المعلوماتية في الاتصال البيداغوجي
بين ضرورات التعليم ومحاذير الأنسنة
( 17/05/2006)
برز الاهتمام بالمعلوماتية في التربية والتعليم ـ من حيث هي تكنولوجيا التربية ـ بشكل ملفت للانتباه في أواخر القرن العشرين، وازداد بوتيرة سريعة بوقع سرعتها في التغير في بدايات هذا القرن بشكل مثير وهي مستمرة تدفع الأنظمة التربوية ـ بفعل عقدة السبق ـ إلى التسابق في استيعاب تطورات التكنولوجيا وتوظيف المعلوماتية في جميع المجالات التربوية في المحتويات والإدارة والاتصال البيداغوجي والتجهيزات والوسائل والتنظيمات والتقويم والتوجيه ...الخ . كل ذلك من أجل رفع مستوى التعليم من مستوى تحقيق الحاجات إلى مستوى تحقيق المتعة في إشباع الحاجات التعليمية وإلى مستوى تهيئة المؤسسات التربوية لما يعتقد أنها تحديات العولمة المحتومة لاستيعاب مقتضيات مجتمعات المعرفة وهي المجتمعات التي يفترض أن البشرية على أبوابها إن لم تكن مجتمعات ما بعد الصناعة قد بدأت منذ زمن في إنتاج المجتمعات والمؤسسات التربوية الافتراضية . وعلى الرغم من إجماع الكل بأن ذلك تعاطيا تربويا إيجابيا ووعي بضرورة مواكبة المؤسسات التعليمية للتطورات التكنولوجية وإكساب الأجيال خبرة المستقبل وهي خبرة أساسية والتي بدونها يفقد الجيل العيش في حاضره ويتخلف عن عصره،إلا أن بعض الدراسات رصدت بعض السلبيات في حالة إفراط الاستعمال تمس الإنسان من الناحية التربوية في إنسانيته وذكائه وأخلاقه ومركزيته في الوجود وتحكمه في التقنية ذاتها. كما تمس المجتمعات ـ في حالة الإفراط في الإدماج الدولي السوقي ـ في ثقافتها وهويتها ومن ثمة تأتي هذه المداخلة لتبرز :
1 ـ أهمية المعلوماتية في التربية وتحديدا في الاتصال البيداغوجي ( التدريس )
2 ـ التنبيه إلى المحاذير التي يطلقها الباحثون من فرط الاستعمال والتركيز على المتعة الناتجة عن الرغبة.
3 ـ تصور لأنسنة الاتصال التكنولوجي البيداغوجي وتحقيق الوعي . وسنوضح تفاصيل ذلك أثناء انعقاد الملتقى . وشكرا .
مدخل :
بداية أجد أنه يتعين علينا منهجيا لدراسة موضوع تسويق المعلوماتية في كياننا الحضاري وفي وجودنا المؤسساتي، أو استنباتها في واقعنا الحياتي، أن نضع المسألة ضمن النطاق الزمني في محور آجل الأعمال وعاجلها، ونتفحص ذلك عند الغرب المرسل وعندنا نحن المستقبلين، ذلك أن هذا النطاق بحسب المرزوقي هو المعيار الذي يوفر لنا تقويما فعليا لممارساتنا النظرية والعملية ويحمينا من مساوئ الفصل بين النظر والعمل وسوء تقدير العلاقة بينهما.(المرزوقي:34ـ37)حيث أن تسويق التكنولوجيا من حيث هو راهننا الحاضر ورهاننا المستقبلي الحضاري يطرح كآلية من آليات أعمالنا المتعلقة بنشدان التقدم والمواكبة العالمية في كل قطاعات التنمية، تقتضي دراستها في نطاق العلاقة بين بعدي العمل آجله وعاجله، وهو نطاق منهجي لا يستقيم تحليل مسألة تمييز الضروري من غيره في الأعمال الحضارية المجتمعية دونه؛ فالآجل من الأعمال في الوظيفة العقلية الادراكية شأن تصوري توقعي أو تذكري يدخل في نطاق البحث النظري، حسب تعريف المرزوقي له، ومن وجهة نظر السيبرنيطيقية هو الذي يوفر لنا الخيارات اللازمة للتخطيط الناجع ومقتضيات تأهيل الفرد والمجتمع على تمثل واع لجهاز التحكم الذاتي الذي يعمل في هذا المجال كجهاز مناعي يحفظ الذات الفردية والهوية الاجتماعية من أي مساوئ محتملة للتجربة الوافدة، والعاجل من الأعمال ـ حسب المرزوقي ـ شأن تطبيقي حسي يدخل في نطاق الإنجاز عند(الميقات) وحلول الأوان الحتمية للممارسة التي لا تقبل التأجيل والتأخير، وفي منظور السيبرنيطيقا هو الجانب من العمل الذي يهتم بتحسين التحكم وتوسيع لمجال السيطرة الخارجية على الذات والمجتمع، وعند زيادة نفوذ سلطة العمل والإنجاز بدل سلطة المعرفة والتحكم الذاتي في منظومة العمل بالعلم يختل ميزان العمل، كما هي ثقافة المجتمعات الصناعية أو الحداثية في العمل تتبدى متمركزة أكثر حول النمو والإنتاج. وفي فلسفة موت الأيديولوجيات وحتى موت الإنسان وإقصاء للذات والإرادة، والاعتداد بالوقع ومفرداته، تمركزت التقنية والتكنولوجيا كبديل عن الذات، تمارس وظيفتها في منظومة العمل كما لو كانت شيء مضاد للعقل والفكر والذات تفرض نفسها على إنسانية الإنسان وتسلبه إرادته، وهي بذلك تساهم في إنتاج القن المأمور بدل من الإنسان المنصت على الأقل .
والعلاقة بين آجل الأعمال وعاجلها مؤكدة الارتباط والعلية في التجربة الغربية النهضوية المعيارية، ذلك أن ممارسة الأعمال بوصفها عاجلة إنما تستند إلى مرجعية نظرية تتعلق بمعطيات الأفعال الآجلة، وتتغذى من نتائجها كتجربة تصورية منطقية شكلت منظومة فكرية ومبادئ واستراتيجيات ومخططات يستهدي بها العمل طريقه للنجاح، محققة بذلك شرط الحرية الإنسانية وتساميه، فالعقل الإنساني هو من يجعل للعلاقة بين بعدي العمل ( الآجل والعاجل ) فاعليتها السببية الواعية في الفعل الفردي أو الجماعي التاريخي، حيث يجعل الآجل في العمل عاجلا في البحث النظري.
وإذا أردنا أن نضع لهذه العلاقة توصيفا من منظور بيداغوجي تعلمي، فإننا ندرجها في سياق ما يعرف في البيداغوجيا بـ "التمثلات التي تعمل وظيفيا على "استباق ذهني للحاضر قبل أن يوجد في الواقع " أو ما يعرف بتحيين ما ليس آنيا، ( التمثل : 23 ـ 29 )وهو ما نعده هنا التكوين الأولي للمورد المعرفي النظري اللازم للعمل، وما يجعل العاجل في العمل آجلا يستمد مشروعية ممارسته من المعرفة النظرية الاستباقية ( المورد المعرفي المكون) بشكل يحقق توصيل الفعل الآجل بالعاجل ويغذيه، وهو ما تقوم به التمثلات في إحدى وظائفها البيداغوجية، تتبدى فيه معرفة الطفل بالواقع معرفة بنائية فريدة وليست مجرد انعكاس للواقع، وعندما يصبح الأمر التعلمي يتعلق بالإنسان الراشد في طور العمليات الشكلية يكون أقدر على التجريد وممارسة التفكير الفرضي الاستنتاجي، وللأسف ليس كل الراشدين كما هو في عرف النظرية البنائية التكوينية يبلغون هذه المرحلة( التقنيات التربوية: 165 ـ 170 ) فالكثير كما هو ملاحظ في مجتمعنا الراشد (كمؤسسات) ـ لفقدانهم شروط ذلك ـ عجز عن بلوغ تلك المرحلة من التعلم ( النضج ) لممارسة التفكير الفرضي بخصائصه الذهنية، وفي ضوء هذا العجز يفسر ـ بيداغوجيا ـ فشل المؤسسات الوطنية التحديثية ـ من حيث هي جماعة من الراشدين النظاميين المشرفين ـ في تنشيط البحوث الافتراضية الاستباقية أو الاستشرافية قبل أي مشروع عملي ضروري للإنجاز الآني. وهو الشرط اللازم الذي به يحقق العمل شرطه الإنساني أي القدرة على الإدراك السليم للعلاقة السببية، وإحدى تجليات العلم بالأسباب أو العلم بالعمل كصورة معبرة عن ممارسة الإنسان لإنسانيته وتحقيق سيادته على الطبيعة من منظور بن خلدون . ومن منظور السيبرنيطيقية هي الصورة التي تتحقق بها المعرفة ذات التحكم الذاتي أي المعرفة المنظمة ذاتيا كمناعة ترفض حتمية التحكم الخارجي والخضوع القسري لها .ولعل هذه الصورة هي ما تقرب ـ فلسفيا ـ بين الذات في صورتها الترندستانتالية ( المتعالية عن الواقع ) والذات في صورة الدازاين( التاريخانية ).
وتتعاظم مسألة إدراك العلاقة بين الآجل من الأفعال والعاجل منها في منظومة التحديث عندنا أكثر من غيرنا من حيث أننا في موقع التلقي والاستهلاك، أي في موقع المتعلم، فتكنولوجيا المعلوماتية تعد عند غيرنا المبدع ( ماضي أو حاضر ) يجري تحيينه يمارس في ضوء مرجعيته النظرية ويستمد قوته منها، في حين أنه يعمل على تسويقها فينا للممارسة الآنية مجردة من بعدها النظري الآجل، أي تعمل كما لو أنها علم ينفذ فينا بدور مقنن لمنظوماتنا وذواتنا لاستجابة لمطالب تخص السوق العالمية، وهو ما يجعل وضعها موضع الفحص التجريبي المنطقي والأمبريقي في ضوء الربط السببي بين آجل الأعمال وعاجلهاـ حين ما نكون بصدد ملاءمة أنفسنا للتأهب للمواكبةـ أكثر من ضرورة حيث لا يستقيم ولا يجد الفعل المجتمعي في وضعية التلقي حريته عند فلاسفة العمل ومنظريه إلا إذا استحضر الوعي بتلك العلاقة وامتلك آليات التحكم الذاتي . وأن حصول الفصل بين بعدي العمل لا يفسر إلا في ضوء سوء تقدير لتلك العلاقة، فيصبح العمل النظري مجرد تأمل أو تحليل تصوري تجريدي لا يعبر عن حقيقة الرشد في البحث وبناء الواقع، والممارسة مجرد ارتجال لعاجل الأعمال لا مرجعية نظرية تسنده وتزوده، وهو ما يفقده حريته تحت ضغط الزمن ويسبب بعدئذ العوائق الأمبيريقية والابستمولوجية ويؤول إلى فشل التجربة كما هو الشأن عندنا حيث يسود طغيان الأعمال الآجلة مجردة عن أبعادها النظرية ( أي العمل بدون علم ). وقد قال الغزالي قديما ( العلم بدون عمل جنون والعلم بدون عمل ....) ومن ذلك ما نجده ماثلا في حالة المؤسسات التربوية التي تركز على الإنجاز في مشاريعها الإصلاحية حتى بدت وكأنها فاقدة لهويتها الفكرية والعلمية أو على الأقل لم تستطع بلورتها أو هي تبحث عن ذاتها تحت وطأة ما يمكن تسميته بكوكتال ثقافي متنافر الألوان أفقدها مصدر تمويلها معرفيا، فاكتفت بالحفاظ على البقاء بالزيادة والنقصان، وهكذا في كل جهد تحديثي نأخذ على حين غرة، ويحين في غفلة منا وقت العمل الذي لا يبقي فسحة للتأجيل والبحث النظري إلا في نطاق بحث سبل تكييف وملاءمة أوضاعنا نفسيا ومؤسساتيا لحتمية التكنولوجيا الإلكترونية وغيرها على حساب الحتمية الاجتماعية، فنقع في الأسر لما يعرف بعقدة السبق ووهم التقدم والمواكبة حتى ولو أن وجودنا لم يتعد مستوى البقاء.
وإذا كانت مسالة اقتناء التكنولوجيا وتسويقها في مؤسساتنا تجد مسوغا منطقيا وتجريبيا لها في عقدة السبق تحت ضغط وتأثير وتنشيط عدادات الجوانب الإيجابية للإلكترونيات، فإنه يتعين علينا على الأقل وفي غياب مؤسسات الفحص العلمي لكل وافد( فكري نظري، تكنولوجي صناعي، فني جمالي...الخ) أن نستحضر على الأقل ونخضع أعمالنا وممارساتنا للإيحاءات والصيحات التحذيرية التي تطلق من مؤسسات الفحص عند المرسل . وقد أطلقت تلك المؤسسات تحذيراتها بفعل ربطها للعلاقة بين آجل الأعمال وعاجلها منذ البداية، ففي مجال كشف الخطورة الناتجة عن الإفراط في التطبيقات التكنولوجية نجدها مبكرة ومتزامنة مع الوضع الحداثي، حيث كشفت الدراسات أنه منذ الإعلان الفلسفي عن وحدة الإنسان وواحديته في الوجود، انفصل الإنسان المعاصر عن الله وما فوق الوجود وأخذ وجوده كإنسان في منظومة المدنية المعاصرة يدرج تحت تأثير وطأة مطالب الحياة وتحقيق الذات وقمع الواقع واستعصائه عن الاستجابة، ويتعرض في ذلك لسلب وجوده الرمزي المعنوي ونفي معاييره وقيمه العليا الممتدة إلى مصدر إبداعات الإنسان نفسه أو إلى مصدرها الإلهي، وأدرج ذلك في المعرفة الوضعية كما لو كان تجليات لتحرير الإنسان من الأنساق الخارجة الميتافيزيقية عن نطاق ذاتيته؛ ليعيش واقعيته بحرية، غير أن تجلياته الأخرى بدت وكأن الإنسان في الوضعية البنيوية بدأ يفقد تساميه أو تعاليه عن التجربة الحسية أو ما يسميه الفلاسفة بـ" ترانسندانتليته( Transcendentalism ) ويتخلى عن مواقعه القيادية في التجاوز والإبداع لصالح الكائنات الأخرى التي أوجدها وركبها ( التقنية ).كما بدأ يفقد حتى قدرته على إدراك ما يجب فعله لتخطي الواقع، لصالح ذاتيته أي يفقد براكسيسيته (Praxis) إن صح التعبير.فيفقد العمل بعدئذ حريته بفقدانه لبعده النظري العرفي ويصير العمل خاضع للعجلة والآنية وطغيانها، فيسقط في حيز المغامرة والعشوائية، والقفز إلى التحديث والحداثة بجهل أو تجاهل كامل لشروطها مهما بدت التقنية إيجابية تستجيب لكل تحديات العمل الزمنية والمكانية، كما هي الإجابات التي توفرها التقنيات التكنولوجية التي يستعملها كالكمبيوتر والذكاء الاصطناعي والأنترنت...الخ وأعتقد أن أكثر التجليات لفقدان العمل لبعده النظري هي ما هو عليه حال منظومتنا الحداثية من حيث نحن نعد من معشر المستهلكين، حيث تعمل التكنولوجيا كمعلم ضابط لسلوكنا وذواتنا وإيقاعات تفكيرنا، فالقفز إلى اقتناء أدوات الحداثة واستعمال تكنولوجياتها، هو المهيمن في كل سياساتنا التحديثية ومنها سياسة تحديث التعليم باقتناء الكومبيوتر واستدخاله ضمن العناصر المكونة للعملية التعليمية دون بحث شروط ذلك، ودون إدراج بعد الآجال لهذا العمل فنبحث منظومة مبادئه وغاياته، وفعاليته التعليمية أي نبحث مشروعيته وشرعيته، ونقف بعدئذ على مستلزمات تفعيل المرجعية الذاتية والتحكم الذاتي( الحصانة الاجتماعية ) ونكشف لعبة العصر في خرق عذرية الهويات الثقافية المحلية المسكوت عنها. وإذا كان الغرب بطفراته العلمية قد أفقد الذات في وضعية الكوجيتو الديكارتي تعاليها وتساميها، وأكسبها في الوقت نفسه تاريخانيتها وصيرورتها الوجودية في الزمان والمكان فصارت كل الأشياء تحت التفكير والدراسة والتجريب في نموذج الدزاين، حيث انفتاح الذات على العالم لا من حيث هو موضوع فحسب وإنما كانشغال، يؤرقه ويثير فيه قلق وتساؤلات مستمرة، فإن عقدة السبق أفقدتنا أزمنة الفعل في المكان والزمان ووضعتنا موضع الكائن الممتنع عن البحث في الأشياء ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) أو في قدرية الوجود وآياته في الكائنات والأشياء المنزهة عن البحث والتكشف والانكشاف .( الماهية علي حرب: 134 ) فلم نعد نهتم بالبحث أو بضرورة الدراسات الاستشرافية ولا مراكز بحثية مؤسسية ونكتفي بما يحققه الغرب من إبداع لنلائم أنفسنا لاستهلاك كحتمية تكنولوجية لا خيار لنا حيالها. وكأننا نساق بقولة " خلقوا وسخروا لنا بمنتجاتهم من أجل سعادتنا ".
والبحث في العلاقة بين آجال الأفعال وعاجلها لا تخصنا نحن المتلقين فحسب ولا هي من مفاعيل نظرية المؤامرة كما قد يترآى للبعض، بل هي مرحلة من مراحل الوعي بالعمل والإنجاز في أزمنته؛ فعند الغرب نجدها ماثلة في التحليل الفلسفي لـ "ماركيوز" حيث نقل العالم بعد تفاؤله بمنجزاته في عالم التقنية إلى التشاؤم والضبابية القاتمة لمستقبل البشرية في ظل التقدم التقني، مسجلا بذلك ربط آجل العمل بعاجله؛ حيث ظهرت الآداتية ( التقنية ) وتوغلاتها في حياة الفرد في مشروع ماركيوز النقدي ومن تبعه أمثال "هبرماس " أداة لقولبة الإنسان وعرقلة لإرادته الواعية الحرة أكثر مما هي أداة للتقدم والرفاهية. وما أظهرته تلك التحليلات الفلسفية المجتمعية في المشروع النقدي المذكور من صعوبة الانعتاق من ضغط الأداتية ولد حالة من التوتر والقلق لدى المفكرين والفلاسفة من الشمولية المعاصرة في تطبيقات التقنية الآخذة في التزايد والمصاحبة بالإخفاقات المتكررة، ومنه انبثق السؤال فهل إلى خروج من سبيل عند الغرب المبدع ذاته؟( إشكالية التواصل : 345 ـ 346 ) وهو سؤال يستفز باستمرار النخب العلمية للتحليل والفحص الحضاري لمنجزاته حتى يتفادى ما يمكن أن نسميه بتبذير الذات * الفردية أو الجماعية، فكان للدراسات الاستشرافية مكانتها العلمية والاجتماعية والسياسية لتقرير مشروعية العمل وشرعيته في كل مشروع استشرافي مستقبلي يتصورونه ويرغبون في تحقيقه. ومن هنا أرى من الضروري ما دمنا تابعين في الوضع الراهن أن نستبطن محاسن الغرب في ذاكرتنا ونعمل على إنتاج السؤال الفلسفي لأي إنجاز حتى نسقط على الأقل الاتهام بنظرية " المؤامرة" .
حول المفهـوم
المعلوماتية : مفهوم يكتسب يوما بعد يوم قوة ومشروعية التداول والحفر في مدلولاته، حتى صار مثقلا بحمولة كبيرة من الدلالات، فهو مكثف في وجوده وماهيته ولا يقبل أن يختزل إلى مجرد مفهوم يطلق على وسائل وأجهزة إلكترونية إتصالية نفعية، فهو يتعلق بكل حيثيات التواصل الإعلامي والبيداغوجي والاجتماعي والوجداني، مما جعله موزعا بين عدة حقول معرفية وجعله بالتالي مكثفا في وجوده وماهيته ووظائفه وعلى قابلية قوية للتداول والتأويل، ويتضمن عدة دلالات ويحيل على وضعيات متنوعة ومتعددة كالوضعية البيداغوجية والإخبارية والتحكمية والتنبئية والعلائقية والاجتماعية والواقعية والافتراضية ...الخ .
فهو يحيل على مفهوم معجمي كما هو في القاموس اللغوي الفرنسي يتمركز حول المعالجة الآلية للمعلومات ( Informatique) أو تعني علم الحاسوب باللغة الأنجليزية(omputing Science ) وتستعمل في الجزائر لتعني (إعلام آلي) وكل هذه المفاهيم والتسميات تتضمن دلالة مشتركة تتعلق بما تقوم بها الآلة وبالتحديد أجهزة الحاسوب من معالجة للمعلومات من تدوين وتخزين وفرز وتصنيف وعرض وتحليل وتركيب وبحث وترتيب، وتعديل وإدماج ونسخ، ولصق وبرمجة ونمذجة وحوار ...الخ أي ما تقوم به كل ما تعنيه كلمة المعالجة الإلكترونية للمعلومات .
ويشير من جهة أخرى إلى نظم المعلومات وعلوم الحاسوب التطبيقية يهتم بدراسة عمليات الاتصال وتطوير أساليب تنظيم وتخزين ومعالجة ونشر المعلومات العلمية والصناعية والخدماتية وغيرها، وهو بذلك يحيل في دلالاته على كل ما يتعلق بالمنظور العلمي لتقنية المعلومات أو تكنولوجيا المعلومات بما تشتمل عليه من المعرفة بالعتاد والبرمجة والاتصالات وتطوراتها في الإنتاج والاستخدام والمعالجة والإدارة .( رحومة: 58 ـ 59) .أي انه مفهوم يتعلق بكل ما اصطلح عليه بالآلات الذكية وتطبيقاتها كتقنية وتأثيراتها على حياة الإنسان بعد أن أصبحت جزء من وجوده . ومن ثمة فهو مفهوم يتعلق بثقافة جديدة تتسم بالبعد المهاري في سلوك الإنسان وبرمجته لوجوده المعرفي، وهي آخذة في الانتشار الواسع بين جميع الطبقات والفئات وكل اللاعبين وتتعلق بكل ما تقتضيه المعرفة بماهية المعرفة الإلكترونية بأدواتها كالحاسوب بأنواعه وتطوراته، ونظم البرمجة وتقنياتها،والمعالجة الإلكترونية للمعلومات وطرقها، وأنظمة الاتصال وكيفيات التواصل، وبحث منافعها وآثارها النفسية والمجتمعية .
ومن مقاربة التكون والنشوء فتكنولوجيا المعلومات ما هي إلا تجليات متطورة لحاجة الإنسان الفطرية في التحكم المادي والأدواتي لإشباع حاجاته ورغباته المتجددة في تطويع محيطه منذ استخدام الأدوات الحجرية إلى إنتاج الترمستات ثم إلى تطورات إنتاج الآلات الذكية وما يعرف بالذكاء الاصطناعي وهي حاجة مازالت مستمرة في تجلياتها الإبداعية للإنسان وابتكاراته، وتعد من المنظور التطوري الحضاري بمثابة فعل التجدد الذاتي للحداثة تميزت بدمج لامتناهي لتكنولوجيا المعلومات بتكنولوجيا الاتصال آخذة في تحقق ما كان خياليا في الفردية والفردانية، فهي تكنولوجية جديدة بامتياز تفيد ثورة ما فوق التصنيع والتراكم المعرفي الموجه نحو التحكم التقني الدقيق في البيئة الفيزيقية والاجتماعية أي ما يسمى بالثورة السيبرنيطيقية تحرر الإنسان من قبضة التأثيرات البيئية وحتمية إكراهاتها، بإلغاء كل المسافات الاجتماعية والنفسية والمكانية والزمانية ( السيبرنيطيقا : 51 ) والحديث الآن يجري عندهم حول أنسنة الروبوت (الإنسان الآلي ) حيث يجري ضخه بالذكاء الاصطناعي، أما السائد عندنا هو روبتة الإنسان.حيث يتم منذ مدة تفكيك قدرات الإنسان وتجزئة سلوكه واختصاره في ذرات لا حصر لها .
ومن حيث هي ( أي : المعلوماتية ) مفهوم وظيفي يرتبط بعلة الاستخدام المكثف للآلات الإلكترونية فهو يندرج ضمن مساعدة الإنسان على توسيع مداركه وقدراته ومعالجته للمثيرات المعرفية، مثله في ذلك مثل استعمال الإنسان للنظارة لتوسيع قدرات بصره، واستعماله الآلة لمضاعفة جهوده العضلية، واستعماله السماعة لمضاعفة قدرة السمع لديه، واستعماله الكتاب والقراءة لتوسيع مفاهيمه ...الخ فكذلك الآن يستعمل الكومبيوتر لتوسيع قدرته في معالجته للمعلومات وذلك هو المفهوم العلي السببي الذي يحيلنا عليه مفهوم " المعلوماتية " وقد برز إلى السطح ليعبر عن ما طوره الإنسان من الموارد الإلكترونية للمعرفة، وهي الموارد التي أنتجها الإنسان لتخفف من أعباء تفكيره وعقله في عصر يتسم بتدفق كثيف للمعرفة، كما أنتج الآلة الميكانيكية والكهربائية عند دخوله عصر الصناعة لتخفف من أعباء الجهد العضلي السائد في عصر الزراعة. ومن ثمة فهو مصطلح من الناحية الوظيفية يكاد يكون تاريخانيا يتطور ويكتسب دلالات مستمرة ويشير عموما في كل سيروراته إلى ما تهبه تكنولوجيا المعلومات للإنسان من حرية وتحرر، من خلال إكسابه آليات التحكم التقني في مجال المعلوماتية وتمكينه من مواجهة التدفق في الإنتاج الكثيف للمعارف المعلومات شبيهة بأجهزة التحكم الذاتي التي وهبها الله للإنسان تمكنه من توجيه واع وتحكم دقيق في سلوكه من حيث استقباله واستجاباته لمثيرات المحيط بما ينفعه.
المفهوم التربوي للمعلوماتية
ومفهوم المعلوماتية في التربية والبيداغوجيا ليس مجرد وسائط تكنولوجية تدرج من بين الوسائط والأدوات التي يستعملها المعلم أثناء التدريس خاصة بتعلم مهارة أو توضيح فكرة أو عرض تجربة أو مجسم أو هي مجرد مفهوم يتعلق بآلة التعليم يسمح للتلميذ بتلقي دروسه المبرمجة من غير المعلم أي التعليم عن بعد.ولا هي مجرد آلة مكثفة في وظائفها البيداغوجية ودمج آلي لعدد من الوسائط في جهاز واحد يعطي وظائف كلية وجزئية تتعلق بالاتصال البيداغوجي، كالجمع بين الوسائل السمعية البصرية، لفظية وغير لفظية متحركة وساكنة رمزية تجريدية وواقعية امبيريقية، خيالية وواقعية، أوهي مجرد تغيير شكلي للوضعيات التعلمية وإدماج صيغ التعلم الذاتي في العملية التعليمية، فهي قبل ذلك صياغة أخرى لمفهوم التربية ذاتها وفلسفتها وأهدافها وسياساتها .تتعلق بتغيير أساسي في نمط الحياة وأولوياتها في زمن العولمة .
فما هي هذه الأنماط والمعاني الحياتية في زمن العولمة ؟.
يؤرخ للعولمة من الناحية السياسية الإجرائية بنهاية الحرب الباردة وإن هي تمتد في التاريخ المعاصر من الناحية الفكرية إلى عصر الحداثة والأنوار ...وتطور في سياق ثقافي علماني ليصبح خطاب الانفتاح الكلي على الانتماء العالمي يتخطى كل الحدود ناتج عن مفاعيل خطاب المابعد والعلاقة الحميمية المراد بناؤها بين الأنا والآخر، ويستهدف كما هو معلن تحقيق التقارب الكوني والتمركز أو التوحد حول نمط واحد أو أنماط محدودة من الثقافة، حتى تتماثل طرق العمل والتفكير بين بني الإنسان؛ بل تتماثل الحاجات والرغبات وطرق الإشباع، ومن ثمة تتماثل طرق مواجهة المشكلات، والتخلص نتيجة ذلك من الأنا والنحن التراثية المجتمعية ( الهوية ) الناتجة عن الأنساق الحداثية الأسطورية، التي لم تنجز حسب منظري المابعد إلا إعادة إنتاج التعصب الثقافي في صور جديدة، والتمركز حول الذات ومن ثمة ضرورة بناء الأنا والنحن العصرية العالمية ( الانتماء العالمي) التي تقتضيها التطورات التكنولوجية وتنمحي فيها الفوارق وأشكال التعصب.
وهي بهذا المفهوم يفترض أن تكون ذات مضمون تعددي وتنوعي، يحتل كل فرد أو مجتمع بهويته الخاصة موقعا ما في التعولم حتى يضمن مشاركة الجميع وتحقيق تكافؤ الفرص في ذلك، إلا أن صياغتها في ضوء حديث النهايات والانتصار الأبدي للقيم الرأسمالية اللبرالية جعلها خطاب أحادى مهيمن شمولي يلغي وينفي الآخر بصياغة بنية العالم المتعدد والمجتمعات المتباينة متماثلة في أنماط المعيشة والسلوكات والثقافة وحتى في المدركات الذاتية، ولا يتأتى ذلك إلا بالتخلي كرها أو طوعا للخصوصيات والتمايزات الفردية للمجتمعات والأفراد لتلتقي تدريجيا حول قبول نمط واحد للمعيشة. إنه خطاب الحنين إلى الوحدة يبطن هيمنة وتسلط وسيطرة لثقافة المنتصر .
وبما توفره تكنولوجيا المعلومات ـ وهي شكل من أشكال العولمة ووسيلتها في الآن نفسه ـ من إمكانيات ضخمة لتحقيق التوحد العالمي ذاك يجري تكييف المجتمعات وملاءمة أنظمتها القانونية وأنساقها الثقافية ومنظوماتها التربوية وأنماطها الاقتصادية( ملاءمة الهوية ) لتنسجم والنظام العالمي ومطالبه وشروط الاندماج فيه؛ وأخذ خطاب الملاءمة والتكييف مع الصيغ العالمية شكله التدريجي التراتيبي يتجلى عموما في البداية في صيغ الشراكة والتبادل التجاري والاقتصادي ثم يتصاعد نحو الخصوصيات الثقافية الشديدة كالتربية وأنماط المعيشة والأسرة في شكل علاقات تكافئية، ثم يتطور إلى تفكيك الأنساق الكبرى الثقافية والرسمية كالشركات المحلية، وشكل الدولة...الخ ( الهوية الجماعية ) لتحرير الفرد والمجتمع من أنساقه الذاتية ومن هويته التراثية لتيسير اندماجه في الأنساق العالمية كالشركات المتعددة الجنسيات لتنتهي الملاءمة بتحقيق الهيمنة والتبعية للغالب المنتصر على حد تعبير بن خلدون قديما .
ومن ثمة فهي خطاب ضد كل ما يعتقد خصوصية فردية أو اجتماعية أو انغلاق بكل صوره وأنساقه بالمعايير الثقافة اللبرالية المنتصرة وهي ذات مفعول كلي وخطاب شمولي يطال جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية مما أعطى معنى آخر للحياة والعلاقات تتمركز في أحسن حالاتها خضوع غير الخبير للخبير دوما ....
ومن ثمة فالمعنى العام الذي يمكن أن نستوحيه للحياة هو النزوع نحو الأوحادية وتمدد المواطنة القطرية أو الاقليمية إلى المواطنة العالمية المهيمنة والتي تتطلب تفكيكا ما لصلب ثقافة المواطنة التقليدية بما فيها الأفكار والأمزجة والتاريخ والجغرافيا والانتماء ومنع الممانعة الذاتية ليتشكل الكل في مربع العولمة بفرديته .
وبهذا المعنى للعولمة تربويا تصبح التربية مفهوما لا نراه إلا ضمن أهداف العولمة المسكوت عنها والمتعلقة بتكوين الملعوب بهم لصالح اللاعبين الجدد.من خلال عزل التلميذ معرفيا عن محيطه الاجتماعي والثقافي وحتى الإيكولوجي لصالح دمجه في العلاقة بالعوالم الافتراضية التي يوفرها الحضور الكلي الشمولي لتكنولوجيا المعلومات في عملية التعليم والتعلم، بغرض إكساب الجيل المهارات التي تطلبها الشركات المتعددة الجنسيات وحصول المتعة واللذة الفردية.(أي تربية العدميين الجدد، أو بتعبير أخلاقي قيمي تربية الخائنين لأوساطهم ومجالهم الحيوي) يتعرف عليه ولكنه يقلل دوما من التواصل به حتى يتنكره.
ولم يبق بعد هذا الحديث المعولم للتربية عن معنى للتربية يتعلق بتربية المواطن الصالح من حيث هي إدماج مؤسسي وانتماء اجتماعي وتشكيل للهوية، أو الإنسان الصالح من حيث هي إنماء للقيم الإنسانية أو الفردية من حيث هي تحقيق للذات كما تعلمناه من علم النفس؛ بل هي معنى يرتبط بتسويق الذات في السوق العالمية الآنية ... أو تبدوا وكأنها في ظل المعلوماتية تعيد إنتاج ما يعتبره" لويس دومون" بالفردانية الخارجة عن العالم أو العقل خارج الدنيوية المعروف في الصيغة الهندية القديمة (النرفانا) أو الرجل الأعلى عند كونفوشيوس بصيغة الفردية والعقلية الافتراضية الخارجة عن الفيضية الكلية الاجتماعية, ولكنه يجرى ذلك داخل العالم, وهي صيغة تعبر عن مفهوم الأمة من حيث هي المجتمع الكلي المؤلف من بشر يعشون بأحاسيس فردية ( مقالات في الفردانية ص : 24 )
ولكن هذا المعنى للتربية المعولمة وما يسمى بتكوين الضمير العالمي عبر العوالم الافتراضية ما فتئ يصطدم بما يعتبره " شونفلونج " بالعدة الوراثية التي نتجاهلها في إجراءات المواكبة العالمية حيث يعتقد أن الإدراك الحسي للأفراد وتشكل المدركات البيئية تتطور مع التفاعل بالمحيط البيئي والاجتماعي مما يكسبها خصوصية أو ما يمكن أن نسميه بالهوية الجغرافية لا يمكن تجاهلها، ولا تسمح بالاستجابة دائما خارج موطنها الأصلي؛ ولأجل ذلك ـ كما تدل عليها تجارب عدة حول استعصاء الحصول على استجابة الأفراد لمشكلات ما يسمى المجتمع العالمي والمشاركة في نشأته ـ يجب أن تهتم التربية بالتدريب على التجريد المعرفي وهو ما يتعارض مبدئيا لعدة الإنسان الحسية والوراثية الخاضعة بالضرورة للبيئة المحلية اللصيقة بمدركاته ( الثقافة العالمية : 126 ).وهذا المعطى المعرفي كاف لضرورة إدراج التفكير الآجل ضمن العاجل من الأعمال، من أجل استحداث تغيير أساسي في نمط التربية ليس فقط بامتلاك الكومبيوتر التعليمي، ووضعه في متناول التلميذ أو بتعلم الولوج في العوالم الافتراضية والأنترنت بل باستحداث نمط التعليم المتجاوز لنقائص الإدراك الحسي، على تربية القدرة على التفكير التأملي والتدبري والتجريد المعرفي العقلي، أي تزويد الفرد بمعرفة خارج نطاق أو أنساق وجوده ( المادي والاجتماعي) حتى تتموضع الذات في مسافة واحدة بين وصلها بمحيطها وتواصلها بالمحيط العالمي وفق دوائر المحيط المتدرجة نحو إنتاج الهوية العالمية الافتراضية في الذات . وعندها فقط يمكن الحصول على قدرات تساير مشكلات التنمية في المجتمع العالمي المعرفي المنشود بغير ما زهد في الذات . وإلا سنخسر حتما متعة الوصل والاتصال اللازم بمحيطنا الايكولوجي والاجتماعي بمعنى التخلي عن هويتنا الخاصة لصالح الهوية العالمية ونصير في دائرة اللامنتمي كما استهدفته فلسفة كولن والسون تتقاذفنا الشركات المتعددة الجنسيات والثقافات.
ونخلص إلى أن المعلوماتية في التربية تعني تمكين التلميذ والطالب الجامعي من عولمة ذاته في شكل الهوية الافتراضية، وما يمكنه من التذاوت والانتقال في العضوية من هوية إلى أخرى في نطاق المجتمع الافتراضي الإنساني، وذلك من خلال برمجة مدركاته تحت تأثير البرمجة الآلية النمطية العالمية للمعلومات والمعارف تلقيا وإرسالا .أي (تعلم منظومة التواصل ) .وهو المعنى الذي أراده فلاسفة المابعد كما يتراءى لنا، وبه تصبح المعلوماتية ذات أهمية خاصة ومخاطر جمة .
ومن الناحية البيداغوجية الاجرائية تعد المعلوماتية في التربية تدريب التلميذ والطالب كيف يعهد بجزء غير يسير من نشاطه الذهني الهادف للتعلم والاكتساب إلى الآلة، حيث أن كل ما يجب أن يتعلمه التلميذ بشكل فيزيقي من معالجة المعلومات وحل المسائل وحفظ القواعد وممارسة الحوار والنمذجة والرسم والكتابة وكل ما يتعلق بأعمال العمليات العقلية من أجل التعلم واستيعاب المعرفة يوكلها كأفعال للآلة لتقوم بها بدقة متناهية وسرعة فائقة وبطريقة أوتوماتيكية آلية ( مستقبليات 64 :632 ) ولا شك أن في ذلك قيمة إيجابية تتعلق بتمدد قدرات الإنسان العقلية، كما أسلفنا، وفي الوقت نفسه تستبطن آثارا سلبية تتعلق بمضاعفة الاسترخاء العقلي.
في عمومية أهمية المعلوماتية
لا أعتقد أنه بقي من يشكك أو حتى يناقش أهمية التكنولوجيا من الناحية النفعية الحياتية الفردية الخالصة، بعد أن تكشفت نتائجها على المستوى الاتصال والإعلام والتربية والإدارة والصناعة والتجارة وما إلى ذلك؛ إذ أصبحت من مستلزمات التكيف والاندماج المهني والاجتماعي المؤسسي للفرد، بل إن منافعها صارت من ضمن العلاقات التلازمية بالتنمية بصفة عامة، وفوق ذلك فإنها أصبحت من أساسيات ما يسمى بتكوين وإنماء الضمير الكوني العولمي على حد تعبير .....يعيد إنتاج الذاتية المتعددة المراكز كما يسميها " غاتري " ( الجسد ،الأنا، العائلة، الاثنيات الشركة، المؤسسة ....).
وارتبطت المعلوماتية ارتباطا جوهريا بالبعد التقني في أداء الإنسان، وهو البعد الذي برز إلى السطح من حيث أهميته في تغيير الواقع وحتى الفكر في فلسفة الحداثة، حيث تموقع كمفهوم ضمن مفردات التقدم بشكل لا يفهم التقدم وحتى الازدهار الموجب للسعادة، إلا من خلال إستدخال التقنيات التكنولوجية الحديثة في أي أداء يمارسه الإنسان فكل عمل توظف فيه التقنيات والتكنولوجيات الحديثة يعتبر عملا تقدميا ومتطورا، وكلما استغنى الإنسان عن استخدام التكنولوجيات واستبعدها لسبب من الأسباب في أدائه، كلما وصف عمله بالعمل التقليدي المغلق والمنغلق؛ فصارت التكنولوجيا رمزا للتقدم ومفهوم مرادف للحداثة والعصرنة، ومفردة من مفردات أيديولوجيا التقدم .وهي الأيديولوجيا التي دفعت بمنطق تقسيم العلوم إلى علوم بروليتارية وعلوم برجوازية المزدهر أيام ازدهار بنيوية التحليل النفسي والطبقية الماركسية والقطيعة الباشلارية.( انتهاء فترة ولاية الأيديولوجيات الفكرية لتحل محلها ولاية الأيديولوجيات الحياتية ). وفوق ذلك وبحسب الباحث "لاش " وبالنظر إلى ما توصلت إليه تكنولوجيا المعلومات من تطور فإننا نعيش الحتمية المعلوماتية، مظهرها يتجلى في حصول الارتباط بين النظم العضوية ( البشرية) والنظم التقنية المادية (الإنسالي) أي الارتباط بين النموذج الفزيولوجي والنموذج السيبراني التحكمي, ومن ثمة فالتفاعل حاصل بين ( عضوي ـ تقني ) فلا يمكن العيش في هذا المجتمع المعلوماتي بدون أدواته التقنية والاتصالية ؛ وهو ما يؤكد ـ في نظره ـ أن المجتمع ظاهراتي وكيان حيوي وليس كما ذهب إليه التطوريون من أن المجتمع كائنا عضويا ( الأنترنت ص : 92 ) .ويخلص "لاش" إلى أن نظرية المعلوماتية أخذت تبلور مجتمع المعلومات الذي ينتقل من النظام إلى اللانظام ثم إلى النظام مرة أخرى، ومن العقلانية إلى اللاعقلانية ثم إلى العقلانية الفائقة .وهو الأمر الذي يحتم التكيف معه.
وبالنظر لبعض آراء الباحثين في مسألة الحتميات( التقنية، الاجتماعية، المعلوماتية ) ومن وجهة نظر التوفيقية؛ فإنهم يعتقدون أنه إذا كانت نظرية الحتمية التقنية هي الإيمان بقدرة الآلة الفائقة على استحداث تغيرات اجتماعية, وإذا كانت الحتمية الاجتماعية تكرس الإرادة الإنسانية كسبب للتغير, وإذا كانت جدلية الثقافة المادية ( التقنية ) اللامادية ( المجتمع) هي ما يحدث التغير بحسب هربرت ماركيوز؛ فإن" سكوتلاشي" وفق منظور ما يسميه الثقافة ضمن المسافة يرى أن ( الحتمية التقنية ـ المعلوماتية ) أصبحت هي الأساس في التغير والتنمية.(الأنترنت:95 ـ96 )
أهميتها في تحرر الذات من الهويات المغلقة .
ثبت لفلاسفة المابعد أن المصالح الفردية والجماعية متعددة ومتنوعة ومتنافرة أحيانا مما جعل من الواقع متعددا ومتنافرا أحيانا ومتكاملا ومنسجما أحيانا تبعا لادراكات الإنسان له وهو ما جعل الصيغ الكليانية تفشل في الاحتواء بوسائلها العلمية والقانونية والأيديولوجية، وجعل من الضروري الخروج عن انغلاق الأنا الفردية والـ " نحن " الجماعية في الصيغ الكليانية إلى التعالق الوجداني بين الذات والآخر في الصيغ الحياتية الأكثر تحررا كصيغ التعليم المفردن الذي توفره الآلة الذكية من حيث هي إضافة تسند وضعيات الفردية والجماعية ولا تزيحها بمعنى أنها تحرر الإنسان من الانغلاق في الذات أو النحن دون الاستغناء عن تحقيق الذات عبر التواصل مع الآخر من حيث أن الآخر جزء من الحقيقة لا يمكن الاستغناء عنه ( موريس : 31 ). وبذلك يكون البحث عن الحقيقة والتعلم والاكتساب في عصر المعلوماتية وانتشار الآلات الذكية اكتسب وسائط أخرى تثري البحث ومصادر المعرفة بشكل قوي غير معهود ويثري العلاقات ويغنيها ويكثفها، بل حررها وأطلق عنانها بلا حدود أو قيود المجال؛ مما يثير تساؤل حول ما يسمى المسؤولية الأخلاقية كقضية كبرى في عصر انتشار المعلوماتية.
وبالجملة تتجلى أهميتها التحررية في تفعيل الذات العارفة بما تضيفه المعلوماتية من قوة الفعالية، حيث يعتقد أنه إذا كانت الآلة الصناعية والكهربائية هي بمنزلة المضاعفة الأسية للجهد العضلي، فإن الآلات الذكية هي المضاعفة الأسية لمدركات الإنسان وقدراته وجهوده الحسية في تنظيم ومعالجة ما يرد إليه من معلومات ومعارف وأخبار ورسائل والانفتاح على الآخر...الخ
الأهمية التربوية :
بداية يجب التذكير بأن المقاربة الوظيفة للمعلوماتية في التربية والبيداغوجية تبين أنها كيفية أخرى لصناعة التعلم لا تختلف كثيرا عن الوسائل التقليدية الأخرى ( الكتاب ـ الصورة ـ النماذج ـ النص ...الخ ) فليس هناك ما يؤكد قدرة الحاسوب على تعليم التلاميذ الإبداع والابتكار، بل أن بعض الدراسات تشير نتائجها إلى أن التحصيل الدراسي يتحسن بالكومبيوتر لدى المتوسطين من التلاميذ ولا يشير إلى ذلك بالنسبة للفئات الأخرى ( الضعفاء ـ والمتفوقين ) فهو تعلم في نطاق الأنظمة الرمزية أو نظم التعلم بالملاحظة، وعلى أهمية هذه النظم في الاكتساب المعرفي، فهي ليست بديلة عن التعلم بنظم الخبرة كالتجربة الحسية، والتفاعل الاجتماعي المباشر، ولكنه مع ذلك فهو يفترق عنها في أنه من أهم مضخمات العقل البشري في كونه وسيلة تضفي على المعرفة قابلية لا متناهية من الانفتاح على المعاني وتطور النمذجة وقابلية تشكلها باستمرار. ومن المتعارف عليه في أدبيات التربويين والبيداغوجيين أن التعلم والتعليم مفاهيم افتراضية؛ إذ يتعلق بواقع تجريدي ونماذج ذهنية وحتى المجسد منها كالقاعة والمكتبة والمختبر إن هي إلا واقع تجريدي أو الواقع الفوقي يدفع بالإنسان نحو التجريد والنمذجة والعقلنة والنمطية والتفكير والتصور والتخيل يحاكي ما يعرف الآن بالواقع الافتراضي... الخ وقد تبين لـ " K Sheing " أن التلميذ عندما يتعلم الحاسوب فهو يوظف رموزا حيث يضع نفسه أمام عالم من الرموز يبني ويركب مجموعة أفكار ومعلومات وغيرها . وإذا كانت المدرسة هي كذلك فإن أشكال التعليم عن بعد والتعليم الإلكتروني والأنترنت وما ينتجانه من واقع تعليمي افتراضي { المدرسة الافتراضية, الفصل الافتراضي, المكتبة الافتراضية، الإدارة الافتراضية } هي امتداد للفصل التقليدي والمدرسة التقليدية بكل حيثياتهما. ( الأنترنت : 194 ).
وبغض النظر عن محدودية النتائج للمعلوماتية في التحصيل، فأهميتها في التربية لا أجد لها مكانة أقل من مكانة الضوء بالنسبة لحدوث عملية الإبصار، أو مكانة السكة بالنسبة لتنقل القطار، فهي عظيمة بهذا القدر وآخذة في التعاظم بقدر ما تحدثه الآلات الذكية في نظر البيداغوجيين يوما بعد يوما من ارتقاء بعملية التعليم نحو جودة مفرداته بما تستحدثه من ظروف التشويق والتعلق وصيغ التعزيز ومتعة التعلم ورفع منسوب التحصيل وجودة الأداء واصطفاء للمعلومة وانتقائها بأقل جهد وأقل تكلفة وأقصر وقت؛ فالكومبيوتر بداية هو بمنزلة ذاكرة إضافية للتلميذ تعوض احتمالات النسيان للذاكرة الطبيعية، كما تعوض محدودية الذاكرة الورقية ومعاناة القلم والورقة، فهو يوفر إمكانات هائلة للتخزين والاستحضار والتعديل والإضافة والحذف والدمج، فهي ذاكرة مفتوحة ومكتبة مفتوحة وتحول مفتوح لا يعرف الغلق أو الامتناع.
ويعمل منظري البيداغوجيا وراسمي السياسات التربوية في كل البلدان على تعميم استخدام بل التوظيف اللامحدود لوسائل الاتصال البيداغوجي الإلكتروني والتعلم الشبكي والتعليم عن بعد وإنشاء العوالم الافتراضية ( الإدارية ،التعليمية التعلمية، الخدماتية ...الخ ) لتصبح ثقافة مشاعة يستفيد منه التلاميذ في المدرسة وخارجها بيسر وبشكل متساوي بين كل الفئات الشعبية. وبهذا المفهوم فالمعلوماتية هي الضوء الذي به يحدث استبصار المعرفة وهي القطار الذي يركبه الطفل نحو جودة الذات .
ومن ناحية السياسة التربوية، أنهت تجارب عالمية عديدة الجدل القائم حول مبدأ إدخال المعلوماتية في التربية منذ الثمانينات ونحيل القارئ إلى ما أوردته مستقبليات من التجارب المبكرة كتجربة الولايات المتحدة ودول أوربا والهند وبعض البلدان الأفريقية والعربية والأسيوبة، إذ أكدت كل هذه التجارب حتمية إدماج التكنولوجيا الجديدة ضمن عناصر العملية التعليمية، وتدعوا إلى إشاعة هذه التقنيات الإلكترونية في التعليم المدرسي من أجل أن يصبح التعليم حق وجودي يتحقق ميدانيا لجميع أطفال العالم بصفة حتمية وليس مجرد مبدأ إيديولوجي تتباهى به الدول وتزايد على بعضها البعض، وبقي الجدل فقط ـ في نظر تلك التجارب ـ حول فوائد ذلك والطرق التي يتعين على كل دولة تطبيقها وفق نماذجها التنموية.( مستقبليات العدد 64 : 593 ـ 669 ) .
الأهمية المعرفية وتجاوز إشكالياتها البيداغوجية: ـ
تشكل مرجعيات العلوم والمعارف والاختصاصات في المنظومات التربوية للدول المتقدمة، بدأ منذ التنوير وفجر البنيوية ينحاز تدريجيا لا سيما في عهد العصر الصناعي إلى الكفاءة في السلوك والأداء والقدرة على الإنتاج واستحداث التطورات اللازمة في الواقع الصناعي تحديدا، بما يوفر للإنسان رفاهيته واشباعاته من حاجاته الضاغطة الآنية. فكان أن تدرج منطق العلم في الابتعاد عن التجريد والممارسة النظرية، ليخلوا المكان والسبيل للتجربة والملاحظة المباشرة. وتدرج في هذا الاتجاه حتى أنه أصبح الآن في عهد المابعد لم يعد يستند إلى المرجعيات الابستمولوجية للعلوم ولا للفلسفات البيداغوجية ولا لمواصفات المواطن الصالح بقدر ما يخضع لمرجعيات السوق ومتغيراته بل حتى لتقلباته، فخضعت العلوم للإمعان الشديد في التخصص حتى بدت وكأنها منفصلة عن أنساقها الابستمولوجية وآلياتها الميتودولوجية، وسياقاتها التطورية، وصارت المعارف بذلك محل التفتيت والتجزيئ والأجرأة، وهندسة، كما لو كانت سلسلة من المهارات سلوكية متتالية مصنفة ومبوبة بل ومبرمجة بحسب متطلبات سوق العمل ومفردات الوظيفة، ومقتضيات الإنتاج والاستثمار والتسويق...الخ كما هو في ثقافة المؤسسة ومن ثمة فالمعرفة سلعة تباع وتشترى وتخضع لمتغيرات السوق وشروط الجودة . والسوق بعدئذ معيار لقياس بضائع المعرفة كما تقاس قيمة البضائع بالنقود.
ومن خلال تكنولوجيا المعلومات يتحقق حلم أولئك الذين ناضلوا من أجل تأسيس التعليم والتعلم على مبدأ اللعب كمبدأ سيكولوجي من حيث هو أروع سبل التعلم وأقرب إلى طبيعة الطفل التلقائية والعفوية، بعيدا عن إكرهات المقرر والكتاب المدرسي المؤدلج لاسيما حين يكون بصدد تعلم علوم الحياة، دون ما تعب أو الإحساس بالإكراه والضغط وقواعد الانضباط الملزمة؛ فيعتقد أن الطفل أمام مثيرات الكومبيوتر وتشويقاته في الألعاب يتمثل القوانين العلاقات الإيجابية والقواعد الاجتماعية ويميزها وينسق حركاته وينمي ذكاءه ولغته، ويمارس خياله وخيال الآخرين والأقران، فهي ألعاب تعلمية كمعرفة تعزز الحس التعاوني بغير إملاء ولا إكراه.
ولذاك فالتعليم الإلكتروني يحقق الفردانية من حيث هو يتيح التعلم الذاتي الذي يقلص سلطة الراشدين على غير الناضجين من الأطفال. أو سلطة الضعيف على القوي، والعارف على الذي لا يعرف والخبير على من لا خبرة له . فللحرية التي تتيحها التقنية الإلكترونية في الاتصال البيداغوجي، واستقلالية التلميذ الكاملة في الاختيار، إجابات شافية على كثير من التساؤلات التقليدية التي أثارتها وتثيرها إيستمولوجيا ممارسات المدرسة كمؤسسة بيداغوجية اجتماعية، بعد أن تكفلت بالبيداغوجيا الدمجية والأهداف المتعلقة بالتوريث الثقافي والهوية وتنميط الشخصية والأدلجة، وإعادة الإنتاج ...الخ. فهي صيغة تستجيب أيضا لأمنية روسو والمنحدرين من أفكاره في الحرية البيداغوجية وتأسيس التربية على السلبية من حيث هي استقلالية تامة للطفل عن التأثيرات الاجتماعية لصالح الأنسنة والأهداف السامية العالمية، في كل مراحل طفولته، ذلك بعد أن يئس ديوي من ذلك عقب ضخ القوميين الألمان أهدف قومية شديدة التنميط والأدلجة في كل البرامج التربوية والممارسات البيداغوجية، تصوغ التربية في محيط قومي كثيرا ما كان معاديا للآخر ويحد من النزعة الإنسانية الطبيعية الروسوية، ويقلل من حرية الطفل في الاختيار ( جون ديوي: ) .
وانتفت مع الكومبيوتر الضرورة التي يراها دوركايم لتدخل الراشدين في تربية غير الراشدين من اجل الدمج في المؤسسات الاجتماعية. وتحققت نهاية للتعليم البنكي كما حلم بها "باولو فرايري"، وأجابت التربية الإلكترونية عن تساؤلات بورديو وما أضفته من مخاوف بيداغوجية تتعلق بالإكراه والانضباط المفرط (أي كل ما يسميه بالعنف الرمزي) وحالات التفسير التشاؤمي لوظائف المدرسة القابعة في إعادة الإنتاج والقول بحتمية التعسف الثقافي، بل أجابت عن مخاوف بودريللار"Boudrillard"التي توصف بالحقيقية في توصيف وظيفة المدرسة كما لو كانت وظيفة إرهابية أسوأ من وظيفة التعسف الثقافي مما حدا به الأمر إلى الدعوة إلى تأسيس مدرسة المقاومة التي تحول المعلمين رهائن ومن ثمة تبرير عمل الإرهابيين وتفهم أعمالهم العنيفة ( قضايا : 35 ـ 37 ). والتربية الإلكترونية توفر على "اليتش "عناء البحث عن البديل حينما نادى بموت المدرسة، فنحن على أبواب ما بعد المدرسة أو نهاية المدرسة كمؤسسة ضمن حديث النهايات، فكما يرتقب أن يصبح المدونون البديل الفعلي للمؤسسة الإعلامية، بما تتيحه تكنولوجيا الإعلام والاتصال الإلكترونية، فإنه أيضا يرتقب أن يتطور التعليم عن بعد ويصير بديلا عن المدرسة من حيث هي مؤسسة ويتحرر كل من المعلم والتلميذ من كل إكراهاتها( السلطة، الزمن المكان، القوانين، القواعد الانضباطية التشريعات الانتظام والنظام، البرنامج الأسبوعي، التعسف التربوي والبيداغوجي ...الخ ). ذلك أن الوضعية التعلمية التي يتيحها التعلم الفرداني الإلكتروني تتيح إمكانية تجاوز التلميذ لإكراهات المؤسسة كمكان ثابت بحدود جغرافية ومهنية وبرمجة في زمان وبنظام وضمن قواعد وقوانين ومعايير وضبط السلوك والحركة والتكلم بمقدار . فالوضعية التفاعلية بين التلميذ والوسيط الإلكتروني تكون حتما خالية من كل صيغ وأنماط التفاعل المباشر بين المعلم والتلاميذ السائدة في التعليم بدون وسائط إلكترونية، وبمنأى عن آثارها السلبية المحتملة، كما يرصدها فلاندرز وكل البيداغوجيين اللاتوجيهيين والقلقين من الاتصال المباشر القائم على الهيمنة والمحتوى التفاعلي الموجه .أي أن التقنية الإلكترونية من منظور السلطة والقوة، فهي تلغي الأبوية بكل تجلياتها وتعزز منطق الشراكة .
الأهمية التواصلية الفردية والجماعية في تكوين المعرفة والتعلم
والكمبيوتر يوفر تبادل الرسائل المعرفية في الآن بكل حرية بين التلاميذ فيمكنهم من تبادل الخبرات ونشر آرائهم عبر العالم فتلقي الرسائل المفتوحة والمعلومات العلمية بحرية ووعي، تمكن الطلبة والتلاميذ في مختلف المستويات التعليمية من بناء معرفة متعددة المصادر ومتنوعة في مضامينها ومحتوياتها ( فهو يستطيع بناء معرفة ترفيهية وتعليمية تعلمية وتدريبية وإخبارية وإعلامية ومدرسية سطحية ومعمقة...الخ في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية والطبيعية والبيولوجية مما يساعدهم على الاستفادة القصوى وبدون حدود من التغذية الراجعة وتصحيح مساراتهم الفكرية أو المهنية وحتى الادراكية منها .
كما تمكن التلاميذ من تكوين علاقات إنسانية غير محدودة مع الطلبة والتلاميذ من جنسيات مختلفة، أي تمكنه من ما يسمى بعقد الصداقات الدولية أو الأخوة العالمية حسبما يرغب، فيمكنه المشاركة في الحوارات العلمية والثقافية من أي موقع افتراضي ومن أي مكان بل أنه يستطيع أن يختار معلمه من أي جنسية كانت فلا حدود للإمكانات والمساحات الافتراضية والواقعية منها التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات فهي قد حققت نهاية الجغرافيا والزمن .
ـ تكنولوجيا المعلومات تتيح للطالب معرفة الوضعيات المختلفة لزملائه من حيث اهتماماتهم العلمية، ومستوياتهم وأوضاعهم، ويمكنه أن يحدد مستواه من بين أقرانه وزملائه مما يساعده على الاختيار والانضمام لمجموعات وفرق العمل البيداغوجية بوعي ودون الاعتماد على أية سلطة معرفية أو إدارية بيداغوجية، وكذا معرفة المواضيع والمحتويات الدراسية وتصنيفاتها كما يمكنه معرفة نتائجه والاستفادة من التغذية الراجعة عقب الانتهاء من الامتحانات ونشر النتائج ومعرفة العلامات.
أما المعلم فيمكنه الكومبيوتر بداية من نشر معلوماته وآرائه ويتصل بتلاميذه عبر المواقع الإلكترونية أو البريد الإلكتروني والمشاركة في الحوارات مع تلاميذه ويوجهها ويقودها عن بعد، ويمكنه تسجيل دروسه وإبداء ملاحظاته وإرسالها في حينها بحيث يتمكن كل تلميذ من الاطلاع عليها من أي مكان شاء، كما يمكنه إجراء الامتحان وتصحيحه ونشر العلامات بكل تفاصيلها عن طريق البريد الإلكتروني والمواقع الافتراضية المتاحة.
والمعلوماتية بما توفره من معرفة وبرامج تعليمية جاهزة تمكن المعلم من الاختيار الأفضل للمعلومات العلمية الأكاديمية والاستفادة من أي خبرة عالمية بيداغوجية مهما بعدت، وإن رغب في التعديلات أجراها كما يريد ثم يبلغها لتلاميذه بحسب إيقاعاتهم الخاصة في التعلم وبأي طريقة وبأي نموذج تعليمي يراه مناسبا لتلاميذه، كما تمكنه من إنتاج المعرفة التربوية في مجال اختصاصه ونشرها وعرضها للتقويم التربوي وتلقي التغذية الراجعة تمكنه من التعديل والتصحيح والتطوير المستمر فهي وسائل مفتوحة ضد الإغلاق . وبذلك يستطيع التخلص من إكراهات المعرفة المغلقة والوسائل الثابتة كالتقيد بالكتاب المدرسي وتعليمات المفتش والمذكرات الوزارية كما يتخلص من إكراهات المكان والضبط الزمني والتخطيط الفوقي للدرس...الخ.
والتقنية الإلكترونية الحديثة توفر للإنسان معلما أو تلميذا أو مهما كانت هويته المهنية حرية الاختيار من عدة بدائل فتمكنه من استقبال الرسائل المرغوب فيها كما تمكنه من رفض غير المرغوب منها، وتمكنه من الدخول إلى عوالم افتراضية واختيار منها ما يفيده وينتفع به، ويبعد منها ما يضره ولا يفيده، كما يستطيع من خلال تكنولوجيا المعلوماتية المساهمة في الإنتاج وإبداء الرأي ونشر التجارب البيداغوجية وطنيا وعالميا .
الأهمية في تحقيق الجودة التعليمية والبيداغوجية :
توفر المعلوماتية في التربية إمكانية تطوير وتحسين أداء المؤسسة التربوية من حيث هي ناظمة للأنساق وراعية للقواعد والقوانين البيداغوجية، والتلميذ كمتفاعل مع المعرفة الإلكترونية تلقيا وإنتاجا وحوارا والمعلم كمنسق وموجه وناظم للعملية التعليمية، فالمعلوماتية توفر برامج متنوعة رصدها الباحثون أمثال " رولانلوترناخ " ( مستقبليات 63 : 431 ـ 438 ) تقوم كلها على مبدأ الاستقلالية، تفيد وتساعد كل من المعلم والتلميذ والإدارة كبرامج الإدارة والبرنامج المعلم والبرنامج التشخيصي الرائز، والبرنامج الممرن وبرامج القياس والتحكم والمحاكاة ...الخ ولأن هذه البرامج كلها بدأت رديئة إلا أنها آخذة في التطور نحو مستويات عليا من الجودة، في مجال جودة القيمة التربوية، والدعم والتفاعل الحواري . ولاشك أن المعلوماتية والبرامج الجاهزة وما توفره من آليات التعلم قد ارتفعت إلى مستويات من الجودة العالية، حيث شملت جميع المعارف وتنطلق من معطيات علوم التربية وعلم النفس والبيداغوجيا على الخصوص، وعلى وجه أخص من الذكاء الاصطناعي, ولم تستثني في ذلك المستقبل للمعلومات والمعارف أو المستهلك لها حيث أدرجت كل منهما (المنتج والزبون ) في البرامج كأذواق وقدرات ومقدرات وإمكانات ونتائج على مستوى الأثر الذي تتركه، ولذلك أصبحت الآلات الذكية والحاسوب والأنترنت من وجهة نظر تربوية، هي إمكانية إضافية لتحقيق مواكبة العصر ومستجداته, وألفة عالية بمعالجة المعلومات، وتحسين لنوعية التعلم, وتحسين فرص العمل .وهو الأمر الذي يرشحها بأن تحتل موقع الصدارة في اهتمامات السياسات التربوية المستقبلية،
وبعد هذه الأهمية إذا كنا نحن قد تأخرنا في الاستفادة من المعرفة التقنية الإلكترونية بفعل التفاوت الحضاري، فإنه يتعين علينا أن نواكب ونتكيف مع مستجداتها ولا يسمح لنا بالانتظار لأن سرعة تغيرها جعلتها لحظية تحال بنفس سرعة تغيرها إلى ثقافة الماضي، مما جعل فائدتها آنية لا تقبل الانتظار.
ولكن هل بهذه الأهمية التي عليها تكنولوجيا المعلومات تفلت من الرقابة وشرط الشرعية والمشروعية، ونكون بعدئذ متلقين منفعلين بدون حصانة ووقاية ذاتية أو بدون حتى آليات التحكم الذاتي السبرنيتي ولا حاجة لنا في آجل أعمالها ولا خوف علينا؟ ذلك هو المدخل لبحث مشروعية الرقابة أو الوقاية للمعلوماتية .
محاذير الأنسنة :
بداية يجب استحضار للقارئ من أننا إذا انتقدنا التقنية المعلوماتية وما يسوق في عقولنا لكل ما هو غربي، فليس ذلك من باب العنتريات, ولا من باب رفض الآخر، ولا من باب فتاوى الجهلاء القاضي بحرمة دخول المرأة إلى الأنترنت لحرمة الخلوة، وإنما من باب المعرفة (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ) أي أننا نريد أن نعرفه أكثر لأن هناك مساحات رمادية شاسعة في العلاقة بيننا من حيث تسويقه لمنتاجاته في واقعنا .
فالتقنية والآلة المستوردة لا تكف عن الإفصاح عن قيم جديدة تجذب الإنسان نحو تمثلها كرها وطواعية، فكما أن الآلة الصناعية أحدثت أنماطا حياتية مؤسسية اقتضت سلوكات وتكيفات مهنية وجمعنة اجتماعية مناسبة، واستتبع ذلك تغير أساسي في أنماط التربية والتعليم ليندرجا نحو التكييف والتكيف بالجمعنة والبرمجة والتمهين وتوزيع الكفاءات وتجزئة الخبرة وتقنينها وضبط السلوك القيادي والانقيادي والمنتج والمستهلك... فكذلك الآلة الإلكترونية آخذة في إنتاج أنماط حياتية تتمازج فيها الفردية والجماعية والإنسانية، وتسهم في تعميق مفهوم الأنا المتعددة المراكز في سياق الضمير الكوني، فما كان ينسجم من قيم العمل التايلورية والفوردية في المجتمعات الصناعية مع ثقافة المؤسسة المثبتة في مكان محدد الواقع والوقائع، أصبح لا ينسجم مع ثقافة المؤسسة الافتراضية ومناطق العمل المتعددة المواقع، وهي المؤسسات والتعدد في الواقع الذي يفرض لا محالة تغيير أساسي في أنظمة المؤسسة وأنساقها ( كنظام الأجور والحوافز والتقاعد وأساليب العمل وقيمه وعلاقاته الإنسانية . ( موريس :29 ـ 30 ) وقد استتبع ذلك تغيير أساسي في أنماط التربية والتعليم فصار الإنسان يبرمج في مربع الأثر والمفعول به بدلا عن موضع الطبيعي الذي يجب أن يكون في مربع السبب والفاعل من حيث هو سيد ومتحكم ومؤثر وموجه للحياة داخل أناه وخارجها، كما أرادته على الأقل مسلمات تبشيرات فقهاء الفكر في القرن التاسع عشر والعشرين والكشف عن ما هو مستتر في تفسير حياة الناس والتمكن من حقيقة جوهر الوجود وجعلت من الإنسان سيدا وأمير عالمه، كما تكشف لديهم إرادة العيش وإرادة القوة وصراع الطبقات وقوة الليبيدو والعقلانية والجمعوية والفردانية الناضجة وهي تكشفات الحداثة كلها آلت إلى ذاتية مغلقة والنحن المنغلقة وانغلق الكل على الكل فصار التمركز حول الذات هو السبيل إلى إثبات الوجود بل إن الإثبات هو المنطق الأيديولوجي المتعصب الذي أستدعى بالضرورة إلى تجديد الحداثة والبحث عن انفتاحها بـ "ما بعد الحداثة ". وهو المابعد الذي أذن ـ في طفرة غير معهودة ـ بالنهايات والقطيعة الأبدية مع الكل الماضي إلا في ما يتعلق بتأزيم الوضع الحضاري وترسيخ قيم الفرداية والفوارق الطبقية والفجوات الحضارية، أي إعادة إنتاج الثنائيات السلبية (الأقوياء والضعفاء، والأسياد والعبيد، والفاعلين والمهمشين ...الخ .وهو ما نعده أكبر المخاطر التي تهدد الانسانية في إنسانيتها .
ومن المفيد أن نذكر بأن العلم التطبيقي التكنولوجي على الأخص قد لا تعد منافعه المحققة للإنسان ولا تحصى من حيث رفاهيته ومتعته وسعادته وتجاوزه لكل المصاعب الحياتية وكما أن مشكلات تكنولوجيا سابقة تجد إجابات لها في تكنولوجيا لا حقة، فإن ذلك كله لم يمنع علماء الأنسنة من التنبيه لما لا حضوه بدراساتهم وبصيرتهم من أضرار تصيب الإنسان في الوضع التكنولوجي قد تفوق منافعها وما نبه إليه هؤلاء العلماء من مخاطر قد حدث في معظمه خاصة الأضرار التي تلحقها التكنولوجيا بالبيئة المحضن المركزي للإنسان، ولا أدل على ذلك من ما نعيشه الآن من آثار ضارة ناتجة عن ثقب الأوزون نتيجة تلوث البيئة، والسيارة مثلا هي قيمة إيجابية للإنسان نفعها لا يحصى، إلا أن أضرارها قد تفوق منافعها وهكذا مع كل آلة.
. والمحاذير التي نوليها اهتمام في هذا المقام تتعلق بالانهيارات التي تصيب كيان الإنسان في عمق إنسانيته تستوجب استماع السياسيين، وهي لا تقل شأنا عن المحاذير التي يطلقها العلماء تتعلق بتدمير البيئة ومخاطر ثقب الأوزون تستوجب الاستماع من السياسيين دائما. ومن ثمة فإنه من الطبيعي جدا أن يصاحب كل اختراع ـ تقريبا ـ تخوف الإنسان من آثاره السلبية المحتملة أو المتخيلة على ذاتيته كإنسان وتغير محيطه وصعوبة التكيف بعدئذ, فقديما وفي بداية تطوير أول قاطرة كآلة انتبه الإنسان إلى ضرورة تشريع يقضي بتوظيف رجل يسبق قطار " ستيفنسون " يحذر الناس من قدوم القطار (أشهر المخترعين :ص59 )
وقد ذهب جل الباحثين إلى أن التكنولوجيا تغير من أسلوب حياة الإنسان تغييرا جذريا، فهم يعتقدون أن الطباعة مثلا هي تكنولوجيا عززت الفردية، فإن الأنترنت من حيث هي تكنولوجيا أخذت اليوم تعزز الجماعية الافتراضية كبديل عن الجماعية الطبيعية وهو ما يستدعي الدراسة.( الأنترنت : 221 ) ومن ثمة فهي أداة قادرة على استحداث تغير ما، لا سيما في الوضع البيداغوجي؛ فإذا كان ينظر إلى استعمال المعلوماتية في التربية من حيث هو إجراء يعزز أكثر فردانية التعليم، فإنه أيضا ينظر إليه تحقيق لأمنية القاتلون للمعلم من حيث هو في عرفهم "سمسار المعرفة" أو بالأحرى قتل للمجتمع والاتصال الإنساني، فالحداثة كانت في إحدى نتائجها قد قلصت إلى حد ما اتصال الإنسان المكثف بالطبيعة والتعلم الفيزيقي المباشر لصالح العلاقات الاجتماعية والدمج المؤسسي، فإن المعلوماتية وعصر المابعد أخذ يقلص من الاتصال الإنساني المباشر لصالح الاتصال عبر العوالم الافتراضية الرمزية.وهو مدعاة للتساؤل والحذر .
ومن المفيد أن نستحضر ما ذهب إليه "مكلوهان " في كتابه " مجرة كوتنبورغ " من أن أي اختراع تكنولوجي أداتي إنما هو يمدد بطريقة أو بأخرى نطاق الجسم والفعل فوسائل الاتصال إنما هي تمديد للحواس, والشبكة الإلكترونية إنما هي امتداد للجملة العصبية المركزية, وهي بالنسبة لـ " مكلوهان " ميزات، إلا أنها تنطوي على عواقب حيث يعتقد أن لكل امتداد يحصل تقليص أو بتر لثقافة الطبيعة البشرية ( الأنسنة ) أي ما يصطلح عليه بـ "مبتورات أو مهجورات الإنترنت" تؤدي بالإنسان إلى الانعزال أو الاضطراب النفسي الاجتماعي ( 219 ـ 223 ) والفصل الدراسي إن هو إلا امتداد للفصل التقليدي بكل حيثياته ينتج عنه بالضرورة هجرة وبتر للثقافة الإنسانية الطبيعية ( الأنترنت : 194 ) .وكذلك فالآلات الذكية هي هجر وبتر للثقافة المدرسية المؤسسية دونه مخاطر على قواعد التفاعل والتجمع البشري ، وكل ذلك يستدعي ويشرع لطرح الأسئلة ماذا يتمدد , وماذا يهجر ويبرز , وماذا يسترجع ... الخ .
مشروعية الرقابة ( الوقاية ) .
إن الانطباع الإيجابي المطلق السائد حول التقنية واستخدامها لصالح الإنسان وتقدمه، تكاد تنشئ عوائق إبستمولوجية نحو طرح أية تساؤلات تتعلق بجدوى استخدامها، ولا شك أن طرح مثل تلك الأسئلة تحتاج إلى شجاعة وجرأة كافية وحمولة من المبررات الوجيهة لا نجدها إلا عند المتخصصين الذين يقرؤون الواقع كانشغال يؤرقهم ويقلقهم، فلم يمنع هؤلاء زخم الإيجابيات وازدحامها من كشف مخاطر الآلات الذكية والتشكيك حول الإيجابية المطلقة السائدة لهذه التقنية، فقد سكنت تخوفات كثيرة علماء الأنسنة حتى سمو العصر التكنولوجي، بعصر القلق ـ وإن بددت التجربة بعض منها ـ و برز الحديث عندهم منذ مدة عن ما يطلقون عليه برعب الآلة، ( التكنوفوبيا ) إلا أن كثير من ذلك الحديث " الانشغال " ما زال يحتفظ بقيمته ومصداقيته العلمية في عصر المعلوماتية وهو حديث وانطباع نشأ عن مساوئ ناتجة من الإفراط في التفاؤل بمستقبل الإنسان في ظل التقدم التكنولوجي يصعب تبديدها، حيث تبرز الدراسات أوجه أخرى للتقنية ضارة بالإنسان الذي أنتجها ذاته، أو تظهر على الأقل ما يقابل نفعها من الأضرار، فالضوء في مثالنا السابق من حيث هو ضرورة لحدوث عملية الإبصار قد يمنع حدوثها بسبب ما تبعثه الانعكاسات الضوئية من إشعاعات ضوئية ضارة بالعين أو بسبب لون الضوء غير الملائم أو شدته التي قد تكون فوق عتبة الحس ...وقد تكون سكة القطار أو القطار ذاته ليست من جنس واحد فيتضرر كل منهما وتعاق عملية التنقل، والهواء من حيث هو ضروري لحياة الانسان وإنعاشه قد يحمل تلوث غير مرئي للانسان العادي فيسبب له الأضرار، فكذلك الكومبيوتر أو الآلات الذكية قد ينبعث منها ما يعيق المعرفة وينحرف بها أو يعيق عملية التعلم ذاتها، فكما أنها عامل أساسي لتمكين الإنسان من المعرفة والتحكم، فهي قد توظف كعامل هدم تقود الإنسان إلى سلسلة من الانهيارات يمكن الإشارة على بعض من المخاطر ومظاهر الانهيارات في ما يلي :
مخاطر التقنية على الإنسان
المخاطر الصحية:
إذا كانت تكنولوجيا الصناعة أسهمت في إفراز نماذج حياتية اقتضت من الإنسان التكيف والملاءمة مع الآلة وتداعياتها وحذرت من مخاطرها على الجسد والنفس فكانت الأرغونوميا تبحث وضعيات تطويع الآلة مع مقتضيات الإنسان كعامل، فإن المعلوماتية من حيث هي آخذة في إفراز أنماط حياتية يطلق عليها مجتمعات المعرفة أو المعلومات أو التعلم( بن علي : 22 ـ ) فإنها تقتضي من الإنسان التكيف والتلاؤم والتهيؤ لمنع مخاطرها على النفس والجسد كمواجهة ما تحدثه من توترات على مستوى الجهاز العصبي وإتلاف للجهاز البصري وتصعيد للقلق ... الخ وقد نبه علماء الحضارة إلى مخاطر صحية قد تواجه الإنسان أثناء استعماله للتقنية، ففي الوضع الذي يكون فيه جسد الفرد مرمى للموجات الكهرومغناطيسية وفي مجال الإشعاعات المنبثقة من الوسائل التقنية الحديثة ومنها الحاسوب وكل أجهزة التحكم يتعرض لا محالة لتأثيرات سلبية على الجوانب البيولوجية والإصابة بالأمراض العصبية ومختلف الأورام يتعذر شرحها هنا ( تقنيات : 77 ـ 79) .ومن ثمة أوجب أيضا التفكير في إنتاج أرغونوميا خاصة ليس فقط من أجل التكيف الجسدي والسلوكي للإنسان بل بالتكيف الوجداني والمعرفي أي تطويع ما أنتجه المرسل من معرفة وأدوات وفق المعطيات الوجدانية للمتلقي في عدة مجالات(اللغوي والميتالغوي والمعرفي والميتا معرفي أو ما يسمى بتفكير التفكير ).
مخاطر على ثوابت الإنسان في التفرد
وبحسب تنبيهات هؤلاء العلماء تكون المخاطر قد تجاوزت حدود المكننة ومساوئ تكييف الإنسان وفق مقتضيات الآلة والتي ظهرت في المجمعات الصناعية، إلى التنبيه لمخاطر جديدة آخذة في التحدي للإنسان في زمن المعلوماتية وما بعد الحداثة تتعلق بما يعرف بـ "الانسالي " حيث يجري الحديث عن دمج الدوائر الكهربائية والذات الإنسانية؛ أي دمج الحاسوب في الجسم البشري وزراعته كقطع في مختلف أنحاء الجسم بل حتى على مستوى الخلايا والدماغ لتؤدي وظائف معلوماتية، كزراعة رقائق تحت الجلد، والنظارات الذكية، وسماعات في خلايا، وأجهزة التنبيه والتقاط والعرض في القدمين والركبتين والعينين...الخ . ومن الطبيعي إذا حصل ما تقدم فإن ملامح فردية الإنسان وإنسانية الإنسان تتغير باتجاه القضاء على النوع البشري وإنتاج نوع (الإنسان / الآلة) . ( تقنيات : 114 ـ 118 ) .
مخاطر فقدان التوازن : يتعرض الإنسان في مسيرة تحقيق المزيد من السعادة في الحضارة المعاصرة إلى آثار سلبية عرضية تطال توازنه النفسي والجسمي؛ فقدرة الاستيعاب لدى الإنسان لهرمونات الطبيعة ( المثيرات) محدودة تجعله دوما متوترا يبحث عن التوازن والإشباع، وكثيرا ما تتعرض مبادراته للإخفاق نتيجة مفعول عصبونات الدماغ التي تخزن كل التجارب الحسية والنظرية، حيث يؤدي ذلك إلى اختلالات وظيفية بين العقل الواعي واللاواعي، وينشأ التصادم بين الوعي والذاكرة الخفية وتكثر نتيجة ذلك الاخفاقات في التكيف ويحدث التشوه العقلي والألم النفسي والجسمي معا .( التقنيات : 120 ) . يضاف إلى ذلك ما كشفته الدراسات من أن الاستعمالات المكثفة للوسائل السمعية البصرية قد أدى إلى ما أسموه المفكرون إلى الفرد المفصوم، حيث قسمت جسد الإنسان إلى أجزاء وقطع، كل قطعة تعمل كما لو أنها وحدة، وهو ما نلاحظه في ما تحدثه المثيرات الحضارية من إكراهات تشغيل العين منفصلة عن الأذن، فكثيرا ما يرغم الإنسان على الاشتغال البصري على الشاشة، والاستماع للراديو في نفس الآن، كما يرغم على فصل القدم عن الأذن والبصر ...الخ ( تقنيات : 100 ) . وهو ما يؤدي إلى صعوبة تناغم الحواس مع العقل الإجمالي في تكوين المعرفة فيحدث التشويه الفكري وإنتاج العقل المبلبل ( المضطرب ).
وبتلك المخاطر نكون بني الإنسان في وضعية التفاعل مع الآلة كما لو أننا كما يصفنا "أيمن عيوش " كائنات نسير نحو ترويض أنفسنا وفق معطيات شاشة الحاسوب، وأننا في تعاملنا مع الحواسيب كما لو أننا نتداول أسلاكا نحاسية ننصهر كأفراد في المكننة، ونعتقد بذلك أننا نكسب الحرية، إلا أننا نفقد الكثير من الإرادة حتى صرنا لعبة في يد محركات وآلات ودميات نحن من صنعها . (تقنيات : 121 ) .
وتفصح هذه المخاطر عن نفسها خصوصا فيما يتعلق بسلب الإرادة والربونة، حيث الإنسان اللامنتج واللامبدع أو الإنسان القلق كما هي صورته في عرف الإنسانيين. فما يلاحظ من استخدام للتقنية الإلكترونية في ما يفيد ويغني معارف الفرد مما يجعلها مصدر لتبادل المنافع، ويدفع بعدئذ نحو تشجيع حرية الاستخدام، يلاحظ أيضا وبنفس الدرجة استخدامها في ما يؤذي الإنسان المستخدم والآخرون برسائل معرفية ضارة، ومن ثمة فهي مصدر لإيذاء الآخر برسائل هدامة، وهو ما يسوغ لمشروعية الرقابة في استخدامها، حيث أن الاستسلام لمقولة الحتمية التكنولوجية والخضوع لها ينتج عنه لا محالة تعميق وإمعان تبعية الإنسان للآلة واستمرار تحكمها في وضعياته الحياتية، كما نبه إلى ذلك كثير من النخب العلمية في الوضع الحداثي، حيث سبق أن حذروا من الإفراط في استخدام التكنولوجيا والاعتماد عليها بدون ضوابط باسم الحرية المطلقة من أضرار تصيب كل من المستخدم للتكنولوجيا والآخر والبيئة على حد سواء؛ ومن ذلك ما نفهمه من قول ديوي التحذيري الشامل من أن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها ولا تثق بقوة العلم في خلق قيم جديدة ...تدمر نفسها بنفسها .( دوبو: 43 ) .
كذلك فإن أصوات النخب العلمية المنتجة للآلات الذكية بدأت منذ مدة تعلوا وتنذر بالأخطار التي يمكن أن يتأذى منها الإنسان من مثل الرسائل الإلكترونية الهدامة المشاعة باسم الحرية في عهد الفردانية المفرطة في الوضع ما بعد الحداثي؛ وهو ما يؤكد من جديد خطر خضوع الإنسان للحتمية التكنولوجية ويستدعي بعدئذ البحث عن الآليات التي تمكن الإنسان المخترع والمنتج والمستعمل للآلات الذكية من السيادة والتحكم كالرقابة والتوجيه والإرشاد، فقد تأكد للمراقبين بما لا يدع مجالا للشك أن التكنولوجيا بكل أنواعها ومستوياتها ومجالاتها عندما تفلت من رقابة الإنسان ويفقد السيطرة عليها يصبح أسيرا لها، ويمكن أن تنزلق به نحو التهلكة، تماما كما يفقد السائق السيطرة على قيادة سيارته، حين الاستعمال المفرط للسرعة، فتودي حتى بحياته .
مخاطر عولمة المكان بيداغوجيا :
إن ما يروج له كمزايا بشأن تفجير أطر الزمان والمكان من حيث هي إكراهات وتحقيق ما يسمى بالقرية الكونية وإن هي كذلك، إلا أنها تنطوي على مخاطرة ليست هينة ولا هي مستعصية الإدراك، ونرصدها في تهديد سلامة المجال كانتماء نفسي ومحضن اجتماعي قبل أن يكون مجرد بيئة إيكولوجية، ونعتقد أن خطأ الحداثيين بوعي أو بغير وعي في تحديث المجال وإنتاج ( أزمة هوية المدن والقرى والحي ...الخ) بالقضاء على خصوصياتها البنيوية والوظيفية في التواصل الاجتماعي، فضلا عن القضاء على كل ما يولدانه من مشاعر وجدانية تلصق الفرد بالمكان حيث أنه لا ينموا التعالق الفردي والاجتماعي إلا في مجال يحتضن قيم هي في عرف الاجتماعيين محددات للسلوك، يتكرر الآن بعولمة المجال لإنتاج الأنفس المعولمة، فما أقبل عليه الحداثيون من تفكيك هوية المجال ( والحومة والحي والقرية ...الخ ) لصالح تقوية الانتماء للدولة الوطنية كرمز ومجال إيكولوجي، قد كان تفكيك لهوية المجال وسحره، في النفوس قبل كل شيء، يضعف الروابط الاجتماعية، والعلاقات المتبادلة وبالتالي قد كان تفكيك للانتماء الطبيعي، وما يجري الآن من عولمة المجال يبطن تفكيك للروابط الاجتماعية والدولة وإضعافها لصالح العولمة، وكأن تفجير أطر المكان والزمان هو بمثابة تحسين شروط العولمة . ومن ثمة فتكوين الذات العلمية التكنولوجية بالوافد دونه مخاطر تهدد الذات الأيكيولوجية من حيث هي محضن اجتماعي ونفسي يصعب تجاوزه في تربية الانتماء. فتفجير الأطر الاجتماعية هدف استراتيجي في منظومة التربية المعولمة من حيث أنها (أي الأطر الاجتماعية : المؤسسة ـ الدولة ـ الأسرة ـ المسجد ـ المدرسة ـ الحي ـ القرية ـ النادي...الخ )عوائق سوسيولوجية مؤسسية تنتج عوائق ابستمولوجية بعولمة الفكر والوجدان والحس الفيزيقي، وتعمل في منظومة العلاقات الإنسانية على إضعاف الارتباط الوجداني وحتى العملي النفعي لدى الفرد في مجاله الحيوي، وبالتالي ضعف المواطنة والوطنية. إذ أن المجال من حيث هو مكان للعيش وممارسة الحياة ورابط فيزيائي, وفضاء انتمائي تراتيبي وتواصلي, وحيز علائقي له هويته الخاصة, حيث يتميز بخاصية الاتصال والانفصال ككل الوجود ويشكل رمزية خاصة لوجود الفرد من حيث هو مجاله الحيوي تنموا في ظله شخصيته وتتشكل هويته وفق الاتصال والانفصال عن الهويات الأخرى، ومن ثمة فهو جدير بالاحترام لأن احترامه من احترام إنسانية الإنسان, فالجغرافيا حاضرة بكل ثقلها في شحنة الانتماء, والعلاقات, والتواصل, والتمايز, والتفاعل, وبالتالي فهي من مفردات السلم القيمي الاجتماعي والهوية, لا يمكن القبول بالمساس به نضير مزايا العولمة الافتراضية.
والفعل الإنساني لا يمكن تصوره إلا في حيز إيكولوجي وزماني معين، فهو أحد المكونات الأساسية للمعرفة ومجال التجربة بأوسع معانيها حيث أن التفريط في المجال يعني التفريط في الخبرة المباشرة الطبيعية والتفريط في تعلم المسافة الاجتماعية والمسافة النفسية والمسافات الزمنية ومفهوم التوطين؛ أي نفقد المعرفة بعلاقة الإنسان بالمجال وهي علاقة تتضمن ثلاثة أزمنة ( الزمن الجغرافي , الزمن الاجتماعي , والزمن الفردي وتشكل هذه الأبعاد منابع الحياة .( قضايا ابستمولوجية : 60 ـ 61 ) وهو ما يقودنا إلى إشكالية نظرية المعرفة وإعادة صياغتها وفق معطيات المعرفة الافتراضية .
مخاطر معرفية مباشرة
تحيل عملية إدماج تكنولوجيا في التعليم على العولمة وما تثيره من مشكلات تتعلق بمجتمع المعرفة كالتنمية والحرية والعلاقات الإنسانية وما هو فردي وجماعي، والواقعي والافتراضي، وتخصيص ما هو كوني وما هو محلي وخصوصي، والمركزي واللامركزي، والمنمط من غير المنمط ...الخ. فكل هذه المفردات استدعت تغييرا جذريا للأنماط المعرفية وأساليب التدريس وإعادة صياغة التعلم وفق مقتضيات الآلة الذكية، وما يستلزم ذلك من إدارة العمليات المعرفية من أجل الحصول على السهولة والسرعة اللازمة للتعلم والتحصيل، بغرض التكيف مع مقتضيات التنمية، وقد أثار ذلك مخاطر معرفية على نشاط الإنسان العقلي بصفة إجمالية، فسهولة التعلم الذي توفره الآلة الذكية لا يعد إيجابيا مطلقا فهو ينطوي على مخاطر وسلبيات بحسب دراسات حول الانتباه والذاكرة؛ إذ أن الجهد العقلي المبذول في حالة التعلم بالكتاب أو النص من غير آلة يكون أكبر بكثير من الجهد العقلي الذي يبذل في حالة التعلم بالآلة الذكية، وهو ما يؤدي إلى الاسترخاء أو الكسل العقلي الذي تحدثه الآلة . ففي تجارب " سالمون " أظهرت النتائج أن الرسالة السهلة تطلبت جهدا تعليميا أقل، وتحصلت على تعليما بسيطا، والرسالة الصعبة تطلبت جهدا اكثر وتحصلت على تعلم اكبر ( الأسس : 141 ). ويستنتج من ذلك أن الآلة تقلل من النشاط الإنساني في وضعيات التعليم المبرمج بصفة عامة .
مخاطر بيداغوجية مباشرة :
يجب علينا تنبيه القارئ من أننا على وعي تام ونعلم في هذا المجال أن المحاذير البيداغوجية والمتعلقة أساسا بفرط التفاؤل في نتائج تكنولوجيا التربية وإكراهات الواقع المدرسي من مثل القدرة الاقتصادية والتمويل المالي، وتكوين المعلمين، وإنتاج الأقراص المدمجة، ونقص الكفاءة في البرامج المدمجة، وفي الاستعمال والصيانة وتحقيق ما يسمى بالمرافقة التربوية ( عبد النبي : 83 ) كلها محاذير يمكن أن تبدد بفعل التطوير والتحسين لوضع تكنولوجيا التربية كسياسة في المستقبل القريب. ومن الطبيعي بعد هذه المخاوف والمحاذير أن نتوجس خيفة من التكنلجة وننسحب بعدئذ لتأسيس إنسانيتنا وتركيزها في مواجهة سلبيات الثقافة الإلكترونية بتحريض إنسانية الإنسان على مقاومة الربونة مهما بدت لنا منافعه مكثفة وشديدة. ومن الطبيعي أن نحترس من الآلة لأنها ارتبطت وعلقت بذاكرتنا التاريخية بقيم الاستعمار والتبعية، فطبيعي أن تستيقظ فينا مقاومة وممانعة لكل آت، كما هو طبيعي أن تستيقظ فينا مقاومة فرنسا الحرية والحريات لأن في ذاكرتنا فرنسا التكنولوجيا هي فرنسا الاستعمار والاستعباد .
ومشروعية الرقابة تأتي أيضا من جهلنا بكينونة تكنولوجيا الآلات الذكية رغم تحكمنا وتعلمنا لها ورغم الفوائد التي نلمسها وتصيبنا منافعها بصفة مباشرة، فمنذ الأزل شرعن لمراقبة ذكاء الإنسان في كل ممارساته رغم قناعة الإنسان العلمي بأنه قيمة إيجابية في حد ذاته وسر تميزه الإيجابي عن سائر المخلوقات، فوضع في أنساق دينية واجتماعية تضبطه وتحد من حريته المطلقة وتحميه من الانزلاق نحو مخاطر تهدد كينونة الإنسان ذاته؛ فبسبب استمرار بقاء الذكاء أو العقل في حيز المجهول والوجود الافتراضي في المعرفة الإنسانية الوضعية واستعصائه عن التكشف، تأتي علة مشروعية وضع الإنسان ذكائه وعقله موضع النقد والمراقبة، ومن ثمة كانت التشريعات الدينية وبناء الأنساق الرمزية المعيارية من الناحية الوظيفية تعمل كما لو أنها آليات رقابية على ذكاء الإنسان يهتدي بها نحو سكة الحياة الآمنة والنافعة، على الرغم من قناعة الإنسان من حتمية إيجابيته في تطوير حياتنا وأوضاعنا وتمكننا به من درء كل مخاطر التي يمكن أن تصيبنا؛ بل واعتمادنا عليه في إنتاج كل ما يتعلق برفاهيتنا وتمتعنا بالحياة وتحكمنا في كل ما حولنا والغوص في أعماق الأكوان من حولنا رغم تلك المنافع، وضع تحت الرقابة فكيف بالآلات الذكية إذن ؟.
وإذا كانت حياتنا في ظل العولمة أصبحت جزء لا يتجزأ عن العالم، ولا يمكننا ـ ولا نستطيع حتى ولو أردنا ـ أن نتجاوز هذا الواقع، فإننا نجد أنفسنا أمام الضرورة والحتمية التقنوية ومن ثمة مواجهة تحدياتها، لا بالتفكير فقط في ما يجب أن نعمله تجاه تلك التحديات؛ بل أصبح في وضعنا أولوية التفكير في ما لا يجب أن نعمله أي أن نمتنع على فعله، وتلك عند "دوبو " هي الممارسة الفعلية للحرية التي يختص بها الإنسان عن الملائكة كما ثبتتها الأديان فهم يفعلون ما يؤمرون أما الإنسان فهو مزود بالقدرة والاختيار على تجنب الأفعال المذمومة والضارة .( دوبو : 167 ). فمن واجبنا أن نواجه مثلا ما نعده رعبا تربويا عولميا ونمتنع عن فعله، وهو ما يتعلق بإجراءات الصياغة القسرية لمدركاتنا كأفراد وشعوب وفق نموذج إدراكي واحد، يتعلق بالقيم اللبرالية التي لم يحصل بعد حولها الإجماع؛ بل تعاني من مقاومة شديدة رغم عرض نفسها كقوة عالمية جاذبة ومساحة تستوعب الإنسانية، فهي لا تنتج في مجتمعاتنا إلا التصادم الفكري والجمالي والقيمي مع خصوصياتنا ومجالنا الحيوي أي تنتج فقط الفوضى البناءة اللازمة لمغامرة الوحدة الإنسانية في عرف العولميين .ولا شك أن الفوضى تلك تبدأ من التعليم وبث عنف المدنية على خصوصياتنا في منظوماتنا الثقافية والتربوية .
فمشروعية الرقابة تأتي أيضا من مرجعية حقوق الإنسان لا سيما في الوضعية الاستهلاكية، فالاستهلاك للإنتاج ضرورة حياتية تستتبعه بالضرورة حقوق المستهلك على المستوى الفردي كزبون له رغباته ومنافعه وأذواقه، وحقوق المجتمع في حماية ثقافته وهويته في عالم تتحرك فيه الثوابت وتتشكل باستمرار. فتمدد آثار التكنولوجيا الرقمية في حياتنا الخاصة والثقافية طالت حتى أبجدياتنا في العبادة حال دخولنا في الصلاة الجماعية، فمما هو قد يكون مضحكا فقد وجد الإمام نفسه مضطرا لاستدخال بعض التغييرات في العبارات حين التذكير برص الصفوف، فيقول ( رصوا الصفوف، وسدوا الفرج وأغلقوا هواتفكم النقالة... ) ولا نستبعد أن يأتي يوم ونجد أنفسنا في وضع تكنولوجي يعوض الإنسان جهده في الانتقال والممارسة الفعلية للعبادة بما يمكن تسميته بالعبادة الافتراضية .
ونجد الرقابة أو الوقاية تفرض نفسها على تدفق المعلومات وانسيابها عبر الوسائط الإلكترونية في عصر المعلوماتية؛ فهي وإن تعد قيمة إيجابية في حد ذاتها، إلا أنها تنطوي على مخاطر عندما تكون غزيرة ويصعب على الفرد مواجهتها بقدراته المعرفية الذاتية، إذ تثير إشكاليات تتعلق بالقدرة على الاستيعاب والتوجيه والتوظيف والاستثمار، كما تثير غزارة الأمطار رغم إيجابيتها مشاكل على الأرض كثيرا ما كانت أكبر من قدرة الإنسان فتحدث أضرارا . فكما سوغ الإنسان المعاصر لنفسه تخطيط الولادات وبرمجة الإنجاب لمواجهة ما يدعى بالانفجار السكاني وتجنب آثاره السلبية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، فإنه من المفترض أن يسوغ لنفسه أيضا مراقبة وتخطيط تدفقات المعرفة الإلكترونية وتخطيط آدواتها واستعمالها منظما في الزمان والمكان كما تنظم المدرسة وجوبا استعمالاتها للكومبيوتر .
ولا يخفى على كل باحث جاد أن ما أحدثته الآلة الصناعية في المجتمع الصناعي الحداثي من تغيير أساسي في حياة الناس الاجتماعية أي في علاقات الانتماء، وإعادة تشكل الـ "نحن" في نطاق الجمعنة الصناعية والوطنية، بدل الأسرة والعشيرة والقبيلة والاثنيات، تحدثه الآن ـ أو ما يشبهه ـ الآلات الذكية أو ما يسميه بن علي ( الانسالي ) في عصر مجتمعات المعرفة على مستوى التدريب والتعلم والتعليم، فالتجاوب الوجداني الذي يظهره الطفل مثلا لحد التماهي والتوحد حيال الألعاب الإلكترونية والقصص التربوية وانجذاباتها، يجعل ذاتية الطفل ـ في بعدها الفرداني والاجتماعي ـ تنموا بمعزل عن وسطها العلائقي الاجتماعي والطبيعي؛ حيث يظهر الطفل أكثر انتماءا وحبا للآلات الذكية وأكثر تصديقا وقابلية للتأثر من أي مصادر أخرى للتعلم، فقد لوحظ عند توفر هذه الآلات الذكية أن الطفل يتعلم مناشط الحياة وينمو في خبراته ومكتسباته في العلاقات الاجتماعية عبر الوسائل الإلكترونية بمعزل عن الوسائط الاجتماعية الطبيعية كالأسرة والمؤسسة ومجتمع الراشدين، وكل ذلك يثير تساؤلات وإشكاليات حول:
1 ـ انتشار وتلقي المعلومات الخاطئة علميا وقيميا في غياب النواظم الاجتماعية يمكن أن تشوه معرفة الأجيال وتنبت التناقضات الأخلاقية وتؤدي إلى تفكك الأفكار في الوضع ما بعد الحداثي كما تبعث الأفراد من حيث لا يدرون إلى اللهث وراء المعلومات الغزيرة ولا يستطيعون استيعابها والنتيجة الحتمية لذلك أن يفقد الأفراد توازنهم المعرفي، وتفقد الحكومات والدول قيادة شعوبها المفككة معرفيا ( التقنيات : 97 ت 98 ) مثل ذلك كفقدان الطبيب للسيطرة على الجسم المفكك بالفيروسات القاتلة .
2 ـ تساؤلات حول قدرة الآلات الذكية كطرف تفاعلي تواصلي على تأمين سلامة نمو الطفل وذاتيته. فكما تشير دراسات وملاحظات الباحثين أن الانصراف والانجذاب القوي للأطفال وحتى الراشدين يصيب الشخصية بالانطوائية والانعزال عن المجال وحتى سوء التكيف الاجتماعي والتصحر الشديد في العلاقات الاجتماعية التواصلية والوجدانية. ووجد أن الإدمان على الاستعمال التكنولوجي في تعلم المعرفة والاستعانة بها يولد لدى الأطفال حالة الاسترخاء أو الكسل العقلي حيث لا يبذلون أي جهد في إنجاز ابسط العمليات الحسابية، والاعتماد الكلي على الحاسوب جعلهم غير قادرين على إنجاز أساسيات المعرفة الرياضية أو غيرها مما تتطلبها حياتهم اليومية، فهم ارتبطوا بالحاسوب وبالآلات الذكية ارتباط التبعية الشديدة فلا يستطيعون مواجهة المشكلات المعرفية بدونها.
3 ـ ينبه الباحثون ومن بينهم " تيبور" إلى إن إيجابيات الحاسوب يجب اللا تحيلنا على وهم إمكانية تحويل كل شيء موجود إلى صيغ حاسوبية وأن تعلم الحاسوب نهاية لكل المشكلات الاجتماعية المعاصرة . ( 390 ) فيجب اللا تحجب عنا إيجابيات تكنولوجيا المعلومات من أن الثقافة الإلكترونية والمعلوماتية تنطوي على خطورة عظيمة وهي تكوين المجتمع التكنولوجي والتعليم التكنوقراطي, وهو المجتمع والتعليم اللذان تتراجعا فيهما القيم الإنسانية, نظرا لما ينميانه من نزعة توحيد التعليم, وحصار الاتصالات الشخصية ( أي كما يسميه " تيبور" تأحيد الفكر تبعا لتوحيد التكنولوجيا .مستقبليات 63 : 391 ) . وأن الاعتماد على الكومبيوتر كمصدر للمعلومات والتعلم من شأنه أن يحول الفرد إلى غنيمة للأفكار التحيزية السيئة لا سيما في عصر التعليم المائل للتخصص الدقيق والمغيب عن الثقافة الموسوعية؛.فتجربة الاختبارات والروائز المعممة في تصميم الامتحانات لم تؤدي من نتائج تذكر ماعدا أنها كشفت عن نفسها خليطا من الأحكام التحيزبة السبقية وتكميم غير موثوق لمعارفنا ومدركاتنا, فغدت مكننة التعليم ـ كما يعتقد تيبور ـ تجربة مؤسفة. وبناء عليه ينصح المربون بأنه يجب اللاتؤدي إيجابيات تعليم المعلوماتية إلى تموقعه لمكانة الصدارة في البناء التعليمي التعلمي , فيجب أن يعطي قدره في أنه مساعد على التعلم ليس أكثر, وأنه لا يتجاوز دوره مساعدة الذاكرة وإدارة للمعلومات ومعالجتها، فلا يمكن مثلا لتعليم المعلوماتية أن تحل محل علاقة معلم/ تلميذ؛ فالعلاقة سيرورة اجتماعية سيكولوجية لا يمكن تعويضها... الخ . ونسوق هذه التنبيهات حتى لا نكرر أخطاء الناتجة عن التعامل بإيجابية مطلقة في تعليم التفكير المنطقي ووهم الموضوعية والتي تبدوا إيجابياته لا غبار عليها إلا أننا ونحن ننغمس في ذلك نقزم التفكير ذاته ونخل بحريته في المواقف التعليمية، ذلك أن التعليم ليس تدريبا على المنطقية لإنتاج جنود انقياديين أوحاديين في التفكير بقدر ما يهدف إلى تأصيل إنسانية الإنسان بتربية الإرادة في المجهود الكلي الجماعي بروح تعاونية وليس بكسل عقلي .( مستقبليات 63 : 392 ) .
الآلة الذكية والعلاقات الإنسانية في الوضع البيداغوجي
بحس فلسفي كشف هيدجر عبر مناقشة مفاهيمية لمسألة التقنية وما يفرقها عن ماهيتها ويميزها، ليستنتج أنه لا يمكن بناء علاقة حرة بيننا وبين التقنية ما لم يحدث إدراك علاقة الإنسان بماهية التقنية فليس بمجرد تمثل الإنسان لمفردات التقنية وممارستها والتكيف معها أو رفضها والهروب عنها نبني تلك العلاقة، ومهما رسمنا تلك العلاقة فهي علاقة موهومة لأنها تقف عند حدود تصور التقنية كما لو أنها وسيلة وأداة وفعالية إنسانية لارتباطها أو تضمينها الغاية والوسيلة ضمن منطوق العلل الأربعة الأرسطية. وهو مفهوم أنثروبولوجي يعكس تصور أداتي للتقنية ويعبر بصدق على الواقع وهو صحيح لا يرقى إليه شك ولا يسمح بالمجادلة بشأنه .فالتقنية وسيلة لغاية وفعالية إنسانية في الوقت ذاته . ولكنه مع ذلك فالتقنية بما هي تجلي للدقة فليست بالضرورة تجلي للحقيقة ومن خلالها يمكن أن نهتدي للحقيقة . فبحسب هيدجر أن الأداتية تلحق الإنسان كذات بتقنيات هو من أوجدها وحرم من حريته واستتبع نفسه بها والقول بأن التقنية شيء حيادي إنما هو التصور الذي يعمينا عن إدراك ماهيتنا ويبقينا في مربع الاستسلام والتبعية. فكما توجد إمكانية تحويل ما هو خيالي على واقع نعيشه توجد أيضا إمكانية لتحويل ما هو حقيقي ونعيشه إلى مجرد وهم نعيشه . ( هيدجر : ) .
فالاعتداد الكامل بالتكنولوجيا الإلكترونية الحديثة في تحقيق منسوب أعلى من الحرية الفردية في التعلم الذاتي كقيمة إيجابية في المنظور اللبرالي وإن هي تبدوا مفيدة، إلا أنها تحقق ما هو وهم من الفردية، وتنبني عليه، فالفردية كما تأكد لدى السيكولوجيين ليس هو مجرد حاصل مجموع القوى والدوافع الفطرية وبناء عليه صار كعرف لدى التربويين أن النشاط الفردي البحت غير موجود وحالة من حالات الوهم؛ ذلك أن الفرد ما هو إلا حصيلة التفاعل ( البيئة أو المجال الحيوي، الذات) مما يجعله مدينا في نشاطه لمجاله الحيوي وأن خروج الذات كنشاط عن ذلك النطاق الحيوي لا يعد حرية فردية بقدر ما يعد خيانة للمجال.
ومما أفادته الدراسات المتعددة أن الإدمان على التكنولوجيا المعلوماتية تبطن مخاطر جانبية، حيث تحجب إلى حد بعيد التفاعل الإنساني المباشر في مجال الاتصال البيداغوجي حتى ولو نرى بعض الصيغ التي تجمع فرق من التلاميذ حول الكومبيوتر يعملون مشدودين إلى الكومبيوتر وليس إلى بعضهم البعض، وهي حالة أشبه بما يجمعه التلفزيون لأفراد الأسرة لرؤية مشهد مثلا، فالاتصال في مثل هذه الحالة يجري في نطاق العلاقات الفردية ومحتوياتها النفسية، التي تستجيب لأنماط الحياة الفردية كالاتصال الذي توفره الأنترنت فهي صورة أخرى مبتدعة من الفردية الفقيرة في محتواها الاجتماعي .
فالكوممبيوتر يعزز وينمي علاقات جديدة تتعلق بالعفوي الآني على الفكري المتأني العقلاني والفردي على الجماعي وسيادة الحاضر على الماضي . وبالتالي فإن ما يعتقد أن التعامل مع الكومبيوتر والنهل من المعلوماتية يؤدي إلى التحرر من كل مذهب وصلة بالرمزي وبالتالي تحرير الأنا والفردية من انساقها الطوباوية هو صحيح؛ إلا أنه كثيرا ما يصبح مجرد تعويض للأوامر النص والمعلم وتعاليم المنظومات الرمزية والعلاقات، بأوامر وتعاليم الكومبيوتر ومثيرات السمعي البصري الذي يطرح الجماعة خلف الحجب وإلى المسكوت عنه أو اللامفكر فيه . وهو ما يشكل إزاحة لأهم عناصر الشخصية الجماعية من حيث هي ليست مجرد حاصل مجموع الأفراد والأنماط الشخصية المكونة لها، فهي علاقات وتفاعلات ومواقف جماعية حيال المواضيع والأوضاع تفوق بكثير مجموع طاقة الأفراد المكونين لها .
الآلة الذكية ونظريات التعلم.
ما فتئت الحواسيب والآلات الذكية تفصح عن إيجابياتها المتعددة والكثيفة في مجال استخداماتها في التعلم، حتى أصبح تعلمها في عصر مجتمعات المعرفة الآخذة في التكون ضرورة لكل مدرسة ومن مقتضيات تربية المواطنة من حيث هي محو للأمية المعلوماتية، إلا أنه يجب تجزئة تلك الضرورة فهي ضرورة للأمة من حيث إعداد المتخصصين في النخبة أي ضرورة الإعداد المهني، وضرورة لكل فرد على مستوى التدريب الأساسي وامتلاك الخبرة الأساسية في استعمال الحاسوب، وقد تطرقنا إلى هذه الضرورات في مواقع أخرى مبثوثة في هذا المقال، ومن ثمة فلا يجب الاعتقاد بضرورتها المطلقة حتى لا نقع في الخطط الوهمية. وندرج هنا ضرورتها في التعلم من حيث هي قدرة هائلة لاستيعاب نظريات التعلم .فعلى الرغم مما يعتقد من ضآلة المنافع وتفاهة النتائج التي حققتها تكنولوجيا التربية منذ بداياتها أيام ثورندايك إلى تجارب سكينر في التعليم المبرمج ثم البرمجة التفريعية بمقارنتها بالتعليم التقليدي(الأسس:53 ـ 56 ) إلا أننا ننطلق من ما توفره الآلات الذكية من المعالجة المعلوماتية بكل حيثياتها، ونقر بفوائدها المبدئية في مجال التعليم، سيما عندما أتاحت الآلة الذكية ممارسة التعليم المفردن بإمكانات مفتوحة واسعة مقارنة بالكتاب أو الآلة المبرمجة، وتلك هي الملاحظة الأولية العامة في استيعاب المعلوماتية لنظريات التعلم نرصدها هنا على وجه العموم في أن عملية تفريد التعلم القائمة في كل النظريات البيداغوجية الحديثة لا غبار عليها في نظم المعلوماتية الموجهة للتعليم؛ بل هي بحسب "ديف سويل " المحور الذي تدور عليه كل البرمجيات ما دامت تعطي أولوية للتعلم حسب الإيقاع والوتيرة، والاستجابة للفوارق الفردية لا سيما في البرامج الموصوفة بالذكية (مستقبليات 63 : 421 ـ 429 ) .
وبعد ذلك نرصدها في ما هو أخص، فقد استوعبت الآلات الذكية في الاستعمال والتوظيف البيداغوجي كل نظريات التعلم أو أوجه التعلم المختلفة والمتباينة؛ بل والمتناقضة أحيانا، في أبعادها الابستمولوجية، كالتعلم بالمحاولة والخطأ، وما توجته النظرية السلوكية من تعليم مبرمج كصيغة مثالية للتعلم من وجهة نظر السلوكية، وكذا النماذج المعرفية . فكل صيغ التعلم متوفرة في السوق الإلكترونية وما على المعلم والمدرسة إلا حسن الاختيار:
فمنها من يركز في منتجاتها من البرامج التعليمية الجاهزة، على الناتج آخذة بذلك المدخل السلوكي بكل معطياته في ضوء ( الخبير المعرض للخطر،والتقليل في نفس الوقت من شأن القدرة الفردية) إلا أنها لم تستطع أن تفلت من كل الانتقادات التي توجه عادة للتعليم المبرمج، والتركيز على الأداء بدل الفرد والعمليات العقلية حتى في أرقى برامجها.
ومنها من يركز على تصميم البرامج التعليمية على معطيات الإدراك وعملياته آخذة بذلك المدخل المعرفي البنائي الذي يستهدف العمليات العقلية، كالفهم والتحليل والتركيب، وما تقتضيه عمليتي الملاءمة والتمثل، فهم يهتمون بإدارة العمليات المعرفية بدل النتائج، وبالحوار التفاعلي التلقائي بدل برمجة البيئة في سياق المثير والاستجابة , ولم يفلت المعرفون هم الآخرون في ظل البرمجة المعلوماتية من مآخذ تتعلق بسقف العفوبة والحرية التي ستمنح للتلاميذ كي يبنوا معارفهم ويكتشفونها بأنفسهم, فلا يمكن التسليم بأن الأطفال بالوسائل التكنولوجية على مستوى من القدرة ما يمكنهم من تنظيم ثقافة الماضي، ومن الأفضل أن لا نترك التلميذ أمام صعوبة البناء والاكتشاف العرضي الطارئ للبيئة, ونبادر بتقديم البيئة مصممة جاهزة ولذلك يقترح ( براون 1984 ) تعليما متجاوزا يحتفظ بالحوار التفاعلي إلا أنه موجه وسمي ذلك " بالتعلم بالاكتشاف الموجه " واعتبر ذلك بمنزلة إعطاء التلميذ سلطات أخرى تزيد من حريته ولا تنقصه
تساؤلات بيداغوجية في الوضع التكنولوجي المعلوماتي :
بداية يجب التذكير بان التعليم التقليدي يتوفر على إيجابيات التقاء المعلم والمتعلم والمعرفة وجها لوجه في وضع تفاعلي وفي فضاء محدد الزمان والمكان لا يمكن لأي بديل توفيره، ومبرر تكنولوجيا المعلومات في التربية بعدئذ يأتي من ضعف التعليم التقليدي على استيعاب التدفق الهائل للمعلومات وصعوبة تحقيق إيجابيات التعلم الذاتي والتعلم عن بعد ...الخ في الصيغ التقليدية . وعليه يصبح توظيف المعلوماتية في التعلم لا من حيث هو بديل عن المعلم، أو من حيث هو مصدر رئيسي للمعلومات؛ بل بوصفه مساعد يوفر التوجيه الذاتي للمتعلم ويستعان به عند الحاجة فقط .
ومع هذا الاستيعاب التكنولوجي المذكور لنظريات التعلم والمرونة في التعاطي مع كل نمط أو أسلوب تعليم، وأشكال المساعدات التي يتيحها للمعلم، إلا أن الأسئلة المألوفة والدائمة التي تثار عند الممارسات الفعلية لأنماط البيداغوجية، من مثل ( ما هو التعلم، وكيف يحدث، وكيف نعلم، وماذا نعلم ...الخ ) بقيت في الوضع التكنولوجي بدون أجوبة شافية .
والتعلم الفردي الذي تنبني عليه فلسفة تكنولوجيا التعلم دونه تساؤلات كالتدين الفردي والثراء الفردي لا تتعدى منافعه إلى الشأن الاجتماعي العام، إلا يسيرا ما لم ينموا ضمن المعاني الرمزية الاجتماعية؛ بل إنه إذا لم يستوي الشرط الثقافي الاجتماعي القيمي يكون بالضرورة ليس إلا نتيجة لنزوات وغرائز فردية تعمل كما لو أنها شئ معاد للمجتمع . وقبل ذلك وكما سبق أن أشرنا أن الفردية وهم .
وقد أثارت تطبيقات تكنولوجيا المعلومات تساؤلات عدة تتعلق بنتائجها البيداغوجية، فكما أن هناك دراسات تؤكد على أهمية وإيجابية تقديم المعلومات بمدخل "السمعي البصري " مثلا وتفضيله على المدخل الصوتي الشفهي في التعلم عند تساوي شروط الكفاءة الذاتية للمتعلم والموضوعية البيئية؛ فإن هذه الدراسات أيضا تشير إلى محدودية المدخل السمعي البصري وحتى في حالة الدمج بينهما ( الصورة/ الكلمة ) بسبب ما تثيره الصورة من تعقيدات تعيق مبدأ التكامل بين النص أو الكلمة والصورة (ص: 160 ) وأن تعدد الفترات وتقديم المعلومات في أن واحد لا يؤدي إلا إلى مجرد فيض في المعلومات وبالتالي إلى إعاقة عملية التعلم ذاتها ( ص : 164 ) وكشفت الدراسات من جهة أخرى محدودية الأجهزة الحسية في استقبال المثيرات ومعالجتها، فذهن الإنسان يتعامل مع مثيرات البيئة بالاختزال والاقتصاد ( مدخل : ) فلا معنى بعدئذ لتكثيف المثيرات، كما يروج له في الوضع التعليمي المعلوماتي؛ بل أنه قد يكون مضرا على أجهزة استقبال المعلومات وصعوبة تخزينها، فليس هناك من دليل على أن كمية المعلومات التي توفرها الآلات الذكية هي بالضرورة مفيدة بل يمكن أن تكون عائقا.
وكما طرحت تساؤلات حول إمكانية الفرد في استيعاب المثيرات المتعددة والمتنوعة فإنه تثار أسئلة كذلك حول كفاءة الكومبيوتر من حيث هو المرسل البديل وقدرته اللازمة على الاستجابة لكثافة الانبثاقات الوجدانية المتنوعة في الوضع البيداغوجي التفاعلي للمتلقي وأن يلائم نفسه لحظة بلحظة في تغيير وتعديل من سقف حاجاته لحظة بلحظة مع تطور اكتشافاته لإمكانات المتلقي التلميذ وهل يتقبل الرسالة المنبثقة من المتلقي في لحظته بالرفض أو القبول كما يحدث عند الإنسان. لقد تعلمنا مثلا من ثقافة الحداثة انه لا يمكن تعويض الاتصال المباشر بالاتصال غير المباشر في تحصيل النتائج وتسيير المؤسسة وإدارة أعمالها وعمالها عن بعد، وهو ما يجعلنا أمام صعوبة تقبل الاستغناء عن الاتصال المباشر بين المعلم والتلميذ وتعويضه بالكومبيوتر للحصول على افضل النتائج في التعلم والتحصيل الدراسي .فما يتعلمه التلميذ من إيماءات وحركاته قد تفوق ما يتعلمه بالرسائل اللفظية عن بعد أو عن طريق الصورة .
وفي مجال محاكاة الكومبيوتر لذكاء الإنسان دونه تساؤلات عديدة إذ أن مجاهيل الإنسان ما زالت كثيرة ومعارفنا حول ذكائه ما زالت في مهدها مما يجعل تحفظنا ضروري على كل مشروع يبرمج تعلم الإنسان برمجة نهائية؛ فالموقع الذي يراد تحريره للكومبيوتر كبديل عن ذكاء الإنسان يطرح مسائل تتعلق بما أخذ علم النفس المعرفي في استكشافه لطاقات لا حدود لها عند الإنسان كما هو الاكتشاف المتعلق بالذكاء المتعدد .( عاطفي، اجتماعي، أدائي تواصلي تكيفي ....الخ .
وتساؤلات أخرى تطال مسألة تحكم الإنسان في المثيرات وتعديلها وتغييرها في وضعية التعلم بالآلات الذكية، ففي الوقت الذي يسعى فيه منظرو التعلم أمثال " برونر " لصياغة كيفية للتعلم يتخلص فيه الفرد من تحكم المثيرات البيئية الشكلية على استجاباته بتعلم معالجة بيانات المثير واختيار الاستجابات المناسبة، تأتي استعمالات الآلات الذكية كمثيرات ثابتة تبطئ تعلم الحضارة فضلا عن تخطي إكراهاتها؛ إذ تأكد لبرونر بهذا الصدد خلافا لما كان يعتقده بياجيه من أن تطور العمليات العقلية يرتبط بالبيئة الثقافية سلبا وإيجابا أكثر من ارتباطه بالعمر بفضل نظام التخزين وهو ما يحقق استقلالية الفرد عن إكراهات المثير . ( كين سبنسر: 197 ) وفي فلسفة " فروم " تأكد أن الإنسان مهما بدا وكأنه جزء من الطبيعة يخضع لحتمياتها الفيزيائية والبيولوجية وإكراهاتها إلا أنه مع ذلك فهو يتسامى فوق الحدود الطبيعية الفيزيائية بوعيه الذاتي من حيث هو أحد الشروط التي أهلته للتجاوز .( الفرويديون الجدد : 38؟)
والمقاربة الفلسفية تقودنا إلى أن الوجود من حولنا ليس بالموجود المحايد والأصم إنما هو قبل ذلك معاني وصيغ متعددة في سياقات ومن الليونة والتسخير الطبيعي ما يمكن الإنسان من احتوائه ومعرفته كوجود متعدد الوظائف والمعاني؛ ولا يتطلب من الإنسان بعدئذ إلا إدراكه في ماهيته في سياقاته وأنساقه ومن ثم تحديد علاقاته به وتطويعه وتشكيله من أجل استخدامه نحو أهداف وغايات هو من يحددها لصالحه .غير انه يجب استحضار القول بأن التنوع الهائل والاختلاف الذي يسود العالم الخارجي من حيث هو في نطاق مدركات الإنسان واستثارته يعمل حين غزارته على تظليل الإنسان بدل تحريره وعتقه، فكثافة الخيارات التي تتاح للإنسان في عصرنا يمكن أن تؤول به إلى الانعزال وهو ما يدل على محدودية قدراته على استيعاب الواقع وضبط رسائله المنبعثة من كل الاتجاهات.( جاهل : 27 ) مما يجعلنا نعتد أكثر بتنظيم المعرفة الإلكترونية وحماية الطفل من الضياع والضلال والتيه في فوضى المعلومات الإلكترونية .
فالتكنولوجيا إذن وفق هذه المعطيات غير حيادية لا سيما وأنها تتبدى كما لو أنها خطاب شمولي غير عابئ بمقتضيات الواقع ويدفع بقوة نحو الاستسلام لحتمية التكنولوجيا، بإيجابياتها وسلبياتها وهو ما يشرعن للتحذير والرقابة أو على الأقل الوقاية. وطرح السؤال من مثل: فهل يمكننا أن نتحكم في الرسائل التي ترسلها لنا الوسائط التكنولوجية ونتحكم فيها ونوجهها لصالح أجيالنا وأمتنا؟ .فكما يقال يمكن أن نتعثر في كثافة الآخر.
ضرورة تصميم برنامج وقائي استعجالي من أضرار المعلوماتية .
أولا: حماية المدرسة من اختراق الإدماج التكنولوجي المضر
إننا نخشى أن نكون قد وقعنا فعلا تحت تأثير أخلاقيات السوق ومفرداته فنقبل بدون تروي على إدماج تكنولوجيا في التعليم قبل تفحص فوائدها ومنافعها كما يسوق المنتوج قبل تصميمه في كثير من حالات السوق، ولا نستطيع بعدئذ أن نتفادى المخاطر التي ذكرناها؛ إذ نلاحظ الاستعمال غير المنهجي وبدون تقويم يذكر ـ من كل الفئات ـ للبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت واقتناء للأقراص المدمجة، والبرامج الجاهزة واستنساخها بسهولة ويسر دون تفحص بيداغوجي. ونخشى تكرار ما هو سائد في إصلاح الشأن التربوي في العالم العربي حيث سيادة مقاربة الاختراق من حيث هو إدماج انفعالي غير مدروس للمفردات البيداغوجية المرغوب استنباتها في الفضاء التربوي، كما يراد باستدخال وإدماج الآلات الذكية والحاسوب والأنترنت في التربية...الخ ويتأسس الاختراق عادة على التجربة التي يحشد لها من وسائل وإمكانات معيارية ما يضمن لها تحقيق مستويات عالية من النجاح، ثم تعبئة المعلمين والإداريين وسن تشريع أولي لتعميمها، ولكن ما تلبث هذه المقاربة أن تفشل بسبب غياب الشروط اللازمة للإدماج، وعليه يصبح التروي وعدم التأثر بمرحلة الدعوة والتبشير، من أهم مراحل الإصلاح البيداغوجي، لما يهبه لنا من الاعتدال اللازم لتكوين الإطار النظري وإنضاجه لوضع قضية إدماج تكنولوجيا التعليم والوسائل المفتوحة ( الكومبيوتر ـ الأنترنت ـ الشاشة ..الخ ) لتصبح شريكا أساسيا تتعايش مع عناصر العملية التعليمية المغلقة ( الكتاب ـ الصورة ـ النموذج ) في وضع المدرسة التقليدية، بدون إزاحة للقديم أو ممانعة للجديد . فعلى الرغم مما تنبأ به " بنجامين سكينر " من أن التعلم بواسطة أجهزة التعلم سيضاعف قدرات التلميذ وتسارع الدول في سباق محموم منذ التسعينيات لربط المدارس بشبكة الأنترنت، ( عبد النبي : 15 ـ 28 ) إلا أن الفحص البيداغوجي واجب عند كل تطوير أو إدماج للوسيلة لأن ذلك يثير عدة إشكاليات تطال عدة جوانب تربوية واجتماعية ، فهي تثير تساؤلات ذات علاقة بوضع المدرسة التقليدية في ضل الآلات الجديدة ، وتساؤلات حول ومكانة المعلم والعلاقات التواصلية البيداغوجية، وتساؤلات حول الانتفاع والنتائج المبشر بها سلفا في تنمية الذكاء وتحسين العملية التعليمية، وتساؤلات حول إمكانات الدولة وقدرتها على توفير هذه الآلات بل والحصول عليها وتعميمها بالعدالة المطلوبة على كل أفراد الأمة وتساؤلات حول أخلاق المجتمع وتأهيله ثقافيا لحماية هوية الأطفال، وتساؤلات حول الإغراق في العالم الافتراضي الذي يهدد تربية الحواس والاتصال بالعالم الفيزيائي . وتساؤلات كبرى حول السلطة الثقافية وسيطرة نمط ثقافي وتهميش الأنماط الأخرى .
والمشكلة تصبح أكثر تعقيدا عندما نعلم الوضعية التعليمية ومستوى ترديها في مجال النوعية والجودة؛ إذ مازالت العلوم والتخصصات تخضع لمنطق الإمكانات وسعة المقاعد البيداغوجية، والظروف الآنية، وتتأثر مجانية التعليم والاستيعاب المدرسي بالإمكانات المادية، فهي المرجعيات العليا في كل تخطيط تربوي، فكل التخصصات العلمية في الجامعة لا سيما العلوم الاجتماعية تدرس في ضوء الإمكانات المتاحة والتي لا تتعدى السبورة والمطبوعة في أحسن الأحوال . وأن الأمية في القراءة والكتابة ما زالت مرتفعة بصفة مقلقة، فهذه التساؤلات كلها تشرعن للتروي والاهتمام بآجل الإصلاح من اجل تفادي الاختراق في غياب شروط صياغة التعلم التكنولوجي التي من أهمها.
ـ غياب الرؤية النسقية للإدماج يحجب بالضرورة ما تحدثه العناصر المدمجة من اختلالات في الوضعية التعلمية كالاختلالات التي تحدثها تكنولوجيا المعلومات من حيث المبنى والمعنى للفعل البيداغوجي ( الاختلالات في التعامل مع الوسائل الثابتة المغلقة والمعالجة الإلكترونية المفتوحة )
ـ قلة الوعي التربوي في الأوساط التربوية ذاتها بأن تحديث الفعل البيداغوجي وتطويره وتجويد فعاليته ليس مجرد إضافة للآلات الذكية ومضاعفة الجهد المعرفي بتلك الآلات، إنما البيداغوجيا هي ممارسة إنسانية قبل أن تكون تدريبا على الوسائل البيداغوجية . مما يتوجب إدراج التحديث ضمن الرؤية النسقية الكلية للفعل البيداغوجي فيشمل الوسيلة والمضمون والعلاقات البيداغوجية وسقف الأهداف التعليمية .
ـ غياب التصور الواضح حتى لدى المتخصصين بتزاوج ما راكمته الوسائل التعليمية من الخبرة، وما ستحدثه التكنولوجيا الجديدة بمعنى غياب تزاوج بين الواقعي والافتراضي في التعليم وما دور والأهمية الضرورية لكل منهما . فتسقط التجربة ضمن هذا الاختراق في ثنائية العملي والنظري والجديد والقديم ...الخ .
ـ غياب كلي لإدراك المنافع والمخاطر من كل إدماج جزئي أو كلي للآلات الذكية . ذلك أن العجلة في الإدماج يؤدي عادة إلى إغفال أهمية آجل الأعمال أي إغفال المورد النظري اللازم لتغذية الممارسات العملية بإستراتيجيات الإصلاح.
ـ عدم استكمال مشاريع محو الأمية القرائي المبرمجة في الوضع الحداثي كما أسلفنا، فالإحصائيات تشير إلى نسب مقلقة جدا من الأمية في القراءة والكتابة لا تسمح بالقفز نحو محو الأمية المعلوماتية .
ثانيا : ـ خطوات بناء البرنامج الاستعجالي الوقائي:
ولعل الخطوة الأولى التي يفرضها المنهج في بناء برنامج وقائي هو أن ننفتح ذهنيا بعد رصد هذه المحاذير والمعطيات الواقعية على كل ما هو خارج ما يعتقد أنه "حس مشترك" بكل حرية، كما هو في عرف المنهجيين ،اعتقادا منهم بأن ذلك من ضرورات التخلص من الصور النمطية وتوخي الموضوعية وحرية التفكير وممارسة الشك الإيجابي،( موريس أنجرس : 34 ـ 36 ) إن هذه الآلية الفكرية هي ما يجنبنا من النزعة الشعرية العفوية من حيث هي الانفعال الوجداني الآني تجاه التقنية أي تحمينا من الاختراقات الفوضوية. حيث نجرؤ بعدئذ على طرح كل ما يعتقد أنه إيجابي في المعلوماتية للمساءلة والدرس والتمحيص أو ما يسميه بوبر تفحص إمكانيته للتفنيد، فأفكارنا المكتسبة السابقة حول الأشياء والمواضيع والتي اكتسبت حسا مشتركا هي ترسبات يمكن أن تحجب عنا كثيرا من الواقع، أو بعبارة أخرى أن الواقع الذي هو في أذهاننا يمكن أن يتضمن جوانب زائفة، والتفتح الذهني هو ما يسمح بادراك طرق جديدة لمعرفة الواقع والحقيقة أو إدراك ما هو واقعي حقيقي وما هو زائف وهمي وبالتالي إدراك ما هو إيجابي وما هو سلبي .
ومن هذا المنطلق يجب طرح الأسئلة التشكيكية وإدراج الواقع التربوي في الصياغة التكنولوجية كانشغال كلي، بمعنى أن الأسئلة التي تطرحها مسألة إدماج الوسائل التعليمية الإلكترونية على الخصوص في العملية التعليمية، هي متنوعة ومتجاوزة للشأن التربوي التعليمي إلى الشأن المجتمعي والابستمولوجي الأكاديمي، فهو يطرح نفسه كمشروع مجتمعي يتعدى التربوي إلى ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي وبحثي أكاديمي...الخ . وإذا كان الفعل التربوي محدد بزمانه ومكانه ومستعجل بطبيعته، يستدعي الشروع في إدماج تكنولوجيا المعلومات في العملية التعليمية ولا تقبل التأجيل، فإن التأمل من حيث هو آجل الأعمال يفرض نفسه للتخطيط ورسم السياسة التربوية في سياقات تنموية مجتمعية شاملة، فإدراك عاجل الفعل في سياق آجله يساعدنا بدون شك على إخراج الفعل التربوي العاجل من دائرة المغامرة والارتجال والاختراق، وفي الوقت نفسه يحمي التأمل من التعالي والمقاومة والفشل ما دامت الوقائع المعاشة تحت النظر كخبرة، ونؤسس هذا التزاوج بين آجل العمال وعاجلها حتى لا تكون الإصلاحات التربوية رهن الخطباء ودعاة الخبرة النظرية ( التكنوقراطية ) والاستغراق الأكاديمي، وحتى لا تختزل المدرسة في الفعل البيداغوجي ما دامت تؤطر المجتمع بالعلم والخبرة وتضخ الروح في التنمية . فكما نعلم في أدبيات البيداغوجيا التكوينية أن البيئة ( الوسط) لا تكف أبدا عن مقاومتها واستعصائها للتمثل وتعمل على إجبار الطفل على تعديل بنيانه العضوية للتكيف مع الشروط الجديدة, وهي في ذلك تحدث حالة اللاتوازن في العضوية أو ما يسمى في علم النفس المعرفي فشل عمليات المطابقة والتمثل الناتجة لما يسميه بياجيه " باضطرابات النمو". وإذا ما جاز لنا أن نطبق هذه الحالة على حالتنا في التمثيل والمطابقة للتكنولوجيا اجتماعيا, وبيداغوجيا على مستوى المنظومة التربوية، فإننا نقول أننا في حالة الاستعجال وعدم الملاءمة قد نصطدم باضطراب النمو في مدارسنا ومجتمعنا على حد سواء ونعجز استحداث التوازن اللازم بين المطابقة والتمثل, وإننا أيضا نصبح كالطفل الذي يحفظ الكلمة بدون وعي دلالتها وقد يستعملها صحيحا في الجملة إلا أن تعلمها يبقى بعيدا؛ لأن المرجعية الحسية للكلمة غائية, ولذلك فالمعلوماتية كتعلم وبناء تقني وفكري؛ إذا ما فقدت مرجعياتها الفكرية أو ملاءمة البنيات العقلية الجماعية؛ فإنها لا تحدث إلا اضطراب في نمو مجتمع المعرفة المقصود. ولكن اضطراب الموازنة من المفترض فيه أن يؤدي وظيفة الدافعية والشحن ( الاستجابة للتحدي ) لبلوغ الموازنة؛ إلا أنه في حالة فقدان بعض الشروط كالمرجعيات المعرفية أو المجتعية أو الحسية يبقى الشخص في حالة اضطراب النمو فيعجز عن التكيف أو الإبداع والتجاوز ومن ثمة الفشل في التحدي .
وبناء عليه يعتبر المعرفيون الاجتماعيون ـ إن صح تسميتهم تلك ـ أن الاجتماعية الاصطلاحية من حيث هي تعلم للأخلاق والرمزية هي مورد اجتماعي مهم في عملية بناء المعرفة أو هي تكاد تكون أحد شروط تقدم الموازنة بين المطابقة والتمثل وبالتالي فهي شرط النمو العقلي أو شرط تخطي حالة " اضطراب النمو " (الأسس : 165).إننا بلغة علم النفس المعرفي نحن بحاجة إلى استعمال النماذج الادراكية الرمزية؛ أعني التفكير المجرد التأملي والتدبري الذي يتيح لنا إمكانية التعامل مع ما هو محتمل وما هو غير محتمل، ومن ثمة إدراج مسألة المعلوماتية كمسألة مطروحة للبحث وليس مجرد النظر إليها كأشياء للاستعمال الآني في نطاق الزيادة والنقصان ( حفظ الوجود) . وبالتالي فلا نبقى في مستوى النماذج الحسية الحركية ( مجموعة الأفعال الفيزيقية ) أو مستوى النماذج الايقونية ( تمثل المفاهيم كصور) ونرتقي إلى مستوى تقعيد أو قوننة الواقع المعلوماتي بآلية المعرفة الرمزية المجتمعية المؤسسية، وهي التي تمنحنا براعة لعبة التوازن ـ إن صح التعبير ـ وتهب لنا الاستمرارية في تعديل ذلك التوازن مع نمو الخبرة التكنولوجية. فالإدراك في عرف النفسانيين لا يغير الواقع بقدر ما يغير ذات الإنسان، من حيث هو فرد أو مجتمع فالشخص يؤول دائما إلى ما هو عليه بفضل مدركاته الماضية، وكذلك المجتمع، تأسيسا على مقولة الوجوديين من أن الوجود أسبق من الجوهر. (الأسس : 161 )
بناء خطة الإدماج التقني :
يكتفي الاصلاحيون عندنا عادة عند كل رغبة في الإصلاح باستيراد النماذج والتجارب وحشد التأييد لها بالتقارير الأيديولوجية أو الأكاديمية السطحية غير الموثوقة، كالبحوث الجارية الآن حول تكنولوجيا المعلومات وسبل إدماجها في التعليم، للأسف لا تعدوا أن تكون أشبه بالتقارير الإدارية الأيديولوجية خالية من الرؤية النقدية؛ بل إنها في كثير من نماذجها الأمبيريقية في الجامعة أقل قيمة علمية من تلك لتقارير الصحفية . وهو ما يتطلب وضع خطة إصلاحية شاملة تتكفل بها المؤسسات الجامعية البحثية بعيدا عن التأثيرات الشخصية والأيديولوجية وتبنى لها ثوابتها المانعة للتغيرات الفجائية والاختراقات. فلا يعقل أن نبقى دائما كالأطفال نلعب ونلهو بما لدينا ثم نطرحه لمجرد وضع يدنا على لعبة أخرى دون أي تروي لرسم الخطة.
إذا ما حصل الاقتناع بضرورة وضع مسألة الإصلاح التربوي ـ وفق المنظور تكنولوجيا المعلومات ـ في نطاق قوننة الواقع المعلوماتي وتقعيده، ووفق المنظومة الرمزية ومرجعية التوازن، فإنه من المفترض على الأقل أن يتأسس بناء الخطة الإصلاحية في معياريتها على معطيات البحوث العلمية الأكاديمية وما صح من العلم والمعرفة بالتجربة والعقلنة، وأن تتحدد خطواتها على تخطيط للإمكانات المتاحة وفق سقف الأهداف المتوخاة، فالخطة الإصلاحية وفق هذا المنظور منهجية من أساسها تنطلق من شروط الانتقال والتحول من الوضع أو المرحلة التكنوقراطية (السياسة التربوية، التشريعات، الخطط،) إلى المرحلة التنفيذية والممارسة.أي أن الإصلاح التربوي بإدماج المعلوماتية يتضمن :
ـ تبني الإصلاح : في ضوء الشروط المجتمعية والأنساق القيمية والمعرفية بما في ذلك شروط التنمية الإنسانية، وما تقتضيه العوالم الافتراضية من دراسة .
ـ تخطيط الإصلاح: وضع السياسة التربوية في ضوء الإمكانات البشرية والمادية والمعلوماتية وفق معايير الجودة وسقف الأهداف.
ـ تنفيذ الإصلاح: في ضوء شروط التأهيل العلمي التقني والوضعيات التعليمية التعلمية ( المعلم البرنامج، الوسائل المجال ...الخ ) .
وبهذه الخطة نكون قد وضعنا التفكير التربوي في آجل الأعمال بما يعني التفكير والبحث في المسائل التالية :
بحث ما يمكن أن نفتقده في تعميم الآلات الذكية في التعليم :
يعتقد أنه في وضع التعلم المبرمج وبالأحرى التعلم بالآلات الذكية يفقد الوضع البيداغوجي بعض سماته جزئيا أو كليا منها :
ـ يفقد الوضع البيداغوجي في الاتصال الإلكتروني الاتصال المباشر بين المعلم والتلميذ وما يحدثه من تفاعلات والتأثيرات عن طريق الرسائل المتبادلة بالألفاظ المصاحبة بالإيماءات، وهو ما ينشأ عنه نقص في فهم الرسائل التعلمية وصعوبة الوصول إلى إنماء التآلف والتعالق الاجتماعي لدى التلميذ فضلا عن صعوبة الوصول إلى بناء حالات الوعي بالتسخير المتبادل، وهو الوعي الضروري لنمو العلاقات الاجتماعية المتآلفة الضرورية لكل تعلم
ـ يفقد شفافيته البيداغوجية وتعني أن يكون كل واحد من المتفاعلين الشريكين شفافا لنفسه ولغيره شفافية كاملة، وهي علاقة تربوية لا ترقى إليها حركات التفاعل الاجتماعي الدقيقة، ومن ثمة فهي وهم وغواية مظللة حيث أن آلياتها تجري خارج نطاق الوجدانية العميقة، وما هو ملازم للعلاقة التربوية إنما هي الحيلة أو ذكاء الحيلة المتبادل بين التلميذ والمعلم أو إحدى الشركاء في العلاقات الاجتماعية لموجهة السلطة والهيمنة والإفلات من الرقابة التي يمارسانها تجاه بعضهم البعض .وهنا ينشط ذكاء المناورات وبروز الأقنعة والتبدلات ولكن نشاطه سوف يكون ضمن الأخلاق الانضباطية البيداغوجية لضبط الحيلة من الانفلات الأخلاقي كإخضاع الآخر والهيمنة والاستعباد وهي بذلك تكون موجهة نحو ضمان وتأمين حرية الآخر .
ـ يفقد الوضع التربوي بعض معطيات علم النفس المعرفي كتنشيط فعالية الذكاء واستثمار تعدده، من أجل منع الاسترخاء العقلي، كما يفقد الاهتمام بالواقع الحسي ومباشرة الأشياء وتعلم التجربة الحسية، وصناعة البيئة الواقعية ...الخ
ـ يفقد الوضع التربوي بصفة عامة كثيرا سلطته في الضبط الأخلاقي والدمج في المجال وتحيزه للخبرة الاجتماعية وتعلم المعايير والأحكام والتمييز بين الأشياء، ويصعب تحقيق الانتماء ورسم معالم الهوية.
فهذه المفقودات جزئيا أو كليا يستوجب بحثها وإنتاج بدائل تعوضها .
بحث مشكلة الكائنات الافتراضية الجديدة :
ونقصد به البحث في ما يسميه بعض الباحثين بمجاهيل الفرد الإلكتروني والمجتمع الإلكتروني، والأمة الإلكترونية والحياة الإلكترونية أي تأسيس ما هو آخذ في التكون والإنشاء الآن لـ " علم النفس الفرد الإلكتروني وعلم الاجتماع الإلكتروني وأنثربولوجيا الإنسان الافتراضي، فهذه علوم يجب أن تدرج في آجل العمال وتأسيسها لمجابهة مشكلاتها ومتزامنة مع التطبيقات التربوية المدرسية العاجلة .وهو ما يتطلب إصلاح جامعي كلي وإدراج العلوم الجديدة المتعلقة بمجتمع المعرفة .فما هو مؤكد اليوم هو أن الفردية الأنترنتية آخذة في التشكل وأن العقلي الجمعي الإلكتروني هو الآخر من حيث هو مساحة لتفاعل الذات الإلكترونية وأن المجتمع الافتراضي الإلكتروني يتشكل، وتنموا بشكل متواز لذلك كل الهويات ( هوية الفرد الإلكتروني، هوية العقل الجمعي الإلكتروني ـ هوية المجتمع الإلكتروني) ومن المحتم علينا معرفة هذه الشخصية الإنسانية الواقعية الافتراضية؛ وكل الهويات ووضعها موضع الدراسة المعمقة ودراسة لأمنها وسلامتها في طبيعتها الآلية الافتراضية العالمية وذات الحركة التعقيدية في التشكل وطرق النفع الوطني والعالمي من هذا النموذج. لأنها رغم أنها ممددة عن الشخصية الطبيعية، إلا أنها تتمظهر في أشكال جديدة، فالفرد الأنترنتي والإلكتروني بوجه عام بدأت ملامح شخصيته تتكون كما يلاحظه الدارسون اليوم، فهو شخصية افتراضية تتعامل مع مجتمع افتراضي، يمارس بكل حرية التمثل والتحلل والتزييف والانتقال والحركية فهو يحيى في واقع مرقمن يبدوا أنه حتى في تفاصيله الدقيقة وحريته الشبه مطلقة في التحلل، سهل الاختراق وتدمير هويته, لأنه سيقع دون شك في قبضة الفاعلين وبالتالي فنفعه وضره للآخرين من حوله في محيطه ما زال مجهولا وما ينطبق عن الفرد الأنترنتي ينطبق أيضا على الجماعة الإلكترونية (الأنترنت : 320 )
البحث في الوقاية من مشكلة الاختراق
ولذلك فإنه يتعين بداية على النخب العربية لاسيما في مجال تكنولوجيا المعلومات التصدي منذ الآن لإشكالية ما خلصت إليها القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة في جنيف (10ـ 12 /12/2003 ) أو ما يعرف بجرائم السايبرية، كالسطو والخداع والاختراق والتدمير، وإنتاج ثقافة الأمن السيبراني في سياق التنمية الاجتماعية والاقتصادي كصون الخصوصية والحماية من الاقتحامية الأنترناتية وحماية الملكية الفكرية والهويات الثقافية...الخ ( الأنترنت : 232 ـ 236 ) .
البحث في حقوق الطفل وحمايته
إننا نجد أنفسنا في الضبط المنهجي قبل أي تفكير في تعميم التعلم بالحاسوب وإشاعة التعلم بالأنترنت ـ حتى في حالة توظيفهما كمساعد للمعلم ـ أن نعمل في نطاق شروط حقوق الطفل في إنسانيته ونحلل:
ـ المتعلم المستهدف من حيث قدراته الفيزيولوجية ومناعته الصحية واتجاهاته نحو الحاسوب ودافعيته ومعارفه السابقة وأوساطه الثقافية ووضعه الاقتصادي والاجتماعي أي بحث هويته الشخصية والرمزية وحاجاته للجودة التعليمية والمواكبة للعصر....الخ
ـ ونحلل البيئة من حيث هي مظاهر فيزيقية ومثيرات ومسخرات مطوعة ومنظمة إداريا ومدعمة للإدراك الذاتي ومكان للعمل وقابلة للنمذجة الإلكترونية . أي بحث إمكانية التصنيع الافتراضي للبيئة وإعدادها كمادة للتعلم بحيث تنشط من حيث هي مثيرات الذكاء بهدف إدراكها كمشكلات في بعدها المجالي .
ونحلل موقع الأداء من حيث ملاءمته لتكنولوجيا المعلومات.أي تصميم المجال المدرسي ليستجيب والتعلم الإلكتروني وما يتطلبه من الانفتاح الهندسي أو حتى في المجال القانوني والاجتماعي والوجداني
ـ نحلل الأنشطة والمهارات التكنولوجية وعلاقتها بتنشيط الذكاء وتحقيق الاستقلالية والحرية والتحكم في المثيرات وتعلم التنبؤ .
بحث الاستفادة من التجارب التنموية المعلوماتية ضمن منظور التنمية الانسانية :
يجب وضع المعلوماتية في التربية كانشغال في سياق سؤال النهضة وإخضاعه لعاجل الأعمال وآجلها كما أسلفنا حتى نكون تحت وقع العناية الاجتماعية والمعيارية الأخلاقية، ونحمي أنفسنا من الوقوع في مطبات فلسفة اللذة الفردية والمتعة الآنية والشعرية الجمالية، حيث لا تلبث أن تذهب جذوتها وتنطفئ . ومن أجل ذلك فالواجب يحتم علينا استقراء تجارب ودراسات من سبقنا على تعميم تكنولوجيا التعليم وتحذيراتهم في ذلك، كدراسة " تيبور قاموس" فبغرض إعطاء الأولوية للقيم الإنسانية استعرض في مقال بعنوان " التربية المعلوماتية الأولوية للإنسان" جملة من الحقائق اعتبرها تحذيرات تربوية أطلقها من أجل احتفاظ الإنسان بإنسانيته وهو يبدع ثورته التكنولوجية المعلوماتية على حد تعبيره وهي على الخصوص.
ـ أن تحتفظ بمبدأ تكافؤ الفرص في إعداد المجتمع لعصر الكومبيوتر ولا تعتد بأي فارق إلا فارق الاستعدادات الوراثية التكوينية ومستويات القدرة فقط وتستبعد كل ما يتعلق بالفوارق الاجتماعية والفئوية الأخرى التي تسئ إلى إنسانيتنا كمجتمع بشري يصبوا إلى العدل, وهو ما يتطلب وضع سياسة التثقيف الاجتماعي ومحو الأمية المعلوماتية، وتحويل ما هو طوباوي في هذا الشأن إلى حقيقي واقعي .
ـ يشرع في إدماج الآلات الذكية من الروضة إلى التعليم الجامعي أفقيا وعموديا بحسب إمكانات كل دولة وخصوصياتها في سياستها التربوية والبيداغوجية .
ـ إدراج تعميم تعلم المعلوماتية والمعرفة الإلكترونية كما لو أنها أحد شروط المواطنة فالجهل بها يعد نقص في المواطنة .
ـ ضرورة الاهتمام بتعلم السلوك الاجتماعي كمكون في الهوية الفردية؛ إذ أن تعلم السلوك الاجتماعي التواصلي واحترام قواعده تعدو أهم من المهارات التقنية في عصر المعلوماتية ومجتمعات المعرفة .
ـ وضع دراسة للبرمجة وانتشالها من وضعها الهووي الاختراقي إلى وضع أكاديمي بحثي تخصصي، فكما تدرس نمو النبات فيمكن أن تدرس كيفية استعمال البرنامج حتى تصبح ثقافة الكومبيوتر نافعة ومشاعة بين المتعلمين .
ومن مدخل التنمية أيضا نجد ضرورة الاستفادة من الدراسات والتجارب السابقة؛ كالدراسة المبكرة لـ"باباجيانيس وساند ميلتون" حول المعلوماتية والتنمية، إذ أن المعلوماتية في التداول المعرفي المفاهيمي ـ كما بينت الدراسة ـ بدت وكأنها متعددة وأنتجت نتيجة ذلك خطابات متعددة في المعرفة المعلوماتية، كتربية وتعليم، وتدريب، وبالتالي فهي خطاب " إعدادي وتدريبي أو خطاب التآلف مع مكونات الحاسوب" ويقصد به تعليم التقنيات المعلوماتية وإدماجها ضمن البرامج التربوية، ففي إدراج الحاسوب والبرامج الجاهزة كمعلم, يرتكز التفكير حول تعليم كيفية استعمال الحاسوب أي: التدريب المعلوماتي وإكساب مهارات التشغيل واستعمال البرامج الجاهزة والنمذجة ... الخ . وهي مهارات تتعلق بمطالب العمل في مختلف القطاعات وتهيئة عامل المستقبل (أي تهيئة أو تأهيل الفرد معلوماتيا للعمل). وكما بينت الدراسة المذكورة فقد يرتكز خطاب المعلوماتية في التربية على مفهوم يتعلق بالإنتاجية ويرتبط أساسا بتعلم إنتاج البرمجة والصيانة, وهي معارف عملية تتعلق بالتحكم في معالجة النصوص وإدارة قاعدة البيانات بغرض زيادة الإنتاجية، وهي المهارات التي لا تتطلب فهم التقنية ولا ترتبط بالحاسوب ذاته وهي موجهة أساسا لتنميته .
وتبرز الدراسة اختلافات جوهرية في تجربة الولايات المتحدة ودول أوروبا في تعلم المعلوماتية حيث وجد أن في الولايات المتحدة تطفو إلى السطح الاعتبارات السيكولوجية في علم المعلوماتية (إنتاجية شخصية)، بينما في أوربا تطفوا إلى السطح الاعتبارات الاجتماعية( إنتاجية اجتماعية ). ولذلك أخذت المعلوماتية في الولايات المتحدة تتطور في سباق الاحترافية تحت ضغوط عالم الشغل والصناعة, بينما في أوربا أخذت تتطور في سياق القرار الجماعي والمركزية الإدارية .( مستقبليات 63 :393 ـ 404 ) .
والأمر الذي يستخلص بداية من هذه التجارب أن تعلم المعلوماتية لم يكن بمعزل عن السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمعات .وهو الأمر الذي يجعلنا بالضرورة أمام حتمية التشكيك والتحفظ في مقولة " حيادية المعلوماتية " لا سيما في الأوساط التربوية وبالتالي يتعين علينا حين وضع السياسة التربوية إدراجها ضمن منظور التنمية الشاملة وليس مجرد التهيئة للعمل أو الإنتاجية أو الاحترافية الفردية. وقد اتجه البحث في إعادة النظر في مفهوم المعلوماتية في التربية السائدة في كل من أوروبا وأمريكا ليندرج ضمن تساؤلات تتسع إلى بحث آثارها التنموية كمفهوم التحرر التنظيمي والمؤسسي ـ والاستقلالية الذاتية ـ الانتفاع بالمعلوماتية، النهوض بالإنتاج المحلي . فهذه التساؤلات جديرة بالبحث والإجابة قبل التفكير في دور استعمال الحاسوب من البداية؛ لأن التطبيقات التربوية للمعلوماتية أصبحت محل شك لأنها ـ لا سيما في السياق الاجتماعي ـ ليست مؤكدة النتائج.(مستقبليات 63: 398 ) .
و يتعين علينا في العالم الثالث بحسب الدراسة المذكورة، بحث إمكانية إيجاد الشروط الملائمة لملاءمة المفاهيم الثلاثة (المعلوماتية كإعداد مهني, المعلوماتية كإنتاجية، المعلوماتية كعلم نظري ) لدور المعلوماتية في التربية. وقد خلص الباحثان إلى أن ملاءمة تلك المفاهيم لأوضاع العالم الثالث يمر حتما بالوقوف أولا على الدور التنموي الذي يتوخى من أي استدخال للمعلوماتية في التربية على المستوى الفردي والاجتماعي, ولا يتم ذلك إلا بوضع سياسة وطنية للمعلومات والمعلوماتية تدفع باتجاه تربية الحس النقدي للمعلومات والمعارف المتدفقة للتلقي، بناء على قياس آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية بغرض تهيئة الأجيال للقدرة على التصرف الإيجابي في كل المواقف الحياتية, وذلك لأجل تجنب الجوانب السلبية للتجارب السابقة التي أعادت إنتاج الجماعات التي تفتقر إلى الموارد في شكل جماعات تفتقر إلى المعلومات. (مستقبليات 63: 393 ـ 404). ومن حق الحكومات المحلية والوطنية بعدئذ أن تتوجس خيفة في الوضع الحداثي وتتردد في تمويل أي مشروع يتعلق بتطوير كفاءات ومهارات المعلوماتية؛ لأنها ستؤول في النهاية كاستثمار لصالح الشركات المتعددة الجنسيات، وأن فائدتها الوطنية ضئيلة ما دامت المؤسسات غير مؤهلة للاستفادة من تلك الخبرات والتقنيات الحديثة .وهو ما يدعوها لتطوير دراساتها من مشكلة ماذا يمكن فعله وهو سؤال التكيف، إلى ممارسة ما يجب أن نمتنع عن فعله، وهو سؤال الاختيار الحر .
ذلك أدنى مما نوجه به تفكيرنا نحو تعميم تكنولوجيا المعلومات في سياق إدماج حقوق الطفل التعليمية وضمان احترام إنسانية حتى لا نزجه في حتميات ونضعه موضع الحيوان ضمن التجربة الفيزيقية، ونلاحق سراب الفردية أو الحرية الفردية التي يصبوا لها كبار فلاسفة الفردانية حيث تكشفت عندهم منذ مدة أنها مستحيلة ما دام الفرد مشدود بما يمكن أن يسمى بالقدرية التحديدية الثلاثية،( المجال، الوراثة، التجربة الماضية) والتي لا تترك أي مجال للحديث عن الإرادة الحرة المطلقة كما تصوروها في أذهانهم، وحسب "دوبو " فإن أية محاولة من الكومبيتر في إلغاء دور هذا الثلاثي هو عبث يضر بالإنسان ولا يقدمه ( دوبو : 163 ). وقد تأكد لـ " فروم " قبل ذلك أن ما كان صحيحا في سيكولوجية فرويد من أن المجتمع عالم إحباط وقمع وكبت للحاجات الفردية المحددة بيولوجيا هو في حقيقته مصدر للوجود الإنساني من حيث هو السبيل للوظيفة الخلاقة للفردية ( الفرويديون الجدد : 38 ).
أما نحن أمام هذه المعطيات السيكولوجية الفردية والجماعية وأمام منظوماتنا الرمزية الثقافية يتعين علينا أن نعي بأن المعلوماتية في التربية هي محصلة تطورات الفردانية، وأنه يجب أن نعي ماذا يجب فعله تجاهها وماذا يجب الامتناع عن فعله وندرج المعلوماتية كما لو أنها مشكلة تتعلق بإدارة العمليات المعرفية الاجتماعية (الأنظمة الرمزية) والفردية (العمليات المعرفية ) على حد سواء، وهو ما يضعنا في سكة البحث عن شروط تحقيق الذات الاستخلافية وتكوينها عبر تعلم العلم النسبي في نطاق إلحاقه بالكلي المطلق .وذلك أدنى ما نحمي به أنفسنا في تفتحنا الضروري على الهويات الأخرى حتى لا تصبح الآلات الذكية في غفلة منا طاحونة الذات الطبيعية والهوية الاجتماعية والمجال الحيوي، تتلف عناصر الهوية الرمزية واحد تلو الآخر، لتبقينا أبدا في التبعية.
والله أعلم
د/ فرحاتي العربي
باتنة في 17/02/2007
....................................
من أبعاد العولمة تمسيح الإسلام بتجريده من أبعاده الجهادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
بدأنا النهضة بالضباط الأحرار، ونأمل أن نبدأها بالمفكرين الأحرار
" تفخيخ التاريخ وتفجيره في حاضرنا "
الحتمية التكنولوجية هي ثقافة المجتمع المعلوماتي
" نلا يعني أن الهواء المنعش الضروري لحياتنا هو دائما نقي خال من الأتربة والغبار .
* تبذير الذات: نقصد به ضياع أعمال الإنسان في غير صالح الإنسان، فالذات كما هي في المفهوم الإسلامي مجموعة من الأفعال الإيجابية تقع في الزمان والمكان أو بلغة الزمان هي( مجموعة من الدقائق والساعات والأيام والسنوات تنقضي حتما ، فتنقضي في حالة التبذير بإضاعتها في التبديد والتبذير والهدر،( لا خير في كثير من نجواهم ) أي أنها كما لو كانت كمية من المال فيأخذ الإنسان في تبذيرها وتبديدها وهدرها في ما لا يعنيه مستقبلا مثلما يبذر أحدنا وقته في الكلام غير المفيد.