
وكانت مهمتها أن تحتل رفح والعريش، وبذلك يتم عزل قطاع غـزة، ثم يتم احتلاله.
٤ ـ اللواء التاسع:
وكانت مهمته أن يتحرك من إيلات إلى شرم الشيخ لاحتلالها.
وكان معنى هذه الخطة أن القوات الإسرائيلية تتحرك على الجبهة الأصلية فى ثلاثة محاور:
المحور الأول: لواء من المشاة وكتيبة من الهابطين بالباراشوت على ممر ميتلا.
المحور الثانى: لواء مدرع مع لواءين من المشاة على أبو عجيلة ثم الإسماعيلية.
المحور الثالث: لواء مدرع مع ثلاثة ألوية من المشاة على رفح والعريش وغزة.
ولم تكن لنا مواقع فى مواجهة محور الحركة الإسرائيلى الأول. أما المحور الثانى فلم يكن لنا أمامه إلا كتيبتان فى مواقع أبو عجيلة. وفى المحور الثالث كان لنا كتيبتان من المشاة مع الأسلحة المعاونة فى رفح، وكتيبتان من المشاة، وأرطة دبابات "شيرمان" مع الأسلحة المعاونة فى العريش.
وبدأت العمليات يوم ٢٩ أكتوبر مع غروب الشمس. وكانت الحوادث تجرى بسرعة مساء ٢٩ أكتوبر؛ تحركت القوات الإسرائيلية من إيلات إلى الكونتيلا إلى تمد من غير مقاومة - بالطبع - لأنه لم تكن لنا قوات فيها؛ حيث أن وضع أى قوات فى هذه المنطقة يعرضها للعزل، وفى نفس الوقت هبطت كتيبة المظلات عند مضيق سدر الحيطان، إنه هجوم عام!
وتتبعنا أخبار العالم نحاول أن نعرف رد الفعل، خصوصاً فى لندن وباريس، ومن لندن جاء على لسان المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية البريطانية، أن الحكومة البريطانية لا تنوى استغلال القتال الذى نشب فجأة فى سيناء لصالحها.
وإذن فتوضع خطتنا لمواجهته موضع التنفيذ، وعلى الفور كان هيكل خطتنا هو:
دفاع على الحدود، وحركة فى الداخل؛ دفاع على الحدود يشغل العدو ويعوق تقدمه، وحركة فى الداخل تتجه إلى مراكز حشد تتحرك منها قواتنا الضاربة لتواجه العدو فى المعركة الفاصلة، فى المكان والزمان اللذين يلائمانها ويحققان لها أوفر عوامل النصر، وكان تقديرنا أن يتم ذلك يوم ٥ أو ٦ من نوفمبر.
وهكذا فى نفس الليلة مساء ٢٩ أكتوبر قامت قواتنا بالتحركات التالية:
- لواء من المشاة يتحرك إلى ممر ميتلا فى مواجهة سدر الحيطان؛ ليمنع تحرك قوات العدو غرب سدر الحيطان.
- كتيبة مشاة تتحرك على الطريق الساحلى إلى العريش لتعزيز دفاعها.
- قواتنا الرئيسية الضاربة، مجموعتان كاملتان من المدرعات قوامهما دبابات "ت ٣٤" التشيكية ومدافع "س.ى ١٠٠" الروسية، مع قوات المشاة الرئيسية، وكان اتجاه هذه القوة الرئيسية إلى منطقة بير روض سالم التى اختيرت مكاناً للحشد. وقبل منتصف الليل كانت هذه القوة تعبر قناة السويس إلى الشرق، متجهة بأقصى سرعتها إلى المكان المحدد لها.
وحتى هذا الوقت لم يكن قد حدث قتال بيننا وبين العدو، ولا دارت اشتباكات. وطلع صباح ٣٠ أكتوبر وبدأت الاشتباكات، وكانت مقاتلات سلاح الطيران المصرى طليعة المعركة مع أول ضوء فى الفجر، وكان تركيزها الأول على كتيبة المظلات فى سدر الحيطان، وعلَى اللواء المتقدم لتعزيزها على الطريق الجنوبى. وقد استطاعت هذه المقاتلات فعلاً أن تعوق تقدم هذا اللواء إلى نخل، التى كانت منتصف طريقه إلى تعزيز جنود المظلات.
أما النشاط الأرضى فى ذلك اليوم فكان كله أو معظمه تحركات على الطريق الأوسط إلى منطقة التجمع فى بير روض سالم.
وبدأ العدو نشاطه فى الصباح على القسيّمة، وكانت لنا فى القسيمة كتيبة استطلاع تستعمل عربات "الجيب"، وكان عملها الأساسى تأخير تقدم العدو، والانسحاب أمامه لتنضم إلى قواتها الأصلية فى أبو عجيلة، وتستعمل فى انسحابها طريق الأسفلت بين القسيمة وأبو عجيلة. واستطاعت هذه الكتيبة أن تشغل العدو وتضيع عليه النهار بطوله، فلم يتأهب لهجومه على أبو عجيلة إلا عند الليل، ولم تستطيع هجمات الليل ضد أبو عجيلة أن تؤثر فى مقاومتها.
وأعود الآن فأذكر أن المعركة فى أبو عجيلة كانت تدور بين لواء مدرع إسرائيلى ولواء من المشاة، ضد كتيبتين من المشاة مع أسلحة معاونة. ومع ذلك - أعود فأقول ثانية - لم تستطع هذه القوات المهاجمة أن تتغلب على مقاومة القوات المصرية المدافعة عن أبو عجيلة، التى كان العدو يريد أن يقضى بأسرع ما يمكن على مواقعها الدفاعية، وبهذا يندفع غرباً إلى الإسماعيلية فى عملية سريعة خاطفة، ومن هنا يتبين لماذا حشد العدو ضد هذا الموقع الذى يتكون من كتيبتين من المشاة، لواء مدرع ولواءين من المشاة.
ولم يضع العدو وقتاً فى سبيل تحقيق غرضه؛ وفى ليلة ٣٠،٣١ بدأ هجوم ليلى ضد أبو عجيلة، ولم يستطع العدو أن يحقق أى نجاح، وفشل الهجوم. وطلع صباح ٣١ أكتوبر لينسحب العدو بعيداً عن نيران أبو عجيلة، ولكنه انسحب لينظم نفسه ويبدأ هجوماً نهارياً ضد الموقع، مع تمهيد من طيرانه للهجوم بغارات مستمرة ضد مواقعنا فى أبو عجيلة. واستطاعت قوات أبو عجيلة أن تسقط ثمانى طائرات، وفشل هجوم العدو بعد أن تكبد خسائر كبيرة فى الدبابات؛ أربعين دبابة تركت فى أرض المعركة، بالإضافة إلى خسائره الكبيرة فى الأفراد.
وانتهى نهار ٣١ بدون أن يحقق العدو أى نجاح، ولكنه انسحب منهزماً بعد أن تكبد خسائر فادحة. وكان النشاط على الأرض فى نفس اليوم - فيما عدا هذا الذى ذكرته واستطردت فيه عن أبو عجيلة - هو:
- استمرار حشد القوة الضاربة المدرعة فى منطقة بير روض سالم؛ تمهيداً ليوم المعركة الفاصلة.
- تقدم طابور مدرع خفيف عبر الصحراء عن طريق وادى المليز، فانقض من الناحية الأخرى على الفرقة الهابطة بالباراشوت؛ حتى يمنع تعزيزها ويشارك فى إبادتها واحتلال موقعها.
وأترك العمليات العسكرية هنا قليلاً إلى العمليات السياسية التى جرت فى نفس اليوم.. يوم ٣٠ أكتوبر. وينبغى هنا أن أقول على الفور: إن الإنذار البريطانى كان مفاجأة لنا، كنا نحسب حساب عمل عدائى ضد مصر من بريطانيا وفرنسا، ولكن كنا نستبعد أن تشترك بريطانيا مع إسرائيل فى هذا العمل. وكان احتمال تدخل الإنجليز فى معركة سيناء بشكل أو بآخر قائماً فى حسابنا، ولكنه لم يكن الاحتمال الغالب، وكانت نسبته - إذا كان لابد أن أستعمل الأرقام - هى خمسون فى المائة فقط، ولما جاء الإنذار ارتفع احتمال التدخل العسكرى البريطانى ضدنا إلى سبعين فى المائة، ولكن - مرة أخرى - لم أكن واثقاً تماماً من أن هذا الاحتمال سهل الوقوع، وكنت أحاول أن أقدر الموقف من الناحية البريطانية، بل وكنت أحاول أن أضع نفسى مكان رئيس وزراء بريطانيا، وأسأل نفسى: إذا كنت مكانه فكيف أتصرف؟
وكان اعتقادى أن أى عملية عسكرية تقدم عليها بريطانيا ضدنا - وخصوصاً ومن باب أولى إذا كانت تقدم عليها متحالفة مع فرنسا وإسرائيل - لن تكون لها نتيجة بالنسبة لبريطانيا إلا كارثة محققة، بصرف النظر عن النتيجة العسكرية البحتة التى يمكن أن يسفر عنها القتال.
إن بريطانيا لها مصالح هائلة فى الشرق الأوسط، وحماقة عسكرية من هذا النوع ستقضى على هذه المصالح. وليس معنى هذا أنى كنت أعتقد أن الحديث عن استعمال القوة ضد مصر" تهويش"، وإنما معناه أننى كنت استبعد أن يلجأ مسئول بريطانى إلى مثل هذه الخطوة. وعلى أى حال فلقد ارتفعت نسبة إقدام بريطانيا - كما قلت - على عمل عسكرى ضدنا بعد هذا الإنذار إلى سبعين فى المائة.
ومع ذلك - أقولها ثانية - ظلت فى تصورى للأمر بقية من شك، كنت أتمثل مصالح بريطانيا فى المنطقة؛ البترول، أنابيب البترول، التجارة، الثقافة، النفوذ السياسى، ثم فى نهاية القائمة قناة السويس.. الشريان الحيوى لبريطانيا، إنها سوف تتعطل دون شك.
وفوق هذا فإن العمل العسكرى ضد مصر لن يكون سهلاً كعمل عسكرى، ولقد رفضنا الإنذار البريطانى، وسبعون فى المائة من تصورى أنه مقدمة لعمل عسكرى، ولكن ثلاثين فى المائة من تصورى كانت تتخيله حركة سياسة يراد بها تعقيد عما هو معقد فعلاً.
|