فلسفة التربية قديما وحديثا
فرحاتي العربي
يبحث موضوع " فلسفة التربية قديما وحديثا " برؤية نقدية فلسفية تأثيرات خطاب الفلسفة عبر الزمن بأنواعه ( الأنطولوجي والابستمولوجي والاكيولوجي ) في التربية من حيث هي نسق فكري قيمي اجتماعي ذات أبعاد مؤسسية ورمزية، حيث حاول الباحث إبراز التأثيرات الفلسفية في القديم لاسيما في العهد اليوناني وتمركزات الفلسفة الأفلاطونية والسوقراطية والأرسطية ، كما بحث الموضوع تطورات الخطاب الديني الفلسفي في التربية لا سيما عند الرعيل الأول من الفلاسفة الإسلاميين ، ثم بحث تجليات خطاب الفلسفة التنويرية والحداثة، وخلص إلى تشخيص فلسفة التربية عندنا حديثا، وكيف تواجهنا كمشكلة .
الملخص باللغة الفرنسية .
Lobjet de le philosophie de leducation actuelle et classique est letude critique et philosophique des consequences du dialogue philosophique a travers le temps sous ses divers aspects (anthropologique, epistemologique et ecologique) sur leducation du fait quelle soit un systeme de pensee morale et sociologique aux dimensions institutionnelles et symbolique, donc le chercheur tente de mettre en exergue les effets philosophiques dans le passe particulierement a lepoque greque, la recherche etudie aussi le developpement du discours philosophique dand leducation, plus particulierement chez les premiers philosophes musulmants, il a ensuite etudie les repercussions de la philosophie contemporaine, il a conclue par diagnostiquer la philosophie moderne de leducation dans notre pays, et comment elle se pose a nous comme probleme .
في دلالات المفاهيم والعلاقات
المفهوم الكلاسيكي للفلسفة المعروف بـ "محبة الحكمة " يشير حسب "محسن " إلى ذلك المجهود البشري الفكري في التوصل إلى معنى الوجود في المنظومة الكونية ،( 1 : 115 ) ، أي البحث في الماهيات ، والتوصل إلى القوانين الكلية التي تفسر ماهية الانعكاس وتعقل الواقع الطبيعي والاجتماعي في المنظومة المعرفية أي البحث في نظرية المعرفة ، والتوصل إلى الأحكام الكلية القيمية في المنظومة الأخلاقية أي البحث في نظرية الأخلاق ، وما تتضمنه من تنظيم للعلاقة بين الفرد والمجتمع والحياة . والمجهود البشري في ذلك تميز بصيرورة تاريخية من التحولات العميقة في الفكر الفلسفي ، جعل الفلسفة ذاتها هي الخلاصة الروحية لعصرها والمحصلة الناتجة من الفعل الجدلي بين آليات إنتاج المعرفة في كل عصر من عصور الفلسفة ( 1 : 117 ) ، أي أن الفلسفة بهذا المعنى تشير إلى البحث في كليات الوجود والمعرفة والأخلاق ، ومنه صنف بعض الدارسين الفلسفة إلى فلسفة نظرية تبحث في الوجود الكلي الإجمالي ، وفلسفة تحليلية تبحث في العلاقة بين الألفاظ والمعاني والظواهر من حيث العلية والسببية ، وفلسفة إرشادية تهتم بوضع مستويات للتقييم والحكم الأخلاقي على السلوك . ومن ثمة فهي ليست تجريدية منفصلة عن الواقع كليا ، فثمة علاقة ما تربط المفاهيم التجريدية كماهيات في عالم المثل ، بالواقع كممارسة فعلية في كل هذه أصناف المعرفة الفلسفية .( 2 : 5 ـ 7 ) .
في العلاقة بين السياسة التربوية والفلسفة
غير أن المستقرئ للتجربة العقلية التاريخية حول السؤال الفلسفي في حقوله الفلسفية الثلاثة قديما ( الأنطولوجيا أو المفهوم الميتافيزيقي للوجود ، والابستمولوجيا أو المعرفة ، والاكسيولوجيا أو الأخلاق والقيم الجمالية ) ( 3 :19 ) يجده موغلا في التجريد ويدفع العقل إلى التأمل والتشرد في الماورائيات والميتافيزيقا ، ويدفع الباحث إلى التعامل مع المقولات العقلية بصفتها الكلية التجريدية والجوهرية البعيدة عن الواقع كالسؤال المتعلق بماهية الوجود أو الغرض من الحياة أو العلاقة بين الجسد والروح أو ما هو خير ، وما هو شر …الخ ، ويزداد غموض العلاقة مع هذا التساؤل الموغل في التجريد ضبابية عند مقابلة المفاهيم الفلسفية في صورتها التجريدية في الحقول الفلسفية بالتربية من حيث هي فعل إنساني له وجود مستقل . ؛ إذ أن خاصية الكلية في التساؤل الفلسفي تمنعه من ملامسة كل أجزاء الواقع التربوي ، فهو لا يهتم بشروط التدريب المهني ، ولا بصياغة طريقة تربوية بصفة مباشرة مثلا إنما يهتم بماهية التدريب ولماذا التدريب والطريقة …الخ .إنه التساؤل حول الماهيات والغايات وهو مستمر منذ سقراط ، ولحظة الفلسفة تفرض نفسها شئنا أم أبينا ـ أولفيي ـ وفي غمرة البحث عن الجواب تتعدد الإجابات وتتناقض وتنشأ فلسفات للتربية ، وصار لكل فيلسوف تربيته على نحو ما من النسق الفكري الذي بناه . وهو ما يحيلنا حتما إلى تفحص العلاقة الوظيفية بين المفهومين ( التربية ، والفلسفة ) باعتبارهما نسقين معرفيين في البداية ، بحيث تلقي بعض الضوء وتزيل بعض الغموض على تلك العلاقة.
والبحث عن معنى النسق الفلسفي لا يبعدنا كثيرا عن مدلولات " محبة الحكمة " المشار إليها ، ونصوغه في ضوء خاصية الكلية على أنه نسق من النظر والتأمل في الكليات يتجلى وجوده في الواقع على مستوى الأثر الذي يتركه ، سواء في صورة البحث عن الماهيات والوجود الكلي الإجمالي حيث يتجلى وجوده في النزعة العقلية في تنظيم الواقع وفق مبدأ الكلية ، أو في صورة تعيين الغايات وتأسيس نظرية المثل وتعليم الفضيلة وتثبيت القيم الأزلية كما يتجلى في الأفلاطونية ، أو في صورة المادية الجدلية وتفعيلها للتناقضات الواقعية ، أو في صورة الأديان السماوية التي يتجلى أثرها في تغيير مجرى التاريخ . أو في صورته التوجيهية وتزكيته لنوع معين من القيم كتقرير الحسن والقبيح في السلوك . فالنسق الفلسفي في كل ذلك يدل على أثر الخطاب الفلسفي في الواقع في كلياته ، وما يجب أن يكون عليه ، إنه يبحث في ما هو كوني ويجرد الواقع في صيغ كلية إجمالية . ( 3 : 19 ـ 26 ) . وإذا كان البحث المعجمي في معنى النسق التربوي يرصوا بنا في أنه " منظومة من الأفكار التربوية التي بواسطتها تعقلن وتنظم العناصر المكونة والوظيفية للنظام التربوي في هيكلته وبنيته الإدارية وأهدافه في علاقات وتفاعلات وتحولات نوعية وكمية نحو غاية كلية محددة . ( 4 : 305 ـ 306 ) ، فإن نوع العلاقة بين النسق الفلسفي بالنسق التربوي ـ بناءا على دلالة معناهما كما أوردناها ـ هي من نوع العلاقة بين ما هو خصوصي ، وما هو كوني ، وعلاقة بين ما هو نظري وما هو عملي ، وعلاقة بين ما هو تجريدي وما هو حسي . وهذا النوع من العلاقات هي من صميم اختصاصات نظرية المعرفة .
غير أن التداخل بين ما هو خصوصي وكوني ، وما هو نظري وعملي ، أو بين تجريدي وما هو حسي كما تعكسها نظرية المعرفة ، جعل العلاقة بين المقولات الفلسفية والسياسات التربوية يسودها أيضا تداخل كبير أفضى إلى غموض لا يمكن إزالته إلا بدراسة العلاقة بين الفلسفة والتربية في فضاء اجتماعي معين محدد في الزمان والمكان .
الفلسفة التربوية والنسق الاجتماعي
والفضاء الاجتماعي من حيث هو نسق كلي يتضمن عدة أنساق من بينها النسقين التربوي والفلسفي ويعتبران نسقين صغيرين في نسق اجتماعي أكبر يعد محيطهما الذي يؤطرهما ، ومن ثمة فلا يمكن تصور مشروع تربوي إلا من خلال نسقه الكلي أو في إطار فلسفة تربوية تؤطره من حيث النظرية ، وتوجهه نحو هدف ما من حيث الممارسة البيداغوجية . ونجد هذا الترابط بين الأنساق عند كثير من فلاسفة التربية . فبالنسبة لديوي فهو يرى أن المشكلات من قبيل العلاقة بين العقل والمادة ، والجسم والنفس ، والبشرية بالطبيعة ، والفرد بالمجتمع ، والنظرية بالمعرفة التطبيقية …الخ تعود إلى الصراعات والصعوبات في الحياة الاجتماعية ، وتعمل الفلسفة من حيث هي ذات خاصية كلية على تجميع التفصيلات عن العالم والحياة المنطوي على المشكلات الاجتماعية في الكلي الإجمالي الواحد ، أو على الأقل في شكل نظريات كبرى تكون محل ثقة وقبول في نتائجها وتصبح كخبرة اجتماعية ، وهذا ما أعطى للفلسفة مفهوم " محبة الحكمة " الذي يدل على إنجاز حكمة ما تؤثر في سلوك واتجاه الحياة ، كما حدث في بروز علاقة حميمية بين الفلسفة واللاهوت في الكنيسة الرومانية ، وكذا ارتباط الفلسفة بالمصالح الدينية والصراعات السياسية في بناء النماذج القومية الحديثة .
وتمركز اهتمامات الفلسفة في النظرة الكلية للحياة جعلها تتميز عن العلم من حيث أن العلم هو مؤثر في السلوك بنتائجه الجزئية ، غير أن العلم عندما يتعدى إلى مستوى تقرير اتجاه عام يصبح مندمجا وظيفيا في الفلسفة بوضعه لنتائجه في السياق العام ، ذلك أن العلم ( الفيزياء ـ الرياضيات ـ التاريخ ـ العلوم التربوية ـ الأنثروبولوجيا …الخ ) هو الذي يقرر التعميمات عن وقائع العالم . غير أن هذه التعميمات عادة ما تثير قلقا وحالة عدم استقرار وعدم التوازن ، تتولد عنها بالضرورة تناقضات واختلافات في الاهتمامات تستدعي الحاجة إلى إدماج تلك الاهتمامات في نسق كلي شمولي يقلل من تلك الخلافات والتناقضات ويساهم في حل الصعوبة في الممارسة الاجتماعية لنتائج العلم ، وتلك هي الفلسفة بالنسبة لديوي . ( 5 : 288 ـ 290 ) . غير أن السؤال الفلسفي الناشئ عن صعوبة إنما انبثق أصلا من أهداف وظروف اجتماعية متباينة في الاتجاه والاستعداد لتبني الحل ، وتحاول الفلسفة بعدئذ تعديل الاستعداد العاطفي والفكري بصياغة الاهتمامات المتباينة ، واقتراح توازن أفضل بين مختلف الأهداف بلغة تقنية ، في مشروع للتكيف الاجتماعي ، و تلك هي الصلة الحميمة بين التربية والفلسفة ، إذ تصبح التربية المقصودة وغير المقصودة ـ من حيث هي تشكيل الاستعدادات الأساسية ، هي العملية التي يتم بها إنجاز الصياغة الفلسفية للاهتمامات ،وتحقيق مشروع التكيف الاجتماعي ، وتصبح الفلسفة بذلك هي النظرية العامة للتربية ( 5 : 289 ـ 290 ) .وبهذه الأهمية للتربية التي لا تخلوا من المبالغة يجعل ديوي من الفلسفة كما لو كانت عقيدة التربية .
ولا يبتعد " أوليفية ربول " عن هذا الرأي ؛ إذ يرى أن " فلسفة التربية ليست علما ولا سيكولوجيا ولا حتى معرفة ، فهي بحث فيما نعتقد أننا عرفناه أو انطوى على غموض لدينا " ( 6 : 5 ) . والبحث فيما عرفناه هو ما يفلسف الواقع في كل تجلياته الحسية والمعنوية ، وعليه فالسؤال الفلسفي ينطلق من الواقع الحي كما يدركه العقل بطريقة حيوية تجعل الذهن في حالة تأمل في كيف الحياة . وبناء على أن كل شيء موجود معرض حتما للتفلسف ، فإن التربية من حيث هي جزء من الوجود الإنساني ، فإنها خاضعة لا محالة للتفلسف ، ولا سيما أن السؤال الفلسفي المنبثق عن الممارسات التربوية هو حيوي لأنه يتعلق بوجودنا وذواتنا فتساؤلاتنا عن الزمن مثلا هي في الحقيقة تساؤلات عن ذواتنا ، وإذا أثارت التربية سؤالا عن كيفية وطرق علاج عسر القراءة مثلا أو أي مادة أخرى ، فإن التساؤل الفلسفي يختص في ذلك بماهية القراءة أو ماهية الرياضيات أو ماهية الفيزياء من الناحية المعرفية وقيمتها في السلوك . ( 6 : 6 ـ 7 ) ، وهذا التفلسف للواقع التربوي هو ما أنشأ علوم تربوية نظرية وفنية ، فالتساؤل حول ما معنى أن نكون أخلاقيين أو اجتماعيين ، ولماذا المعرفة هي أسئلة كلية فلسفية أنشأت العلوم النظرية " إنتولوجيا التربية ـ سوسيولوجيا التربية ، اقتصاديات التربية …الخ ، أما الأسئلة التي انبثقت عن التربية ذاتها والتي تتمحور حول " كيف " ؟ فإنها ساهمت في إيجاد فنون التربية ، كعلم الامتحان أو التقويم ، والبيداغوجيا ، وطرق التدريس ، وبناء المناهج ، ومختلف الأنشطة . وبناء على هذا التحليل يكون " أوليفيي " من الذين لا يرون أي انفصال بين التربية كنظرية والفلسفة ، وأن فلسفة التربية ما هي إلا النظرية العامة للتربية كما هي عند ديوي .إذ أن ما يجري من إخضاع السؤال الفلسفي للنظرة التجزيئية هو في نظر أوليفيي سر فشل علوم التربية النظرية منها والفنية ، لأن السؤال الفلسفي لا يتطلب الإجابة عن طريق العلم ، وإنما يتطلب تفلسفا ما لتنشيط وتحريك المنظومة التربوية من جديد ( أوليفيي : 7 ) .وتقريبا ينطبق هذا الرأي مع ما ذهب إليه كانط في تحليله لتعلم الفلسفة كمعرفة تربوية ، ففي نظر كانط أن فرضية وجود معرفة تتجاوز المحسوس ليست في حد ذاتها لغزا إلا من الناحية النظرية ، وهو ما يعني حضور سلطة العقل في أعمال الفكر وإدراك المعرفة ، ويعطي كانط للفلسفة كسلطة مرجعية للتربية مفهومين: ـ مفهوم مدرسي وظيفي يتعلق بضبط الوحدة النسقية للعلم أو البحث عن الكمال المنطقي للمعرفة . ومفهوم كوني يتعلق بالاهتمام بعلم العلاقات بين جميع المعارف والغايات العقلية أي هي تنظيم نسقي للمبادئ العليا لاستخدام العقل ، أو هي فن السلوك العقلاني " أو الحكمة " تنجز داخل فضاء تربوي وهو المدرسة ، ( 1: 25 ـ 26 ) .
الاتجاهات المعرفية في صياغة العلاقة بين الفلسفة والتربية
وتفحص العلاقة بين الفلسفة والتربية من منظور تطورات العلم والفلسفة ، نجد أن ذلك ارتبط بالصراع الكنسي العلمي في أوربا ، فإفرازات ذلك ، وما أنجر عنه من تقييم لثقافة الماضي وإعادة ـ تبعا لذلك ـ صياغة الفلسفة وثقافة الماضي في ضوء التغيرات الاجتماعية ونمو العلم والخبرة ، أفرز ذلك اتجاهين معرفيين :
اتجاه تجريبي يثق في الخبرة الحسية كأساس للمعرفة ، ويستبعد كل ما عدا ذلك من وسائل المعرفة الأخرى كالوحي والعقل والإلهام ، مما نشط البحث الأمبريقي في العلوم الاجتماعية وتأسيسها على مناهج العلوم الطبيعية ، انطلاقا من أن الظواهر الاجتماعية والتربوية في المنظور الوضعي جزء لا يتجزأ من المنظومة الطبيعية ، وبالتالي فهي تخضع في الدراسة لمناهج العلوم الطبيعية . وشيد في ضوء ذلك ما يسمى بالاتجاه التفسيري في التربية أو النظرية التفسيرية في التربية ، وهو اتجاه يستبعد كل تأسيس للقضايا التربوية على الفلسفة أو المعرفة الغيبية ، وتعتمد على الأبحاث التجريبية في علم النفس وعلم الاجتماع ؛ حيث صارا المكونين الرئيسيين لنظرية التربية . واستبعد بذلك أي علاقة للفلسفة بالتربية عند كل فلاسفة التحليل المنطقي ، وفلاسفة الوضعية المنطقية كـ" أوكونور ، وزكي نجيب محمود " ، وانشغلوا بالتحليل المنطقي لعلم المعاني وتحليل اللغة وتفسير ما هو كائن وتوضيحه ونقده دون إصدار أي حكم أخلاقي عنه ، بقصد إبعاد المعرفة الغيبية ومقولات العقل في تنظيم الواقع التربوي وتحليل ظواهره . وأصبحت فلسفة التربية في ضوء هذا الاتجاه من الناحية الوظيفية مجرد أداة لنقد مبادئ وأفكار النظرية التربوية خلافا لما دأبت عليه الفلسفة عند سقراط وأفلاطون وديوي وغيرهم في توظيف الإدراك الكلي في معالجة المحتوى والمعاني الكلية في التربية ، وهو المنظور الذي يجعل النظرية التربوية تنبثق من فلسفة التربية ( 7 : 320 ـ 323 ) .
أما الاتجاه المعرفي الثاني فهو يعطي للتربية وظيفة الإرشاد والتوجيه نحو الأفضل ، أو إلى ما يجب أن يكون عليه . ومن ثمة فهو يعمل على تضمين التربية إضافة إلى المحتوى التجريبي أو المعرفة التجريبية ، معرفة بالمعتقدات الفلسفية والميتافيزيقية والدينية بما في ذلك الخلقية والتاريخية ، وهو ما يفرض التفريق بين النظرية في العلوم الطبيعية ، والنظرية في العلوم التربوية ، ويسند هذا الرأي كبار المربين القدامى كأفلاطون والمحدثون نسبيا كجون ديوي ، وصالح عبد العزيز عندنا ، ويبرز هؤلاء أهمية المبادئ الفلسفية في تأطير وتوجيه التربية (7 : 324 ). وانقسموا في ظل ذلك إلى قسمين :
قسم أو اتجاه يرى في فلسفة التربية كشيء مرادف للنظرية التربوية من الناحية المعرفية ، ولا يمكن الاستغناء بعدئذ عن المبادئ الكلية التي تتيحها الفلسفة في تنظيم الوقائع التربوية أو نتائج العلم ، بل يؤكدون على أن التربية وليدة الفلسفة ، وأنها الجانب العملي لها . أما القسم الثاني في ظل هذا الاتجاه فيرى أن فلسفة التربية ليست إلا أحد روافد الفكر التربوي ـ أو النظرية التربوية ـ من بين عدة روافد كعلم الاجتماع التربوي وعلم النفس التربوي ، ومن ثمة ففلسفة التربية جزء من الكل في إطار النظرية التربوية له حدوده ومكانته ووظيفته تتلخص في تحليل وتوضيح المبادئ والمبررات والانتقادات التي تقوم عليها النظرية التربوية . ( 7 : 334 ـ 338 ) . وبهذا عادت المكانة العظمى التي أعطاها ديوي لفلسفة التربية في الانحسار عند كل من تبل " J . W. Tibble " و " بيترس R . S . Peteters " وغيرهم عندما نادوا بتحديد مفهوم النظرية التربوية ، وما تتضمنه من علوم تسهم في بنائها ، وصارت فلسفة التربية في منظورهم المعرفي مجرد علم من العلوم التي تساهم في بناء النظرية كعلم الاجتماع وعلم النفس وتاريخ التربية …الخ . ( 7 : 318 ) .
أما نبيل على ( 2001 ) ، فبدلالة مؤشرات تعليمية كـ " النمط المدرسي والفئة المستهدفة من التعليم ، وأسلوب التعليم السائد ، ولون المعرفة المهيمنة " لخص مسار وتطور فلسفة التربية في ضوء المعرفة والخبرة الغربية في رباعية ( الميثالية ـ الرومانتيكية ـ الواقعية العلمية ـ البرجماتية ) ، فكل هذه الفلسفات لها هيمنتها وتوجيهاتها على التربية .بحيث صار الخطاب الفلسفي في كل إجراء تربوي أو سياسة إصلاح تربوي نافذ ويتجلى ذلك على مستوى الأهداف والغايات الكبرى باعتباره ( أي الخطاب الفلسفي ) المرجعية العليا لكل عمل تربوي . وفي ضوء المرجعيات الفلسفية هذه تحددت وظيفة التربية كعملية إدماج وبناء المثل العليا .
وبنفس المعايير والمؤشرات تمكن " نبيل علي " من رصد الخطاب الفلسفي وتطوراته في الثقافة العربية ، وحددها في رباعية أيضا بداية من صدر الإسلام ، إذ أن الفلسفة لم تكن معروفة لدى العرب قبل ذلك وبالتالي لا يمكن الحديث عن فلسفة التربية . ورباعية فلسفة التربية في نظره هي ( الفلسفة الأخلاقية ـ العقلانية الروحية ـ الفلسفة البرجماتية ـ مرحلة التبعية ) .( 8 : 303 ـ 306 ) .ونورد في ما يلي الفلسفة الأخلاقية كنموذج لهيمنة المنظومة المعرفية الإسلامية في منظورها الكلي على صياغة نموذج الشخصية الإسلامية الفردية والجماعية ، وكيف أطر الدعوة من حيث هي فعل تربوي .
والفلسفة الأخلاقية كما سماها نبيل عليه فهي خطاب ديني كلي إجمالي ، ساد في أوائل الدعوة الإسلامية ، يرتكز مضمونه حول الحقيقة الكلية كما يجسدها القرآن الكريم ، وهي حقيقة التوحيد المتضمنة لتحرير الإنسان من عبادة الأوثان . ففي ضوء التوحيد وجه الفعل التربوي من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه في عهد الراشدين إلى التبليغ ومقتضياته من القدوة الحسنة والالتزام الفردي . ومع إتساع رقعة المجتمع الإسلامي وإسلام القبائل والأعاجم تطور إلى فكرة " الإفهام " ومقتضياته من تكوين الدعاة المبلغين وفق " الجدال بالتي هي أحسن ". وتركز على تحصيل العلم وتبليغه كهدف ديني أخروي . أما في ضوء مبدأ تحرير الإنسان من عبادة الأوثان ، فقد وجه الفعل التبليغي من حيث هو فعل تربوي نحو تركيز سلطة الدين الإسلامي على الأفراد والمجتمع والعمل على تعميم الوعي باختياره وتفادي الإكراه كخطوة أولى نحو تحويل مركزية السلطة السياسية والاقتصادية من وضعها القبلي إلى سلطة الدين وعلومه كهدف دنيوي تقتضيه حاجة الجماعة الإسلامية الأولى لتكوين الدولة الإسلامية وفق مفهوم الأمة . وورث هذا التوجيه العقيدي للتربية الفيلسوف الغزالي .الذي أطر في فلسفته الفعل التربوي بالدين والأخلاق . ثم اندرج الخطاب الفلسفي التربوي فيما سمي بالعقلانية الروحية في عصر تبيئة ما اسماه الجابري بالعرفان والبرهان في المنظومة المعرفية الإسلامية ، وعرف بالفلسفة الإسلامية ، وهي المرحلة التي أسسها الكندي والفرابي وابن سينا …الخ ، ثم المرحلة البرجماتية على حد تعبير نبيل علي ويسميها الجابري البيان التاريخي الاجتماعي التي أسسها بن خلدون ، فكل هذه النماذج الفلسفية الإسلامية إستهدفت تحقيق الماهية والوصول إلى الحقيقة بمقولات الفلسفة ( العقل والمنطق ) ، وتأطير الفعل التربوي بالفلسفة ، وتأطرت الفلسفة بالدين .
وهكذا كان الخطاب الفلسفي وتطوراته في التربية خطاب يؤطر التربية بصفة شمولية ويهيمن عليها ، إذ أن سيرورة العمل التربوي سواء في شكله المجزأ والعفوي( المقصود وغير المقصود ) أو في شكل سياسات وإستراتيجيات منظمة رسمية ـ في ظل هذه الفلسفات ـ انطلق من تحديد ماهية الإنسان ، ومن تصور تجريدي للعلاقة بينه وبين الحياة التي يحياها بشقيها المادي والروحي . ومنه تضع التربية سؤالا أو تساؤلا فلسفيا تهتدي به ويوجهها نحو تحقيق غايات الإنسان الكبرى إن على المستوى الفردي وإن على مستوى اجتماعي وإنساني أوسع كالحرية أو الغاية من الوجود . كما تضع معايير للتربية الناجحة وتنتظم في ظلها الاستراتيجيات والسياسات ونظام التقويم لتحقيق الغايات التربوية الكبرى . وفي ظل هذا التناول الفلسفي للمسائل التربوية تصبح وظيفة التربية هي تحقيق الماهية ، أي أن التربية تسعى إلى تحقيق الإنسان الذي ينشده تصور فلسفي ما للإنسان والطبيعة والحياة .وينطبق ذلك على كل تربية تؤطرها الفلسفة كتربية أفلاطون المستهدفة للنموذج الإنسان المثالي أو تربية الإنسان الأسطوري الذي استهدفته الفلسفات الشرقية القديمة ، أو الإنسان الأبيقوري الذي تنشده التربية في ظل الفلسفة الأبيقورية ، أو الإنسان الميتافيزيقي اللاهوتي الذي تنشده المسيحية ، أو الإنسان المؤمن الذي تنشده التربية في ظل الإسلام ، أو الإنسان العالمي الطبيعي الذي تنشده التربية في ظل الفلسفة الطبيعية ، أو الإنسان الأداتي النفعي الذي تنشده التربية في ظل الفلسفة النفعية أو الإنسان الاشتراكي الشيوعي الذي تنشده التربية في ظل الفلسفة الشيوعية أو الإنسان الايكولوجي الذي تنشده فلسفة البيئة أو الوجودي …الخ .فكل الصيغ التربوية التي تستهدف الماهية إنما هي تربية من أجل التأثير في السلوك نحو تحقيق " محبة الحكمة العليا"وهي بذلك توظف مفاهيم فلسفية كعبر ومثل عليا في المنظومة التربوية وتحددها تحديدا قبليا . ( 4 : 264 ـ 265 )
غير أن هذه العلاقة المتسمة بتأطير الكلي للخصوصي أي تأطير الفلسفة للتربية تجعل التربية بالضرورة أكثر انحيازا للأهداف الفلسفية وتأثيرا بها أو بنظرية المعرفة ، وأكثر بعدا عن الواقع التربوي والتغيرات الاجتماعية ، ومقتضيات السيكولوجيا والحرية الفردية ، مما أثار تساؤلات فلسفية عديدة تتعلق باستقلالية الفعل التربوي العفوي منه أو المؤسساتي عن إكراهات الفلسفة ، وتساؤلات أخرى مضادة تتعلق بإكراهات سلطة الأيديولوجية الاجتماعية ( إي إشكالية تحرير الفلسفة من ضغوط النسق التربوي ومحدداته الأيديولوجية والثقافية المحلية ) .
فالتحليل السوسيوتاريخي للعلاقة بين المؤسسة التربوية ـ من حيث هي نسق ـ والفلسفة كما خلص إليه " مصطفى محسن " يؤكد أن توظيف الفلسفة كموجهة ومؤطرة لنسق معين من الأنساق الاجتماعية ولتكن " فلسفة التربية " تنشأ عنه إشكالية عدم قابلية استيعاب الخصوصي لما هو كوني ؛ إذ أن ما يفترض في النسق ، أنه يكون محدد في الزمان والمكان ويوجد داخل أنساق أخرى ومرتبط بها ، وموجه في مضامينه وأهدافه وآلياته تؤطره معايير إيديولوجية اجتماعية توازنية بين مدخلات النسق ومخرجاته ، مما يجعل سعته في الاستجابة لكليات الفلسفة محدودة ، ويبقى تطويره خاضع للسؤال الفلسفي النقدي وفي حدود ما يحرك المنظومة التربوية في كلياتها ؛ إذ أن السؤال الفلسفي التوضيحي أو النقدي العلمي عندما يسفر عن تحريك المنظومة التربوية أو جزء من جزئياتها ، إنما يكون ذلك تحت سلطة تفسير معين ، فلكل مدرسة رأيها ومنهجها ، فنجده عند سقراط مثلا تفكير منطقي حواري أو توليدي ، ونجده عند أفلاطون مقابلة الأضداد ، ونجده عند هيجل وماركس جدلي ونجده عند ديوي وبياجيه تفاعلي …الخ . ( 6 : 7 ـ 12 ) . ومن ثمة فالنسق التربوي خاضع بالضرورة لإكراهات وتأثيرات محيطه المؤسسي والمعرفي . إلا أنه مع ذلك له مميزاته عن محيطه أو عن الأنساق الأخرى بما فيها النسق الاجتماعي أو الفلسفي الأكبر ، وهو ما يعطيه أو يكسبه أي (النسق التربوي ) نوع من الاستقلالية النسبية ، والقدرة على التمرد أحيانا عن فلسفة إعادة الإنتاج والاستلاب كما يصفها محسن ، مما يرشحه ذلك إلى وظيفة التغيير وإنتاج الفعل الحر والإرادة الحرة والإبداع خارج الأطر المعرفية الاجتماعية المألوفة ، كما هي في تجربة سقراط الانقلابية. وتوظيف التجربة التاريخية الأوربية للفلسفة كموجهة لكل الممارسات الاجتماعية ، وإدراجها ضمن تعليم سكولائي ، وما استحدثته ما يسمى بفلسفة الأنوار ( كانط ) من تغيرات في المفاهيم ، آلت إلى إنجاز ثورات في جميع الميادين . ومن الطبيعي أن ذلك يتوقف إلى حد بعيد على الفضاء الاجتماعي ( نسق الأنساق ) وما يمنحه من هامش الاستقلالية ، وما يمنحه كذلك تفلسف القضايا التربوية من العمق والفعالية . (1: 115 ـ 118 ) .
وإذا كانت العلاقة بين الفلسفة والتربية كما يوضحها التحليل الابستمولوجي والسوسيولوجي علاقة تلازم وتبعية مؤكدة ،( تبعية الخصوصي للكلي المهيمن ) ، فإن السؤال الفلسفي الذي يثيره التحليل السوسيولوجي والابستمولوجي من جديد هو سؤال يتعلق بشرعية التربية ذاتها .أي هل أنه لابد من إنشاء مؤسسات تسهر على تربية الإنسان ؟ أم أن الإنسان يستطيع تربية ذاته بنفسه ؟ وبالتالي يتحرر من كل ضغوط توجيهية ، إن على مستوى هيمنة الرؤى الفلسفية والميتافيزيقية واستهداف الماهيات في الوجود ، وإن على مستوى المؤسسات الاجتماعية واستهداف التكيف والاندماج الاجتماعي . وقد أثير هذا السؤال بصفة خاصة في ضوء ما يسمى بفلسفة الأنوار ، إذ يعتقد كانط أن شرعية التربية أو بالأحرى فلسفة التربية اكتسبتها ليس من حتمية جدلية الفكر والواقع ، وثنائية الواضح والغامض وما يثير ذلك من تساؤلات ، إنما اكتسبتها من إنسانية الإنسان نفسها ، من حيث أن إنسانية الإنسان لا تصير إلا بالتربية ، انطلاقا من اعتقاد فلسفي لديه يتعلق بضرورة التخلص من وحشية الإنسان الطبيعية ، وأن ذلك يحصل بالتربية عبر مراحل أربعة . ( الضبط ـ التثقف ـ التمدن ـ التهذيب الأخلاقي ( 9 : 37 ـ 52 ) .
غير أن ديوي يرى ضرورة التربية ـ أو ضرورة فلسفة التربية ـ من زاوية أخرى تتعلق بالتكيف واستمرار المجتمع ، فاستقراؤه لتاريخ التربية تأكد له أن التربية ضرورة من ضرورات الحياة تتعلق بضمان استمرار الوجود ، وما تمثله التغذية والتكاثر بالنسبة للحياة الفسيولوجية تمثله التربية بالنسبة للحياة الاجتماعية . ( 5 : 5 ـ 9 ) .ومن يستقرئ التاريخ حول أهمية التربية من حيث هي فعل موجه نحو صياغة شخصية الإنسان ـ أيا كان نوع هذه الصياغة ـ يجدها فعل محوري في عملية بناء الإنسان والمجتمع ، ما دام الإنسان دوما في مواجهة وتحدي الصعوبة ، وما دام العلم يحتفظ للإنسان بمركزيته في الكون ؛ إذ لم يعثر المؤرخون أو الأنثروبولوجيون ـ وسوف لن نعثر نحن مهما عمقنا الحفر في التاريخ القديم ـ عن حالة تخلي الإنسان فيها عن الفعل التربوي ، فقد غطت حضوره في الزمان والمكان ، حتى أن البعض من يرد كل المشكلات الاجتماعية إلى التربية ، كما ذهب إلى ذلك " نبيل علي " حيث يعطي للتربية نصيبها في الكل ـ سلبا وإيجابا ـ في السياسة والاقتصاد وفي الاجتماع وفي توزيع العمل وفي الأسرة وفي التقدم والتفوق العلمي وفي الانفتاح والانغلاق ، وفي كل ما يتعلق بالمجتمع . بل وفي كل شيء يتعلق بالإنسانية . وهو ما جعلها محل اهتمام الكل ، اهتمام الأب والأم والحاكم والفيلسوف والعالم والطاغي والديمقراطي …الخ . ( 8 : 289 ـ 290 ) . وخاصية الكلية أو العطاء الكلي للتربة ومركزيتها في الفعل الإنساني هو ما جعلها أكثر العلوم ارتباطا بالفلسفة حتى في أشد صورها وتجلياتها الإجرائية العملية ، . وهذا الارتباط هو ما أثار التساؤل الفلسفي عن طبيعة التأثير والتأثر الذي تمارسه الفلسفة على التربية ، وقد اختلف وتنوع ذلك بتنوع المعتقدات والفلسفات وتشعب النظريات ، وتراوح التأثر بين السلب والتحرر حسب نفوذ نوع الخطاب الفلسفي في التربية .
وقد جسد التفكير الإنساني فيما قبل الفلسفة قمة الاستلاب الرمزي لقوى العقل حيث طغيان العقل الأسطوري والخرافي الممزوج بالتفكير الميتافيزيقي ،إذ وجه فعل الارتقاء بالنفس من حيث هو كل الفعل التربوي نحو الولوج في عالم الأرواح وفناء الذات الموضوعية في الذات الكلية ، فوقع بذلك تفكير الإنسان في الأسر البيئي وردود الأفعال الشرطية ، والسلب الكلي لفعل الإرادة . مما أخر ظهور التفكير الفلسفي آلاف القرون . ومنذ أن بدأ العقل يتحرر من سيطرة الأسطورة والخرافة والتشيئ بفعل التفكير الفلسفي المنطقي صارت فلسفة التربية فرع من فروع الفلسفة. ومن ثمة فالتفكير الفلسفي يعد أولى الخطوات في تحرير الإرادة والتفكير من الأسر البيئي واللامنطقية ، إلا أنها زجت به مرة أخرى في قدسية المعاني الكلية والمثل العليا الموغلة في التجريد ، وزجت بالتربية نحو تحميل النفس لتمثل تلك المعاني الكلية وتقديسها ، مما شكل فلسفة تربوية تعصبية كرست خضوع الإرادة الفردية للإرادة الكلية ، والعقل الفردي للعقل الجماعي الكلي المتمثل في الدولة وقوانينها كما هو الشأن في فلسفة أفلاطون ، والفلسفة الرواقية وتطوراتها مع الكنيسة الرومانية .
واستخلص ديوي ـ من خلال تحليله لثلاثة فلسفات كبرى اهتمت بالتربية ـ أن الفلسفة الأفلاطونية ، وإن استطاعت أن توظف التربية في كشف المؤهلات الطبيعية للفرد ، واعتماد ذلك في توزيع الطاقات الفردية لتؤدي دورها في المجتمع ، إلا أن حشده لكل المجتمع في ثلاث طبقات شديدة التميز هو إجراء ضد نمو المعرفة ذاتها بجعل الفرد رهين طبقته من حيث أن الطبقة لا الفرد هي الوحدة الاجتماعية ، وأصبحت ثورية تربية أفلاطون في تغيير الفرد والمجتمع لصالح دولة يستأثر فيها الفلاسفة بالحكم الأبدي لأنهم هم وحدهم الذين يدركون العقل الكلي والقوانين الكلية ، وتحولت ثوريتها إلى تكريس الطبقات الأزلية الطبيعية والمحافظة على الفوارق الطبقية الأزلية في نظره وتكرار دولة الفلاسفة الميثالية .
أما توسيع الفردية إلى نموذج " الإنسان العالمي " المزعوم في ظل الفلسفة الطبيعية التي بشر بها روسو ـ وهي محاولة لتحرير الإنسان من سلطة الرمزي ومنها الفعل التربوي الاجتماعي ، فقد أخفقت في إيجاد نموذجها لعدم قدرتها على إيجاد أو حتى تصور لجهاز نموه ، فانهارت النزعة العالمية للتربية في القرن التاسع عشر بظهور الفلسفات الميثالية المؤسسية ، بإعلان نتشة وهيجل خليفتا روسوا وكانط بأن التربية هي الوظيفة الأساسية للدولة ، وتلك هي الفكرة الأساسية التي كانت من وراء تأسيس أول نظام تربوي تشرف عليه الدولة ، وتخضع بها التربية لتحقيق مصالحها القومية ، ضنا منها أنها سدت نقص فردية القرن الثامن عشر ، إلا أنها ضيقت بإشرافها التربوي الصارم الأهداف التربوية الاجتماعية الكبرى في حدود أهداف الطبقة السياسية الواحدة ، وانكمشت حتى إلى أهداف أعضائها ، فأعادت بذلك الفكرة الأفلاطونية في إخضاع الفرد للمؤسسة بطريقة أخرى ( 5 : 82 ـ 91 ) وفي ضوء إدراجه للتربية كحاجة ووظيفة اجتماعية خلص ديوي إلى وضع المعالم العامة للتربية فهي ـ في رأيه ـ عملية تجديد لمعاني الخبرة وتحويلها بطريقة عرضية أو متعمدة من أجل استمرار المجتمع ، وتأخذ في ذلك شكلين أو فلسفتين ، إما بفلسفة تنويع الاهتمامات الفردية والجماعية وتتخذ من إعادة تنظيم مستمر للخبرة مثلها الأعلى ، ويعمل الراشدون كمرشدين لإعادة تنظيم واستمرار الخبرة وتلك هي التربية الملائمة للمجتمع الديمقراطي . وإما بفلسفة المحافظة على العادات العرفية الراسخة التي تعمل تحت سيطرة طبقة عليا . ( 5 : 286 ) .
ويعتقد مصطفى شباك ( 2000 ) أن معظم الإشكاليات التي تثيرها باستمرار الممارسات التربوية في عصرنا على شكل تساؤلات فلسفية تعود إلى قرون طويلة ، ففكرة إنشاء المدرسة العمومية ، أو التربية للجميع كانت محل نقاش في العهود الأولى للثقافة الإغريقية ، واستمرت مع الرومان والديانات كالمسيحية والإسلام . وعلى الرغم من أن كل التساؤلات حول تعميم التربية كحق لكل الناس ، واستهدف في كل الفلسفات والديانات تربية " إنسانية الإنسان " أي أن التربية يجب أن تكون من أجل إيقاظ وإنماء خصائص الإنسان . إلا أن ذلك كان في نطاق ماهية خاصة ، أو توجيه خاص لمعنى الإنسانية ، مما جعل تربيتها خاصة واندرجت ضمن مبدأ إدماج وإعادة الإدماج في جماعة إنسانية ذات خصوصية ثقافية معينة . ومنذ عصر التنوير على ما ذهب إليه " مصطفى شباك " أخذت فكرة المدرسة العمومية تأخذ مفهوم يشمل الكائن البشري بغض النظر عن ماهيته ، أي في ضوء خاصية " قابلية الإنسان للتربية دون غيره من الكائنات " وتضع آليات معرفية تؤطر تنظيم الفعل التربوي بما يسمح للإنسان من تربية نفسه بنفسه والحصول على الاستقلال الذاتي عن كل سلطة رمزية . وقد تشكل هذا المفهوم في ظل تكون السؤال الفلسفي حول الأثر السلبي للنموذج التربوي المجتمعي الإدماجي ( هيمنة المؤسسة الاجتماعية أو سلطة الرمزي ) على حرية التفكير والاستقلال الذاتي والإبداع ، بفعل الاكراهات التربوية التي يتعرض لها الطفل ؛ إذ أن إنسانية التربية إذا ما تأسست في نطاق وحدود جماعة لغوية دينية متميزة ، تبعد ـ في نظره ـ " القابلية للتربية " عن غير الذين لا ينتمون لتلك الجماعة بطريقة أو بأخرى ، وتجلى ذلك تاريخيا في تربية أفلاطون التي تبعد وتقصي كل اللذين لا ينتمون إلى الإغريق ، ولم يتمكنوا من اكتساب الاعتراف بإنسانيتهم ، لأنهم لا يتوفرون ـ في نظر أفلاطون ـ على القابلية للتربية ، ومثلهم في ذلك كمثل الحيوانات بناء على مسلمة " لا يقبل التربية إلا الإنسان " وهي المسلمة التي أوجدت التجربة التربوية لدى الإنسان دون غيره من الكائنات ، بل فرضت ما يسميه كانط بـ " أنسنة المواليد البشرية الجدد " وفرضت على البشرية إنشاء مؤسسات تسهر على المواليد الجدد ، ما داموا يولدون داخل العالم على حد تعبير " حنا أراندت " . (10: 109 ـ 110 ) . إذن فمصاحبة التربية الذاتية لحضور الإنسان في الزمان والمكان ، وما تشكله خاصية قابلية الإنسان للتربية كجزء لا يتجزأ من رمز " الشرط البشرى " كالمقدس والقابلية للاجتماع والتبادل الرمزي ، وكذا ما يقال عن أن لكل إنسان ميل طبيعي إلى تربية الأطفال ، كل ذلك يعد من الأسباب المباشرة لإثارة السؤال الفلسفي حول التربية من مثل " معنى أن تربى " كما يجعل كل مجموعة بشرية بغض النظر عن ماهيتها ـ وفي نطاق ديمومتها التاريخية ومشروعها السياسي ـ ملزمة برفع تحدي المؤسسة التربوية ، وتوفير شروط إنتاج الخطاب الفلسفي . كما تثير كينونة الأطفال السؤال الفلسفي عن نوع التربية الضرورية لهم ، وهو السؤال الجرئ الذي أثاره بين طفيل والسهروردي وروسو حول ما إذا كان الإنسان قادر بذاته على إصلاح نفسه ، وتحقيق إنسانيته خارج عن كل إكراه جماعي ، ودون أي فعل خارجي كتقنيات وثقافة جماعة وسطه . ( 10: 108 ـ 110 ) .
وبفضل هذه الأسئلة عاد التفكير بشكل جدي في بحث مسألة استرجاع السلطة المرجعية العليا للطفولة ، وإمكانية بناء التربية على السيكولوجيا والفن البيداغوجي وتناول الخطاب الفلسفي التربية من حيث هي وجود فعلي للمسائل البيداغوجية ، تتجسد في شكل سياسات وتخطيط ، تنطلق من الواقع الموضوعي للعلاقات لتستهدف تحقيق ماهية الوجود لتلك العلاقات . وبعبارة أخرى أن الفيلسوف يرسم العلاقات التربوية ويقيمها انطلاقا من تصوره للفعل التربوي أو ما يجب أن تكون عليه التربية ، كالانطلاق من الطبيعة الخيرة أو الشريرة للطفل ،كما انطلق روسو من طبيعته الخيرة ، أو من الوجود المستقل للمعرفة عن الذات ، كما انطلقت كل الفلسفات المثالية وحتى الماركسية ، أو الانطلاق من أن الذات هي مصدر المعرفة كما هي في الفلسفات القائمة على العقلانية …الخ . فهذه التصورات المنبثقة عن المفاهيم الفلسفية للتربية تؤثر بشكل مباشر في تنظيم العلاقات التربوية وفق معيار " الحرية والسلطة " أو وفق معيار " أولوية الفرد عن الجماعة أو العكس " وهي بمثابة المسلمات التي تنطلق منها البيداغوجيا .أو كمبادئ للممارسات التربوية .(4 : 265 ) .
والذين أسسوا لمرجعية الطفل في كل فعل تربوي إنما انحدروا كلهم من الفلسفة الطبيعية لرسوا الذي عزل الطفل عن الأمومة والأبوة ، وعن المؤسسات الاجتماعية ، وهو ما يعد ـ حسب ديوي ـ قتل للتربية ذاتها وثقة عمياء بمصادفات الطبيعة . وجعلوا من التربية مفهوما يقتصر على الممارسة البيداغوجية ، ورسموا لذاك مشاريع تربوية كأنها مواصفات جاهزة للبيداغوجيا الناجحة ، وأصروا على أن كل الممارسات التربوية تتأسس خارج السؤال الفلسفي ، مما يعني الدعوة الصريحة لإنهاء كل صلة بين التربية والفلسفة.أو لإنهاء كل هيمنة لسلطة الرمزي الاجتماعي على التربية . ( 10 : 107 ) .
إلا أن حضور فلسفة الأنوار وحداثة القرن الثامن عشر بعمق في القضايا المعاصرة للتربية ينفي ذلك الاعتقاد بقوة ، إذ أنه لا يمكن تصور تعميم التعليم وإجبار يته والتخلي عن التربية من حيث هي تهذيب للأخلاق أو دمج وإعادة الدمج خارج عن فلسفة القرن الثامن عشر أو فلسفة الأنوار ، فغاية التربية أصبحت من أجل التنوير عند " كوندورصيه " أي بناء الفرد الحر في تفكيره ، وعند كانط من أجل أن لا يحتكم لأية سلطة خارج سلطة العقل ، ومن أجل حرية تتقاطع بالضرورة مع إرادة الآخرين لتكوين ما يسميه روسوا إرادة عامة ، ويسميه " حنا أراندت " ( عام مشترك ) (10: 108 ) . ومن أجل استمرار الإرادة العامة وذلك العام المشترك ، يقتضي دوما استحضار الغاية من تأسيس المدرسة الحديثة وهو" التعميم العادل للمعرفة المستنيرة من أجل تنوير العقول "على حد تعبير محمد أسليم ( 10 : 108 ) .وبصدد تنوير العقل كفلسفة في المعرفة التربوية يرى كانط " أننا لا نتعلم الفلسفة كأفكار بل نتعلم التفلسف ، والمدرسة التي تعلم الفلسفة كأفكار إنما تعلم القدرة على التقليد وتشكل العقل الذي يستعين على تحصيل المعرفة بعقول الآخرين ، وتكون شخص يفهم جيدا أو يحفظ جيدا ما فهمه ولا يتعدى ذلك . فالشخص الذي يجيد الفهم لما حفظ ، إنما هو الشخص الذي يجسد الغياب الحقيقي للإنسان الحي . والمعرفة التاريخية بأنساق معينة من الأفكار والفلسفات والمتكونة من خلال عقل خارجي قد تصبح في ظروف معينة أداة للجريمة في مجال التربية .( 1 : 19 ـ 21 ) ، وبالتالي فمن يعلم التفلسف لا يلقن تلاميذه الأفكار المطلقة ولا الفلسفات الجاهزة ، ولا يقوم مقام الوصي على عقولهم بل يرشدهم إلى طرق العمل والتفكير الشخصي فتعلم الفلسفة على المستوى البيداغوجي ، هو تعلم للتفكير النقدي . ( 1 : 23 ) .
وقضية تعميم تنوير العقول وتربية التفكير النقدي لا تتعارض ـ بالنسبة لكانط ـ مع مبدأ وحشية الإنسان ، والتي أوجدت مؤسسات الأطفال لترويض وحشيتهم ، وأكدت فكرة " المدرس أكبر من التلميذ " ، والاعتقاد بضرورة ثقافة الإكراه التي توجه التلميذ نحو الحصول على استقلاليته ، وهو ما يسميه بالدور التحرري للسلطة التربوية . ( 9 : 28 ـ 29 ) . وما دامت مؤسسات الأطفال وثيقة الصلة بتطور المؤسسات الاجتماعية الأخرى ؛ فإن ذلك يتحتمنا في نظر كانت لنقل رؤيتنا للمدرسة من المستوى الابستمولوجي إلى المستوى الأخلاقي ، ومن الشأن البيداغوجي إلى الشأن السياسي ، وبدل أن نتهيأ بعد ذلك لفكرة الإنسانية فإن التربية تكون للمواطنة . ( 10 : 111 ) .
فلسفة التربية والمواطنة
ومن الوجهة البيداغوجية فإن تربية المواطنة لا يمكن أن تفلت من قبضة الأيديولوجية والسلطة ، فنموذج دوركايم في توظيف التربية من أجل تكييف الجيل الناشئ مع حياة الجماعة تعرض لانتقاد عنيف من حيث هو نموذج يجعل التلميذ أكثر سلبية ، ويجعل المعلم أكثر نفوذا في التربية ، وهو دور تسلطي للتربية على الطفل ( العلاقة التربوية ( 11 : 20 ـ 21 ) . فعملية توزيع الأدوار الوظيفية داخل القسم ، وتحديد العلاقة التربوية في شكل إتفاق إنما هي تنظيمات بيداغوجية تخفي سلطة اتجاه فلسفي ما ، أو خطاب أيديولوجي ثقافي معين مهما بدت حيادية ، سواء في شكل إتفاق للعلاقة التربوية أي على أساس اقتصادي تبادلي للفوائد المشتركة بين التلميذ والمعلم ، أو في شكل تعاقد للعلاقة ، والذي يبرز الاتفاق بين التلميذ والمعلم على ضرورة الوصول إلى هدف مشترك ، تحت شعور التلميذ بضرورة تسليم بسلطة المعلم أو الأب عليه .( 11 : 116 ـ 132 ) .
وبالنسبة لـ " بورديو ، فسلطة الرمزي أو ما يسميه بـ " العنف الرمزي " هو نافذ بشكل أو بآخر في كل الممارسات البيداغوجية ، فيرى أن ( أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي ، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين ) ( 12 : 7 ) وهو ما يفرض بالضرورة ممارسة التربية للسلطة ، في كل الأنماط والعلاقات والتربوية ( 12 : 17 ) ، ويستتبع ذلك ـ في نظره ـ معاودة إنتاج مبادئ التعسف الثقافي الذي تفرضه جماعة أو طبقة ما حاكمة . ( 12: 44 ) .وهو ما يجعل التربية إقصائية للطبقات الأخرى ولمواجهة هذا الفرض التعسفي والتخلص من تربية الإقصاء وبيداغوجيا إنتاج العلاقات الطبقية ، يقترح المزيد من الديمقراطية .
وخلص " ميشيل فوكو البنيوي المؤرخ لأنساق الأفكار ، من خلال دراسته للنص والخطاب المؤسسي في التربية من حيث تشكله وإنتاجه وتسويقه ، إلى أن عقلنة النص التربوي ، وتخطيط الطريقة البيداغوجية وتحديد الهدف ، وضبط السلوك التربوي ، إنما هي بالضرورة أفعال سلطوية تنتج علاقات سلطوية تستهدف في مجملها استغلال ما أمكن القوة النافعة في الفرد ، ولن يحدث ذلك إلا إذا أصبح الفرد منتجا ومستعبدا في آن واحد . ( 9 : 91 ) . ويبني " فوكو " الأمل على قدرة الفرد على الاعتناء بالذات ، وعلى انفتاح التربية على إمكانية الاكتساب والخلق والتغيير كسبيل إلى نشوة حقيقية في ممارسة فن الحياة والتحرر من هيمنة نظام المعايير والميتافيزيقا .( 9 : 92 ) . وهاهو " ليوتار " يفكر للإنسان ما بعد الحداثة أي بعد أن تجاوزت جامعات الغرب فكرة التحرر وتوجهت نحو تحقيق المهارات بدل المثل العليا ، وتمكنت من شروط حداثتها في اكتسابها لمشروعيتها من خلال سيادة الأدائية البرجماتية في داخل أوطانها وفي السوق العالمية ، فهو يفكر في كيف يجعل السؤال الفلسفي المعرفي يتمركز حول ما لفائدة ؟ أو هل يمكن بيعه ؟ أو هل هو فعال؟ ليتجاوز السؤال هل هو صادق ؟ . وهي الأسئلة التي ستحفز الجامعة للجواب على كيفية استبدال المعلمين بآلات وكيف تتعامل مع بنوك المعلومات ومعالجتها وفقا لسيادة مبدأ الأداتية . ( 13 : 64 ـ 74 ) .وهكذا يتضح بجلاء أن خطاب الفلسفة في التربية أخذ شرعيته من ضرورة تفلسف الواقع ، ومن مبدأ إنسانية الإنسان ، ومن مبدأ التنسيق الكلي لحقول المعرفة كخطابات متعددة في التربية ، وصارت الفلسفة وكأنها السلطة المرجعية العليا للتربية ، أو على الأقل بعد من أبعادها . ( 14 : 11 ـ 13 ) .ذلك هو واقع فلسفة التربية في الغرب حتى عند نموذج الإنسان ما بعد الحداثة .
الفلسفة والتربية في المنظومات التربوية العربية
وإذا كانت فلسفة التربية في الغرب كخطاب فلسفي في التربية يواجهها تحديات على مستوى التنظير للعلاقات التربوية ، والتداخل بين السلطة والحرية ، وإعادة النظر في المدرسة كمؤسسة رسمية وتحريرها من هيمنة ما يسمونه بالرمزي الثقافي ،وتحرير الإنسان .الخ . وتواجههم من الناحية الإجرائية على مستوى الزيادة في تحقيق تكافؤ الفرص ودمقرطة التعليم في ضوء الحرية الفردية . وتواجههم على مستوى الكفاءة في معالجة المعلومات والتمكن من الأداء العالي بواسطة الأجهزة ، فإن فلسفة التربية عندنا تواجهنا على مستوى الوجود ؛ إذ أننا لم نكون بعد فلسفة تربوية واضحة المعالم تنسق أفكارنا التربوية ، وتجعل ممارساتنا التربوية منطقية تنسجم ومبدأ الكلية . ففي ضوء المرجعية المعرفية المزدوجة ـ كما يسميها الجابري ـ ( مرجعية الماضي الموروث بتناقضاته ، ومرجعية الواقع العربي المحكوم بمركزية الثقافة الغربية ) تاهت التربية العربية بين جذب الماضي ، وضغط الحداثي .فلغياب تنظير تربوي على مستوى العالم العربي أو غياب فلسفة التربية العربية جعل الواقع يعاني متناقضات حادة . مما جعلها محل نزاع بين مختلف العلوم بل بين مختلف الأيديولوجيات ، وصارت تابعة لكل ألوان المعرفة بل لكل ألوان الرغبات وتاهت في مشاكل الكل . (8 : 293 ) وعلى الرغم من تنفيذ إصلاحات واستراتيجيات مبكرة لتطوير فعل التربية في المدارس الرسمية في بعض الدول العربية كمصر إلا أنها لم تستطع حسب دراسات علم الاجتماع التربوي أن تبلور فلسفة تربوية واضحة المعالم ، بل وكشفت الدراسات أن إخفاقا شاملا في تحقيق أدنى مستويات الأهداف التربوية المعلنة صار ميزة عامة في كل الوطن العربي ، واندرجت الإصلاحات كلها تحت ضغط أيديولوجي ، حتى تلك التي اهتمت بالدراسات الأمبيريقية وسيكولوجية الذكاء إنما اهتمت به لتسويق ثقافة الطبقية ، أسوة بما يحدث في الغرب قديما، وبطغيان سلطة الأيديولوجيا ، فقد النظام التربوي حتى تقاليده ، وصار يتغير بتغير أيديولوجية الحاكم (15: 213 ) .
وتفيد الدراسة الأمبيريقية للخطاب الفلسفي الواقعي للمدرسة المغربية من منظور التحليل السوسيولوجي في نتائجها ما يؤكد تغييب الخطاب الفلسفي المدرسي للبعد الاجتماعي والتاريخي في المعرفة التي يروجها الخطاب الفلسفي المدرسي حتى على مستوى مادة الفلسفة . كما بينت الدراسة تشتت المواقف حول الثقافة المدرسية بصفة عامة بين النزعة الإنسانية ، والنزعة الأيديولوجية ، والنزعة النقدية ، والنزعة البوليتقنية ،وتهيمن في كل ذلك ما ينسجم مع الخطاب الأيديولوجي للسلطة (16: 22 ـ 34 ) .
أما في الجزائر فالأمر أكثر تأزما ، إذ لم نعثر على دراسة واحدة حول فلسفة التربية في الجزائر ، ما عدا دراسة قرقام أكلي و بلعربي الطيب ( 1995 ) ،حول التفكير الاستدلالي لدى تلاميذ الأقسام النهائية ، وهي دراسة لا علاقة لها بفلسفة التربية إلا أنها ترصد الخطاب الفلسفي كمعرفة تربوية في منظومتنا التربوية ، وقد أشارت نتائجها إلى أن وعي أساتذة المادة على مستوى التعليم الثانوي بأهداف مقرر الفلسفة كان محدودا ، وهو ما سيؤدي إلى ضعف الناتج السلوكي لدى التلاميذ ، كما خلصت الدراسة إلى أن فعالية المقرر في تنمية القدرة الاستدلالية محدودة ـ مع إيجابيته في بعض جوانبه ( 17 : 5 ) . وكل ما عثرنا عليه بعد ذلك مجرد مبادئ تربوية أيديولوجية تقرر بصفة فوقية في إصلاح وتغيير المنظومة التربوية ، كما حدث في تقرير مبادئ عامة للمنظومة التربوية في ضوء الخطاب الأيديولوجي الاشتراكي وهي ( الثورية ، والعلمية ، الجزأرة ) ، وهي مبادئ من أجل تسويق خطاب أيديولوجي يقزم المجتمع إلى بلوريتاريا ، والجامعة إلى حزب على حد تعبير ليوتار .وفي ضوء قيم العدالة بمفهومها الاشتراكي والمساواة المجحفة والديمقراطية الجماعية انتظمت المعرفة التربوية في مبادئها العامة وتمظهراتها الخارجية دون محتوياتها التربوية ، وصارت تلك المبادئ وكأنها رشوة للمجتمع . وأهم تغيير من الناحية التاريخية هو ما أحدثته أمرية 16 أفريل 1976 التعلقة بالاصلاح التربوي الشامل ، وهي في حقيقتها مجرد تتويج للتوجه التربوي الاشتراكي الذي كان قد بدأ منذ 1965 .وذلك بتضمين المحتويات التربوية قيم العمل والمعرفة البيئية على مستوى التعليم الأساسي والثانوي خدمة لشعار لخدمة شعار " يا عمال العالم إتحدوا " ولم يكن لهدف تنمية المهارة ولم يرتبط حتى بسوق العمل والانتاج كما أعلن .وحددت معالم التعليم الجزائري كفلسفة في خليط من مرجعيات متناقضة ( الإسلام ـ العروبة ـ الاشتراكية ) ( 18 : 93 ) . ولم تستطع التجربة الجزائرية عبر إصلاحاتها المقننة أن ترسم حتى مبادئ عامة منسجمة منطقيا بحيث يؤسس عليها إنتاج فلسفة التربية واضحة المعالم . والتربية عندنا لم يكتب لها تغير أو تكييف حتى على معطيات الواقع منذ المدرسة الأساسية المنشغلة بضبط ما يقوله المعلم وما يقوله التلميذ ، وبقيت على حالها اللهم إلا ما يتعلق ببعض الإجراءات المستهدفة إقصاء التراث وتقنين بعض المحتويات بما يناسب الخط الأيديولوجي ، كل هذا الثبات القسري والشعب الجزائري يتغير في عمقه بصفة عشوائية تنذر بالخطر ، والعالم يتغير ، والعلم يتغير ، ولم نبدأ بعد في التفكير كيف نواجه العولمة ، وكيف نواجه الاستنساخ ، وكيف نواجه الدمار النووي ، وكيف نواجه الأنترنت بلغة واحدة …الخ ، والتناقضات العجيبة التي أثرتها الممارسات التربوية والنزاعات الاجتماعية لم تثر إلى حد الآن فينا سؤالا فلسفيا حتى نقبل على التفكير في صياغة النسق الفكري أو على الأقل في التأسيس لعلوم التربية ، وللأسف أثارت الرغبة في المزيد من التدخل الأيديولوجي العقيم اللاهث وراء الحداثة على الطريقة الغربية . وسقط تفكيرنا فقط إلى ما يرضي المتعصبين في العالم الغربي وعلى رأسه إسرائيل ،كالتفكير في كيفية التخلص من آيات الجهاد ، ونشر ثقافة السلم ، والاندماج العالمي في مشروع أمركة العالم .
وأخلص في نهاية هذه المداخلة إلى أن الفلسفة التربوية لا تواجهنا على مستوى تصادم السلطة بالحرية في القسم البيداغوجي ولا حتى ما يروج له من العولمة ، بل تواجهنا على مستوى الوجود الحضاري كما ذهب إلى ذلك عباسي مدني ، فالسلطة والإكراه لا تهربنا من تناقضات ماضينا لتولجنا في إكراهات ثقافة الغرب وحتمية الاستعارة والنقل . ولعل الخطوة الأولى في رسم فلسفة التربية العربية والخروج من تناقضاتها الاجتماعية والثقافية التي لا حصر لها ، ومن ثنائياتها المعرفية هي الاستئناف الفكر الراشدي والخلدوني أو النموذج المعرفي الإسلامي الأندلسي ، والذي لا يتأتى إلا من خلال المدرك الكلي للمنظومة المعرفية ، وتوفر الحس الجماعي الحضاري كما توفرت ملامحه لدى الجابري ، والتخلي بعدئذ عن مرجعية الازدواجية المعرفية . والمدخل الإجرائي إلى فلسفة للتربية كما لمح له نبيل علي ( 8 : 306 ـ 341 ) ، لا يتأتى إلا بالمقارنة التاريخية لتطور الفكر التربوي ذاتيا ، ونستبعد كل مقارنة بالفكر الغربي لأن ذلك هو مجرد مقارنة بين المهيمن بالتابع لا ينفع في شيء . ونصوغ الأرضية وفق ثلاث غايات ( اكتساب المعرفة ـ تنمية الذات والقدرات الشخصية ـ مواجهة العولمة وتغير طرق الاكتساب المعرفي ) .
والله أعلم
باتنة في : 30 / 03/ 2001
المــراجع
1 ـ مصطفي محسن . الفلسفة والمؤسسة التربوية . مجلة . فكر ونقد . السنة الثانية / العدد 12 . أكتوبر . 1998 . الدار البيضاء . المغرب .
2 ـ جورج ذ. ف . نيلو / مدخل إلى فلسفة التربية . ت . نظمي لوقا . مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة . 1977 .
3 ـ محمد منير مرسي . فلسفة التربية . إتجاهاتها ومدارسها . الطبعة 1995 . عالم . الكتب القاهرة .
4 ـ عبد اللطيف الفرابي وآخرون . معجم علوم التربية ( مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك ( 1 ) . سلسلة علوم التربية ( 9 ـ 10 ) . ط 1 1994 . دار الخطابي للطباعة والنشر . الرباط . المغرب .
5 ـ جون ديوي . الديمقراطية والتربية . ت . نظمي لوقا . مكتبة الأنجلو المصرية 1978 . مصر .
6 ـ أليفيي ربول . فلسفة التربية . ت . عبد الكريم معروفي . ط 1 . 1994 . دار توبقال للنشر . الرباط .
7 ـ بشير حاج التوم .مكانة فلسفة التربية في النظرية التربوية الإسلامية . بحوث المؤتمر التربوي . نحو بناء نظرية تربوية إسلامية . ج 2 سبتمبر 1991 . عمان الأردن .
8 ـ نبيل علي . الثقافة العربية وعصر المعلومات . عالم المعرفة عدد خاص . 265 . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . يناير 2001 . الكويت .
9 ـ محمد بوبكري . التربية والحرية . أفريقيا الشرق 2000 . الدار البيضاء المغرب .
10 ـ محمد أسليم . الانسانية والتربية وفكر الأنوار عن لا تجاوزية المدرسة العمومية . مجلة علوم التربية . المجلد الثاني . العدد الثامن عشر . مارس 2000 . مطبعة النجاح الجديدة .
11 ـ مارسيل بوستيك / العلاقة التربوية . ت . محمد بشير النحاس . المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . إدارة التربية . تونس 1986 .
12 ـ بيير بورديو / العنف الرمزي . ت . نظيم جاهل . ط 1 . 1994 . المركز الثقافي العربي . بيروت . لبنان .
13 ـ جان فرانسوا ليوتار / الوضع ما بعد الحداثي . ت . أحمد حسان . ط 1 . 1994 .
14 ـ محمد آيت موحي . الفلسفة في التربية . ديداكتيكا ( مجلة البحث البيداغوجي ) العدد 3 . 1992 . دار الخطابي للطباعة والنشر . الرباط . المغرب .
15 ـ شبل بدران . وحسن البيلاوي . علم الاجتماع التربية المعاصر . ط 1 . 1997 . دار المعرفة الاسكندرية . مصر .
16 ـ مصطفي محسن . المعرفة والمؤسسة . ط 1 . دار الطليعة للطباعة والنشر . 1993 . بيروت لبنان .
17 . قوقام أكلي ، وبلعربي الطيب . التفكير الاستدلالي عند تلاميذ التعليم الثانوي . حوليات جامعة الجزائر ( النسق التربوي في الجزائر رهانات التغيير ) . عدد خاص . جامعة الجزائر 1995 ـ 1996 .
18 ـ وزارة التربية والتعليم الأساسي . النشرة الرسمية للتربية . عدد خاص 1976 . الجزائر .