علم النفس

أولا :المقاربة التاريخية في دراسة النفس

1 ـ الرؤية الفلسفية والميتافيزيقية للإنسان .

يمكن قراءة هذه الرؤية في مرحلتين على الأقل .

1 ـ 1 مرحلة ما قبل النهضة االأوربية : حيث أدرج الإنسان في الفلسفة القديمة كجزء من نظام الكون واستهدفت تفسيره والبحث عن العلة من وجوده كما تبحث جميع علل الموجودات الكونية ، والكون في نظر الفلسفة القديمة هو بمنزلة مجموعة محددة من العوالم بما فيها الإنسان، وهذه العوالم مرتبة بشكل تصاعدي إرتقائي، ( الأشياء ، النباتات، الحيوانات، الإنسان، …الخ  )  ولكل عالم نظامه الخاص به محدد أزليا في الوجود، وما على العقل البشري إلا اكتشاف هذا النظام باستخدام وسائله من مثل التأمل والوحي والإلهام والحدس ،فانفتح الفكر الإنساني قديما على اكتشاف العالم المحيط به وإدراج ذاته ضمن التفسير الأسطوري للكون . فتساءل في هذه المرحلة عن نشأته وطبيعته مثل ما تساءل عن نشأة وطبيعة الكون . وعليه فالبحث في النفس قديما قدم التفكير الإنساني في نفسه، ومر بعدة مراحل من البناء  وما تأسيس علم النفس على يد وونت 1879 إلا مرحلة من مراحل كفاح الإنسان في معرفة ذاته بل أن هناك من يعتبر أن اكتشافات الإنسان منذ أقدم العصور وأبحاثه وتساؤلاته ما هي إلا إثراء لمعرفة نفسه وقد قال سقراط بهذا الصدد أن الإنسان هو الكائن الدائب على التساؤل عن نفسه ( مدخا : 430 ) .  وأن البحوث الفلسفية في النفس منذ القديم تؤول دوما إلى الإجابات التي تثير التساؤلات من جديد، وهو ما جعلها جدية بمقياس أنشتاين الذي يؤكد على أن جودة البحث تقاس بما تثيره من الأسئلة لا بما تقدمه من إجابات . ( مدخل :  430 ) وبذلك يصير علم النفس في كل مرحلة من مراحل تطوره إلى المرحلة الحالية، هو مجرد لحظة في صيرورة المعرفة الإنسانية .

ففي مرحلة ما قبل سقراط وفي الفرعونية والبوذية والطاوية كان التفكير في النفس كما لو كانت روحا تتطلب العناية في الحياة ما بعد الموت خصوصا، ذلك أن قيمة النفس في نظر الفلسفات الميتافيزيقية الأسطورية تحديدا تكون اعظم بعد الموت، ونتيجة هذا التصور الميتافيزيقي اصطبغ التراث الفكري في الحضارات الشرقية القديمة في ما قبل سقراط بالروحانية الأسطورية.

       أما في مرحلة سقراط وهي مرحلة التفكير الفلسفي بحسب أوجست كونت في تصنيفه لتطور التفكير البشري فقد بدأ البحث في النفس الإنسانية كما لو كانت شيء منفصل عن الكون ومستقل وانفتح الإنسان على نفسه لمعرفتها وقد بدأ ذلك بطرح سقراط لسؤاله عن ما هية الصدق، وشعار اعرف نفسك بنفسك أ, لا تعرف نفسك من غيرك . (مدخل : 430 ) 

  واتجه التفكير الإنساني من المحسوسات إلى المعقولات ، وكل العلوم في تشكلها الأولي كانت تبحث عن شروط الحوادث خدمة للعلم الأعلى ( أي الفلسفة ، حيث أن الدراسات حول الظواهر الجزئية لا تدرس لذاتها بل لتدعيم النظريات الكلية الفلسفية في معرفة ماهيات الأشياء والاهتداء إلى العلل الأولى للوجود.

وبناء عليه فإن ما يمكن أن نسميه بالعلوم منذ أرسطو كانت تبدأ بتقرير المبادئ الفلسفية والأصول الأولى في أي علم ( الاستنباط ) ثم يبثون الحقائق الاستقرائية ، لذلك نجد أرسطو يؤلف كتابا شاملا في النفس، وأتبعها بكتب صغيرة تبحث الوظائف النفسية مثل الحس والمحسوس والذاكرة والتذكر …الخ . واعتبر  أرسطو بذلك علم النفس من العلوم الطبيعية  التي تخدم الفلسفة .

وعلى الرغم من أن علم النفس في هذه المرحلة الأولى من التكوين  قائم على الجدل الفلسفي المجرد إلا أنه أيضا كان يخضع الظواهر النفسية للملاحظة والدقة وعمق التفكير في تحليل الوظائف النفسية .

والرؤية الفلسفية بعد الثورة الفكرية التي صاحبت ما اصطلح عليه بعصر النهضة في المعرفة التاريخية للغرب .

نستخلص من ذلك أن صلة العلوم بالفلسفة لم تكن صلة خضوع وتبعية بل هي صلة تعاون ، ويظهر هذا التعاون في أن كل من العلوم والفلسفة تسعى إلى ربط العلوم بعضها بالبعض والوصول إلى فهم الحقيقة الكونية والعلماء  ينزعون إلى التأمل في الدلائل الفلسفية لنظرياتهم العلمية ، وبالتالي فالقول بفصل العلوم عن الفلسفة كما انفصلت الأساطير والخرافات عن العلم قول مجعف . فعالم النفس ( فوندت ) وهو أحد أساطين علم النفس الحديث يقول ( لا تتفق نتائج أبحاثي مع المذهب المادي ولا مع المذهب الأثيني ( أفلاطون ) ولا الديكارتي، أما مذهب أرسطو الذي لا يفصل النفس عن الجسد، والذي اعتبر علم النفس جزء من الحياة هو المذهب الوحيد الذي يمكن اعتباره مذهبا فيزيقيا محتمل لعلم النفس .

مرحلة لنهضة : حيث فسرت الثورة الفكرية التي بدأت في القرن السدس عشر والتي سمحت بتقدم العلوم بالثورة الفلسفية بالدرجة الأولى قبل أن تصبح ثورة علمية بعد ذلك، ففكرة العالم المتناهي المنظم (Cosmos) كبديل عن فكرة عالم لا نهاية له في الفلسفة سمحت للعقل الإنساني أن يسعى لتنظيم العالم، وأن يخضعه لسلطانه ولم يصبح العقل منفعلا يتقبل الحقائق، وهو ما أدى إلى تحرير التفكير الإنساني من كل سلطة من قدرته على تقرير الحقائق اليقينية ، سواء في ميدان العلم أو الفلسفة .؛ حيث بدأ الاتحاد بين العلم والفلسفة في النشوء . ولم يتقيد العالم بالآراء الفلسفية ن بل صار يضطلع لنفسه المنهج العلمي الذي ظهر في شكل شك العالم في الفروض التي لم تتحقق تجريبيا من صحتها، وأصبح الفيلسوف يأخذ بعين الاعتبار ما توصلت إليه البحوث في مختلف العلوم للربط بين المادة والطاقة والحياة والفكر …الخ

ومن هنا بدأت الحضارة العلمية في الانبثاق بصفة جزئية كحقائق علمية لا تعترف بالمسلمات، لا سيما ي عصر ما يسمى بالتنوير؛ حيث بدأت المسلمات القديمة في الانهيار وتنبه العقل إلى كل المعيقات التي تحول دون تقدمه نحو معرفة العالم كالقيود الفكرية والدينية والفلسفية أو تخطي ما يسمى بالطابوهات . وأصبح يبحث ويعيد النظر في كل شيء بجرأة، ولا يعترف إلا بمسلمة واحدة وهي ( انتفاء المستحيل من الوجود ) . فظهور ثورة كوبرنيكس العلمية ( 1543 ) بعد إثباته لدوران الأرض عن طريق الاستدلال ( Deduction  ) الذي يقوم على أساس الاستنباط من مجموعة الحقائق الشتات ، جعل كل العلماء الباحثون يتبنون في بحوثهم العلمية طريقة جمع البيانات والمعلومات وتنظيم الملاحظات .

ثم ظهر المنهج الاستقرائي (Induction  )  وهو المنهج لذي لا يقف عند حدود جمع المعلومات من الشتات ويتعدى ذلك إلى التجريب والتأكد من تكرار الحوادث بواسطة الأساليب الرياضية الكمية، وصارت الحضارة تميل إلى تقديس كل ما يمكن التجريب عليه وما يمكن صياغته  صياغة رياضية وما يمكن أن نفلسفه بعد إكتشافه تجريبيا. وهو ما جعل هدف علم النفس منسجما مع أهداف العلم التي ترتكز على استغلال ما هو ليس إنسانيا في صالح الإنسان بصيغة الكم الرياضي .

وتبعا لذلك صار الإنسان في الحضارة الحديثة من ضمن مجاهيل العالم الطبيعي يمكن إخضاعه للتجريب والفحص والدراسة الاستقرائية لسلوكه في المواقف المختلفة .

ولذلك يمكن القول بأن انفصال علم النفس عن الفلسفة كان قد حصل في سياق تأثر الدراسات النفسية بما حصل من تطور في الحضارة وعلاقتها بالإنسان، فالحضارة ما هي إلا تعبير عن معرفة الإنسان بنفسه وهي الفكرة المركزية التي دفعت الإنسان إلى التغلب على معتقداته عن طريق البحث في كل ما يقع في مجال الإنسان واتخذ لنفسه موضوعا للعلم . وانطلق من تسليمه بجهله المطلق وبقدرته المطلقة على العلم ، وهو المنطلق الذي ساعده على ابتكار الوسائل المناسبة لدراسة استخدام الرياضيات والقياس، فبدأ يخضع كل سلوكات الإنسان كالذاكرة والذكاء والتذكر والتعلم والتفكير وكل العمليات الوجدانية والحركية للقياس والتجريب، وبدأ يسعى إلى صياغة القوانين التي تحكم السلوك الإنساني .

وبهذا تمكن العلماء من فصل الدراسات النفسية عن الفلسفة فصلا منهجيا ، وقد بدأ ذلك على يد ( فونت ) أحد تلاميذ ليبنتز عندما نشر كتابه 1732 الذي عنونه بالسيكولوجيا التجريبية تناول فيه الوظائف النفسية بمنهج العلوم الطبيعية، والكتاب الثاني (1734 ) بعنوان السيكولوجيا العقلية يدرس فيه طبيعة النفس باستخدام الطريقة القياسية .

والملاحظ أن ( فونت ) استخدم مصطلح السيكولوجيا وهي كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين ( Psycho ) وتعني النفس، (Logos ) وتعني العلم .

تعريفات علم النفس

موضوع علم النفس

من تعريفات علم النفس أو السيكولوجيا العلمية يمكن استنتاج أن موضوع علم النفس هو الإنسان في بعضها والكائن الحي في بعضها الآخر، وإذا حصرنا موضوعه في الإنسان فهو يدرسه من حيث هو كائن حي وليس مجرد جسيم أ, ظاهرة خاضعة لقوانين الجاذبية ولا درسه من حث هو مجرد عناصر كيماوية متفاعلة ومنفعلة ومتحولة، ولا من حث هو يولد وينمو ويكبر ويتفاعل وينفعل بالرد والكف منفردا أو مندمج في قطيع؛ بل يدرسه ككائن حي في مجتمع بأبعاده التراثية والثقافية وبأبعاده الترابية المادية، وأبعاده الزمانية ويستجب لمثيرات محيطه، لا من حيث هي مجموع ميكانيكي أو فيزيائي أو كميائ، إنما يستجب لها كمعان بمدلولاتها وبطانتها الوجدانية، يستدمجها الفرد في منظومته الذهنية .

إن هذا التحديد لمجال موضوع علم النفس وضبطه في أحداث السيكولوجيا يجعلنا أمام موضوع ذوا بعدين للذات تتمظهر في ( ذاتية داخلية، موضوعية خارجية).

وبناء عليه فإننا ندرك الأحداث الداخلية أي المدمجة في حياتنا النفسية بطريقة مباشرة عن طريق الحس الباطني سمى الشعور . غير أن الأحداث الباطنة أو الداخلية إن هي بقيت سرية ولا يعبر عنها صاحبها لا باللفظ ولا بالحركة تعد خارج علم النفس وكأنها غير موجودة ولا يمكن معالجتها معالجة علمية إلا إذا تم التعبير عنها وصارت ظاهرة عيانية في التعبير اللغوي أو الحركي السلوكي

 

 

 

 

 

 

المنهج الاستبطاني :

يعد المنهج الاستبطاني الصورة التي استكملت فيها جهود العلماء في محاولاتهم فصل الدراسات النفسية وتأسيس علم النفس مستقلا عن ما وراء الطبيعة حيث بدى وكأنه بهذا المنهج استكمل الشروط الأولية لتأسيسه كعلم وضعي .

ويعود الفضل في تأسيس المنهج الاستبطاني إلى طائفة من العلماء الأنجليز الذين سمو أنفسهم بالتجريبيين عندما إعتمدوا على الملاحظة في دراساتهم للظواهر النفسية . فقد بدءوا بطريقة رجوع الفرد إلى نفسه ليصف ما يحس به داخليا، وعالجوا هذه الأحاسيس التي يبديها الفرد عن حالته النفسية بالطريقة التحليلية التجزيئية . ومن ثمة فدراسة التقارير الاستبطانية للراشدين العاديين هي الطريقة إلى معرفة البناء العقلي للفرد وكيفية أدائه في علم النفس البنائي .

       وتصدر هذه المرحلة من تأسيس المنهج الاستبطاني " جون لوك " و " دافيديي هيوم "و" جون ستيوارت ميل " و " هربرت سبنسر " وغيرهم . ففي سنة (1690 ) تحدث لوك عن إمكانية تأسيس علم النفس على مبدأين :

أ ـ أن يجعل الفرد المفحوص نفسه موضوعا لمشاهدته .

ب ـ أن تكون حاله في المشاهدة كحال المشاهد البسيط .            

ومن الطبيعي أن هاذين المبدأين يبدوان بوضوح بعيدان عن البحث في ماهية النفس ويقتربان بالدراسات النفسية نحو الموضوعية . وتحدث "دافيد هيوم" عن فكرة تداعي الأفكار في كتابه مباحث في الذهن البشري فذكر أن علم النفس أشبه بجغرافيا العقل . كما أوضح "كوندياك" و"تين" في أبحاثهما الطرقة الحسية البعيدة عن الماهية، وبحث أفاعيل النفس لا ماهيتها  فبدأ يؤسس لنظرية الملكات العقلية المولدة من الاحساسات، وذكر " تين " في كتابه ( العقل 1870 ) أن الملكات العقلية تتولد عن امتزاج الاحساسات كما تتولد الأجسام المركبة من امتزاج الأجسام البسيطة، وبالتالي يمكن تحليل هذه الملكات إلى عناصرها الأولى.

       غير أن ذلك في نظر كثير من علماء فرنسا لا يتأتى إلآ بتتبع الملاحظة الداخلية في وصف حالات النفس، كما هو الشأن في تتبع الملاحظة للظواهر الخارجية والموجودات الواقعية . ومن ثمة سار علماء النفس الأوائل تحت تأثير قاعدة آمنوا بها وهي ( لا صحة للحوادث إلا إذا وقعت تحت حواسنا )  وكل ما يقع تحت حواسنا هو ما يقبل التحليل إلى عناصر أولية بحيث نلاحظها ونشاهدها، ولا يقتصر الأمر على تحليل ما نشاهده ونسمعه ونلمسه بل ما نشعر به أيضا، أي ما ندركه بواسطة الشعور، وهي الحوادث النفسية، وبهذا بدأ علم النفس التجريبي يتأسس على المشاهدة الداخلية . (جميل صليبا: 47 ـ 51)

وعلم النفس التجريبي أسسه بلا منازع العالم الفيزيولوجي فونت (Wundt 1832 ـ 1920) بأعماله القيمة في مجال وضع الحوادث النفسية موضع التجريب . وبتأسيسه لمخبر علم النفس 1879 في ليبيزيغ اتجه صوب التجريب في علم النفس والذي كان لصيقا بالفيزيولوجيا، وبتطور أبحاثه بدأ بفصل الإحساس باعتباره مجرد نتيجة لإثارة العضو الحاس، وبين الإدراك الذي يتم في السيرورات العليا للذهن، وبدأ منذ 1881 يخوض في بحوث عميقة حول الرؤية والسمع واللمس والمذاق وإدراك الوزن . ( تاريخ علم النفس : 30 ـ 31 ) .

وطورهذه الأبحاث لينتقل على ضوئها إلى دراسة الانتباه والوجدانية وأزمنة رد الفعل .... وغير ذلك . وعلى الرغم من هذا التطور في أبحاث " وونت " إلا أن علماء النفس يعتقدون أن "وونت " إستمر في طابعه الفلسفي العام ولا يستهدف من هذه الدراسات الموضوعية إلا خدمة للنسق الفلسفي العام الذي يريد إنتاجه أو تأسيسه كمذهب يعزز به فكرة التوازي بين ثنائية الروح والجسد، فبقي علم النفس عده هو علم يهتم بالتجارب الذاتية للفرد ولا يستطيع إيلاجها أي إيلاج النفس إلا عن طريق الفرد نفسه ( أي عن طريق للاستبطان ) .ص 32 .

والاستبطان منهج يقوم أساسا على أن يطلب إلى الفرد وصف ما يختلج صدره وما يفكر فيه وما يحس به وما يشعر به، أي : يصف لنا حالة ذاتيته . وهو منهج تحليلي إرتباطي؛ حيث يقوم الباحث عند تبنيه واستخدامه في البحث النفسي بتجزئة الحالة النفسية الراهنة إلى عناصرها الأولية، بغرض إدراك القوانين التي تتحكم في سيرورتها وترابطاتها وهي القوانين التي تأسس عليها ما يسمى بعلم النفس الترابطي .

       غير أن هذا المنهج ثبت قصوره وعجزه في إدراك وتفسير السيرورات العليا التي تتعلق بالتكيف الاجتماعي والتي لا يمكن رصدها من خلال الاستبطان الداخلي؛ لأنها من مصادر خارجية، وهو الأمر الذي جعل وونت يبحث في السيكولوجا الاجتماعية وكيف يمكن إخضاعها هي الأخرى للتجريب . ذلك أن الظاهرة الاجتماعية وإن هي أشعر بها في جزء منها في ذاتي إلا أن جزءها الآخر يقع خارج نطاق الأفراد، ومن ثمة لا يمكن إنشاء علم النفس من الحالات الفردية فقط؛ فالشعور الداخلي الذاتي في اتصال بالمشعور به ولا ينفصل عنه الأمر الذي يحتم البحث في فعل الشعور ومحتويات الشعور حتى تكتمل صورة الحادثة النفسية لدى الباحث ويبحثهما كموضوع واحد غير منفصل، ذلك أن لمحتوى الشعور مصدر خارجي وداخلي في آن واحد . فإدراكي لزرقة السماء في الخارج يصاحبه شعور داخلي يثير خواطر وذكريات مثلا .فإذا اهتم الباحث بالمصدر الخارجي وحده؛ فسيصير بحثه كما لو كان بحث في العلوم الطبيعية، أما إذا وجه الباحث إهتماماته وإدراكه إلى المصدر الداخلي،فيدرس التأثيرات الوجدانية والخواطر والتصورات بتحليلها وتفحصها وإدراك ما بها من صلات ترابطية، فإنه يكون بصدد الدراسة السيكولوجية ( يوسف مراد : 15 ـ 16 )

وبهذا قام المنهج الاستبطاني على :

أ ـ الملاحظة الذاتية ويقصد بها ملاحظة الإنسان لذاته . 

ب  الملاحظة التلقائية هي الملاحظة التي نمارسها على أحوالنا دون تأمل أو انتباه إراديي فنشعر بما يجري في حياتنا الداخلية دفعة واحدة غير مجزأة .

ج ـ الملاحظة عن طريق التأمل الباطني هي إمعان النظر في ظواهر الشعور، بغرض الكشف عن قوانين النفس .

صعوبات الاستبطان :

يعتري منهج الاستبطان عدة صعوبات منها :

1 ـ صعوبات تنشأ عن المشاهد ، إذ يحتاج إلى تدريب ودقة التركيز الداخلي

2 ـ صعوبات ناشئة عن الشيء الملاحظ، إذ أن الشيء أو الظاهرة الملاحظة كثيرة التبدل والتغير فصعب إدراكها في لحظة حدوثها وتحليلها.

3 ـ ملاحظة أنفسنا يستدع توظف الذاكرة والانتباه .

             

وقد عبر "وودورث" عن انفصال علم النفس عن الفلسفة بقوله ( بدأ علم النفس بدراسة الروح فأزهقت روحه وانتقل إلى دراسة العقل فذهب عقله وانتقل إلى الشعور ففقد شعوره، ولم يبق منه سوى السلوك الظاهري )

 

            تعريف علم النفس :

التعريف اللغوي : ترجمت كلمة"Psychologe  " في اللاتينية المعروفة في التداول المعرفي لعلوم الغرب ضمن نسق العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى ما يقابلها حرفيا في اللغة العربية بـ " علم نفس " وهي كلمة تتضمن مقطعين :

المقطع الأول :(Loge ) وتعني في اللغة العربية (علم ).

والمقطع الثاني (Psycho )(  ويعني في اللغة العربية ( نفس ) .

التعاريف الاصطلاحية : ـ

أدت تطورات محاولات العلماء الأولى لتحرير الدراسات النفسية عن هيمنة المناهج الفلسفية وتأسيس علم يبحث السلوك الإنساني في جميع أبعاده بمناهج موضوعية علمية تحت اسم علم النفس كعلم مستقل بذاته، إلى تباينات ووجهات نظر مختلفة في تحديد تعريف له يستوعب موضوعه ومنهجه وأغراضه مثل ما اختلفوا وتباينوا في تحديد موضوعه ومنهجه وأهدافه إلى مدارس ونظريات واتجاهات . ونتيجة ذلك أفرزت الحركة العلمية السيكولوجيا في سيرورتها التاريخية لفصل علم النفس عن الفلسفة تنوعا ثريا في تحديد تعاريف علم النفس فتعدت تعاريف بتعدد اتجاهاته ومدارسه وفي ما يلي  نورد بعضا من هذه التعاريف للرواد الأوائل كما أوردها أحمد فائق في كتابه " مدخل لعلم النفس " كالتالي :

1 ـ تعريف وودورث: يعرف علم النفس بأنه علم دراسة نشاط الفرد في علاقته مع البيئة, وهو علم وسط بين علم وظائف الأعضاء الذي يدرس الخلايا وأعضاء الجسم  وبين علم الاجتماع الذب يدرس الجماعات والأمم ( يوجد في مدخل ص 13 ) .

2 ـ تعريف هيلجارد : "علم يدرس سلوك الكائن الحي وخبرته" (ص12).

3 ـ تعريف ستاجنر " العلم الذي يدرس السلوك والخبرة الإنسانية " فالإنسان في نظر ستاحنر على جانب كبير من التعقيد فهو يتعامل مع البيئة الخارجية كما يشعر بها ويفهمها ويدركها . وهو ما يميز الإنسان عن الكائن الحي ويحدد موضوع علم النفس في الإنسان .

4 ـ تعريف يوسف مراد

 

 

 

 

 

السلوك وعلاقة الإنسان بالبيئة :

السلوك الإنساني ذو طبيعة مركبة مما يستوجب تحليله إلى مستويات

1 ـ نوع السلوك ( ذهني ـ انفعالي ـ حركي ـ متعلم ـ متذكر ... الخ .

2 ـ شدة السلوك : تحليل السلوك من حيث القوة , فهناك سلوك خافت لا يثير الانتباه ... الخ .

3 ـ نقاء السلوك : يحلل الباحث السلوك من حيث نقائه ووضوحه , إذ كثيرا ما يختلط بسلوك معين سلوك آخر , كالغضب والخوف , والخيال بالواقع .

ومن منضور المدرسة السلوكية يقود تحليل السلوك إلى فكرة المثير والاستجابة, فأي سلوك إنما هو استجابة لمثير, ومن ثمة فالسلوك يتوقف على شدة المثير ونوعه ونقائه , ويمكن صياغة ذلك رياضيا في المعادلة التالية :

الإنسان × م ( البيئة ) = السلوك .

ولكن الاستجابات لمثير ما قد تتخلف من شخص إلى آخر بل تختلف عند الشخص نفسه في مواقف متعددة, وعليه فالأمر بالسهل والبساطة , والوقوف عن حدود دراسة السلوك والبيئة المثيرة و فهناك سر آخر يؤثر في سلوك الإنسان هو الوراثة فلا بد من دراسة الوراثة حتى نفهم سلوك الإنسان ونحوط بأبعاده المتوقعة . ومن هذا المنطق نغير من المعادلة السابقة لعلم النفس فتصبح الاستجابة = أثر البيئات المختلفة × الوراثة ( أي الإنسان ) .

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

موضوع علم النفس

 

من تعاريف علم النفس والسيكولوجيا العلمية يمكن استنتاج أن موضوع علم النفس هو الإنسان في بعضها والكائن الحي في بعضها الآخر و حتى وإذا حصرنا موضوعه في الإنسان فهو يدرسه من حيث هو كائن حي , ليس مجرد جسم أو ظاهرة خاضعة لقوانين الجاذبية , ولا يدرسه من حيث هو مجرد عناصر كماوية متفاعلة ومتحولة ، ولا من حيث هو يولد وينمو ويكبر ويتفاعل وينفعل وبالرد و الكف متفردا أو مندمجا في قطيع , بل يدرسه ككائن حي في مجتمع بأبعاده التراثية والثقافية وأبعاده الآنية والمستقبلية أو يستجيب لمؤثرات محيطه لا من حيث هي مجموع مكانيكي أو فيزيائي أو كيميائي إنما تستجيب لها كمعان أي لها مدلولاتها و وبطانتها الوجدانية يستدمجها الفرد في منظومته الذهنية .

إن هذا التجديد لمجال موضوع علم النفس وضبطه في الأحداث السيكولوجية ويجعلنا أمام موضوع ذو بعدين أو ناحيتين ( ذاتية داخلية , موضوعية وخارجية ) .

وبناء عليه فإننا ندرك الأحداث الداخلية أي المدمجة في حياتنا النفسية بطريقة مباشرة عن طريق الحس الباطني يسمى الشعور, غير أن الأحداث الباطنة أو الداخلية إن هي بقيت سرية ولا يعبر عنها صاحبها لا باللفظ ولا بالحركة تعد خارج علم النفس وكأنها غير موجودة , ولا يمكن معالجتها معالجة علمية إلا إذا تم التعبير عنها و وصارت ظاهرة عيانية في التعبير اللغوي أو الحركي .

ذلك أن الظاهرة السيكولوجية و هي ظاهرة موضوعية و وموضوعها ليس الجسم و أو النفس وإنما الإنسان بأكمله

صلة علم النفس بعلم الحياة وعلم الاجتماع

من المظاهر المتاخمة للظواهر السيكولوجية ز تجد الظواهر البيولوجية , والسوسيولوجية فهما أكثر اكثر ارتباطا للظواهر النفسية , ومن ثمة فعلم الحياء وعلم الاجتماع هما العلمان الشديدان الارتباط بعلم النفس ولصيقان به .

ولذا أتردنا تفحص هذه العلاقة من الناحية الميتودولوجية, فنجد أن العلوم الطبيعية بصفة عامة حدد الفرص المنهجي منها في تفسير الظاهرة ليس في البحث عن العلل الأولى بل لتحديد مختلف الشروط الناتجة لها واستنتاج العلاقة الثابتة بين الظاهرة وشروطها في حالة النقصان أو الزيادة أو أي تغير آخر يظهر على الظاهرة بتغير شروطها و وهو ما يسمى في المنهجية بالفائون العلمي . غير أن دراسة وإحصاء كل الشروط أمر مستحيل لأن الظاهرة كما كانت فهي غير منفصلة عن ظواهر الكون و ومن ثمة فالعلم يحصر شروط الظاهرة في الظواهر المباشرة المحسوسة التي تحدث تغبر في الظاهرة بتغيرها وإهمال الشروط الأخرى نسبيا ز

ويستعان في تحديد هذه العلاقة ( الظاهرة بشروطها ) بالطريقة الإحصائية , وهي الطريقة التي يعبر بها عن العلاقات الكيفية بالكمية أي تحويل الكيف إلى كم الإحصائي , ولما كانت العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية والنفسية ، هي علوم الظواهر معقدة فإن المعالجة الإحصائية تكون دائما شديدة في نسبتها ونتائجها تقريبية لا تنطبق على كل جزئيات الظاهرة . ومن ثمة جاء الحذر من وثوقية نتائج المعالجة الإحصائية للظواهر النفسية والاجتماعية .

ومن الشروط التي تحتم على الباحث استدماجها في بحث أي ظاهرة سيكولوجية هي الشروط البيولوجية والشروط الاجتماعية , فدراسة الانفعال مثلا لا يمكن عزله عن الشروط الاجتماعية والبيولوجية ودراسته كظاهرة نفسية منعزلة , إذ أن الانفعال هو تأثير ورد فعل للإنسان يكون دائما مصحوبا باضطرابات عضوية في الجهاز العصبي والغدي خاصة . ومن المعلوم أن دراسة هذه الاضطرابات في الجهاز الغدي والعضلي والعصبي والدموي الذي يصاحب سلوك الانفعال إنما هو شأن بيولوجي ومن مواضيع علم الحياة والانفعال من جهة أخرى ذو صلة مباشرة بالأفراد الآخرين , وهو شكل من أشكال التعبير عن النقص أو الرفض أو القبول أو الاندماج في سياق العلاقات الاجتماعية , ومن ثمة فهو موضوع يتأثر بالضرورة بالأوضاع الاجتماعية وعلاقة الفرد المنفعل بالآخرين , ومن ثمة فهو شأن اجتماعي يهتم بع علم الاجتماع أيضا .

ونستنتج من ذلك أن الظاهرة النفسية إذا ما أخضعناها للدراسة المنهجية فإن شروطها التي يجب أن تدرس في ضوئها هي الشروط البيولوجية والسوسيولوجية واستحضار العوامل الثلاثة ( البيولوجية, السوسيولوجية, الاجتماعية ) يتحقق لدى الباحث تفسير سلوك الإنسان كوحدة كلية متكاملة لا تتجزأ .

ولهذه الصلة بين علم النفس وعلم الحياة وعلم الاجتماع , جاءت مناهج البحث في هذه العلوم متقاربة ومتشابهة , باستثناء بحث ظاهرة الشعور الفردي التي يختص بها علم النفس .

وخلاصة القول أن صلة علم النفس بعلم الحياة تتجلى في أن السيولوجيا تدرس خصائص الخلايا والوظائف الفسيولوجية ولا سيما الوظيفة العصبية التي تعد حلقة الاتصال بين علم الحياة وعلم النفس و وهي الوظيفة التي تنسق جميع الوظائف وتحقق تكامل الكائن الحي .

وأما علم الاجتماع فتتضح علاقته بعلم النفس في كونه علم يهتم بما يصدر عن الجماعات من أنظمة ومنشآت وتطورها كالظاهرة القوية والأخلاقية والعادات والمنظومات الرمزية والفنية , ومن أكثر الظواهر التصاقا بالفرد وبالظواهر السوسيولوجية هي ظاهرة اللغة , فاللغة هي حلقة الاتصال بين علم النفس وعلم الاجتماع . 

فروع علم النفس

تولد عن الحركة العلمية والسيكولوجية عدة فروع علمية تأخذ علم النفس العام الإطار العام لها من حيث الموضوع والمنهج مع بعض التمايزات بين فرع وآخر , وأهم هذه الفروع :

علم النفس العام : وهو العلم الذي يختص بدراسة الإنسان من حيث هو كائن حي يعيش ويحي في مجتمع ويتأثر ويؤثر في البيئة التي يعيشها الاجتماعي والطبيعي بما يتسع به من إدراك وانفعال وإحساس والقدرة على تخطيط الغايات والأهداف وقد برز هذا العلم منذ انفصل على الفلسفة زمن رالف تلميذ لبنتنز بعد أن تصدى لدراسة الوظائف النفسية بالمنهج الطبيعي و والمنهج القياسي , ثم تطور بعد ظهور المدرسة الترابطية التي أعطت مفهوما لعلم النفس كما أنه يدرس ظواهر ترابطية وذلك على جون لوك , ثم جون ستويرت ميل و وكوندبال ... الخ . إذ نظر هؤلاء كلهم إلى الإنسان على أنه كائن يكتسب المعرفة وليس كائن يرث المعرفة فالعقل بالنسبة لهم صفحة بيضاء ز والخبرات هي دارات متباعدة يدركها الإنسان كأجزاء منفصلة ولا توجد علاقة بينها أو رابطة , أي أن الإنسان ترد إليه المثيرات والخبرات الحسية وغيرها كأجزاء وصور منفصلة عن بعضها البعض ثم العقل هو الذي يدرك ما بينها من تشابه وتماثل في زمان ومكان , ويحدث بعدئذ الفهم والتفسير والتذكر والتصور أي تتشكل المعرفة العقلية .

إلا أن نظرية دراون فوضت ما ذهبت إليه الترابطية من عزل للوراثة فتأكيد دراون على أن الإنسان هو الحلقة الأخيرة في سلم التطور هو تأكيد للعمل الوراثي في تشكيل العقل , وفي الوقت نفسه لم ينف دراون دور البيئة لارسخ دورها بكل وضوح عندما صاغ قانون " البقاء للأصلح " و ومن ثمة فالوراثية تتوقف على قدرة الإنسان على التكيف والتوافق والتلاؤم مع البيئة الطبيعية والاجتماعية ز

غير أن نظرية دراوين اهتزت مقولاتها العلمية بما اكتشفه " رتشارد ليكي " من أن أول إنسان ظهر منذ مليونين ونصف مليون سنة بدل مليون سنة وهو ما بشير إلى تفسير أن الإنسان انحدر من سلالته الخاصة الأمر الذي يقوض أركان المدرسة التطورية من أصلها ز

وظهرت بعد الداروينية المدرسة السلوكية القائمة على تقسيم سلوك الإنسان إلى مثير واستجابة , وركزت دراساتها ووجهتها في ضوء مقولة " العقل صفحة بيضاء " ودور البيئة , لتهتم بالملاحظة والتجربة بدل الاستبطان والاستجابة عندهم ما هي غلا نتيجة لمثير و والتعلم مجرد تكوين لترابطات عصبية بين مؤسسي هذه النظرية واطسن و ومن ثمة فالسلوكية ما هي إلا تطور للمدرسة الترابطية ثم حصل تطور ملحوظ على يد " فوندت " عندما أسس أول معمل لعلم النفس وجهزه بالأدوات والاختبارات النفسية التي تقيس زمن الرجع .

وعرف علم النفس دفعا قويا بظهور لمدرسة الجشطالتية أو الصيغة التي تجاوزت مقولات الترابطية والسلوكية في التحليل البنائي للظواهر النفسية والعقلية والوجدانية إلى التحليل الوظيفي الذي لا يفكك الظواهر, ويعتمد على أن الظاهرة نظام كلي دينامي له طاقة وقدرة كلية , ومن ثمة فالإنسان في مقولاتها هو كائن في موقف كلي و لا تدرس جزئيا ته إلا من خلال كلياته , ولأن الكل له صفاته تختلف عن أجزائه , ومن أبرز مؤسسها( 1912) كوفكا وكوهلر وليفين ... الخ .

وفي ظل هذه التطورات ظهرت أيضا مدرسة التحليل النفسي لتظيف البعد المنسي في الإنسان كظاهرة وهو اللاشعور, الذي أكد على وجوده فرويد في دراسته ويستدل عليه لفلتات اللسان والهفوات , والأحلام والأمراض النفسية .

وبهذا صار لعلم النفس العام مدارس ومناهج يدرس الإنسان كقدرات عقلية و وعواطف وانفعالات , وتفاعلات بالبيئة ونمو مستمر , وتأثر بالبيئة والوراثة ... الخ . أي يدرس الإنسان في حياته الداخلية كشخصية , وفي علاقاته بالمثيرات الخارجية . بغرض فهم السلوك ومعرفته والتنبؤ به , ومن ثمة التحكم في مساره واتجاهاته . وهي أغراض عامة لكل علم ز

علم نفس الطفل : هو العلم الذي يدرس مرحلة الطفولة بأطوارها الثلاثة كما هي معروفة في علم النفس وهي:

1ـ مرحلة لا تنفصل عن المرحلة الجنينية والمراهقة وتركز دراسات علم نفس الطفل على النمو بأبعاده الحسي حركي والانتقالي واللغوي والاجتماعي في البيئات الاجتماعية والثقافية المختلفة , ومن أبرز علمائه نذكر بياجيه ، هنري قالون , فيقوتسكي ... الخ .

2 ـ علم النفس المرضي : وهو العلم الذي يبحث السلوك اللاسوي والشاذ منه على الخصوص . والاضطرابات النفسية , والأمراض السيكوسوماتية ويدرسها كظاهرة مرضية في بيئتها وسماتها , وفي أسبابها وعواملها ومحاولة علاجها بإستراتيجيات ونماذج علاجية معينة لكل حالة . في بعدها الشخصي والزماني ز

3 ـ علم النفس الفارقي : ويدرس على وجه الخصوص و الفروق التي تظهر بين الأفراد حيث ماكاتوايل يدرس حتى الفروقات التي تظهر على الشخص نفسه , من حيث طيفها ونوعها وشدتها ووظائفها وعواملها ونسبيتها وظهورها واختفائها ...الخ ، كدراسة الفروق في الذكاء والتذكر والتصور والانفعالات والاتجاهات, وأنماط الشخصية والقدرة على التعلم ... الخ . ويدرس كذلك الفروق بين الجماعات والمجتمعات من حيث مكونات الشخصية الجماعية وديناميتها أي ما يسمى بالفروق في سيكولوجية الجماعات .

4 ـ علم النفس الصناعي : ويهتم هذا العلم بدراسة الانسان من حيث هو عامل في مكان العمل ( المؤسسة )أي يهتم بسيكولوجية العامل في موقع الإنتاج من حيث كفاءته وقدراته على التكيف والتوافق النفسي, وعوامل سواء التكيف مع جماعة العمل وظروف العمل والإنتاج وأدواته من الآلات , وذلك بغرض زيادة الإنتاج والتخفيف من المشكلات النفسية والحوادث .

5 ـ علم النفس الكلينيكي ( ويسمى بالعيادي ) ويهتم بدراسة المراض النفسية والعصبية ن والسيكوسماتية بالتشخيص الإيكلينيكي ودراسة الحالة و واستخدام الاختبارات النفسية , بغرض العلاج وحل العقد النفسية , ويتفرع عنه ما يسمى بالصحة النفسية .

6 ـ علم النفس الاجتماعي : ويهتم بدراسة الفرد في موقف الجماعة , دراسة علمية من حيث المواقف البيئية , أي أنه يدرس سيكولوجية الفرد داخل الجماعة وسيكولوجية الجماعة تجاه الفرد , كما يدرس الجماعات في دينامياتها والعوامل لدينية في نشؤها وتطورها وتفاعلها ... الخ .

7 ـ علم النفس التربوي والتعليمي : ويهتم بدراسة الموقف التعليمي كوضعية تعلمية بكل متغيراته البشرية والفيزيقية والوسائل التعليمية أي يهتم بكيف يحدث التعليم لدى الفرد وما هي شروطه ومشكلاته, وقد نتج عن هذا الفرع تطوير عدة نظريات في مجال التعلم والتوجيه والإرشاد النفسي والتربوي ... الخ كنظرية التعلم بالمحاولة والخطاء, و نظرية التعلم الجشتالطية, والنظرية السلوكية (المثير الاستجابية) وانتقال أثر التدريب والتعلم العلم، كما نتج عنه تطوير عدة استراتيجيات بيداغوجية عدة تعمل على تصميم وصيغات للتعلم الجيد واستغلال أفضل للقدرات الذكائية الشخصية والعوامل البيئية والوراثة والوسائل التعليمية, وكما يمكن بالقياس التربوي بمختلف أبعاده وتحديد مستويات التعلم والتحصيل وفقا للقدرات الفردية .ولم يقتصر علم النفس التربوي على دراسة سيكولوجية التعلم الفردي والتوجيه والإرشاد بل تعدى إلى دراسة سيكولوجيا التعلم الجماعي ودينامية الجماعات المدرسية وتقسيم المراحل التعليمية إلى مستويات وفق معيار النمو النفسي وتنظيم الجماعات البيداغوجية ... الخ . 

مناهج البحث في علم النفس جميل صليا . علم النفس ( 47 ـ 51 )

تعددت مناهج البحث في علم النفس بتعدد مدارسه ونظرياته ومفاهيمه حول الشخصية والظواهر النفسية أو بتعدد مفاهيمه حول الإنسان وعلاقاته وأبعاده التكوينية الحيوية والرمزية النفسية، ولصعوبة الإحاطة بكل المناهج التي استخدمت في دراسة الظواهر النفسية،  سنقتصر على عرض أهمها تاركين للطالب فرصة الاطلاع على مناهج وطرق أخرى مبثوثة في مصادر وكتب علم النفس متعددة.

أولا : المنهج الإستبطاني أو الذاتي:

 يعد المنهج الاستبطاني الصورة التي استكملت فيها جهود العلماء في محاولاتهم فصل الدراسات النفسية أو تأسيس علم النفس منفصلا عن ما وراء الطبيعة, حيث بدا وكأنه بهذا المنهج استكمل الشروط الأساسية لتأسيسه كعلم وضعي .ويعود الفضل في تأسيس المنهج الاستبطاني إلى طائفة من علماء الأنجليز الذين سموا أنفسهم بالمخبريين عند ما اعتمدوا على الملاحظة في دراستهم للظواهر النفسية، فقد بدءوا بطريقة رجوع الفرد إلى نفسه ليصف ما يحس به داخليا, وما فحوى هذه الأحاسيس التي يبديها الفرد عن حالته النفسية بالطريقة التحليلية الجزئية . ومن ثمة فدراسة التقارير الاستبطانية للراشدين العادين هي الطريقة إلى معرفة جلبا العقلي وينعته آداته في علم النفس البنائي .

وتصدر هذه المرحلة من تأسيس المنهج الاستنطائي جون لوك , وديفيد هيوم , وجون ستويرت , وهربرت سبنسر ... وغيرهم ففي سنة 1690 ) تحدث لوك عن إمكانية تأسيس على مبدأين :

1 ـ أن يجعل نفسه موضوع لمشاهدته .

2 ـ أن تكون حاله في المشاهدة كحال المشاهد البسيط ومن الطبيعي أن هذين المبدأين يبدأن بوضوح بعيدان عن البحث في ماهية النفس ةيقتربان بالدراسات النفسية نحو الموضوعية .

وتحدث دبفيد هيوم : عن فكرة تداعي الأفكار في كتابة ماحدث في الذهن البشري فذكر أن علم النفس أتشبه بجغرافية العقل , كما أوضح كوندياك وتبين في ايما فهما الطريقة الحسية البعيدة عن الماهية , ويحث أفاعيل النفس لاماهيته , فبدأ يؤسس نظرية الملكات العقلية المولدة من احساسات. وذكر تن في كتابه " العقل 1870 ) أن الملكات العقلية تتولد عن امتزاج الاحساسات كما تتولد الجسام المركبة من امتزاج الأجسام البسيطة , وبالتالي يمكن تحليل هذه الملكات إلى عناصرها الأولى :

غير أن ذلك في نظر كثيرا من علماء فرنسا لا يتأتى إلا بتتبع الملاحظة الداخلية في وصف حالات النفس , كما هو متبع الملاحظ للظواهر الخارجية والموجودات الحسية , ومن ثمة سار علماء النفس الأوائل تخت قاعدة آمتوابها وهي لاصحة للحوادث إلا إذا وقعت تحت حواسنا وكل ما هو واقع تحت حواسنا هو ما يقبل الانحلال إلى عناصر أولية نلاحظها ونشاهدها, ولا يقتصر الأمر على تحليل ما نشاهده ونسمعه ونلمسه , بل ما نشعر به أيضا , أي ما ندركه بواسطة الشعور , وهي الحوادث النفسية , وبهذا يبدأ علم النفس التجريبي بتأسيس على المشاهدة الداخلية ( ص 47 ـ 51 جميل صليبا ).

تاريخ علم النفس الحديث

وعلم النفس أسسه بلا منازع" فونت العالم (WUNDT ) 1832 ـ 1920) الفزيولوجي بأعماله القيمة في مجال وضع الحوادث النفسية موضع تجربة وبتأسيسه لمخبر علم النفس 1879 في ليبيزيغ , اتجه صوب التجريب في علم النفس والذي كان لصيقا بالفزيزلوجيا, وبتطوير أبحاثه بدأ يفصل الإحساس باعتباره مجرد نتيجة لإثارة العضو الحساس وبين الإدراك الذي يتم في السيروران العليا , ويبدأ منذ 1881 يخوض في بحوث عميقة حول الرؤية والسمع واللمس والمذاق وإدراك الزمن ( ص : 30 ـ 31 ) .

وطور هذه الأبحاث لينتقل على ضوئها إلى دراسة الانتباه والوجدانية , وأزمنة رد الفعل , وعلى الرغم من هذا التطور في أبحاث رونت إلا أن علماء النفس يعتقدون أن رونت استمر في طابعه الفلسفي العام و ولا يستهدف من هذه الدراسات الموضوعية إلا خدمة للنسق الفلسفي العام الذي يريد إنتاجه أو تأسيسه كمذهب يقززبه فكرة التوازن بين ثنائية الجسد والروح . فيفي علم النفس عنده هو علم يهتم بالتجارب الداعية للفرد , ولا تستطيع إيلاجها إلا عن طريق الفرد نفسه أي عن طريق الاستيطان .( ص : 32 ).

والاستيطان منهج يقوم أساسا على أن يطلب إلى الفرد وصف ما يختلج في صدره وما يفكر فيه وما يحس به وما يشعر به , أي يصف لنا حالة ذاتيته , وهو منهج تحليلي و حيث يقوم الباحث بتجزئة الحالة النفسية الراهنة إلى عناصرها الأولية , بغرض إدراك القوانين التي تحكم سيروراتها , وترابطاتها وهي القوانين التي تأسس عليها ما يسمى بعلم النفس الترابطي .

غير أن هذا المنهج عجز في إدراك وتفسير ما يسمى بالسيرورات العليا التي تتعلق بالكشف الاجتماعي , التي لا يمكن رصدها من خلال الاستبطان الداخلي لأنها من مصادر خارجية , وهو المر الذي جعل دوينت يبحث في السيكولوجيا الاجتماعية وكيف يمكن إخضاعها هي الأخرى للتجريب , ذلك أن الظاهرة الاجتماعية وغن هي اشعر في جزء منها في ذاتي إلا أن جزأها الآخر وقع خارج نطاق الأفراد و ومن ثم لا يمكنإنشاء علم النفس من الحالات الفردية فقط .

ويقدم المنهج الذاتي الاستبطاني على الشعور الذاتي للحالة الداخلية، ولأن هذا الشعور لا يمكن أن يفصل عن الشعور به , فإنه يتعين على علم النفس البحث في فعل الشعور و ومحتويات الشعور , ولكن يبحثهما كموضوع واحد ولا يفصل بينهما إلا على المستوى النظري , ذلك أن لمحتوى الشعور مصدر خارجي , ومصدر خارجي فإدراكي لزرقة السماء في الخارج يصاحبها شعور داخلي يثير خواطر وذكريات مثلا , فإذا اهتم الباحث إلى المصدر الخارجي وحده فسيصير بحثه هو بحث في مجال العلوم الطبيعية , أما إذا وجه الباحث اهتمامه وإدراكه إلى المصدر الداخلي فيدرس التأثيرات الوجدانية والخواطر والتصورات بتحليلها فإنه يكون بصدد الدراسة السيكولوجية ( يوسف مراد ص : 15 ـ 16 ).

ومن ثمة فالمشاهدة الباطنية هي الركيزة الأساسية لعلم النفس البنائي التحليلي من اجل الوصول إلى الحقيقة و حيث أن التأمل الباطني للعالم في حالته النفسية ليست مجرد الشعور بالحالة الذهنية, بل هي وصف لهذه الحالة وتحليلها وهي عملية شاقة تحتاج على المران والتدريب المتواصل . ومن ثمة فهي محدودة في موضوعها وزمن أجرائها , مما يجعل نتائجها محدودة , ولا يستطيع الباحث ممارسة التأمل الباطني في حالة الانفعال , لأن في حالة الانفعال يكون الإنسان في حالة مضادة لعملية التصور الذهني , ومن شأن التفكير في حالة الانفعال أن يخفف من حدة الانفعال وشدته , ولا يمكن أن ادرس بالتأمل الباطن حالة الانتقال من النوم إلى الصحوة ولكن في الوقت نفسه أتستطيع أن استرجع واستحضر الحالة الانفعالية وان أصفها وهي في حالة زوال فعملية التأمل الباطني تعتمد على تذكر الماضي القريب ز ومن ثمة فالقول بأن عملية التأمل الباطني عملية مستحيلة لن الشخص لا يكون ملاحظ وملاحظا في آن واحد قول لااساس له من الصحة و فعلى الرغم من إن استرجاع الحالة لانفعالية الماضية ليس استرجا للحالة بقدر ما هي إعادة تنظيم للحالة في شكل جديد , إلا أنه يمكن مع ذلك يمكن أن نعرف التغيرات التي تحدث أثناء تنظيم الحالة وتؤثر في شكلها الأصلي مما يستدعى عدم القبول بفرضية التأمل الباطني للحالة المسترجعة فسوية للحقيقة . ( ص : 18 يوسف مراد ) .

ردود الفعل ضد الاستبطان :وصف التجارب الذاتية بالذات الفردية , ووصف وعيه شكلت موضوعا مميزا لدى وردث وبينيه في دراسته للذكاء , ولكنه سرعان مت تبين أن هذا المنهج يعاني من ضعف ؛ إذ أن تسميته بالمنهج الذاتي يناقض الموضوعية و فهو يقوم على فكرة أنا الوحيد الذي أستطيع أن اصل إلى إدراك وعي ووصفه وهو المر الذي لا يسمح بمراقبين وملاحظين خارجين , ومن اجل تحقيق الموضوعية في الفزيولوجيا مثلا لم يترك للفرد حق لوصف لحالات الهضم والتنفس فأسندت إلى أشخاص آخرين تكللت بالنجاح , ومن ثمة فيمكن أن ينطبق ذلك على الحالة الشعورية و وهو ما يستدعي تأسيس المنهج الموضوعي . فكما يمكن مراقبة الفزيزلوجيا , ومراقبة سلوك الحيوان فإنه يمكن مراقبة الحالة الشعورية من الخارج . وهو ما أدى إلى ظهور المدرسة الوظيفية .                               

      طرق دراسة الشعور والتقدير ( 505 ) مناهج البحث في علم النفس

يستخدم في تحليل الدوافع طرق تجريبية عديدة و والعمليات السيكولوجية المتعلقة بالشعور والتقدير قد أخضعت بشكل واسع للتجريب .

فالتقدير حكم يصدره الإنسان على الظواهر والأشياء التي تقع في نطاق خبرته أي في نطاق شعوره واتجاهاته , وبالتالي فهو يخضع لرغبات الأفراد وعاداتهم , والرغبات والعادات والاتجاهات هي العمليات الوجدانية المتصلة بالدوافع كالانفعالات والمرأمزجة والميول والمشاعر وكل هذه العمليات الوجدانية يمكن وصفها بالارتياح وعدم الارتياح من وجهة نظر الذاتية .

لقد أكدت تجارب " نيف Nefe " خلافا لما كان يعتقد أن الارتياح وعجم الارتياح غامضة في الانتباه و فالإنسان حينما يكون منتبها إلى شعوره في حالة الارتياح وعدمه , فلا يحس ولا ينتبه بوضوح إلا للبعد العضوي والحركي الذي يثير الإحساس , ويرجع عدم وضوح الانتباه إلى المشاعر حسب " ناف " إلى أن القداما اهتموا بإثارة المشاعر لدى أكثر مذرسهم إثارة اهتمامهم بملاحظة سلوكهم , محاول استدراك ذلك في تجاربه وعمد إلى تدريب المفحوصين على تركيز انتباههم حالة إثارة مشاعرهم بالارتياح وعدمه على ملاحظة شعورهم و وليس الانتباه إلى إحساسهم على مستوى العضو الحسي المثير للإحساس .

ومن ثمة " فناف " افترض أن الارتياح وعدم الارتياح خبرات قابلة للملاحظة , وبالتجربة وإعطاء التعليمات للأفراد الذين أثيرت خبراتهم الحسية المريحة وغير المريحة استطاع هؤلاء الأفراد عند ما طلب منهم وصف مشاعرهم و أن يصفو الإحساس المريح بالضبط المشرق و وعدم الارتياح بأنه ضغط ثقيل , وفي تجارب " هويسنجتوف Hoisington " اتضح أن المفحوصين استطاعوا تحديد مكان الارتياح بالنكان العلوي للجسم و والضغوط الثقيلة ( عدم الارتياح ) بالبطن .....

وأوضحت تجارب سيكولوجية أخرى على الأطفال حول ما إذا كانوا يحبون أو لا يحبون نشاطا ما , أن التقارير اللفظية وتسجيل الإيماءات يمكن , وفي تجارب سيكولوجية على الأطفال حول حبهم وعدم حبهم لشيء أو نشاط ما, وتسجيل تقاريرهم اللفظية عند الإجابة وإيماءاتهم المصاحبة تبين أن الأطفال يظهرون سلوك الحب وعدم الحب لشيء ما يحب مفهومهم لذلك الشيء وكلما تغيرت مفاهيمهم نحو الشيء تغير تبعا لذلك إقبالهم أو رفضهم لذلك  الشيء . كما تبين التجارب إمكانية قياس تفضيل شيء عن شيء آخر وكذا قياس مستويات التقدير ... الخ .

المنهج الموضوعي :

ركز الروحانيون وذوي النزعات الفلسفية في منهجهم السيكولوجي على ما يسمى بالمشاهدات الداخلية ووصف الفرد لحالته الفلسفية كطريقة أو منهج للوصول إلى حقيقة النفس في كل تجلياتها , بينما نجد في المقابل ركز الطبيعيون على المشاهدات الخارجية للظواهر والحوادث السيحكولوجية انطلاقا من أن للظواهر النفسية آثار خارجية يمكن رصدها وملاحظتها بسهولة كما نلاحظ ونشاهد ونرصد الظواهر الطبيعية .

ويتأسس هذا المنهج ( أي الاعتماد على المشاهدات الخارجية ) ظهرت عدة وجهات نظر, فمن العلماء من ركز على رصد ملاحظة علاقة الفزيولوجيا بالسيكولوجيا , ومنهم من ركز على علاقة السيكولوجيا بالأركيولوجيا وأثربولوجيا والسوسيولوجيا ... الخ .

فنجد الأطباء ركزوا على علاقة السيكولوجيا والفزيزلوجيا وقد أشار على هذا المنحى المنهجي بتلوف ديكارت , وهالبرانش , والطبيب هارتلي , وفي هذا الإطار أشار "كلود برنار " 1968 إلى أن الفزيولوجيا تسعى لتفسير الظواهر النفسية والعقلية بنفس الطريقة التي تفسر بها الظواهر الطبيعية .

وكان لأفكار واطسن أهمية خاصة في تأسيس المنهج الموضوعي في علم النفس والذي به ولدت المدرسة السلوكية .

وفي سنة 1930 تساءل العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف ( 1849 ـ 1936 ) عن العلاقة بين الفزيولوجيا والسيكولوجيا . ووقف موقفا حار اتجاه المنهج الاستنباطي وساعدت أعماله التجريبية على تزويد علم النفس بالمنهج الموضوعي عندما اكتشف مفهوم الانعكاس الشرطي . وذلك عندما يقترن المنبه الطبيعي بمنبه اصطناعي ( ضوء , صوت ....الخ )حيث يصبح المنبه الاصطناعي ( صوت , ضوء ) يعد مدة زمنية قادرا على استحداث استجابة الانعكاس بغياب المنبه الطبيعي ( الطعام ) وإفرازات المعدة ). وبهذا المفهوم فسر بافلوف عمليات التكيف مع المكان فاقتز أن الظروف بتغير ما , فستخدم كإشارة عند تكرارها للدلالة على تكيف فزيولوجي متناسب مع التغير .

فعند الإنسان تشكل اللغة نظاما ثاني من التشوير ( الإشارة ) حلت محل الاحساسات المباشرة ( النظام الأول ) ز

وفي دراسة على الكلاب حول الهضم لاحظ أن خطوات الخادم عند اقترانها بالمثير الطبيعي ( الطعام ) تؤدي إلى إفراز العصارة المعوية , وهو الكلب. وانطلق بافلوف وزملاؤه يبحثون الفعل المنعكس الشرطي تجريبيا من حيث شروط تكوينه وانطفائه وتعميمه , وذلك من خلال التجريب على نشاط الغذاء الدماغي والارتباطات العصبية للقشرة الدماغية عن التداعي بين ( صوت الخطوة وهضم الوجبة ) .

وبجانب بافلوف سجل تاريخ المنهج الموضوعي الأعمال التجريبية للروس " بشتريف " والياريسي شاركو التي دفع بالسيكولوجيا إلى مختلف الأقطار الوروبية منذ بداية القرن العشرين ترتكز اساسا على ربط الفزبولوجيا بعلم النفس و والتجريب على الحيوانات , وأكدوا في معظمهم على الربط بين اللحاء القشرة الدماغية العليا المسئولة عن العمليات النفسية كالقلق والغضب ودلت الأبحاث على هذه القشرة وما تحتها ( اللحاء ) أنها المنطقة المسئولة على معظم الانفعالات الوجدانية . تاريخ علم النفس ص : 38 ت 41 ) ز

وبهذا المنحى في ربط الحوادث النفسية بالفزيولوجيا , أصبح البحث في علم النفس لا يقتصر على وصف الأحوال النفسية و بل تعدى إلى ربط الأحوال النفسية بما  يقابلها من الظواهر الفزيولوجية و وهدف هذه الدراسات هو تبيان العلاقة بين الجسد والروح , وتحديد الظواهر الفزيولوجية التي تصحب   , أي ماذا يصحب ظاهرة الغضب والفرح من ظاهرة الجسد (مثلا ).

أما علماء الطبيعة المهتمين بالدراسات السيكولوجية فاهتمو لتطبيق المنهج المستخدم في العلوم الطبيعية ( التجريب والقياس ) على الظواهر السيكولوجية ولجئوا إلى الوصف الكمي في كل البحوث التي أجروها لهذه في المختبرات النفسية التي أسسوها لهذه الغاية وابتدعوا ما يعرف الآن بالروائز والاختبارات النفسية والنفسية ( كاختبارات الذكاء والذاكرة والتذكر والإدراك ومقاييس الانفعال والاتجاهات والميول والحاجات والرغبات) فصارت الظواهر النفسية كالظواهر الطبيعية تدرس بإخضاعها للملاحظة الخارجية عند الطبيعيين وتدرس كمقادير وكميات ومن حيث الشدة والمستويات والنوع...الخ . ويرجع الفضل الكبير إلى الفرد بينيه الفرنسي في تأسيس ما يسمى بمنهج التأمل الباطني التجريبي ، وهو منهج يجمع بين الطريقة التجريبية وطريقة التأمل الباطني، بحيث يهتم الباحث بتقرير( العميل ) عن حالته النفسية ووصفه لما يحس به أو يرد إليه من موضوعات وبكيفية حدوث تداعي الأفكار كما هي معروفة في منهج التحليل النفسي، بجانب ما يوجه إليه اهتمامه بالألفاظ والأحكام ( جميل صليبا : 52 ـ 53 ) .

        والاختبارات العقلية هي طريقة وأداة من أدوات التجريب تستعمل الآن بكثرة في المجال التربوي لمعرفة مميزات الأفعال العقلية وقياس الذاكرة والتذكر والذكاء , والحالات النفسية والاستعدادات النفسية والتخيل والانتباه ... الخ وكذا معرفة الصدق والصبر والإخلاص والمثابرة ... الخ أما الاختبارات المتعلقة بالتجريب الفيزيائي , فهي الاختبارات التي تقيس ارتباط الظاهرة النفسية بشروطها الخارجية ( بالمثيرات الخارجية ) فقد قاس العلماء التغيرات التي تحدث للنفس بتغير المثيرات الخارجية من حيث شدتها وتبدلها أما التجريب المرضي , فهو تجريب يهدف على الكشف عن ضعف القوى النفسية واضطراباتها , فالنفس بنا هي تذكر وانتباه وعواطف واتجاهات فهي معرضة للأمراض و فيجب دراستها و لمعرفة الشخصية من حيث حالتها الراهنة والوقوف على أسباب لمضطرباتها و ومعرفة الحالة السوية من غيرها .

أما التجريب المغناطيسي : فهو شيد بالتجريب المرضي , حيث يستهدف الكشف عن القوانين اللاإرادية أو الأوتوماتيكية الراهنة , وتأثيرات اللاشعوري في تصرفاتنا الإرادية . جميل صليبا ص : 131 ـ 135 ) .

توسعت الحركة التجريبية في علم النفس وتطور المنهج الموضوعي إلى دراسة الأجناس البشرية , والاختلافات التي تظهر بين الأجناس البشرية والجماعات والرجل والمرأة كما

بهذا دسبت عدة طرق منهجية لدراسة الظواهر النفسية, كطريقة التنويم المغناطيسي والتحليل النفسي, والمقارنة و والاختبارات النفسية وكلها تدرج ضمن المنهج الموضوعي الوصفي .

 

1 ـ الحتمية والقوانين النفسية

1 ـ الحتمية :

نقوم الحتمية على فكرة أن الطبيعة في كل تجلياتها خاضعة لنظام ثابت , وأن حركاتها مقيدة بقوانين لا صدفة فيها . ومن ثمة فإن العلم إذا ما تمكن من معرفة هذه القوانين التي تحكم ظواهر الكون أمكنه من التنبؤ بها قبل حدوثها .

وبعرف النظام من حيث هو مبدأ من مبادئ الكون بالاطراد الطبيعي أو الحتمية أي كل سابق متبوع بلاحق في الشروط نفسها , فلكل حادثة شروط ظهورها وزوالها باطراد .

وبناء على هذا القول بالحتمية سعى ويسعى كل علم إلى اكتشاف قوانين عامة تحكم ظواهر الكون حتى يتمكن التنبؤ بشأنها , ومن ثمة التحكم فيها وضبطها وتوجيهها .

ووفق هذا المنظور تأسست الفيزياء الكهرو سيلبه والكيمياء والفزيولوجيا على الحتمية الطبيعية , وتأسست كذلك دراسات الظواهر السيكولوجية ( علم النفس ) على مبدأ الحتمية النفسية .

وكما أن الحتمية الطبيعية تربط حوادث الطبيعة بعضها بالبعض وتقوم على السببية فإن الحتمية النفسية هي الأخرى تسعى لربط الظواهر النفسية بعضها بالبعض , وتحاول تفسير الظواهر بأسبابها .

غير أن ما بيدوا من التماثيل بين الظواهر النفسية والظواهر الطبيعية من حيث حدودها ليس متماثلا تمام التماثل لاسيما في الوضوح , فالظواهر الطبيعية يفترض دائما أن يكون الفعل معادلا لرد الفعل , وان يكون المعلول معادلا للعلة, إلا أنه في الظواهر النفسية عادة ما يكون رد الفعل , والمعلول أكبر أو أصغر من الفعل والعلة , لأن الحياة الشعورية للإنسان متغيرة وفي حركة مستمرة , ولأن أشياء ومعاني كثيرة في مدركاتنا لا  واقع لها في إحساسنا المباشر بالظاهرة ومن ثمة يصعب الحديث عن الحتمية في تفسير الظواهر النفسية , ويصعب إيضاح الظاهرة اللاحقة بالظاهرة السابقة عموما , فالظاهرة النفسية اللاحقة تحتوي على عناصر جديدة , ومن ثمة فالحياة النفسية إبداع مستمر .

ومن ثمة يمكن القول بأن الحتمية النفسية متعارضة مع القول بالحرية على الرغم من قول الحتمية أن تعلق العلة بالمعلول لا يستوجب بطلان الحرية النسبية , وأن حرية الاختبار حسب زعمهم إنما هو مفهوم فيزيقي غير علمي .

القوانين النفسية :

القول بأن الحياة النفسية خاضعة لنظام يبين أنها تخضع لقوانين نضبطها وأن علم النفس الموضوعي الذي تأسس على القول بالحتمية وتماثل الظواهر الطبيعية مع الظواهر النفسية يسعى للكشف عن هذه القوانين .

وباكتشاف علم النفس الموضوعي لبعض ظواهر الاطراد في الحياة النفسية تأكد لديهم أن الحياة النفسية محكومة هي الأخرى بقوانين نفسية ومن خلال تجاربهم في اتجاه اكتشاف تلك القوانين تمكنوا من صياغة بعض القوانين النفسية العامة في حياة البشر ومنها على سبيل المثال :

ففي الذاكرة : أن النسيان يلحق , ولا الأسماء الخاصة , والسماء العامة , ثم يعم الأفعال ز

وفي النمو ك أن الطفل يعيش في الحاضر , والشاب يعيش في المستقبل , أما الشيخ فيعيش في الماضي وفي ضوء هذا الاتجاه في الكشف عن القوانين النفسية و اندرجت المدارس النفسية ولا سيما التحليل النفسي والسلوكية , وسعت لبرمجة الحياة النفسية وفقا لمستخلصاتها من القوانين .

غير أن هذه القوانين ليست بالصرامة التي عليها القوانين الطبيعية كالتنبؤ بالزلازل والخسوف , والأمطار مثلا وسبب ذلك هو:

1 ـ القوانين النفسية تابعة لمتغيرات مستقلة ( كالحرية , والشخصية ) .

2 ـ الظواهر النفسية ظواهر متشابكة ومعقدة , فالتفكير متعلق بكثير من العوامل الطبيعية ( بيئة ) ونفسية ( العمليات العقلية والشعور ... الخ )

3 ـ صعوبة التجريب على الظواهر النفسية .

4 ـ ليس هناك قوانين مشتقة من القوانين الكلية في علم النفس , فالجاذبية كقانون يمكن أن تستنبط منها وتشتق عدة قوانين ومعادلات وهو الأمر الذي يتعذر في القوانين النفسية .

 

 

 

مدارس علم النفس

تعلم النفس الترابط الأولي يوصي بتحليل المادة إلى عناصرها الأولية حتى يتمكن العقل من سهولة إدراك الجزئيات, ومن ثمة أتت  فكرة التحليل والحفظ والشكلية وعلم النفس التدريبي يدعو إلى وضع الحواس موضع التجربة والتقاط المعرفة بصفة تجريبية حتى يتمكن العقل من تشكيل انطباعات ومفاهيم ... الخ .

وعلم النفس الملكات ودراسته حول تدريب هذه الملكات أدى إلى تعزيز مبدأي السلطة والمنافسة .

دخول الأفق النفسي في التربية

رغم قدم الاعتراف بالبعد النفسي في التربية إلا أن العلماء ومن بينهم بلماد يعتقدون أن ذلك بدأ على الأقل واضحا في مستهل القرن العشرين فالإصلاح المدرسي وفقا لأسس التنمية إنما بدأ في بدايات هذا القرن , ويعود ذلك حسب رأيهم إلى أربعة أساطين علماء التربية المؤسسين لهذه الحركة الإصلاحية .

ليي : الذي اهتم بالمؤثرات التي يتلقاها الفرد من البيئة , وأدى ذلك إلى اكتشافين هامين :

1 ـ القوى الانعكاسية ـ 2 ـ الإحساس الحركي : أي أن بعد الانعكاس تأتي الحركة والاستجابة , وبهذا تم إدراج التلميذ في بيئة حسية تؤثر عليه ويستجيب لها .

2 ـ جون ديوي : صاحب مذهب في التربية تعرف بالنظرية تعرف بالنظرية البرجماتية في التربية ويصف الطرق التي يجب إتباعها في التدريس كالتالي :

1 ـ وضع الطفل في موقف تجريبي .

2 ـ أن تبرز مشكلة حقيقية .

3 ـ أن تؤمن له الوسائل والمراجع لكي يقوم بالتجارب .

4 ـ أن تبدو له حلول مؤقتة .

5 ـ إخضاع الأفكار للتجربة قصد كشف صحتها .

3 ـ كلايرايد : بركز أفكاره كلها حول حاجات الأطفال أو يجب على التعليم بعدئذ أن يلبي هذه الحاجات .

وينطلق ـ من خلال دراسته لأفكار جان جاك روسو ـ من المفهوم الوظيفي للطفولة ويجدو لذلك خمسة قوانين .

4 ـ أن كل عملية من عمليات النمو أو السلوك هي انبثاقات ففي سبيل الحياة البيولوجية فالنمو الاجتماعي والعاطفي إنما يعود إلى النمو البيولوجي أكثر من البيئة , ومن ثمة يجب توجيه التربية نحو اكتشاف ذاتية وكيفية إطلاقها نحو تحقيق حاجاتها .

5 ـ أن تحقق الذات أو توكيدها ليس له نهاية محدودة في سلة الارتقاء فالفرد لا يتوقف نموه بتوقف نموه الجسماني , فالرشد لا يتوقف عند مرحلة معينة , ومن ثمة فالتربية لا تتوقف .

6 ـ أن النمو يتم أو يعوق نتيجة لكل خبرات الحياة في المدرسة أو خارج , ومن ثمة فالمدرسة مدعوة لتوفير البيئة الملائمة للنمو السوي والارتقاء إلى الأفضل .

7 ـ أن كل طفل يسعى دائما نحو حياة أفضل من وجهة نظره : فالأفراد ةتختلون في مواجهة مثيرات الحياة كل حسب روايته في سبيل تحقيق حاجاته , وهذا ما يفسر اختلاف الثقافات فالناس كلهم ينشدون حياة أفضل ولكنهم يختلفون في المناهج والمسالك التي يسلكونها .

8 ـ لكي يتحرك كل فرد في اتجاه واقعي نحو الرشد المفضي إلى حياة أحسن فعلى كل فرد أن يحسن الكيف في المعاني المكونة لذاته : فالفرد بالواقعية يجدد ويعدل باستمرار مدركاته للمؤثرات الخارجية والداخلية , ويحتفظ بعلاقة مرنة مع البيئة . وعليه فالمدرسة مدعوة لمساعدة الفرد على إنتاج معلمي جديدة للمثيرات باستمرار .

9 ـ منهج المدرسة ينبغي أن يني حول تهيئة ظروف أساسية تقضي إلى الترشيد والنصح والنمو والمنهج جزأين ( النشاط ـ الاتجاه ) ولا بد من تناغم الاثنين أي أن رسم الاتجاه في نطاق النشاط .

10 ـ كفاية المعلمين في المهنة قوامها الفهم البصير والقدرة على تثمير السبيل البيولوجي للنمو .

11 ـ أن إشباع حاجات الطفل أنما يكون في نطاق إدراكه وبسبله هو

12 ـ أن إدراك السالك لموقف أو وضع يعتبر أكثر أهمية في تقرير سلوكه من إدراك ملاحظة السلوك فنلاحظ السلوك لا يطابق إدراكه , إدراك السالك فعاليات ما يخالفه , والسالك بدوره أيضا لا يسلك طبقا لإرادة الملاحظ لأنه لا يدرك نفس الإدراك .

فالطفل يواجه مواقف الحياة من خبرته , والمراهق كذلك . والطالب الجامعي كذلك .

إن فحص السلوك وتقرير السلوك المقبول من نظر السالك عمل في طياته إمكانات عظيمة لتحسين الحياة .

والنظرة التقليدية للتربية القائمة على ضبط السلوك وتقرير قواعد التربية من وجهة نظر الكبار .

السلوكية

تعد السلوكية من أبرز مدارس علم النفس المعاصر أسسها واطسون المولود في 1887 وفي سنة 1912 انتهى به الصراع الذي كان يحتوي في صدره إلى القول بأنه لا يمكن للسلوكين أن يقنعو بالعمل في اللامحسوسات والأشياء الغامضة ( المتغامرة : 102 ) .

وبتصميم السلوكين على تأسيس علم النفس الموضوعي وبتأسيس مصطلح الشعور يحل محل الروح , تمكن واطسن من تحديد توجيهات علم النفس الجديد حيث أكد على أنه شعبة تجريبية موضوعية خالصة من العلم الطبيعي وهدفه النظري هو التنبؤ بالسلوك وضبطه , وليس الاستبطان أو كل ما يشير إلى الشعور , فلا حاجة لعلماء النفس للاهتمام بما يسمى الحياة العقلية أو الشعورية , وأن علم النفس هو علم السلوك ( ص : 104 ) .مدارس المناصرة ) .

ومن ثمة صار الحديث عن الحياة النفسية عند السلوكين بألفاظ المثير والاستجابة بدل الشعور والحياة العقلية والذهنية والإرادية .  وأن المثير والاستجابة هي أساس تكون العادة.

والغرض من تحويل اهتمام علم النفس إلى السلوك ودراسته هو الوقوف على التكيفات والمعرفة بالمنبهات وتعلم ضبط السلوك . وأن اعتماد على دراسة السلوك هو ما يعين رجل التربية والقانون ورجل الأعمال والإعلامي و وغيرهم على تحقيق الانتفاع الأفضل بحقائق علم النفس .

وظهرت السلوكية كما لو أنها فلسفة متكاملة لا تلتزم إلا بالظواهر الخاضعة للملاحظة والقياس , وتحت تأثيرات الحتمية ونزعة الموضوعية الشديدة تعتقد السلوكية بإمكانية التنبؤ بناء على مقولة الإنسان ما هو إلا نتاج تلقائي لمداخلات بيئية وعمت تطبيقاتها على التعلم والسوسيولوجيا ... الخ .

وتمحورت البحوث السلوكية حول مفاهيم رئيسية كالمثير والاستجابة والتعزيز والانطفاء .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشخصيــة

حول المفهوم :

القناع الذي يستخدم على خشبة المسرح وتدل عليه كلمة" برسونا " في اللاتينية هو المعنى الذي اعتمده " يونغ " وهو ما يشير إليه أو يعنيه اللفظ الفرنسي Personnalite المأخوذ أصلا من اللاتينية Persona وترجم إلى اللغة العربية بـ" الشخصية " وهي من كلمة "شخص" (بشد الخاء ) التي تعني في مختار الصحاح (ما تراه العين وتبصره ) ( معجم مدكور : 334 ) وفي القاموس جاءت بمعنى (التعيين) وفي منجد اللغة جاءت بمعنى شخص السيئ عينه وميزه عما سواه؛ وتشخيص المرض بمعنى عينه وحدده (المنجد في اللغة والإعلام : 378 ) .  ومنه يمكن الوقوف على معنى للشخصية، فتعني معجميا " الصفات الموجودة في الإنسان التي تميزه عن غيره " ( القاموس محمد هادي  :392 ) . أو هي كما جاءت في موسوعة شرح المصطلحات النفسية لتدل على " مجموعة الصفات الذاتية المميزة للفرد أو للجماعة وتظم الصفات أو السمات والنزعات السلوكية والانفعالية للشخص في حياته اليومية في الأحوال المعتادة بصورة مستقرة ومتوقعة . ( موسوعة شرح : 271 )

ووردت في معجم العلوم الاجتماعية بمفهوم الصفات المادية والمعنوية التي تتوفر في فرد ما . ( معجم العلوم الاجتماعية فريديريك : 257 )ووردت في معجم علوم التربية بمفهوم هو ذلك التنظيم الدينامي الذي يكمن بداخل الفرد والذي ينظم كل الأجهزة النفسية الجسمية التي تملي على الفرد طابعه الخاص في السلوك، وتتكون من ثلاثة أبعاد متفاعلة فيما بينها ( الحسي حركي، الوجداني الانفعالي، الذهني المعرفي ) معجم علوم التربية : 363 ) .

أما الشخصية اصطلاحا لدى علماء النفس فوردت بعدة معاني ودلالات منها

تعريف البورت : يعرفها بأنها ذلك التنظيم الهرمي الدينامي الداخلي للنظم النفسية الفيزيقية التي تحدد السلوك والتفكير المميز للشخص ( معجم مذكور : 335 ) .ويقصد بالتنظيم الهرمي ان الشخصية متدرجة هرميا تبدا من الفعل المنعكس البسيط فالمعقد فالعادة فالاتجاه فالسمة فالذات ثم الشخصية عندما تتشكل السمات وتكتمل في صورة تميز الشخص.

تعريف ستاجنر : هي ذلك النمط الفريد من المدركات والدوافع المميزة للشخص ..إنها ما يرغب الشخص فيه وأسلوبه في تحقيق هذا الذي يرغب فيه . فهي بهذا المعنى تفيد التنظيم الداخلي للفرد الذي يحدد سلوك الشخص . ( مذكور : 335 ) .

تعريف أ.  فكسليار A. Vexliard: هي بنية نشطة موحدة وكاملة تحقق وحدة نسبية وتواصلا مع الزمن لمجموع الأجهزة التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل فرد طريقته في الشعور والتفكير في الفعل ورد الفعل في المواقف المحسوسة . ( نظريات الشخصية : 6 ) .

وفي المعجم الفلسفي نجد مصطلح الشخصانية وهو يشير إلى تيار ميثالي ينطلق في التغيير الاجتماعي والعالم من الفرد من حيث هو متغير نحو كماله الروحي، ويقوم المذهب على الاعتراف بالفرد كواقع وقيمة روحية أولى في الوجود التي تميزه عن باقي الموجودات الأخرى.(الموسوعة الفلسفية : 258 ـ 259 ) .   

فهذه الدلالات المعجمية والاصطلاحية للشخصية رغم ما يظهر عليها من تباينات في اللفاظ إلا أنها تكاد تجمع على أن للشخصية كمفهوم دلالات تتعلق بـ

ـ أنها بنية ووحدة داخلية متكونة من الأجهزة النفسية والجسدية دينامية

ـ التميز الشخصي عن الآخرين كما يظهر في الواقع.

ـ كل شخص يحمل في كيانه سمات تحدد سلوكه.

ـ الشخصية هوية متكونة من عناصر حركية ووجدانية وفكرية .

ـ الشخصية تتكون من المعطى الوراثي للفرد وتفاعله التاريخي عبر سيرورة من العلاقات والتنشئة الاجتماعية والتعلم والتواصل الايكولوجي البيئي .

ـ ارتباط مفهوم الشخصية بالوضع الثقافي والفلسفي وحتى الحضاري، فما هو ثابت أن لكل عصر وكل بيئة تجرد لنفسها مفهوما خاصا للشخصية، ومن ثمة فهو مفهوم تاريخاني ساهمت كل حضارة وكل مجتمع في تعدده وتنوعه وتشكله عبر الزمن بناء على مفاهيم حول الإنسان وفلسفته في الحياة في وضع ثقافي محدد . 

والشخصية كعلم يدرس هوية الفرد أو الجماعة خضعت للدراسة العلمية من حيث بنيتها التكوينية ونمطها وطبيعتها وأبعادها وتطورها وتغيرها عبر الزمن وسماتها الثابتة ومتغيراتها وديناميتها وتفاعلاتها وعوامل تأثرها ووظائفها ووضعها السوى واللاسوى ( اضطراباتها ) وحظيت بالدراسة لدى كل الاتجاهات والنظريات النفسية واختلف بشأنها اختلافا بينا بحسب منطلقات كل اتجاه أو دارس أو مدرسة أو نظرية وبحسب البيئات الحضارية والثقافية المختلفة ودرست بمناهج وأساليب وأدوات متعددة أمبيريقية واقعية ونظرية معيارية؛ فدرست وتدرس  في السلوكية من غلال عملية التعلم وفي ضوء الإشراط (الفعل المنعكس الشرطي) وتهتم بتكوين العادات وتجزئة السلوك وتدرسها النظرية العالمية من خلال الاتساق أو الثبات في مختلف المواقف المتجانسة والمتباينة كما هي عند أيزنك وتعتمد في ذلك الطرق الإحصائية ومعالجة التحليل العاملي . أما نظرية السمات التي ينتسب إليها البورت فتهتم بالشخصية من حيث هي بناء هرمي متدرج وتركز على العوامل الشعورية اكثر في تفسير الشخصية، أما نظرية التحليل النفسي فتدرسها من خلال تفاعل مكوناتها الثلاثة ( الهو ، الأنا ، الأنا الأعلى ) وتوظف المصطلحات والقاموس الخاص بها كالاندفاع والتروي والاستقلال والتبعية والغيرية والجنس والموت والحياة والتقمص والنكوص والتمركز حول الذات والنرجسية والانزياح ...الخ  وتبني تلك المفاهيم على العقد من مثل الايروس، والثاناتوس، وعقدة الكترا، والنقص، والأوديبة ...الخ . وهو ما سنشير غليه بشيء من التفصيل في النظريات أو المدارس النفسية.

   مناهج دراسة الشخصية

تدرس الشخصية من حيث هي بنية الفرد النفسية وسماتها وتمركزاتها بعدة مناهج تتسع باتساع مناهج البحث في علم النفس وظواهره، ونكتفي هنا بعرض الأهم منها كالتالي :

         أولا : المنهج الاستبطاني الذاتي :

يعرف المنهج الاستبطاني في بحوث الشخصية بأنه الملاحظة الذاتية للنفس أو للظاهرة النفسية المقصودة للدراسة والبحث، وهو مقابل لما يعرف في المناهج الموضوعية بملاحظة الآخر، ويعد من اقدم المناهج النفسية ويصنف ضمن المنهج الشبه تجريبي،  حيث يخضع الفرد نفسه لملاحظته الشخصية لما يشعر به، أي أن الشخص يعبر عما يعرفه عن نفسه في مجال سماته واتجاهاته وخبراته وحاجاته وميوله .

ويستعمل في هذا المنهج عدة طرق بحسب ما يطلبه المختبر وموضوع الدراسة وقد سبق الحديث عنها، كسرد الفرد للسيرة الذاتية وتاريخ حياته ودراسة الحالة والمقابلة وطريقة الاستبار وطريقة الاستبيان ... الخ ( مناهج البحث : 747 ـ 756 ). وعلى الرغم من قصور هذا المنهج في دراسة الشخصية ككلية إلا أن العفوية والاستجابة التلقائية للفرد يمكن الباحث من جمع المادة العلمية لوضع الفرد قد لا تتيحه مناهج وأدوات أخرى كرصد الاحساسات الشخصية الداخلية الضرورة لفحص الخصية.( نظريات الشخصية: 8 ، 9) .

ثانيا : المنهج الموضوعي في دراسة الشخصية:

يعرف المنهج الموضوعي بأنه ملاحظة الآخر للشخص أي ملاحظة السلوك من الخارج، فهو لا يعتمد على ما يقوله الشخص عن نفسه بقدر ما يعتمد على سلوكه الظاهري كما يلاحظه الآخرون ( المختبرون ) وعليه تسمى هذه الطرق بالطرق الموضوعية، ويعد هذا المنهج البديل الذي يعتقد انه يوفر للباحث تجاوز قصور المنهج الذاتي أو المناهج العيادية والشبه تجريبية القائمة على الملاحظات المصطنعة ومحدودية إمكاناته في الإلمام بمواقف الإنسان في كلياتها و رصد الظاهرة النفسية كظاهرة مستقلة بعيد عن تأثير الذاتية . 

ويعتمد المنهج الموضوعي على عدة طرق في دراسته للشخصي منها :

ملاحظة الشخص في المواقف الحياتية من خلال النماذج المصغرة للحياة كما يسميها " اندروز " وهي طرقة ابتداع فرص الفحص بالملاحظة المباشرة أو غير المباشرة، كما يسميها " فرانسيس جولتون " حيث يحدث مثلا إجراء الملاحظة في المقابلات العفوية وتحيين الفرصة لاستفزاز المفحوص لإظهار استجاباته المتوقعة والمفضلة لديه حول موقف معين أو مواقف متعددة من الحياة، أو دراسة أخلاقه أو طريقة تفكيره أو استكشاف مخاوفه أو تعلقاته وعلاقاته أو طبائعه عبر توجيه الأسئلة الهادفة التي تستثيره أو ضبط سياق الحديث والحوار أو ملاحظة المفحوصين عن بعد من خلال تصرفاتهم وسلوكاتهم ولغاتهم التي يستعملونها في مواقف مشابهة أو متباينة حسب مقتضيات وشروط الظاهرة المقصودة في الدراسة .

ويعتقد أن طريقة النماذج المصغرة لمواقف الحياة تتيح فرص اكثر عفوية وتلقائية لملاحظة السلوك الفعلي غير المبرمج مسبقا ولاختيار العينات واختيار المواقف غير الحرجة أو أقل إحراجا للمفحوص. كما هو الشأن في دراسة سمة القابلية للإيحاء أو التنويم المستعملة في التحليل النفسي أو الاستثارة  أو للانضباط أو حتى مواقف الشخص واتجاهه نحو موضوع معين .عن طريق ملاحظة الأداء الفعلي للمفحوص أمام المختبر أو استجاباته على إستبانة أو اختبار .

طرقة الملاحظة غير الملحوظة : وهي من الطرق الموضوعية في دراسة الشخصية وتعرف كما يدل عليها اسمها بطريقة الملاحظة غير المباشرة، دون علم المفحوص حيث يطلب منه آداء بعض الأعمال المطلوبة للملاحظة في مكان مغلق ( حجرة ) ويراقب بآلة تصوير أو مرآة أو شاشة بحيث تكون وسائل الملاحظة دقيقة ومحققة لأغراض البحث ومناسبة للموضوع الملاحظ كحركات الجسم أو اللغة أو الانفعالات ...الخ .

المقاييس الفسيولوجية .

 الشخصية ليست هي ذلك الجانب من السلوك الرمزي والاتجاهات بل هي أيضا جسد بأنظمته تؤثر لا محالة على خصائص السلوك وكل فرد من بني الإنسان هو جسد متميز عن الأجساد  الأخرى رغم ما يبدوا عليها من تماثل وتشابهن ولذلك فالجسد يحتاج للدراسة في إطار الشخصية للوقوف على مميزاته وآثار تلك المميزات على تباين سلوك الأفراد ومن ثمة لا بد من تصميم طرق موضوعية للفحص الجسدي والفيزيولوجي من حيث استجاباته منها طريقة المقاييس الفيزيولوجية.   

وتصنف هذه الطريقة ضمن الطرق الموضوعية في دراسة الشخصية وتستعمل أساسا لدراسة الخصائص الجسمية والفيزيولوجية للمفحوص من حيث ضغط الدم في مواقف سلوكية معينة أو استجابات الجلد والإيماءات والحركات والتغيرات الفيزيولوجية ودراسة زمن الفعل المنعكس باعتبارها تعبيرات عن الشخصية تقاس بمقاييس خاصة منها طبية وأخرى إمبيريقية .

مقاييس التقدير

تعد مقاييس التقدير المتدرج من الطرق الموضوعية في دراسة الشخصية وتستخدم عادة في قياس السمات العامة للشخصية والاتجاهات والتحصيل وتسمى مقياس " ليكرت " نسبة إلى مصممها وتكون عادة مؤلفة من خمس درجات وقد تصل إلى سبعة وتنخفض إلى اثنين، وهي توجه للأفراد المستهدفون للفحص، في شكل فقرات أمامها بدائل بدائل مصممة في شكل خانات ويطلب من الفرد تسجيل رايه بدقة في الخانة التي تعبر عن رايه حول الفقرة ومثلها في صيغة خمسة بدائل الشائعة

الفقرات

موافق بشدة

موافق

 

موافق

أحيانا

غير موافق

غير موافق بشدة

1 ـ أنزع من وجود الناس من حولي

 

 

 

 

 

وفي الصيغة الثلاثية

الفقرات

نعم

أحيانا

لا

1 ـ أنزع من وجود الناس من حولي

 

 

 

وقد تكون هذه الصيغة في حالة مطلب تجزئة السلوك الموقفي إلى مستويات عدة من التقديرات الكمية بنسب محددة في التقديرات المتدرجة من نسبة منخفضة إلى أعلى نسبة مطلوبة . وتكون الفقرات المطلوبة ـ لقياس سمة من سمات الشخصية أو أبعادها أو طبيعتها وأنماطها أو الاتجاه أو التحصيل ـ  بحسب طبيعة الظاهرة وأبعادها ويخضع ذلك لحساب الخصائص السيكومترية بكل أنواعها ومستوياتها حتى يتأكد الباحث من صلاحية الأداة من حيث قياسها لما وضعت من اجله .

طريقة المطابقة .

من الأساليب المعتمدة في دراسة الشخصية دراسة موضوعية، نذكر طريقة المطابقة، وهي تصمم خصيصا للمقارنة بين الأفراد وتعيين سماتهم وخصائصهم من خلال أحكامهم على مواضيع أو مواقف أو أحداث أو ظواهر أو صور أو أجسام أو أصوات حيث تقدم عينة من السلوكات لمجموعة من المفحوصين في مواقف معينة بدون معرفة هوية الشخص ويطلب من الحكام مطابقة العينات . وتصنف هذه الطريقة على أنها امتداد لعلم النفس الجشطالتي من حيث هي تعتني أكثر بالموقف الكلي بدلا من تجزئته كما هو في المقاييس المتدرجة، فهي تعني فحص الفرد كشخصية كلية لا كسمات معزولة عن بعضها البعض، ومن بين طرق المطابقة المستعملة طريقة رورشاخ ( يوسف . المناهج : 767 )

ثالثا : المناهج الاسقاطية في دراسة الشخصية:

وهي طريقة من ابتكارات التحليل النفسي تهتم بالبعد السيكولوجي وتقدمه عن غيره من المتغيرات كالموضوعية والذاتية . والإسقاط بالمفهوم السيكولوجي الفرويدي يعني إزاحة واقعة نفسية إلى الخارج أو بتعبير آخر إخراج الشخص لما لا يريد الاعتراف به أو ما لا يريد أن يكونه ( المعجم الموسوعي : 46 ) وبناء عليه فالمنهج الاسقاطي في الشخصية يهدف إلى اكتشاف أمزجة الأفراد وسماتهم وتخيلاتهم بطريقة التعبير وتفسير السور وبقع الحبر وابتكار قصص وتخيل الأحداث بحيث أن في ذلك مادة مكثفة من التعبير عن اللاشعور، وهي تفترق عن الذاتية في أنها لا تطلب من الفرد أن يعبر عن ما يحس به، ولا هي موضوعية يلاحظ فيها سلوك المفحوص من الخارج . ( يوسف : المناهج : 769 )

والمنهج الاسقاطي يعتقد لما يتاح فيه للشخص من حرية في التخيل والتعبير عنها أنه يكشف عن شخصية الفرد من خلال كشفه عن خبرته وعن ما يرغب وما لا يرغب فيه وعن مشكلاته وطريقة مواجهتها ... الخ حيث يسقط الفرد المعاني كما يدركها على العالم الخارجي،  فالكاتب مثلا قد يكشف عن خباياه النفسية ويسقطها على مواضيع كتبه دون أن يشعر أكثر من لو أننا طلبنا منه التعبير عن حياته الشخصية .

ومن الطرق المتبعة في هذه المناهج الاسقاطية :

ـ طريقة التعبير الحركي من حيث هي تعبير المفحوص عن شخصيته بالأعمال، وحركات الجسم، والخط والمشي والتعبير اللفظي والصوت والإيماءات ... وتستعمل كثيرا في علم النفس المهني .

ـ الطرق الادراكية البنائية : ـ وتعني تنظيم الفرد للمجال الادراكي  لمنبه معين كبقع الحبر ونماذج صوتية، بحيث يؤدي ذلك إلى معرفة واشتقاق ميوله ورغباته العامة واستكشاف نمط شخصيته ( الانبساط أو الانطواء ) . والطريقة الاسقاطية من الطرق الأكثر استعمالا في علم النفس العام ومن أمثلتها طريقة رورشاخ ( بقع الحبر ) حيث تعرض على الشخص المفحوص ويطلب منه في ضوء تعليماتها أن يعبر عما يرى أو أن يتذكر من خلاله شيء يكون قد نسيه ...الخ .

ـ الطرق الإنشائية الديناميكية : ـ ويلجأ إلى هذه الطريقة في حالة البحث عن الوظائف العقلية الأكثر تعقيدا في الشخصية من تلك التي نكتشفها بالنشاط الحركي والادراكي، حيث تستهدف الكشف عن مضامين الموضوعات والحاجات الساسية للفرد وديناميتها، ونذكر من الاختبارات المشهورة الاختبار الذي صممه كل من " مورجان Morgan و موراي Murray " وسموه بالختبار ( تفهم الموضوع المعروف باسم ( T.A.T ) وهي اختصار لـ " Thematic Apperception Test " إذ يعرض في هذا الاختبار سلسلة من الصور ليعبر عنها في شكل قصة ويسجل المختبر كل ما يقوله المفحوص حرفيا تمهيدا لتحليلها واستخراج ما فيها من الميول والأفكار حول مواضيع معينة كالميول الجنسية والمهنية والصراعات والاتجاهات ...الخ 

ومن الطرق الاسقاطية الحديثة نذكر طريقة تداعي الكلمات وتداعي الصور حيث تقدم للمفحوص قائمة من الكلمات أو الصور حول المواقف الاجتماعية ويطلب منه في حالة الكلمات أن يجيب بأول كلمة تخطر على ذهنه، وفي حالة الصور يطلب منه أن يكتب كل ما يتداعى وترد على خاطره من مشاهدة تلك الصور . .( مناهج : 774 ـ 777)

وصمم لدراسة الشخصية أدوات على شكل اختبارات وروائز واستمارات عدة كقائمة أيزنك التي تصف أو تقيس أنماط السلوك ( المنبسط والمنطوي ) واختبار الشخصية لـ أحمد زكي صالح وهو اختبار يقيس القضايا الموقفية و يتكون من ثمانية أقسام ( الرصانة ضد التسرع، الحزم ضد التردد، الهدوء ضد القلق، الصراحة ضد الالتواء، الثبات الانفعالي ضد عدم الثبات، التسامح ضد التعصب، المثابرة والاستمرار ضد التذبذب والتشرد ) . ( زيدان : 136 ـ 138 ) . وقائمة سترونج المهنية للرجال والنساء . واستبيان كاليفورنيا السيكولوجي المتكون من قياس ثمانية عشرة سمة من سمات الشخصية مجمعة في أربعة أبعاد كمقاييس جزئية

أ ـ ( مقاييس التوازن والتسلط وتأكيد الذات وكفاءة العلاقات الشخصية ) ويضم هذا المقياس قياس ستة سمات ( السيطرة، المكانة، الحضور الاجتماعي، تقبل الذات الإحساس بالوجود) .

ب ـ مقياس التطبع الاجتماعي والنضوج والمسؤولية وبناء القيم ويضم قياس ستة سمات وهي ( المسؤولية، التطبع الاجتماعي، ضبط النفس، التحمل، الانطباع الجيد، المشاركة الاجتماعية ).

ج ـ مقياس قدرات الإنجاز والكفاءة العقلية ويضم ثلاثة سمات وهي ( الإنجاز من خلال المسايرة، الكفاءة، من خلال الاستقلالية الكفاءة العقلية )

د ـ مقاييس الصيغ العقلية ويضم قياس ثلاثة سمات وهي ( العقلية السيكولوجية، المرونة، الأنوثة ) .( الاختبارات ليونا : 113 ـ 118 ) .

فهذه الاختبارات والاستمارات ومختلف الروائز قد تم اختبار صلاحيتها في بيئاتها ويمكن تطبيقها على عينات في بيئات أخرى بعد تكييفها بالطرق العلمية . ويتم معالجة بياناتها بالطرق الإحصائية التي تحول المعلومات الكيفية للتكميم، وتبقى نتائجها نسبية وغير دقيقة بالمعنى الموضوعي لخصوصية الظاهرة الإنسانية القائمة على الاحتمالات . 

طبيعة الشخصية .

المتمعن في الثقافات العامة يجد أن كلمة الشخصية في عرف الناس ( المعرفة الساذجة ) ترتبط بمدلولات تتعلق بقدرة تأثير شخص" أ "على الشخص " ب " أو على  أشخاص كثيرين في مواقف جماعية مثلا، فيقال مثلا أن فلان ذوا شخصية قوية، وآخر ذوا شخصية ضعيفة، وهو ما يعني أن مفهوم الشخصية يحمل في الثقافات الشعبية المفهوم الإيجابي المرتبط بالشخص المؤثر القوي أو الحسن، وقد تصل قوة الشخصية في سلم ترتيب الناس وفق معيار قوة التأثير إلى درجة الكاريزماتية، وهو ما جعل الأفراد يجتهدون في اكتساب الشخصية القوية ( اكتساب السمات المعيارية الثابتة ) حتى يتسنى لهم التأثير في الآخرين وذلك بتطوير سلوكاتهم ومعاملاتهم وتمثلاتهم القيمية والاجتماعية وقدراتهم التفاعلية والتواصلية إلى المستويات المعيارية التي تجعلهم أقوياء مؤثرين في بيئاتهم. وهذا المعنى هو ما تتأسس عليه الدراسات السيكولوجية في فهم طبيعة الشخصية أو على الأقل لا تبتعد عنه، حيث يدرج الباحث في الشخصية كل التراكيب والعمليات السيكولوجية الثابتة التي تنظم خبرة الفرد وتشكل أفعاله واستجاباته في البيئة التي يحيى فيها .

مرتكزات دراسة الشخصية

وإذا كان الباحث في علم النفس العام يأخذ إستراتيجية ما يسمى بالبحث الناموسي ( الشخصية : 40 ) فيدرس الإنسان ومتغيراته كظواهر عامة  في ضوء أهدافه العلمية المتعلقة باستخلاص القوانين العامة للسلوك وبالتالي فهو يهتم بدراسة العمليات السيكولوجية الفردية، ويهتم بالمثيرات الخارجية، فإن سيكولوجية الشخصية على خلاف ذلك فهي ترتكز في بحوثها على المنحى المتفرد والمناهج الاكلينيكية، فهي تهتم ـ في ضوء أهدافها العلمية المتعلقة بتحديد السمات والأنماط ومرجعيات السلوك ومحدداته ـ  بدراسة الفروق الفردية والوصول إلى تحديد الخصائص السيكولوجية أو السمات العامة التي تميز الفرد عن الآخرين،  وتهتم بالفرد كوحدة كلية كاملة ( الـ " أنا " ) تتكامل فيها العمليات النفسية الفردية، من منطلق أن الإنسان في وحدته الكلية متميز عن وظائفه النفسية الجزئية، وتهتم اكثر بالوظائف النفسية والعمليات الداخلية الثابتة للفرد بدلا من التركيز على المثيرات الخارجية، فهذه المنطلقات البحثية  تنسجم مع أهداف سيكولوجية الشخصية وسبل الوصول إلى  الأساليب المميزة للفرد في انتظام وظائفه النفسية في المواقف العامة للحياة وهو ما نعبر عنه بشخصية الفرد في تعامله وتوافقه مع الوسط الفيزيقي والاجتماعي . ( الشخصية : 19 ـ 22 ) .

ومنه نخلص إلى أن التركيز على الفروق الفردية أو بحث السمات المميزة للفرد في دراسة الشخصية، لا يعني إهمال البيئة أو القوانين التي تحكم السلوك في كلياته، بل إن تفسير الشخصية و معرفة أنماطها وسماتها التي تحدد سلوك الفرد من خلال دراسة سلوك الفرد لا يتأتى بالاعتماد على المؤثرات البيئية وحدها أو المؤثرات الذاتية الداخلية وحدها وإنما تتأتى بداسة بنية الشخصية وعملياتها( ديناميتها ) ووظائفها النفسية الداخلية في مواقف حياتية وتفاعلات بين الفرد وبيئته، أي دراسة المتغيرات السيكولوجية المتعلقة بالبنية النفسية، والمتغيرات البيئية بشقيها الفيزيقي والثقافي الاجتماعي، وهو ما يعني عدم إهمال القوانين العامة في تفسير سلوك الأفراد؛ فالفرد كشخصية هو في عرف النفسانيين حصيلة تفاعل الوراثة من حيث هي المكونات الفطرية البيولوجية الحيوية، والبيئة من حيث هي مجال حيوي لسيرورة الفرد وتحولاته ونموه النفسي والبيولوجي في سياق نمط حياة وظروف طبيعية إيكولوجية معينة . ويمكن الرجوع إلى معادلة السلوك التي سبق وأن أوضحناها.

البناء الوظيفي للشخصية

الشخصية في منظور علم النفس من حيث هي ظاهرة وجودية في بعدها الافتراضي أو الفعلي العيني هي نسق كباقي الظواهر الاجتماعية الأخرى تتكون من البناء أو الأبنية والعمليات، والبناء هو كل ما يشير إلى انتظام الأجزاء المكونة للكل ( البناء ) في صيغة معينة تلمح بشكل أو بآخر إلى هوية ذلك البناء وتشكل هيكله عبر التكوين، وتشير العمليات إلى الوظائف المتعينة لكل جزء من أجزاء النظام داخل النسق الكلي للبناء .ومن ثمة فالبناء يتضمن بالضرورة العمليات ولا تنفصل عنه ما دامت هي وظائف للأجزاء المكونة للبناء، فالجسد بناء في بعده المادي المنتظم النسقي ( الأنسجة، الأعضاء، الخلايا، الغدد...الخ ) وما تقوم به هذه الأنظمة الفرعية كأجزاء في نسق  من وظائف هي العمليات.  كما أن البناء يتمتع بنوع من ثبات نسبي عال عن نسبية العمليات التي تعبر وظيفيا عن كل التحويلات والتغيرات والتطورات التي تتم عبر النمو والتفاعل .

 والشخصية في ظل المنظور البنائي العملياتي هي نسق يتكون من:

ـ بناء يتمثل في الأنماط أو السمات الثابتة كقولنا هذا الشخص ذكي أو اجتماعي أو انفعالي أو مزاجي ...الخ بمعنى إبراز أو تقرير السمة التي تغلب على طبعه وطبائعه. من حيث أن تلك السمة مفهوم مركب يتكون من أجزاء .

 ـ يتكون من عمليات وتتمثل في ما تقوم به تلك السمة كأجزاء في تحديد السلوك خلال المواقف العامة والخاصة في حياة الفرد أي الجانب الدينامي للبناء .فعند قيام شخص معين بحل مشكلة وتجاوز صعوباتها في موقف من مواقف الحياة بحيث يكون ذلك السلوك منسجما مع طبيعة ذكائه فتلك ما نسميها بالعمليات أي الجانب الدينامي للذكاء كسمة من سمات البنية الشخصية للفرد.

ونقف على فكرة البناء والعمليات في الشخصية بوضوح في نظرية فرويد في الشخصية حيث تتكون عنده كما هو معروف من بناء دينامي تفاعلي، أجزاؤها حددت بـ ( الأنا، والهو، والأنا الأعلى ) فهذه الأقسام الثلاثة تشكل البناء، أو البنية التكوينية للشخص، أما عملياتها فحددت في دينامية وتفاعل هذه الأجزاء وظيفيا،  فتنتج السواء وغير السواء والكبت والصراعات النفسية والتكيف واللاتكيف والتوافق واللاتوافق...الخ . 

 

ويمكن الاستدلال على البنيات والعمليات النفسية للشخصية بعدة طرق ووسائل علمية منهجية أهمها ما ابتدعه الباحثون في علم النفس .

ـ الاستدلال بالطرق المنطقية والعقلية:

 البناء السيكولوجي وعملياته لا يخضعان  للملاحظة المباشرة مثلهما في ذلك مثل الظواهر الطبيعية التي لا يمكن ملاحظتها بعينها كظاهرة كاكسدة المعادن فالذكاء او القدرة على التكيف أو سمة الانطواء لا يمكن رؤيتهما كمكونات رؤية مباشرة ويستدل على وجودهما بملاحظة ورؤية آثارهما، كما نستدل على وجود الكهرباء بالنور في المصباح .فبنية الشخصية هي عبارة عن سمات أو قدرات لها وجود افتراضي نستدل عليها بالأعمال النظرية والاستدلال العقلي والمنطقي .ولا نراها كوجود عيني . فلا نرى الشخصية وغنما نرى الاستجابات السلوكية الدالة عليها .

ويستخدم الباحث مجموعة من الآليات لممارسة الاستدلال على الشخصية منها على الخصوص :

أ ـ ملاحظة الأفعال والممارسات: حيث يراقب الباحث أفعال الشخص في مواقف محددة تلقائية أو هادفة منظمة أو عشوائية بحسب ما يهدف إليه الباحث ويراقبها من حيث دوافعها وأنماطها وأساليبها ومضمونها وأهدافها ...الخ .فيراقب مثلا سمة الانبساط من خلال ملاحظة الشخص المعني في مواقف حياتية من حيث تواصلهم مع الآخرين ومدى عزلتهم الاجتماعية ومدى انسحابهم الاجتماعي مثلا .

ب ـ استخدام الأدوات الأمبيريقية :

 يلجأ الباحث للاستدلال على الشخصية أو على سمة من سماتها استخدام الاستبيانات والمقابلات والتقارير اللفظية والاختبارات المقننة وهي الوسائل الأمبيريقية التي يستعين بها الباحث في جمع المادة العلمية الخام للاستدلال على الشخصية

ج ـ الاستبطان :

 وسيلة علمية أخرى يلجا غليها الباحث عند الاستدلال على البنية النفسية وعملياتها لفرد من الأفراد وهي تقرير ذاتي ممنهج بشكل ما على الفرد، ويستخدم الاستبطان خاصة في التحليل النفسي ومواضيع التي تستدعي خاصة التداعي الحر وهي وسائل تكشف عن مخبوءات النفس ومكبوتاته في اللاشعور والهو الموجودة في قاع الجبل تحت سطع الماء غير مرئي ـ حسب توصيف فرويد للشخصية ـ  ( الشخصية : 39 ) . ويستدل عليه فقط بالتحليل الاستدلالي المنطقي إذ يتعذر قياس الوعي والمكبوتات لأن الشخص عادة ما يعجز عن إدراك عمق ذاته ويكتفي بالسطح ( الشعور ) . 

د ـ المقاييس الفيزيولوجية :

 يستعان في الاستدلال على الخصية بالمقاييس الفيزيولوجية التي تفي بأغراض من غير الممكن أحيانا الحصول عليها في التقارير الذاتية أو تفادي نقصها كحالة الإخفاء أو عدم الوعي بالذات مثلا . فيلجأ الباحث إلى ملاحظة التغيرات الفيزيولوجية المصاحبة التي تظهر على المفحوص بالعين المجردة أو بالوسائل الطبية التكنولوجية وتدرج كمصدر للمعلومات

نظريات الشخصية : ـ

الشخصية من مواضيع علم النفس التي حظيت منذ انفصال علم النفس عن الفلسفة باهتمام الدارسين الأكاديميين على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الفلسفية والفكرية؛ فاختلف بشأنها وتباينت حيالها الآراء، وتراكمت حولها التصورات والمعارف والخبرات ونمت عبر سيرورة من الاجتهادات والبحوث النظرية والأمبيريقية، ونضجت مضامينها العلمية وطرقها المنهجية بشكل سمح بتكوين المفاهيم والأفكار المتسقة والمنسقة والوصول إلى بناء النظريات تفسر طبيعتها وديناميتها . ولكثرة هذه النظريات وتعذر الإحاطة بها جملة وتفصيلا نعتمد على تصنيفاتها كما رصدها " لا زاروس " في النظريات الوصفية و النمائية والبنائية ( الدينامية ) ثم المحددات  :

أولا : مقاربة النظريات الوصفية في تفسير الشخصية:

تتناول النظريات الوصفية البحث في الشخصية بسقف الأهداف الوصفية أي أنها تتوقف عند حدود وصف أبنيتها وتفاعلها كما هي تبدوا من خلال الاستنتاجات المنطقية أو التجريبية والأمبيريقية . وبالتالي فهي ذات مرجعيات فكرية وفلسفية تعود على وجه العموم إلى الفلسفة البنائية والوضعية،ولعل ابرز من ارتكزت بحوثه على البنية الشخصية ويمكن إدراجه ضمن النظريات الوصفية، هو فرويد مؤسس التحليل النفسي للشخصية، فالشخصية عنده تفسر في ضوء ( الأنا، والأنا الأعلى، والهو) كأقسام تشكل في تفاعلها جوهر شخصية الإنسان، فـا "الأنا" هو تعبير عن الخصائص التوافقية والانضباطية، "والأنا الأعلى" تعبير أو تمثيل للقيم والمثل العليا والضمير الجمعي الناتج عن التطبيع الاجتماعي. أما "الهو "هو خزان لكل الدوافع والغرائز والقوى المحفزة للسلوك ويحتل الجانب الأوسع من الشخصية . وتعمل هذه الأقسام كأنظمة فرعية تؤلف الشخصية والشخصية عند فرويد تعود إلى التفاعل الدينامي لهذه الأنظمة الفرعية من حيث هي الافتراضات النظرية للتحليل النفسي يفسر في ضوئها نمو الشخصية وتفاعلها وديناميتها ووظائفها  هذه

 وإذا كان فرويد في هذه المقاربة الثلاثية لطبيعة الشخصية يركز على الدور الحاسم لـ" اللاشعور" في عمل الشخصية ونشاطات الأنا فإن " كارل يونج Carl jung" وهو من أتباع التحليل النفسي يركز على العمليات الشعورية في تفسير الشخصية ودفع بمصطلح توكيد الذات من أهم مكونات البناء في الشخصية باعتباره الآلية النفسية في الاتساق بين الغرائز والجانب الروحي في الإنسان، وبذلك اختلف مع  فرويد في الافتراضات الأساسية، وبعد يونج صار في كثير من النظريات المعاصرة يدرج مفهوم الذات كنظرية ( كارل روجرزCarl Rogers) (1951) وابراهام ماسلو (1954)  Abraham Maslow كوحدة مركزية للشخصية، والشخصية في هذه النظريات تفهم من في ضوء كيفية إدراك الشخص لنفسه ( مفهومه لذاته ) فمفهوم الإنسان لذاته كما كونه الشخص عبر سيرورة تاريخه هو الذي يدفعه للاستجابة على نحو معين. وبترك يونج، وأوتو رانك Otto Runk(1952) التقسيم الثلاثي للشخصية برز إلى السطح في أبنية الشخصية عدة مفاهيم أخرى تفسر أبنية الشخصية وتصفها كـ "الإرادة Will" و" الإرادة المضادة Counter-will" من حيث هما في صارع دائم نتيجة الخوف من الانفصال والخوف المضاد من فقدان الهوية Identity والصراع ينتج عنه الشخصية العادية والسوية والفنية ( الشخصية : 53 ) .

وبجانب هذه الوصف الفرويدي للشخصية والمنشقين عنه برز إلى السطح أيضا نظريات من ابرز نظريات الشخصية هي نظرية الأنماط ونظرية السمات وتصنف ضمن النظريات الوصفية .

نظرية السمات : ( Traits)

ويعد جوردون ألبورت ( 1937 ـ 1961 ) عميدها بدون منازع، وتقوم هذه النظرية على استعدادات الفرد ونزعاته في استجاباته المتميزة والتي ينقلها من موقف إلى آخر فالاستعدادات السيكولوجية هي التي تجعل الفرد يستجيب في مواقف الحياة بطريقة معينة فعندما يلاحظ على غستجابات الشخص في مواقف عدة ومتكررة قلق بدرجة معينة فيوصف هذا الشخص بالقلق يعني أن تصرفاته تتسم بسمة القلق .

وتوجد أنواع كثيرة من السمات كسمات الدوافع وسمات المهارات والسمات المزاجية والأسلوبية، واختلف الباحثون في إدراج الدوافع من ضمن السمات، فنجد القائمة التي وضعها " كاتل (1951) Cattell " الدوافع تتضمن الدوافع، بينما ميز هنري " موري 1938 Murray " بينهما .

وبالملاحظة والدراسات الوصفية الأمبيريقية تمكن الباحثون من إنتاج عدد كبير من الكلمات التي تعبر عن سمات معينة فقد يوصف الإنسان بأحد الأوصاف التالية أو بعضها  فمثلا قد يوصف بأنه خجول، عدواني، خانع، سوداوي،  طموح ...الخ . والسمات في نظر البورت هي الخصائص المتكاملة للشخص نتعرف عليها عن طريق الاستدلال والملاحظة وميز بين سمات مركزية وهي السمات البؤرية التي تظهر على معظم مواقف الفرد واستجاباته وسمات ثانوية أو مؤقتة وتظهر أحيانا فقط .وترصد هذه السمات بطريقة المنحى المتفرد المقابل للمنحى الناموسي لأن السمات في نظر البورت ليست وحدات مستقلة فهي مجموعة متوافقة من الصفات تحدث نمط معين من الاستجابات فالسلوك لا يعود إلى سمة واحدة بل إلى مجموعة من السمات وهو ما يطلق عليه البورت مصطلح  }"الذات الممتدة المتميزة"  وهي ذات متصلة بالخصائص المميزة للشخص والتي نمت على مدى مراحل العمر تظهر على صفاته الجسمية وكيفية مفهومه لذاته وتفكيره العقلي واستجاباته في المواقف الوجدانية...الخ ولكنها عند البورت لا تشكل هذه الصفات ( إنسان صغير داخل الإنسان ) كما هي في بعض المقاربات .

وتمكن كاتل من وضع استبيان الشخصية للراشدين يقيس ستة عشرة سمة مركزية تفسر من خلالها متغيرات الشخصية ( 1 ). ونذكر من بين هذه المتغيرات كعناصر للشخصية ( المتكيف، مقابل الجامد،الانفعالي، مقابل الهادئ، حي الضمير مقابل عديم الضمير، متمسك بالعرف مقابل اللامبالاة بالعرف، الميل إلى الغير مقابل غير غيور، حذر مقابل متهور، مستسلم مقابل مصمم، رقيق مقابل عنيد، متواضع مقابل مغرور، وهن مقابل نشط)  ( الشخصية : 54 ـ 60 ) .

نظرية الأنماط ( Types).

النمط حسب التفسير السيكولوجي له يعني نظام متعدد من سمات مجمعة متعارضة يتم تبسيطها في قوائم قليلة، ( الشخصية : 63 )أي أن الفرد يكون منتميا إلى نمط معين من الشخصية إذا اتصف بمجموعة من السمات الدالة على ذلك النمط أو التي تعبر عنه. وقد ظهرت هذه المقاربة منذ أقدم العصور ففي اليونان نقرأ عند أبقراط أن الجسم يحتوي على أخلاط أربعة ( الصفراء والسوداء والبلغم والدم ) فتكون الشخصية بسيادة أحد هذه الأخلاط .

ويعتبر يونج ( 1933 ) أحد المنظرين البارزين المعاصرين لهذه الأنماط حيث صنف قائمتين عريضتين من السمات في:

1 ـ  المنبسط . (extrovert ): ـ وهو الشخص الذي يغلب على سلوكه طابع اجتماعي تواصلي منفتح .

2 ـ المنطوي ( Introvert). وهو الشخص الذي يغلب عليه الاهتمام في نفسه والتمركز حول ذاته .

وعند يونج لا يوجد فصل وتميز صارم بين النمطين فقد يكون الشخص منبسطا في التفكير ولكنه قد يكون منطويا في ممارسته للحدس فيركن لذاته .

أما عند فرويد فانماط الشخصية عنده تصنف وفقا لتطور النمو النفسي الجنسي، فالمراحل الجنسية ( الفمية، الشرجية، القضيبية، ) تبقى وظائفها مستمرة مع الفرد حتى ولو تجاوزها من الناحية العمرية، فالانسان يمكن أن يصنف في نمط الفمي إذا غلبت على تصرفاته الاتجاهات السلبية الاتكالية، ويكون شرجيا إذا غلبت على تصرفاته العناد والنظام والبخل أو العدوان والمشاكسة، ويكون قضيبيا إذا غلبت على تصرفاته عدم النضج في المراهقة . وهكذا فالفرد يصنف ضمن نمط معين من أنماط الشخصية إذا امتلك مجموعة من السمات توضع طوبولوجيا تحت نمط محدد .

ويوجد اختلاف بين النظريات الوصفية بل وفي علم النفس عموما في  تحديد وحدة التحليل عند وصف شخصية الفرد؛ فهناك من النظريات من تعتمد الشخص في الموقف كأساس للتحليل وهي النظريات التي ترتكز على المثير كما لو أنه كحقيقة موضوعية طبيعية منفصل على الذات يستجيب له الفرد وفقا لخصائصه وتوصف هذه الطريقة بأنها تفاعلية بين خصائص الفرد وبين الموقف المثير . وتوصف الشخصية في ضوء المكتسبات  المتعلمة كعادات سلوكية . وتدرج النظريات التكيفية والتعلم كنظرية السلوكية ونظرية كلارك هل وميللر ضمن هذه المقاربات .

أما الطريقة الثانية فتعتمد الفرد وحدة للتحليل كذات فتركز تحليلها على إدراكات الفرد للموقف وكما يراه هو وليس على الموقف أي أن المثير كما ندركه .والنظريات التي تتبنى هذه المقاربة هي النظريات الموصوفة بالظاهراتية ( Phenomenological) وتعتقد هذه النظريات أننا نستجيب للمثيرات وفقا لتصوراتنا التي كوناها حوله أي أن المثيرات ليست كما هي في الواقع بل هي كما وصلت إلى أذهاننا واستقرت؛ فالأبنية والعمليات الوسيطة التي تجري داخلنا هي ما يحدد الاستجابة وليس المثير كما هو في الواقع الخارجي، ومن ثمة يتعين عند دراسة الشخصية والوقوف على أوصافها أن نركز على العمليات المعرفية والادراكية أي العالم الظاهري وليس الموضوعي . ونذكر من بين هذه النظريات، النظريات التي تعتمد مفهوم الذات، كنظرية روجرز وابراهام ماسلو، والنظريات التي تعتمد معارف عن العالم كنظرية ليكرت ليفن التي تعتمد على حيز الحياة المؤلفة من حاجات الفرد وإمكاناته المتاحة للفعل كما يدركها. ( الشخصية : 67 ت 77 ) .

ثانيا : ـ المقاربة النمائية في تفسير الشخصية :

تعتمد المقاربة النمائية في تفسير الشخصية على نمو الشخصية، وتحديد مراحلها العامة، حيث تؤسس تحليلاتها لطبيعة الشخصية على مراحل نموها بدءا من مرحلة الجنين إلى آخر مراحل العمر، وتبرز نظرية التحليل النفسي ونظرية بياجيه التفاعلية التكوينية من أبرز هذه المقاربات النمائية في وصف وتحليل الشخصية، في جميع مراحلها، ولم تقتصر هذه المقاربة على تحليل الشخصية من مرحلة الميلاد بل حاولت أ، تتوجه لدراسة مراحل الشخصية في المرحلة الجنينية،  فوصفت الشخصية في المرحلة الجنينية بناء على تطور استجابات الجنين الموضعية، فتتميز شخصية الجنين بالاستجابات غير المحدد الموضع للاستثارات التي يتلقاها حيث يستجيب بكامل جسده ثم تبدأ مع التقدم في النمو نحو تخصيص الاستجابات وتحديدها تدريجيا، حيث وجد أن استجابات الحميل اكثر تمركزا وتحديدا من الجنين في مرحلته التكوينية الأولى، والتقدم في تخصيص الاستجابات يعد القانون البيولوجي الذي يحكم الشخصية في جميع جوانبها فالانتباه هو الآخر من حيث هو جزء من البناء النفسي يخضع للقانون المذكور وبالتالي فالمقاربة البنائية تتجه نحو رصد المراحل العامة التي تمر بها أبنية الشخصية فحتى الجنين كما رأينا يتجه التركيز في دراسة شخصيته حول مراحله العامة ( الجنين ثم الحميل )( 2) ولا ينتبه في هذه المقاربة إلى العوامل التي تفسر النمو بذاته .

مقاربة التحليل النفسي  

تعتمد هذه المقاربة كما أسلفنا على تحديد مراحل نمو الشخصية، من حيث نمو العمليات الدافعية والانفعالية على الخصوص والتي ترافق البناء الجسمي والنمو الجنسي، وقد قسمها فرويد إلى أنماط من التطور النفسي الجنسي متعاقبة زمنيا، فتمر الشخصية في نظره بالمرحلة الفمية والشرجية والقضيبية ثم التناسلية، وهذه المراحل هي بمثابة أنماط للشخصية تميز مرحلة عن أخرى وشخص عن آخر، فيوصف الفرد بأنه فمي أو شرجي أو قضيبي الشخصية بناء على أنماط سلوكاته وتصرفاته، في الحياة المواقفية العامة، فالمعطيات الأمبيريقية تؤكد مثلا على أن الشخصيات الفمية تكون ذات طابع إتكالي، وتكون الشخصيات الشرجية عنيدة تقاوم السلطة، ( الشخصية : 84 ـ 87 )  وهذه المراحل من حيث هي أنماط لا تتوقف عند مرحلة من مراحل العمر بل تستمر مع الشخص طول حياته فتطبع بها كل سلوكاته وتعتبر بمثابة محددات للسلوك، أو تتحدد من خلالها الخصائص العامة لكل مرحلة وبالتالي فهي بمنزلة القانون الذي يحكم الشخصية في جميع أطوارها .

ثالثا : ـ المقاربة التفاعلية التكوينية في تفسير الشخصية

تعتمد هذه المقاربة في تفسير الشخصية والوقوف على طبيعتها ومن ثمة الوصول على عوامل تفاعلها، على النمو المعرفي بدلا من النمو الدافعي والانفعالي كآلية منهجية في تحديد مميزات الشخصية .وتستند تفسيراتها على المعطيات الفرضية لنظرية دارون في التكيف كما هو الشأن في نظرية التحليل النفسي، فتطور السلوك إنما هو تطور في التكيف مع مثيرات البيئة يحافظ فيها الفرد على توازنه الذي يفتقده الفرد بما تحدثه البيئة من تغيرات وحالات الاضطراب في التوازن .( الشخصية : 88 )

 وبالمعطيات الأمبيريقية التي تحصل عليها بياجيه في اكثر من تجربة وعينة وأسلوب توصل إلى تحديد معرفي دقيق لمراحل نمو الشخصية، حيث يقسمها إلى مراحل رئيسية خمسة يوردها الباحثون بأسماء متبيانة فهي في ترجمة السيد نفادي يثبتها كالتالي:

مرحلة السلوك الحسي الحركي  ومرحلة ما قبل إدراك المفاهيم، مرحلة النمو الحدسي ( التخميني )، مرحلة العمليات الحسية المباشرة، مرحلة العمليات الصورية . ( الابستمولوجية التكوينية : 27 ـ 28 ) . أما مريم سليم فيثبتها في خمس مراحل بدلالة نمو الذكاء ومفهومه : الذكاء الحس حركي، مرحلة الصور العقلية، مرحلة الذكاء الحدسي، مرحلة الذكاء الحسي، مرحلة الذكاء المجرد(علم تكوين المعرفة : 196 ـ 200 )     

ويفضل لازاروس التقسيم الثاني لمراحل الشخصية عند بياجيه وتجزئتها إلى مراحل فرعية كالتالي: 

   ( المرحلة الحسية الحركية، ثم المرحلة التصورية ) وتمتد المرحلة الحسية الحركية من الميلاد حتى السن الثانية ويكتسب فيها الطفل المعرفة بالأياء وتضم ستة مراحل فرعية وهي مرحلة الفعال المنعكسة كالمص، ثم الاستجابات الدائرية الأولية ، حيث يكرر فيها الطفل إستجاباته بغرض التكرار، كالعبث المتكرر بالأصابع، ثم الاستجابات الدائرية الثانوية القصدية في المرحلة الثالثة، حيث يكرر فيها الطفل سلوكات تحدث تغييرات في البيئة سارة له .وفي المرحلة الفرعية الرابعة فتظهر في التآزر بين الاستجابات حيث يبدأ الطفل في حل المسائل البسيطة، وفي المرحلة الفرعية الخامسة تتميز الشخصية معرفيا بالاستجابات الدائرية الثلاثية حيث تعتمد الخصية في أساليبها في الحياة على المحاولة والخطأ حيث يستخدم الطفل البدائل ويميز عالم الأشياء في استقلاليته عن ذاته، ثم تتطور الشخصية إلى المرحلة الفرعية السادسة والأخيرة في المرحلة الحسية ويسميها بياجيه المرحلة التجميعات العقلية حيث يظهر الطفل في تعامله مع الأشياء إستبصاريا في إدراكاته وتفكيره . وبنهاية هذه المرحلة في السنة الثانية تنتقل الشخصية إلى المستوى التصوري .

المرحلة التصورية: ـ  وهي المرحلة التي يمارس فيها الفرد التفكير المجرد والفرضي الاستنتاجي وهو ظاهرة تدل على تقدم الشخصية في التفكير المستقل عن وجود الأشياء حيث تتشكل في ذهن الفرد معاني الأشياء لتصبح صور ذهنية رمزية،  وتصبح الشخصية أكثر ميلا  واعتمادا على الرموز كاللغة في تعاملها مع الأشياء والمحيط، وتنقسم هذه المرحلة الكلية إلى أربعة مراحل فرعية كما حددها بياجيه وهي

مرحلة ما قبل التصورية: وتتميز بإعطاء معاني للأشياء فالدمية تأخذ معنى الأم أو الأم أو العروسة، ثم مرحلة التفكير الحدسي حيث تبدأ الشخصية بتكوين تصورات أكثر تعقيدا، ولكنها لم تنفصل عن عالم الأشياء حيث يدرك الطفل في نطاق الحس والخبرة الادراكية العينية، فالطفل يدرك تساوي عدد الأشياء موضوعة في إناءين متساويين، ولكنه لا يحتفظ بالتساوي إذا أفرغنا أحدهما ووضعنا نفس العدد في إناء أصغر أو أكبر من الإناء الأول.ثم المرحلة الثالثة وتسمى بالمرحلة العمليات المحسوسة حيث يدرك فيها الطفل الكمية كما هي أي يدرك التساوي حتى ولو اختلف الإناء حجما وشكلا وهو ما يعني أن الشخصية بدأت تميز بين مفاهيم الأوزان والأحجام والوزن والارتفاع  بغض النظر عن المحتوى الادراكي، ( علم تكوين المعرفة : 115 ) . ثم تنتقل الشخصية طورا أكثر تقدما في النمو المعرفي إلى المرحلة الفرعية الموالية والأخيرة في المرحلة التصورية وهي (مرحلة العمليات الشكلية ) حيث يمارس الشخص بكل وضوح التفكير التجريدي الرمزي الافتراضي مستقلا تماما عن عالم الحس؛ إذ يستطيع الشخص أن يتعامل مع الأشياء والحوادث تفسيرا وتخطيطا وتقييما بشكل تصوري دون أن يراها أو يلمسها .

فهذه المراحل التي حددها بياجيه من خلال دراسته لتطور العمليات المعرفية الادراكية وتفاعلها مع البيئة هي بمنزلة المحددات الرئيسية لمميزات الشخصية، فتوصف الشخصية بأنها حسية حركية إذا طغى عليها التفكير الحسي، وتوصف بأنها تصورية تجريدية إذا طغى عليها التفكير التجريدي أو الفرضي الاستنتاجي .

رابعا : ـ المقاربة الدينامية في تفسير الشخصية

يقصد بدينامية الشخصية متحركية السلوك أو القوى التأثيرية على سلوك الفرد وتفاعلات أبنية وعمليات الشخصية، ودراسة دينامية الشخصية تعني التركيز والانتباه إلى هذه القوى المحركة للسلوك وتنظيماتها داخل الفرد والطريقة التي تعمل بها، أي دراسة الدوافع من حيث هي قوى تدفع وتوجه السلوك .

والدوافع لدى علماء النفس نوعان دوافع أولية أو الغرائز وتتعلق بالحاجات البيولوجية أو الفطرية التي يولد بها الإنسان ويعبر عنها بالقابلية للاستثارة وهي مرتبطة بخفض حالة التوتر واللاتوازن في العضوية على المستوى البسيط التي تكون فيها العلاقة بين المثير والاستجابة واضحة ومباشرة كحالة الجوع والعطش والجنس فعادة ما يتم إشباعها بالطريقة المباشرة ...الخ .أما الدوافع الثانوية أو المكتسبة فهي تنشط على مستوى أعقد وأرقى في نطاق المجال النفسي والوعي لأنها مكتسبة بالخبرة الاجتماعية، وهي ترتبط بالجانب الاجتماعي وتظهر نتيجة التعلم كدافع الأمن وتحقيق الذات والتكيف الاجتماعي والتفوق مثلا . فهذه الحاجات معقدة ودينامية غير ثابتة. والإنسان هو الكائن الذي ينقاد بدوافعه النفسية وليس البيولوجية فالوعي بالحاجة تتحول إلى رغبة عند الإنسان بفضل الوعي والإدراك، وعند الحيوان تبقى في مجالها الحيوي ترتبط بالغريزة من حيث هي محرك،  أما الحاجة عند الإنسان هي إحساس بالتوتر يولد رغبة من حيث هي شعور بالتوتر ومعرفة بالموضوعات التي تخفض التوتر وإدراك لأساليب الحصول على تلك الموضوعات التي تبع الحاجة وتخفض التوتر .  ( مدخل إلى علم النفس : 229 ـ 233 ) 

والدوافع في الشخصية من الناحية الوظيفية تكاد تنحصر عند معظم نظريات علم النفس في ثلاث هي :

ـ خفض التوتر ـ التأثيرية ـ القوة الدافعة من أجل النمو ( الشخصية : 98 ) .

1 ـ آلية أو قوى خفض التوتر: ـ  ويعني بها الجهد الذي يبذله الفرد من أجل خفض توتره وتحقيق حالات التوازن الداخلي للفرد والحفاظ عليها، فالسلوك إن هو إلا ناتج عن شعور الفرد بحالة عدم التوازن كالجوع والعطش مثلا فيدفعه ذلك الشعور والإحساس إلى القيام بأنشطة ( السلوك ) بما يحقق له  ـ كما يدرك هو ذلك استعادة التوازن ـ أي أن الإنسان يسلك بناء على هذا الدافع السلوك التكيفي . وهذا التفسير قد يبدوا بسيطا وساذجا في تفسير السلوك بالدافعية إلا أنه ينبني على الفكرة الدارونية القائلة بالانتخاب الطبيعي وهو المبدأ الذي يفسر في ضوئه كل مظاهر الانقراض في النوع أو الصفات البيولوجية، فالأنواع تنقرض بسبب عجزها عن التكيف ومن ثمة فالإنسان والحيوانات المتكيفة مع البيئة هي الأنواع ذات القوى التكيفية مع البيئة أو التي تملك القدرات التي تمنع حدوث اللاتوازن وإن حدث تستطيع بالسلوك التكيفي إستعادته.

وعادة ما يكون سلوك خفض التوتر متعلما أي أن الإنسان يتعلم كيف يحفظ توازنه الحيوي بواسطة ما يعرف في علم النفس بالارتباط، فالأفكار والأفعال ترتبط ببعضها البعض وتقترن بينيا في المكان والزمان . والإنسان يتعلم السلوكات التي تخفض له التوتر بادراك العلاقة الارتباطية بين السلوك وحصول الإشباع، أو بتعبير آخر يتعلم السلوك الذي يؤدي إلى الإشباع ويثبت ذلك السلوك كسلوك ناجح ( التدعيم والتعزيز ) ويستبعد السلوكات غير الناجحة ( الانطفاء ). وينتج عن آلية التدعيم تعميم المثير في المواقف المشابهة سواء تلك المتعلقة بالتكيف أو اللاتكيف .

والدوافع كأوالية لتفسير الشخصية نجدها عند فرويد مقسمة على أساس غريزتي الحياة والموت ( اللوتو س والثاناتوس) فالإنسان كسلوك إنما هو بحث مستمر عن اللذة وتجنب الألم وعدلها الفرويديون الجدد يونج وادلر، وإريك فروم بأن الدوافع هي في المحيط الاجتماعي أكثر مما هي في البنية النفسية الداخلية للفرد( الفرويديون الجدد :     )

آلية التأثيرية : ـ ويقصد بها رغبة الإنسان أو دوافعه في التأثير على البيئة، وتدرج كمقابل لنظرية التحليل النفسي في تفسير السلوك والشخصية فـ " روبرت هوايتRobert white  "  يرى أن التأثير في البيئة خاصية أساسية للسلوك الإنساني وتعد حافز أولي كحافز الجوع والعطش واعتبرها خاصية تولد مع الطفل وتظهر في شتى سلوكاته فتعلم الطفل لا تنصب فقط على كيفية الإشباع بل أيضا أن ألعابه ومواجهته للحياة والصعاب هي كلها من فعل نزعة التأثير في المحيط وهي النزعة التي لا يجب أن نقلل من أهميتها في التأثير في الشخصية . ( الشخصية : 118 ـ 120)

نموذج القوة من أجل النمو

آلية من آليات فهم الشخصية في الثقافة النفسية المعاصرة وتقوم على فكرة الاعتقاد بأن الإنسان مزود فطريا بدافع النمو فهو نزاع بطبيعته إلى تحقيق كماله ونضجه في شخصيته، ويظهر هذا النزوع جليا كلما تمكن الإنسان من فرصة التعبير عن حاجاته للنمو والتعبير عن أسمى معاني وجوده كالإبداع وممارسة إنسانيته فإنه يحقق ذلك . فالإمكانات الفطرية الكامنة داخل الفرد تظهر كلما تعرضت للإثارة والاستفزاز وتتحول من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، ومن ثمة تكون البيئة والمثيرات الخارجية ذات أهمية قصوى في استخراج ما هو كامن في الإنسان .

وقد أسس كثير من الفرويديون الجدد وكذا أفكار كارل روجرز(1951 ) وابراهام ماسلو ( 1954 ) أفكارهم حول الشخصية على هذه المقاربة التي تطرح الذات العليا الواعية بالآخر كفاعل أساسي في الشخصية؛ حيث يعتقدون أن الدوافع توجد في الوقائع والأوضاع الاجتماعية والبيئية أكثر من كونها داخل الإنسان وفي مجال غرائزه، ويؤكدون على البعد الاجتماعي للشخصية والأصول الاجتماعية للدوافع ولا يمكن تجاهل ذلك عند أي دراسة للشخصية، ومن ثمة تجاوزوا بمقولاتهم تلك اختزال التحليل النفسي للإنسان في الطاقة الجنسية ( الليبيدو ) فلإنسان يعبر عن أولى معاني الوجود حينما تسمح له الفرصة بذلك، فهو يصبوا في كل تصرفاته إلى أعلى من الإشباع الغرائز وتفريغ الطاقة النفسية، فالمراهق مثلا يبحث دوما عن فرص الاستقلال الذاتي والاعتماد على النفس حتى ولو كان أكثر أمنا في حضن أسرته، بل أن الإنسان يخاطر بنفسه ووجوده في سبيل تحقيق ذاته وشخصيته، إنها الفردية من حيث هي في نظر هؤلاء السمو الطبيعي للإنسان نحو المزيد من النمو . وهذا ما يسمى بدافع تحقيق الذات وهو المصطلح الذي دفع به كارل روجرز إلى السطح في كل البحوث النفسية المعاصرة حول الشخصية . كما لو أنه الدافع الأكثر قوة وفعالية من الدوافع الأولية في دينامية الشخصية، فالإنسان في سياق نموه يتحول في استجاباته من حالتها الطبيعية ( الأفعال المنعكسة الشرطية ) إلى حالته النفسية الثقافية ( الاستجابات المركبة الواعية )، فكلما ارتقى الإنسان نحو مزيد من الوعي بذاته وبالآخرين ومحيطه كلما ارتقت استجاباته بحيث يكون أقل خضوعا للبيدو كما يقول يونج ( 1953 ) .وبالتالي فإنه يمكن الحديث عن أن الإنسان يمتلك نزعة طبيعية للاهتمام بالمصلحة الاجتماعية والاتصال بالآخرين من أجل تحقيق فرديته واستقلاليته وقد ذهب إريك فروم فروم إلى أن الفردية كفطرة يتوقف التعبير عنها في الحياة على نمط المجتمع والإمكانيات التي يتيحها للفرد من أجل التعبير عن ذاته . ومن هذه الأوليات وضع ماسلو هرمية الحاجات تبدأ قاعدتها بالحاجات الأولية البدائية لترتقي في السلم الهرمي إلى حاجات الانتماء والحب والتقدير والمعرفة أي من حاجات البقاء إلى حاجات المعرفة . وهو ما يعبر عنه بتحقيق الذات الذي يتم في نطاق معين من إدراك للذات والمجتمع الذي يسمح بالاستقلالية والفردية دون ضغط أو كبت أو اغتراب عن الذات والرمزية الاجتماعية . وتلك هي الهوية . ( الشخصية : 118 ـ 120 ) .وكلما تمكن الأفراد من إشباع حاجاتهم للانتماء والتقدير والمعرفة في سياق ‘اجتماعي معين كلما انخفضت التوترات الفردية والاجتماعية وحصل الاستقرار وتحقق الأمن الفردي والاجتماعي، وتقلص العنف والعدوان . ولا يتم ذلك بتنازل الأفراد عن أنانيتهم أو بما يؤثرونه من مصالح اجتماعية عن مصالحهم بل بما يحصل من تآزر المصلحة الاجتماعية والفردية في الهوية الفردية والهوية الاجتماعية في آن معا .

محددات الشخصية

من الواضح مما سبق أ، مقاربات الشخصية التي تم عرضها متباينة، وأن هذا التباين إنما يعود إلى الاختلاف في إدراك محددات الشخصية، حيث تعاملت مع المحددات بشكل تراتيبي، فتبرز أهمية بعضها وتهمش أو تهمل بعضها الآخر بناء على منظومة الإدراك والمسلمات القائمة في النسق المعرفي المتبنى . فما هي إذن المحددات ؟

المحددات هي المرجعية التي تفسر في ضوئها كل سلوكات الفرد، ويعود إليها، أي أنها القوى التي تحدد طبيعة السلوك وتوجهه وفي عرف علماء النفس أن هذه المحددات تصنف إلى مجموعتين :

مجموعة العوامل الوراثية ـ مجموعة العوامل الاجتماعية .

أ ـ مجموعة العوامل الوراثية :

ويقصد بها المكونات العضوية المادية والأنظمة البيولوجية والأجهزة العصبية والغدية والخلايا والأنسجة العضلية التي يتكون منها الجسد، وتعمل هذه المكونات كقوى تؤثر على سلوك الفرد في مواقف حياته فالطول والقصر والصحة والمرض والبنية الجسمية والغدد ثبت أنها قوى توجه السلوك وتؤثر فيه وبالتالي فتدرج ضمن محددات السلوك . وهي مجموعة تجعل الإنسان خاضع للحتمية والقوانين الفيزيولوجية كباقي الكائنات الأخرى مع فارق في طبيعة البنية التركيبية والتكوينية العالية لهذه الأجهزة لا سيما الجهاز العصبي المركزي الذي يتميز عند الإنسان بخصائص تتعلق بتفرده كإنسان .

وتبرز أهمية هذا الجانب البيولوجي الحيوي للإنسان في أنه ركن أساسي من أبنيته وبالتالي لا يمكن فهم شخصية الإنسان إلا بمعرفة تفاصيله، حيث أ،ه لا ينفصل عن البنيات النفسية والثقافية والاجتماعية التي تكون الإنسان كوحدة .وإذا كان البيولوجي يدرس هذا الجزر من الأبنية في ذاتها فإن السيكولوجي يدرسها من حيث وظائفها النفسية .

فمن حيث ما نرثه من السمات فقد تبين من البحوث البيولوجية والسيكولوجية لوظائف أعضاء الجسد أن بعض السمات التي تظهر على الشخص وتبرز عبر مراحل تكونه تكون قد انتقلت إليه وراثيا، كما أ،ه توجد صفات في النوع وفي الأباء، لا تنتقل بفعل ضغوط البيئة، كما أننا نورث القدرات التكيفية بمقادير وكيفيات مختلفة ومتباينة من فرد لآخر . ووجد أ، تغيرات البيئة والمحيط تدفع بسمات للظهور والبروز دون أخرى، وهذا ما يفسر التقدم في المجال الثقافي وسرعته في عصر دون آخر؛ فالبيئة هي ما يسمح أ, يكبت العوامل الفطرية والوراثية، فطفل العصر الحجري هو نفسه طفل اليوم في الذكاء الموروث؛ إلا أن طفل اليوم تساعده الظروف البيئية بأن يكون مهندسا وطبيبا ومبدعا خلاف طفل العصر الحجري الذي لا يستطيع إلا أن يكون شبيه في تصرفاته البدائية للحيوان، كأن يكون جامعا للغذاء وصيادا فقط ولا يستطيع تجاوز ما قررته له بيئته وما تعرضت له عضويته من إثارة بيئية .( الشخصية : 142 ) .

وعليه فالمكونات الفطرية الوراثية وتسمى القابلية للتوريث تعد من أهم محددات السلوك لأن التشابه الملاحظ في دراسة السلالات من ناحية البيئة الجسمية والبنية النفسية والسمات المتشابهة بين الآباء والأبناء لا لا تفسر إلا في ضوء العوامل الوراثية بوصفها أحد المرتكزات الأساسية في الشخصية والتأثير في السلوك .

وإذا كانت السمة الوراثية يتوقف تموها وبروزها إلى حد بعيد على البيئة والمثيرات، وأن السلوك الإنساني إنما هو تفاعل بين الفرد وبيئته إلا أن علماء النفس درسوا مقدار ما يعزى في سلوك ما إلى البيئة والمقدار الذي يعود للوراثة . وخضع الذكاء في هذا المجال لقسط وافر من الدراسات والبحوث الأمبيريقية والتجارب المخبرية على السلالات العائلية والبيئات المختلفة والتكوين البيولوجي للفرد وأنظمته الحيوية ووظائفها على التوائم ...الخ فوجد أن السمات في الشخصية تتباين من حالة إلى أخرى، فتكون قريبة من الصفر من حيث معدل ودرجة التباين بين الأشخاص، في حالة التوائم المتماثلة، وتكون أكثر تماثلا  وتقاربا في حالة التوائم المتماثلة وفي بيئات متجانسة، وتكون أقل من ذلك في حالة التوائم العاديين أو في حالة بيئات متنوعة ومغير متجانسة، وتتباين أكثر عند السلالات المختلفة، كل هذه تشير إلى أثر العوامل الوراثية في السلوك لا سيما ما لوحظ من توريث للأمراض والتخلف العقلي . ( الشخصية : 150 ـ 172 ) .

وبهذه الدراسات سادت ثقافة التمييز في القدرات العقلية بين الأفراد تبعا لمورثاتهم ومنها ثقافة التفريق بين السود والبيض في الأوضاع الاجتماعية تبعا للفروق في مورثاتهم من الطاقة العقلية، كما صممت روائز الذكاء والاختبارات النفسية للفرز المهني والاصطفاء المدرسي محاكاة للاصطفاء الطبيعي الدارويني .

العوامل الاجتماعية : ـ 

درست العوامل الاجتماعية كمحددات ومن حيث تأثيرها على الشخصية من زاويتين أساسيتين :

زاوية المواقف السلوكية ـ وزاوية نمو الشخصية

أ ـ زاوية المواقف السلوكية الراهنة : ـ شكلت مواقف السلوك في الوضع الشخصي الراهن مادة خام لدراسة العوامل الاجتماعية وصلتها بنمط الشخصية وسماتها وديناميتها وأبنيتها النفسية وحتى البيولوجية، ذلك أن الوضع الراهن وما يصاحبه من مواقف سلوكية لا ينفصل عن الأوضاع الاجتماعية من ثقافية واقتصادية ومؤسساتية وأسرية وعلائقية، فالشخص في المواقف الحياتية هو بالضرورة في علاقة بالآخرين يتأثر بهم ويؤثر فيهم في لحظة المواقف والعلاقات المباشرة ويتأثر بهم في المواقف غير المباشرة بفعل ما خزنه من أفكار وتوجيهات في ذاكرته ويسترجعها من حين لآخر في مواقف مشابهة سلوكية أو تأملية منطقية . كما درست مواقف الفرد وأثرها على الجماعة ومساهمته في توجيهها وبنيتها ووظائفها وطاقتها ...الخ

والمواقف السلوكية الراهنة للفرد تتأثر وتؤثر بالعوامل الاجتماعية بطريقة مباشرة، فالشخص في أي موقف مباشر مع الشخص أو الجماعة الأخرى يكون الشخص بمثابة مثير للشخص الثاني والعكس صحيح، وتنتقل التغذية الراجعة من الشخص الأول إلى الشخص الثاني وبالعكس كذلك، حيث يتزود كل منهما بمعلومات تحدث تغيرات طفيفة أو كبيرة في شخصية كل واحد منهم، من الناحية المعرفية والوجدانية والعقلية خاصة.

وتبقى درجة التواصل والتفاعل والسياق الاجتماعي والبيئي والوضعية التفاعلية هي متغيرات تسمح بدرجات متفاوتة من التأثيرات ووجهة تلك التأثيرات وقيمتها ومعدلها الحاصل لدى كل طرف من الأطراف المتفاعلين . ويتوقف ذلك على مدركات كل طرف ووعيه بالآخر وبذاته حيال الموقف التفاعلي، أي كيف يدرك كل طرف نظيره الآخر . ولا يتوقف تأثير المتفاعلين على بعض جوانب الشخصية دون الأخرى، فالشخصية دينامية في طبيعتها ومتفاعلة ككل، وبالتالي فالتأثير الاجتماعي في الموقف الآني يطال كل الوظائف النفسية . وأبرز عامل بيئي اجتماعي في التأثير في الشخصية هو عامل التعليم والتعلم بما يتضمناه من تنشئة اجتماعية وتطبيع اجتماعي ثقافي، حيث يعمل التعليم والتعلم على تغيير السلوك من خلال مثيرات البيئة، إما بالدمج أو الاستقلالية .كما أن اللغة من حيث هي رموز ومعان ودلالات يتواصل بها الناس ويتبادلون الرسائل الوجدانية والاجتماعية أو الموقفية أو الأداتية الانجازية . فهي من أهم  مرتكزات التأثير على الشخصية .

ودرست العوامل الاجتماعية في المواقف الآنية من حيث تأثيراتها على الشخصية بعدة أساليب وطرق كوضع الأشخاص في مواقف اجتماعية آنية حيث وجد أن الاستجابات الأفراد في مواقف اجتماعية مختلفة ومتباينة من فرد إلى آخر وهو ما يفسر أثر البناء النفسي لكل شخص كما وجد أن الفرد الواحد تتباين استجاباته في المواقف الاجتماعية حيث تختلف في وضعيته الانفرادية عن وضعيته في جماعة . كما وجد أ، الفرد مع الجماعة تتأثر مواقفه بمعايير الجماعة وتختفي بدرجة ما معاييره الفردية، ونذكر من بين الدراسات التي أجريت بهذا الصدد دراسة " آش "( 1952 ، 1956 ) التي أكدت تأثير وضغط الجماعة على سلوكات الفرد في إحدى تجاربه على الإدراك وتعديل أخطاء الأفراد بواسطة الجماعة، ونذكر أيضا دراسة " شريف " المشهورة التي طلب فيها المفحوصين تقدير حركات نقطة الضوء في غرفة مظلمة جدا فكشف أ، المفحوصين يدركون حركة الضوء بشكل متباين في الوضعيات الانفرادية والوضعيات الجماعية، حيث يتأثرون في مواقفهم السلوكية بمعايير الجماعة عندما يكونون في الوضعية التفاعلية مع الجماعة . ( الشخصية : 176 ـ 177 ) .

ب ـ النمو الاجتماعي للشخصية : ـ من العلوم أ، لا أحد في علم النفس ينكر أن الشخصية تنموا في وسط بيئي طبيعي فيزيقي واجتماعي إنساني، وأننا نتشكل عبر السنين من التفاعل لنصير على نمط معين، فكما أننا نتأثر سلبا وإيجابا بتكويننا البيولوجي الموروث وببنيته ووضعياته، فإننا أيضا لا نفلت في كل لحظات أعمارنا من تأثير النظام الاكولوجي البيئي والنظام الاجتماعي والأسري والتربوي أي أن الشخصية صيرورة تاريخية وما نحن إلا حصيلة تفاعل الموروث بالبيئي، فدراسات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية ومعطيات علم السكان تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإنسان بن بيئته، وأنه يتشكل في مدركاته وأنماط حياته وسمات شخصيته في سياق ثقافي تربوي معين وضمن منظومة رمزية وإيكولوجية، فالتربية وعوامل التنشئة الاجتماعية تؤثر في شخصية الفرد من حيث الاعتماد والاستقلال، فهي إما عامل اجتماعي يساعد على استقلالية الفرد وتحقيق فردانيته، وإما أن تكون عامل دمج في القيم الثقافية والرمزية والمعايير الاجتماعية، كما أنها تشكل للفرد نمط تفكيره واتجاهاته ووجداناته وحتى أذواقه ونمط معيشته وهو ما يسمى في علم النفس بالتوحد وامتصاص قيم المجتمع بالتعلم والتربية .

والطبقة الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للفرد تعد هي الأخرى أحد العوامل الاجتماعية البارزة في التأثير على شخصية الفرد، فوجد أن نمط تفكير الأفراد من طبقات فقيرة تختلف عن أنماط تفكير للأفراد المنتمين إلى طبقات غنية وثرية ماديا، وتشمل الاختلافات جميع أنماط السلوك، كالتفكير والعلاقات الاجتماعية والوجدانية والاتصالات والمستوى التحصيلي والتعليمي ...الخ وعليه فالنظام الاجتماعي بما يشتمل عليه من أنظمة ثقافية واقتصادية وسياسية وإيكولوجية كيف ما كانت هذه الأنظمة تؤثر في تشكيل الشخصية سلبا وإيجابا من حيث طبيعتها ونمطها ونموها وديناميتها . 

ونخلص في هذه المقاربة في محددات الشخصية إلى أن شخصية الإنسان ذات بعدين بيولوجي ـ نفسي تتأثر بالعوامل الوراثية والعوامل البيئية بالتفاعل، هي محصلة القوى الفردية والاجتماعية، وأن أي تحليل للشخصية يتعين عليه أن يأخذ هذه الرؤية المزدوجة للوقوف على فهم أعمق للشخصية وتحديد أوسع لعواملها التي تتأثر بها في مواقف الحياة المختلفة .

تقييم الشخصية

كل نشاط علمي يستدعي تقييم لمدخلاته ولسيرورته ومحصلاته ونتائجه،بناء على معايير محددة، والشخصية من المواضيع العلمية في علم النفس التي حظيت بالتقييم، الموضوعي العلمي وطبقت عليها مناهج وأبدعت لقياسها أساليب وأدوات مقننة شتى، وشمل القياس الشخصية ككل وفي جزئياتها وتفاصيلها . فهي تقيم من خلال دراسة السمات والتي تشكل البناء الكلي للشخصية، وتدرج في الدراسة كما لو أنها أجزاء تكون الكل، أو من خلال دراسة الشخصية ككل لا يتجزأ إلى سمات أو وحدات سيكولوجية وتبحث الشخصية في ملامحها العامة ( الملمح العام للشخصية ) . وتقوم عملية التقييم على عدة مبادئ من مبادئ القياس النفسي كالتقنين وتصميم الوضع التجريبي أو البحث الأمبيريقي وبرمجة الملاحظة والمقابلة، وتكوين الأدوات وبحث صدقها وثباتها وقدرتها على قياس ما وضعت لأجله بالطرق الإحصائية . ويتبع الباحث أساليب عدة في دراسة الشخصية كتاريخ الحالة الشخصية وتاريخ العائلة وتاريخ السلالة والمقابلة والاختبارات الموضوعية والاسقاطية ...الخ 

 

 

 

 

 

 

 

الإحساس والانتباه

 

الإنسان يوجد في عالم ثري بمثيراته الطبيعية والاصطناعية وغني بموضوعاته، وهو المخلوق الذي زود فطريا بخمس حواس هي أجهزة يستقبل بها تلك المثيرات والموضوعات وينقل بها العالم الخارجي من حوله إلى ذاته، وتميز الإنسان عن باقي مفردات الوجود بقدرة فائقة على نقل المواضيع في جزئياتها وكلياتها، حيث يتحول الموضوع  الذي يقع تحت التجربة الحسية إلى موجات عصبية تنتقل إلى المخ، ثم تعود إلى الأجهزة الحركية مؤذنة باستجابة مناسبة .

وتصنف المثيرات إلى صوتية وبصرية وكيميائية . والقابلية التي زود بها الإنسان للتأثير هي ما يسميها الفلاسفة بالنزوع ضد الموت حيث تتفتح الحواس تدريجيا وبصفة ارتقائية للإحساس بالمثيرات، فيتصرف الإنسان حيالها بالاستجابات التكيفية التي يرتاح ليها ويكون قد تعلمها عن طريق المحاولة والخطأ .

ويظهر الإحساس في شكله البدائي بالتهيج العام أو الاستجابة العامة بالجسم كما هو الشأن في حركة الأميبا عندما تكون في وضعية الاستجابة لتغيرات المحيط مجال إحساسها، وكذلك الجنين يستجيب استجابة عامة، ثم يبدأ الإحساس في التخصص تدريجيا على مستوى الكائنات الأكثر رقيا كالديدان والحشرات والحيوانات العليا، وكذلك يرتقي الإحساس والاستجابات عند الإنسان في مرحلة الطفولة فإلى المراهقة فإلى الرشد حيث يتم تمييز المثيرات واقتصادها واختزالها وتحديد الاستجابات وأعضاء الحركة المعنية بالاستجابة، وأول الحواس نشاطا عند الإنسان هي حاسة الشم والذوق، وتتأخر عنهما بعض الشيء حاسة السمع . وانفتاح الإنسان على محيطه هو انفتاح تدريجي وحتمي يواجه الإنسان كقانون يجري من خلاله عمليات التأثير والتأثر في المحيط وبالمحيط.

والمثيرات البسيطة عند الإنسان تتطلب تنشيط عمليات حسية بسيطة وتكون الاستجابة على المستوى الأدنى من مستويات الجهاز العصبي، أما المثيرات المعقدة فتتطلب تنشيط عمليات حسية عالية وعلى مستوى الجهاز المركزي العصبي حيث تجري عمليات إضفاء المعاني والتفسير والفهم والتأويل على المثيرات والموجات العصبية المجمعة في المخ ليتم معالجها كبيانات ومن ثمة تحديد نوع السلوك وتكوين الاستجابة المناسبة كما يراها الشخص حيث تصدر كأوامر من المخ إلى الأجهزة الحركية المعنية بالاستجابة، فسلوك الهروب ناتج عن احساسات خام نقلت مضامينها عن طريق  التيارات العصبية إلى المخ ليتولى ليجري عليها عملية ادراك العلاقات بين تلك الجزيئات من الاحساسات الملتقطة ومن ثمة تفسيرها وتأويلها  ليعطي معنى للموضوع يتعلق بالخطر والتصرف حياله بسلوك الهروب كاستجابة منتقاة من بين عدة بدائل. 

والاحساسات أنواع ثلاثة : ـ

ـ باطنية عامة : ـ وهي الاحساسات التي تصدر من داخل الشخص كالإحساس بالجوع أو العطش أو نقص الأملاح، ...الخ .

ـ باطنية خاصة : ـ وهي الاحساسات التي تصدر عن الأجهزة العضلية المحددة كالإحساس بالحركة والاتزان، ويمكن تصنيفها ضمن الأحاسيس اللمسية .

ـ خارجية : ـ وهي الاحساسات ذات المصدر الخارجي والتي تخضع للجهاز العصبي المركزي وتستقبل عن طريق الحواس الخمسة . ( الذوق، الشم، اللمس السمع، الإبصار )  ولكل حاسة عضوها وجهازها الخاص بها

ويتم تنظيم الحواس والتنسيق في ما بين ما تنقله من العالم الخارجي أو من داخل الشخص من مثيرات يتم على مستوى الجهاز العصبي المركزي في المخ . ومن ثمة فدراسة الإحساس هي دراسة للحد الأول من معادلة السلوك عند الإنسان[ ( م )              ك             استجابة .] فالحواس بهذه المعطيات هي التي تقوم بأول خطوات ومراحل السلوك وتعتني بمدخلاته، وتنقلها إلى المخ لتكوين الاستجابة المناسبة التي تنتقيها الأجهزة العصبية العليا للدماغ وترد كأوامر للسلوك للأجهزة الحركية المعنية .وحاسة اللمس تنقل الإحساس بالتماس وبالضغط والألم والبرودة والسخونة، وحاسة والسمع تنقل الموجات الصوتية، والإحساس بالذوق مثيراته كيماوية في اللعاب كتذوق الحار والحلو والمر والبارد والساخن ...الخ وحاسة الشم مثيراتها كيميائية أيضا كالإحساس بالرائحة، ولا يقتصر آثار الإحساس ومفعوله على وظائف محددة بعينها بل قد يتعدى إلى وظائف أخرى تنشيطية للعمليات العقلية فقد وجد مثلا أن استنشاق الورود يؤدي وظائف حسية نفسية تتعلق بالارتياح والانتعاش البدني والشعور باللذة، ووظائف أخرى عقلية تتعلق بتنشيط الذاكرة .ومازالت أسرار كثيرة تكتنف الوظائف النفسية للأجهزة الحسية لم تكتشف بعد .

ونظرا لهذه الوظائف المتعددة للأجهزة الحسية اهتم علماء النفس بدراستها على ثلاث مستويات

ـ المستوى الفيزيائي : ـ وتنصب الدراسة على الشروط الخارجية الطبيعية لموضوع الإحساس .

ـ فسيولوجية : ـ وينصب البحث فيها على التغيرات التي تحدث للشخص في أجهزته البيولوجية التي تحدث أثناء النقل والتوصيل للعضو الحاس.  حيث تبين إذا تم التوصيل ...........

سيكولوجية: ـ ويرتكز البحث فيها على الآثار التي يتركها الإحساس والتفاعلات الداخلية التي تغير من سلوك الإنسان وتعلم الاستجابة.

الدراسة السيكولوجية للإحساس : ـ

تهتم الدراسة السيكولوجية للإحساس على طبيعة الإحساس ذاته وتتضمن دراسة الخصائص العامة للإحساس وحددها الدارسون في ثلاثة: ـ

ـ دراسة شدة الإحساس ( كم الإحساس ) فالإحساس يرتفع وينخفض في شدته بحسب انخفاض وارتفاع شدة المثير ذاته .

ـ نوع الإحساس ( كيف الإحساس ) يدرس الإحساس من حيث نوعه فهو متفاوت من حيث كيفية حدوثه فيكون حادا ويكون غليظا ويكون ترديديا .

ـ صنف الإحساس : ـ يحدث أن تتفاوت درجة نقاء المثيرات فتختلط كما يحدث في الموجات الصوتية والترديدات الضوئية فيتولى الجهاز العصبي عزلها بواسطة حساسية معينة مميزة للمثيرات .

العتبات الحسية : ـ

اهتم الباحثون بدراسة شدة الإحساس وتمكنوا من وضع قوانين تحدد وتبين العتبات الحسية نبينها كالتالي : ـ

ـ العتبة الدنيا : ـ ويقصد بها أن المثير لابد وأن يكون من الشدة ما يمكن للفرد أو للعضو الحاس من التقاطه ونقله ولا يجب أن ينخفض عن المقدار المطلوب من الشدة أي أن يكون في مجال ونطاق مدركات الإنسان في حدودها الدنيا . فمثير الصوت أو السمع أو البصر لا يمكن التقاطها إلا إذا بلغت من شدة حد أدنى، بحيث يستطيع الأجهزة الحسية من التقاطها وإذا انخفضت شدتها عن المطلوب يتعذر على الأعضاء الحسية التقاطها .

ـ العتبة القصوى : ـ ويقصد بها أن المثير لا يجب أن يتعدى حدوده الطبيعية من ناحية الشدة لكي يكون في مجال الإحساس ومجال ما قدرات الأجهزة الحسية على التقاطها.

العتبة الفارقة : ـ ويقصد بها كمية أو درجة تغير المثير من حيث شدته أو نوعه ارتفاعا وانخفاضا بحيث يكون ذلك التغيير من الشدة ما يمكن الأجهزة الحسية المعنية من الإحساس بها والتقاطها . فالصوت أو الضوء ذا تغير في شدته أو نوعه فلا بد أن يكون مقدار التغير بكمية معينة بحيث تستطيع الأجهزة الحسية المعنية من الشعور بها حين حدوث التغير في حالة الزيادة أو النقصان .

الفروق في العتبات الحسية : ـ

كشفت الدراسات الأمبيريقية عن عدم تماثل وتساوي الأشخاص في العتبات الحسية،  وما هو مؤكد أن فروقا جوهرية فردية تظهر في العتبات الحسية بين الأشخاص حيث ترتفع عند البعض وتنخفض عند البعض الآخر وتظهر أيضا  بين الذكور والإناث، وبين الأسوياء وغير الأسوياء، وتتأثر العتبات الحسية من حيث فوارقها في الشدة بثقافة الفرد ومكوناته المعرفية وتخصصاته العلمية إذ وجد أن العتبات الحسية ونوع الإحساس لدى الأطباء تختلف عن المهندسين والأدباء مثلا . كما وجدت فروق في العتبات الحسية على مستوى الحواس فالشخص قد يكون مرتفع العتبة الحسية في الإبصار ومنخفض العتبة في الشم أو في أي حاسة أخرى .

وبينت الدراسات أن الإحساس متداخل ومنفصل في آن واحد ففقدان البصر يمكن أن يعوض باللمس أو السمع، وإغلاق العين أحيانا كانفصال يتم من أجل سماع الصوت بوضوح أكثر .

القانون العام للإحساس

تبين من دراسات عدة أن أجهزة الحس وأعضائه عند الإنسان محدودة من حيث طاقتها في استقبال المثيرات بنوعها وشدتها وكمها وعددها، وبالتالي فهي لا تستجيب لكل المثيرات وتتعامل معها وفق مبدأ الاقتصادي يوفر عليها الجهد والاستهلاك، ويقوم بها الإنسان على مستوى المراكز العليا للدماغ، وتسمى هذه العملية بقانون الاختيار والانتقاء فكل حساس يتم على أساس اختيار ونوع وصنف المثير الذي يمكن للشخص أن يستجيب له . ومن الطبيعي أن ذلك يتم عن طريق عزل الاستجابات الخاصة بالمثيرات الأخرى التي تم عزلها على مستوى الإحساس الأولي وهنا يأتي دور الانتباه .

الانتباه Attention : ـ

يصنف الانتباه في علم النفس المعرفي من حيث الأهمية من ضمن المواضيع المفتاحية في فهم الحياة النفسية، فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالإحساس الذي ينقل كميات هائلة من الموجات العصبية فيتصرف الانتباه حيالها بدور انتقائي ليقرر أي المثيرات يهتم بها وأيها يهملها، ويرتبط بالإدراك الذي تأتي وظائفه ودوره بعد الانتباه، ليقوم بتحليل المثيرات وترميزها وتفسيرها . ولذلك فالانتباه يكون في المرتبة أو المرحلة الثالثة من مراحل بناء السلوك أو الاستجابة وهذه المرتبة والمكانة المركزية للانتباه في السلوك  جعله يحض بدراسات نفسية مكثفة ومعمقة.

مثيرات البيئة

 

الإحساس

 

الاستجابة

 

الإدراك

 

الانتباه

 
        

 


تعريف الانتباه :ـ من خلال المكانة المركزية للانتباه يتبين أنه يتم على المستويات العليا من الدماغ كنشاط ذهني، فهو في نظر" ستيرنبرغ Sternberg "القدرة التي يبديها الفرد في التعامل مع كميات محدودة من المعلومات منتقاة من كم هائل من المعلومات التي تنقلها الحواس أو الذاكرة كخبرة سابقة ومن ثمة فهو عملية معرفية تتضمن الاهتمام بالموضوع والميل والدوافع ... الخ وبالتالي فهو يتميز بخصائص كما رصدها الزيات (1994 ) تتعلق بوظيفة الاختيار والانتقاء والتركيز والقصد والاهتمام أو الميل لموضوع الانتباه .( علم النفس المعرفي : 68 ـ 69 ) .

انفجار 1: الانتباه الجزئي  وميزة الانتقاء والاختيار للواردات الحسية التي يمارسها الانتباه  تؤكد على أن الإنسان وعلى الأقل في حدود ما كشفت عنها البحوث المعاصرة  لا يستطيع تركيز انتباهه على أكثر من مثير في نفس الوقت، حيث يتجه الانتباه بفعل قانون الانتقاء والاختيار إلى نوع معين من المثيرات دون غيرها . ويكون الموضوع المنتبه إليه في بؤرة الشعور والمثيرات الأخرى تحتل موقعا ما في منطقة الانتباه الجزئي بحسب أهميتها لدى الشخص المنتبه، وباقي المثيرات تكون خارج منطقة الانتباه . وبالتالي فالمواضيع المنتبه إليها تكون موزعة بين بؤرة الانتباه وهي المواضيع ذات الأهمية القصوى لدى الشخص والمختارة والمنتقاة أو المواضيع التي تفرض نفسها على الشخص قسرا بسبب شدتها أو أي عامل آخر توقعي.فصوت المحاضر عند الطالب المتلقي والمهتم بالمحاضرة يكون في بؤرة الشعور ومنتقى من بين عدة أصوات ومثيرات أخرى في المجال الحيوي للطالب، وهي المثيرات التي تكون في منطقة الانتباه الجزئي، بحيث يمكن انتقالها في أي لحظة لتحتل بؤرة الانتباه لسبب من الأسباب ويتراجع صوت المحاضر إلى منطقة الانتباه الجزئي .

   

 

انفجار 2: بؤرة الانتباه
 


                             

 

 

مراحل الانتباه : ـ

تتم عملية الانتباه عبر مراحل رصدها الباحثون ثلاث مراحل متتالية غير منفصلة وهي:

ـ مرحلة الكشف والإحساس : ـ وهي المرحلة التي تلي تعرض الأجهزة الحسية للمثيرات البيئية فيحاول الفرد أن يكتشف تلك المثيرات وهي عملية حسية مباشرة لا ترتقي إلى المستوى المعرفي وتتم في الحدود الدنيا من وظائف الأجهزة الحسية .

ـ مرحلة التعرف : ـ وتسمى أيضا مرحلة الانتباه الموجه، وتتميز بأنها فحص للمثيرات من حيث شدتها ونوعها وحجمها وأهميتها للفرد، وبالتالي فهي مرحلة معرفية أكثر منها حسية .

ـ مرحلة الاستجابة للمثير: ـ ينظم الانتباه عملية الانتقاء والاختيار للمثير الذي سيستجيب له على نفس القناة الحسية وتهيئة المثير للمعالجة المعرفية في الداكرة الفاعلة .

الاستجابة

 

مرحلة الانتقاء

 

مرحلة التعرف

 

مرحلة الكشف

 

مثيرات

 البيئة

 
 

 

 


عوامل الانتباه : ـ يتوقف استئثار المثير بانتباه الشخص بعد أن يكون قد استقر في منطقة العتبات الحسية والتجربة الحسية والتقطته الأجهزة الحسية على عدة عوامل يصنفها الباحثون إلى ثلاث : ـ

1 ـ عوامل خارجية : ـ

ـ  قوة المثير وتركيزه : يحتل المثير بؤرة الانتباه إذا كان على درجة من الشدة تجذب الانتباه إليه .

ـ التغير والجدة : ـ ينتقل الانتباه من مثير لأخر إذا ما حدث تغير في المثير من حيث شدته قوة وضعفا أ, من حيث نوعه حيث ينجذب الانتباه آليا نحو التغيير الذي يطرأ على انتظام المثير في شدته أو نوعه أو كيفية حدوثه

ـ الاختلاف والتفرد : ـ تفرد المثير بخصائص بينة تميزه عن غيره من المثيرات المتماثلة يجعل الانتباه ينب نحو ذلك التفرد والاختلاف .

ـ الوضوح والتكرار : ـ كثيرا ما يظهر في بعض الحالات أن الانتباه يتوزع على عدة مواضيع ومثيرات بحيث يبدوا وكأنه ينتقل من مثير إلى آخر بسرعة تكاد لا تسمح بمعرفة الموضوع الذي يحتل بؤرة الانتباه، فإذا أخذ المثير طابعه النظامي والانتظام فإن الانتباه سينجذب إليه ويستقر المثير في بؤرته .

 

2 ـ عوامل داخلية : ـ

تقوم الحاجات والرغبات بدور هام في الانتباه وتوجيهه نحو مواضيع محددة، فالإنسان ينتبه إلى المواضيع التي تكون في نطاق رغباته وحاجاته أكثر من غيرها، وكذلك ينتبه إلى المواضيع التي تكون على مستوى توقعه.

3 ـ العوامل البينية : ـ

        وجد أن بعض الأشخاص يميلون إلى مواضع بعينها دون الأخرى فتستقطب انتباههم، فالمهندسون يميلون إلى الانتباه للتفاصيل الهندسية للغرفة أو للبناية بينما يميل الأطباء إلى الانتباه وملاحظة الجوانب الصحية ويميل الأدباء والفنانون إلى الانتباه للجوانب الجمالية...وهكذا . كما وجد أن نوعية المواصيع لها تأثير وقوة جذب الانتباه أكثر من غيرها، فالشكل العام للموضوع يجذب الانتباه للوهلة الأولى أكثر من التفاصيل .

أنواع الانتباه  : ـ

        صنفت الدراسات الانتباه إلى أربعة أصناف بدلالة العوامل المؤثرة، فهو ارتقائي بحسب العوامل المؤثرة في توجيهه، فتأثير العوامل الخارجية يجعل الانتباه مختلف عن الانتباه الموجه بالعوامل الداخلية في الشدة والكيفية، وأنواعه هي :

1 ـ الانتباه القسري ( اللاإرادي ) ويحدث عندما يكون المثير شديد يجذب الانتباه ‘ليه بقوة دون تدخل الفرد وخارج نطاق إرادته أو تضعف في مقاومة المثير وعزله. وعادة ما يكون هذا الصنف نتيجة التأثر بالعوامل الخارجية .

2 ـ الانتباه التلقائي : ـ ويحدث عندما يكون العالم الخارجي ( المثيرات ) منتظمة ويكون الشخص متزنا وعلاقته بمحيطه بجميع تفاصيله عادية، فيكون الانتباه تلقائيا وعاديا ( متأثر بالعوامل البينية أكثر ) .

3 ـ الانتباه الإرادي : ـ وهو الانتباه الذي يحدث عندما يكون موجها من الشخص ذاته ويكون مقصودا متوجها نحو موضوع معين ومحدد، وتوظف فيه إرادة الإنسان بشكل واصح ( متأثر بالعوامل الخارجية مع غلبة العوامل الداخلية ) .

4 ـ الانتباه الإستباقي : ـ وهو مضاد للانتباه القسري ويعتبر تجميع للاحساسات والقوى النفسية بصفة إرادية قوية وتوجيهها نحو موضوع لم يظهر بعد أي توقعي تأهبي لا تتحكم فيه لا العوامل الداخلية العادية ولا العوامل الخارجية . كوخز الإبرة فتتأثر بالعوامل الداخلية النفسية التوقعية أكثر من غيرها .

والخلاصة أ، الانتباه ارتقائي من وضعية الإنسان السلبية تجاه مثيرات المحيط والعوامل الخارجية القسرية، إلى الإيجابية التامة حينما يكون متأثرا بالعوامل الداخلية لا سيما التوقعية منها .

 

         قسري         تلقائي        إرادي          إستباقي   

 

سلبي مطلق                                                   إيجابي مطلق          

 

نظريات الانتباه : ـ

طور الباحثون نظريات خاصة بالانتباه كباقي مواضيع علم النفس من خلال دراساتهم لطبيعته كنشاط ذهني وأنواعه وعوامله نذكر من بينها : ـ

1 ـ نظرية القدرة غير المحددة : ـ وتفيد أن الإنسان يمتلك قدرة هئلة وغير محدودة على معالجة البيانات غير المحدودة الواردة من الأجهزة الحسية، ويستطيع الانسان أن يستقبل عدد غير محدود من المثيرات .

2 ـ نظرية القدرة المحدودة : مفادها أن الأنشطة المعرفية البسيطة كما يرى" كانمان Kahnman " لا تحتاج إلا إلى قدر محدود من الطاقة العقلية لمعالجة بياناتها بينما تحتاج الأنشطة المعقدة إلى طاقة هائلة من القدرة على المعالجة المعرفية وهو عكس ما ذهبت إليه النظرية السابقة .

3 ـ نظرية تخصيص الموارد : ـ وتنطلق هذه النظرية من نفس المنطلقات والمسلمات التي انطلقت منها نظرية القدرة المحدودة، وقد أكد مطوروها " نورمان ، وبوبرو Norman and Bobrow " ومنشأ محدودية الانتباه في معالجة البيانات الحسية يعود إلى محدودية الموارد المعرفية، فيتم تخصيص الموارد المتاحة لأداء أكثر من مهمة، وبالتالي ففي حالة وجود مهمات أخرى وتتوزع عنها القدرة المعرفية فينخفض الأداء بالضرورة .

4 ـ نظرية المدخلات المتعددة : ـ تعطي هذه النظرية الدور الحاسم في عملية الانتباه وتوجيه طاقته في الانتقاء واختيار المثيرات المستقبلة للوعي والذاكرة، فقد أكد"جونستون وهاينزJohnston and heinz"أن المدخلات الحسية تخضع للأولويات حين معالجتها، وبالتالي فالمعطيات الحسية المنتقاة للمعالجة والاستجابة تكتسب فرصة الإدماج في الوعي والخبرة خلاف المعطيات التي تم بناء على الأولويات تأجيلها أو عزلها .

خصائص الانتباه : ـ  

        من خلال عوامل الانتباه والنظريات المفسرة له كما أوردناها،  يمكن تحديد عدة خصائص للانتباه كالتالي : ـ

1 أن طاقة الإنسان في مجال المعالجة المعرفية واستقبال أجهزة الحس للمثيرات محدودة، فتركيز الانتباه على مثير بعينه وممارسة الانتقاء من شأنه أن يبدد طاقة الانتباه .

2 ـ أن لكل حاسة قناة خاصة بها، وهو ما يجعل الشخص يتعامل ويستقبل عدة مثيرات كقيادة السيارة والسماع في الوقت ذاته لزميل يتحدث معه وقت تركيزه على السياقة .

3 ـ أن الانتباه الانتقائي يجعل جهد الإنسان في الانتباه مركز على معالجة مثير واحد في حالة المثيرات المعقدة فلا يستطيع الإنسان حل مسألتين في الرياضيات في وقت واحد.

4 ـ أن الانتباه الموزع يسمح للفرد على متابعة أكثر من مثير في آن واحد .

وظائف الانتباه : ـ

يقوم الانتباه بعدة وظائف أهمها :

تعلم الانتقاء وعزل المثيرات غير المرغوب فيها أو التي تعرقل عملية أتساب الخبرة، تنشيط عملية الإدراك، توجيه الحواس نحو مثيرات تخدم الإدراك، يعمل الانتباه على تنظيم البيئة كمجال للمثيرات .

محددات الانتباه : ـ

        الانتباه كما أوضحنا في مراحله وعوامله أنه يتم عبر مراحل وتؤثر في عوامل شتى ومن ثمة تكون محدداته من ناحية فعاليته وحتى طبيعته كثيرة ومتعددة وقد صنفها الزيات ( 1995 ) إلأى عدة أصناف : ـ

1 ـ المحددات الحسية العصبية : ـ فالانتباه يتأثر بأي خلل يصيب الفرد على مستوى أجهزته الحسية .

2 ـ المحددات المعرفية : ـ وجد أ، قدرة الذكاء والخبرة السابقة لها تأثير قوي على تحديد طبيعة الانتباه من حيث قدرته وطاقته .

3 ـ الدوافع : ـ فكلما زادت دافعية الشخص للانتباه إلى موضوع معين كلما سهلت لديه عملية التركيز على كليات الموضوع وجزئياته .

4 ـ الانفعالات : ـ يدرج الدارسون للانتباه الانفعالات وحالة الشخص الوجدانية وقت الانتباه كمحدد للانتباه فقد وجد أ، الأشخاص الانفعاليين والمنطوين والمكتئبين يعانون من صعوبة التركيز حول موضوع معين .

 

 

 

 

 

الإدراك الحسي : Perception

 

يدرج الإدراك الحسي في مجال معادلة السلوك في الدراسات النفسية الحديثة ضمن الحد الأول منها ( المثيرات ) فالقوى المؤثرة على سلوك الإنسان من خلال حواسه، وتؤدي إلى استجابة هي المثيرات وتكون إما خارجية أو داخلية، ولكن مجرد وقوع تلك المثيرات على العضو الحاس لا يعني حدوث التأثر الكامل حتى ولو صدرت الاستجابة، فالإحساس هو بداية عملية السلوك حينما يقع العضو الحاس تحت تأثير حسي معين، ثم يتطور إلى الإحساس بشيء حتى ولو لم يتم الانتباه إليه ، ثم يرتقي إلى مستوى الانتباه بشيء والشروع في المعالجة الذهنية للشيء  واختياره وانتقاءه ومن ثمة فالسلوك إنما هو عملية ارتقائية تبدأ بيولوجية لتنتهي نفسية مركبة تجعل الإنسان في علاقة مع المحيط الخارجي وتلك هي عملية الإدراك .

تعريف الإدراك : ـ تعارف الادراك كثيرة ونقتصر على عرض بعض منها في ما يلي : ـ

        يعرف " سولسو ( 1988 ) Solso" الادراك على أنه فهم للمثيرات المنتبه لها والتنبؤ بها .

ويعرفه"  أندرسون Anderson " بأنه : محاولة تفسير المعلومات التي تصل إلى الدماغ .

ويعرفه " سترنبرغ 2003 Sternberg" بأنه العملية التي يتم من خلالها التعرف على المثيرات الحسية القادمة من الحواس وتنظيمها وفهمها 

ويعرفه يوسف مراد بأنه (العملية العقلية التي تتم بها معرفتنا للعالم الخارجي عن طربق التنبيهات الحسية ).مدخل : 129 ).

يتضح من هذه التعاريف أن الإدراك هو العملية العقلية أو المعرفية التي يتم بواسطتها تنظيم المنبهات الحسية وتحليلها وتفسيرها حين تتجمع في المخ ومن ثمة عقد علاقة بالمحيط بالاستجابة وتخزين المدرك كخبرة للفرد يستدعيها عند الحاجة حيث تصبح من الناحية الوظيفية بمنزلة المنبه الداخلي في عملية التفسير. وتنسجم هذه التعاريف مع أفكار وتجارب بياجيه على الادراك الذي يعرفه على أنه الوسيلة العقلية للتكيف مع البيئة ومثيراتها المختلفة .( علم النفس المعرفي : 93 ـ 94 ) .

طبيعة الادراك : ـ  

ساد الاعتقاد لدى قدماء علم النفس أن الإدراك هو إدراك لمجموعة من الاحساسات الجزئية البسيطة المتتالية تلتقطها حواسنا من العالم الخارجي وبالترابط وفق قوانين ومقولات العقل يتم إدراكها، فترابط الاحساسات بفعل مقولات العقل التي يكتسبها بالخبرة هو ما يجعل الإدراك يحدث وسميت هذه المدرسة بالترابطية في علم النفس .فمثير الصوت أو الإبصار إنما يتم إدراكها عن طريق تنقله كصور جزئية في مجال الإبصار أو كموجات في مجال الصوت متتالية ومنتظمة حيث يسهل تأويلها وتفسيرها والتعرف عليها بواسطة ما خزنه الفرد من خبرة سابقة، فإدراكنا للسيارة المتحركة إنما هو إحساس وانتقاء لآلاف الصور المتتالية الجزئية من أطوال وأحجام ودرجة الضوء واحساسات لمسية وذبذبات صوتية ...الخ تترابط في ما بينها لتكون المدرك في الذهن وهو السيارة . 

غير أن هذه المقاربة لطبيعة الإدراك وكيف يحدث والمبنية مقولاتها على الفلسفة العملية، تم تجاوزها من قبل علماء البنيوية في علم النفس لعجزها عن تفسير مظاهر إدراكية عديدة، فقد تأكد لعلماء أمثال كوفكا"   Koffka " وفرتايمر " Wertheimer " وكوهلر " Kohler " أن الإدراك الحسي إدراك للكليات وليس إدراك لمجموعة من الجزئيات التحليلية المترابطة، فالكليات هو من مقولات العقل حيث أننا ندرك أولا ثم يبدأ العقل في تحليله للكل إلى عناصره وهو عكس ما ذهبت إليه الفلسفة العملية والترابطية .

وعرفت هذه المقاربة بالمقاربة الجشطالتية "Gestalt " وهي كلمة ألمانية يقابلها في اللغة الأنجليزية" Form "ويقابلها في اللغة العربية " الصيغة " . وتقوم هذه المقاربة على ما تقوله مسلمات العقل أو مبادئه في التعامل مع الأشياء والمثيرات حيث يظهر العقل غير متلائم مع العناصر المتنافرة التي ترد إليه عبر الأجهزة الحسية ولا يهدأ إلا بعد اكتشاف تنظيمها وانتظامها في صيغة لها معنى ومن ثمة التعرف عليه ككل وليس كأجزاء، وتأتي بعد ذلك عملية التحليل لمعرفة التفاصيل، وتنسحب هذه المقاربة على كل موضوعات العالم، فكل نشاط إنساني في التفكير والتعلم والذاكرة والذكاء إنما ينبني على فكرة الصيغ الكلية، والإنسان نفسه صيغة لا يقبل تجزئته إلى وظائف نفسية ودراستها منفصلة ومستقلة،  فلا مكانة للدراسات التجزئية فالموضوع هو وحدة جشطاتية لا تنفصل أجزاؤه عن بعضها البعض ، فالإنسان كما يراه " ستاجنر " هو وحدة جشطالتية غير منفصل لا في أجزائه ولا في علاقته بالبيئة .

والإدراك في تجارب علم النفس المعرفي هو عملية تتدخل في حدوثه البنى المعرفية العليا كالتفكير والذاكرة والخبرات السابقة والدافعية، والميول والرغبات والوعي، وهو في معظم مظاهره غير منفصل عن الحواس إلا في ما يعرف بالإدراك فوق الحسي"  Extrasensory Perception " وهو ما يعرف بالحاسة السادسة التي تشتغل على مستوى التنبؤ بالمستقبل والتخاطر بدون مثيرات حسية مباشرة ولا يخضع مثل هذا الإدراك للتجربة لفقدانه للأساس الحسي . ( علم النفس المعرفي : 94 )

تجارب الجشطالت  : ـ

تميزت المدرسة الجشطالتية بتجاربها المكثفة على الإدراك واتخذتها كبراهين على صدق مقولاتهم حول العقل وفي الوقت نفسه دحض مقولات الترابطية، كما تمكنوا من هذه التجارب صياغة مجموعة من القوانين تفسر عملية الإدراك وتؤكد مقولة الصيغة أو الكلية .

تجربة الفرق بين الإحساس والإدراك :  ومحتواها أن عرض صورة مكعب على شخص يبعد عن الصورة بمترين بحيث ترتسم الصورة على شبكية العين بمساحة معينة، ويتم إدراكها بحجمها متأثرا بتلك المسافة، وإذا ما حدث أن بعدت الصورة عن العين مسافة الضعف عن المسافة الأولى، فإن إدراك الصورة لم يتغير في حجمه بالرغم من تغير المساحة على شبكة العين إلى النصف، وبالتالي فإدراك المثير يبقى على حاله رغم اختلافه على مستوى الحس .وبالتالي فالإدراك يختلف عن الإحساس، فالمثير على مستوى الحس هو معطى حسي أولي خام، وعندما يتم إدراكه يصبح إدراك لشيء له معنى .

الإدراك هو إدراك لشيء منفصل: ـ

        لو عرضنا على الشخص مجموعة من النقاط أو البقع سوف يدركها الشخص بناء على انتشارها في المجال، سوف يدركها ككلية إذا هي منتشرة وحداتها على مسافات متجانسة واحدة في مساحة محددة ، ويدركها كمجموعات منفصلة إذا انتشرت وانتثرت في مجموعات على مساحات مخصصة لكل مجموعة ومنفصلة عن الأخرى، وهو ما يدل على أن الإدراك، هو إدراك لشيء منفصل له بغيره صلة، فوحدة المدرك تجعله منفصلا متناحي عن غيره .

المدرك في علاقة تضاد مع أرصيته ( الصورة والخلفية ) .

        إن عرضنا لأية صورة ضمن أرضيتها سوف يتم إدراك الشخص للصورة كما لو أنها وحدة كلية جشطالتية أكتسب تناحيها وانفصالها عن أرضيتها وصارت في وضعية تضاد مع أرضيتها  كما هو في الشكل التالي فالأجزاء المضللة من حيث هي صورة تدرك ككلية منفصلة ومتضادة مع الأجزاء غير المضللة من حيث هي الأرضية أو العكس .      

       

 


                        

          

           

       

وبالتالي فالتضاد بين الصورة وأرضيته يظهر كقانون عام للإدراك والشكل أو الصورة تكتسب انفصالها وتناحيها عن أرضيتها بخاصية الانتظام الداخلي حيث يجعلها ذلك النظام والتناسق الداخلي أكثر تميزا وانفصالا عن الأرضية، والإدراك يقاوم كل التغيرات الطفيفة التي تطرأ على الصورة ويسر على إدراكها كوحدة كلية منفصلة .

العوامل المؤثرة في الإدراك : ـ

        يتأثر الإدراك بعدة عوامل صنفها الدارسون للإدراك إلى عوامل موضوعية وعوامل ذاتية : ـ

العوامل الموضوعية للإدراك .

أ ـ التشابه : ـ الوضعية المتشابهة للمثيرات والموضوعات الملتقطة بالأجهزة الحسية والمنقولة والنتقاة للمعالجة الادراكية يجعلها منتظمة ويتم إدراكها كوحدة جشطالتية كإدراك البقع المتشابهة في مجموعات ووحدات منفصلة .

 

+           +        +         +       +        +        +

*           *         *        *        *        *         *

+          +        +        +        +        +         +

*           *        *        *         *        *         *

ب ـ الاستمرارية : ـ 

يفيد هذا القانون أننا ندرك المثيرات وفق قانون الانتظام الداخلي كما لو كانت مستمرة فكثير ما يحتاج القارئ لقراءة آية أو بيت شعر إلى تذكر الآيات أو الأبيات التي سبقتها . ويتوقف هذا الإدراك على قوة الوحدة الجشطالتية التي يبدوا عليها المثير

 

 


 

 

 

قانون الاحاطة التكميل : ـ

يميل الإدراك الإنساني إلى كمال المثيرات الناقصة فيزيقيا فيرى المثلث والدائرة والخط في حالة نقصانها الفيزيقي أشكال مكتملة وغير ناقصة، كما يقرأ القارئ كلمة صحيحة رغم نقص بعض أحرفها مكملا بذلك النقص في الوحدة الجشطالتية .

 


دلك        

 

 

         

 

العوامل الذاتية في الإدراك : ـ

        تشكل العوامل الذاتية في الإدراك الجشطالتي أهمية لا تقل عن العوامل الموضوعية، وهي مجموعة العوامل الخاصة بالفرد المدرك، والتي تشكل إحدى بنياته النفسية، وتعمل هذه العوامل بشكل متعاضد مع العوامل الموضوعية . وبحسب دراسات الجشطالتية وتجاربها على الإدراك الإنساني تبين أن العوامل الذاتية في الإدراك الجشطالتي فطرية كما في التجربة التي أجريت على العميان التي بينت أن الصيغ الجشطالتية غير متعلمة ومكتسبة بقدر ما هي فطرية، فما استطاعوه العميان من تمييز المكعب عن الكرة باللمس قبل إجراء عملية جراحية واسترداد أبصارهم لم يتمكنوا من تمييزه بعد الإبصار إلا باللمس ومن ثمة فالحديث عن العوامل الذاتية هو الحديث عن عوامل فطرية تتدخل في الإدراك ومنها : ـ

التهيؤ العقلي : ـ

يعد التهيؤ العقلي من البنى النفسية الداخلية التي توجه إدراك الإنسان، حيث تأكد من الدراسات والتجارب أن التهيؤ النفسي ينشط على مستويات عدة، فهو العامل المركزي في انتقاء المثير ويجعل الانتباه ينشط ويرتكز حوله، وبدونه أيضا لا يتم فهم المثير وتنشيط عملية الإدراك إلا بعد حصول التهيؤ العقلي لممارسة عمليات الفهم وبناء العلاقة بين الشكل وإطاره أو أرضيته وهو ما نسميه الإدراك، فعملية الإدراك عملية عقلية تشترك في حدوثه مجموعة من العمليات العقلية كالتذكر والانتباه والإحساس، وبه يتم تحويل المثير من مجرد المنتبه إليه إلى مستوى أرقى حيث حصول الفهم وبالتالي إدراكه، ووجد أنه مهما كانت العوامل الموضوعية، فإن فهم المثير وتفسيره يتعذر ما لم يكن الشخص المدرك راغبا في الإدراك مختارا قاصدا، إلا ذا كان المثير عاليا في شدته والانتباه يكون قسريا . فكما هو ثابت في رصد خطوات أو مراحل الإدراك أن الإنسان ينتبه إلى ما يحس به، ويركز انتباهه بحسب انتظام الشكل والأرضية، ثم أنه يدرك الشكل وهو منفصلا عن أرضيته، ثم يحصل فهمه الذهني للعلاقة بين الشكل والأرضية، وهو ما يؤكد أهمية العوامل الذاتية والتهيؤ العقلي في توجيه الإدراك بل وحدوثه، وهي نفس العوامل التي عرضناها في الانتباه كالحاجات الفيزيولوجية والنفسية، وخبرة الشخص السابقة ودرجة ألفته بالمثير، والحالة المزاجية والانفعالات والاتجاهات والقيم والميول، فكل هذه العوامل تتدخل في توجيه الإدراك .

بعض مظاهر الإدراك: ـ

إدراك الحركة : ـ 

بينت التجارب الجشطالتية حول الظاهرة البصرية المعروفة بظاهرة فاي      ومفادها أننا حين نعرض العين لرؤية نقطتين مضيئتين على مسافة معينة فإنه سيحصل إدراكهما كمثيرين مستقلين، وإذا ما تم عرض النقطتين بالتتابع والتتالي في الظهور أمام العين وفي سرعة فائقة فإن إدراكها سيتم كما لو أنهما مثير واحد يتحرك .ويستنتج من ذلك أن إدراك الحركة بحسب هذه الظاهرة ( ظاهرة فاي ) تخضع لقوانين الإدراك الكلي فالحركة تم إدراكها منفصلة عن المثيرات التي كونت الحركة (النقطتتين) . وهو ما نراه في أفلام الكارطون التي تبدوا فيها الصور متحركة بفعل التتالي والسرعة والانتظام . ( مدخل : 143 ـ 145 ) .

إدراك المكان : ـ

        إدراك المكان من حيث هو ظاهرة إدراكية للمسافات والأبعاد المكانية يخضع هو الآخر لخصائص والقوانين الجشطالتية، ففي تجارب خصصت لدراسة إدراك البعد الثالث للمثيرات (العمق) تبين أن إدراك المسافات يتم مستقلا وبصفة جشطالتية عن المثيرات الموجودة كما يحصل في ظاهرة فاي البصرية .

أخطاء الإدراك : ـ

يتعرض الإدراك لأخطاء كثيرة بسبب العوامل المؤثرة فيه، فالعوامل الذاتية يمكن أن تؤدي إلى أخطاء كقراءتنا لكلمة ( دلك ) صحيحة نتيجة التهيؤ العقلي لممارسة التكميل أو الإغلاق، والعوامل الموضوعية تتسبب في أخطاء الإدراك بسبب ما يسمى بالانطباع غير المحلل لأن الإدراك الجشطالتي هو إدراك للكليات وإهمال مؤقت للتفاصيل وتبرز مثل هذه الأخطاء في حالة تشابه المثيرات والتقارب والاستمرارية كما هو الشأن في إدراكنا للأشكال التالية حيث يظهر الشكل " أ " أطول من " ب " بسبب إغلاق القوسين على الخط " ب " ( مدخل : 146 ـ 147 ) .

             أ                   ب

     

فرغم أن الشكلان متساويان إلا أننا ندرك للوهلة الأولى أن الشكل أ أصغر من ب في الطول بسبب إغلاق وانفتاح القوسين على الخطين.

الإدراك والتعلم : ـ

يعتبر الإدراك أهم مرتكزات التعلم، حيث يتوقف التعلم على فعالية تفسير المثيرات التي نستقبلها من البيئة وعطائها قيمة ومعنى حين إدراكنا لها، والتعلم في إحدى تعاريفه إن هو إلا تغير في السلوك ناتج عن استثارة، والاستثارة هو كل تغير في المحيط البيئي أو الاجتماعي أو حتى الرمزي، فيؤثر حين يقع تحت حواسنا وقدراتنا العقلية على خبراتنا بفضل تخزينها وإعطائها معنى ورمزا بإدراكنا له ويستقر كخبرة تعلمية في ذاكرتنا لاستدعائها في المواقف المشابهة وعند الحاجة  . فالإدراك الجيد يرتبط مبدئيا بالتعلم جيد في الظروف المناسبة والشروط التي من أهمها:

 سلامة أعضاء الحس، توفير البيئة غنية بالمثيرات المتنوعة، سلامة الجهاز العصبي، التدريب على مهارات الحركة، التدريب على مهارة الإدراك، فالإدراك ينموا كما تنمو الوظائف النفسية الأخرى، توفير التغذية الراجعة، الشخصية السوية .( علم النفس المعرفي : 113 ـ 114 ) .   

 

 

 

 

                       

 

                              

    

 

 

 

             

 

 

 

 

   

   

 

 

 

المراجع .

م. روزنتال وآخرون . الموسوعة الفلسفية . ت . سمير كرم . ط.5. 1985 . دار الطليعة . بيروت .

 

      

 

                                       

 

                        

    

   

   

                                                                                                          

 

 



( 1 )  يمكن الاطلاع على هذا الاستبيان المتكون من قياس 16 سمة  في المصدر المذكور ( رتشارد . س . لازاروس . الشخصية ص 61) .

( 2)  يقصد بالحميل الجنين في المرحلة الأخيرة من الحمل