مقدمة لا بد منها

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويبصرون بالحق أهل العمى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة الذين يقولون على الله بغير علم، ويتكلمون بالمتشابه من الكلام، فنعوذ بالله من فتنة المضلين.

وبعد: فإن الله تعالى إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته شرح صدره لقبول أوامره ونواهيه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالإنقياد، فاستنار بها قلبه، واتسع لها صدره، وامتلاء قلبه بها سروراً ومحبة.

وعكسه الجاهل بالله وآياته، فهذا عن معرفة ربه مصدود، وباب الهداية عنه مسدود، قد شرب الهوى وارتوى من ماء آجن، قد أعد التأويل الباطل لآيات الله جنة يتترس بها من مواقع سهام السنة والقرآن، فهو يتعثر بأذيال السب لأهل الحديث، والتبديع لهم، واشتعل بقراءة كتب أهل الكلام من المفكرين وفقهاء السياسة، وتعصب لهم، واتهم العلماء الربانيين بقصورهم عن فقه الواقع المزعوم، واستعاض عنهم بصحفيين متكلمين.

فسبحان الله ما أعظم الفارق بين من ديدنه شرح الصحيحين واستنباط الأحكام من آي القرآن الكريم، ممن ديدنه شرح ألفاظ (مجلة الشرق الأوسط) ومتابعة حلقات (إذاعة لندن) ليجعلها حاشية على مجلة (.....)البريطانية.

والله عزوجل بقول ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ..) وهو يرد ما اختلف فيه إلى مجلة مجهولة أو إذاعة مدسوسة.

 

سارت مشرقة وسرت مغرباً            شتان بين مشرق ومغرب               

 

تالله إنها فتنة عمّت فأعمت، ورمت القلوب فأصمت، واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً، واستعاضوا بحمالة الكذب قتالة الوقت من المجلات والإذاعات، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً.

فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون وصائل، ونصبوا لمن خالفهم الحبائل والغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي:ـ بأنه عميل للدولة، ومدسوس على الصحوه، كي يقض أركانها، ويهدم بنيانها، وقالوا لإخوانهم وأَتباعهم (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) فإذا طولب بالدليل على ذلك قال كبيرهم ( ما أريكم إلا ما آرى وما أهديكم إلا سبل الرشاد ).

فسبحان الله ! ما أشبه الليلة بالبارحة، ولكل قوم وارث (تشابهت قلوبهم ..) وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : ( من قال في مؤمن ما ليس فيه سقاه الله من ردغة الخبال يوم القيامة ..) رواه أبو داود [ردغة الخبال:ـ شرعصارة أهل النار ].

فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن، وما أحب جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ...)

 قال ابن القيم رحمه الله :ـ فالجهاد بالعلم والحجة، وفضح أهل الكفر والنفاق هو جهاد أنبيائه وخاصته من عباده الموفقين ( ومن مات ولم يغر ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) ا.هـ  [مقدمة نونية ابن القيم ].

ثم أقول لذلك الرجل الذي عنده أثارة من علم وعرف الحق وجبن عن إظهاره؛ كفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن، وقد لبسوا للحرب لأْمَته، وأعدوا له عدته وأخذوا مصافهم ومواقفهم، وقد حمي الوطيس ودارت الحرب واشتد القتال وتنادت الأقران: النزال النزال، وهو في الملجاء والمغارات، مع الخوالف كمين، وإذا عزم على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيزين، فمن كان هذا موقفه فبئس الخزي والهوان، إذ رضي أن يبيع نفسه بأبخس الأثمان، وقد قال تعالى ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) قال ابن عباس:ـ تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.

فوا الله لمفارقة أهل الأهواء والبدع أهون من موافقتهم إذا قيل ( أُحشروا الذين ظلموا وأزواجهم...) قال عمر بن الخطاب:ـ أي اشباههم ونظراؤهم. [كلاهما نقله ابن كثير ].

 

أهل البدع أضر على الإسلام من الكفار والملحدين

 

قال الإمام الشوكاني ـ في تفسيره عند قوله تعالى ( ولئن اتبعت أهواءهم ) :

" .. وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل؛ فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك، والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إ‘لى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ..، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، هذا إن كان من جملة الجاهلين.

وإن كان من أهل العلم والفهم..، كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم، وختم على قلبه وصار نقمة على عباد الله ... لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه، لا يميل إلا إلى الحق، فيضلون بضلالة، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة "ا.هـ. [1/169 البقرة آية ( 145)].

رحمك الله يا إمام، وسبحان من أنطقك بالحكمة، نعم والله إن الاغترار بأهل الأهواء من المبتدعة والملحدين أشد ضرراً من الإنصياع إلى من اتضح كفره كاليهود والنصارى، وخير شاهد مانعايشه في واقعنا، فما قتل المسلمين إلا هذه الحزبيات المقينة والشعارات المتمسحة بهدي الإسلام وليست منه في شيء ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء )

 

أهم الأسباب التي وقع بسببها الإغترار بأهل البدع

 

قال الشيخ عبد الله بن يوسف في كتابه (( العقيدة السلفية )) ص 447:ـ

1 - دعواهم ـ أي أهل البدع ـ الإنتساب إلى أهل السنة .. وتأكيد ذلك باشتغالهم بعلوم السنة، وإسناد الروايات، مما هو شعار السلف.

2 - اشتهار الكثير منهم بالديانة والصلاح والجهاد في سبيل الله.

3 - اشتغالهم بالرد على الطوائف المخالفة لشريعة الإسلام كردودهم على الفلاسفة واليهود والنصارى وأمثالهم.

4 - كثرة الموافقين لهم على مر الأزمان.

هذه أهم الأسباب التي اغتربها كثير من الناس، فهونوا من بدع هؤلاء بل إنهم جعلوها ستراً يسترون به فضائح أهل البدع، وغفل هؤلاء عن كون الضلال في الإعتقاد من أعظم الضلال ... فصاحب البدعة قد يكون فاضلاً لمعانٍ من الفضل فيه، ولكن لكون ما وقع فيه عظيماً .. ـ بغض النظر عن قصدة ومراده ـ لتعلقه بأصول الدين ، وجب التنبيه على خطره نصحاً للأمة، خاصة إن كان من ذوي الفضائل المشهورة والخصال المحمودة، لأن تأثّر الناس بمن هذا وصفه أشد من غيره، ويبقى قصده ومراده فيما بينه وبين الله تعالى .. وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -  وتحري الحق.

أما إذا غلبت عليه الأهواء، ومخالفة صريح الشريعة.. فليس له توقير ولا حرمة ولا كرامة ..)) اهـ.

 

بعض مواقف السلف مع أهل البدع

 

1 - الجعد بن درهم، عداده في التابعين، مبتدع خالف صريح الكتاب والسنة فقال:ـ ( إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما ) وكان والي العراق آنذاك هو:ـ خالد بن عبد الله القسري، فقبض عليه، وخطب الناس في عيد الأضحى وقال في آخرها:ـ " أيها الناس ضحوا تقبل الله صخاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تلكيما. فنزل من المنبر وذبحه بالسكين. [ انظر لوامع الأنوار 1/164]. فشكر سلف الأمة على صنيعه، فقال ابن القيم:ـ

شكر الضحية كل صاحب سنة                   لله درك مـن أخـي قربـان

فلم يقل السلف ( نوازن بين الحسنات والسيئات ) أو: كيف يترك اليهود والنصارى ويقتل هذا الرجل ؟!! وغير هذه من الحيل الشيطانية.

2 - غيلان بن أبي غيلان الدمشقي، كان يدعو إلى القدر، فقتله هشام بن عبد الملك، فكتب إليه رجاء حيوه:ـ " وأقسم لك يا أمير المؤمنين أن قتله أفضل من قتل ألفين من الروم والترك ".

3 - وجاء في رسالة أسد بن موسى إلى أسد بن الفرات:ـ ( إعلم أي أخي إنما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك، من إظهارك السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشدبك ظهر أهل الحق، وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم، فأذلهم الله بذلك.. فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به أفضل حسناتك ..) [البدع والنهي عنها ص6].

4 - وقال الإمام القحطاني في نونيته ـ في معرض هجائه للأشعرية:ـ

لأقطعـن بمعولي أعـراضكم              ما دام يصحب مهجـتي جثماني

                                ولأهجـونكمُ  وأثلب حزبكم            حتى تغيب جثتي جثمــانــي

                                     ولأهتك بمنطقـي أستـاركم               حتـى أبلـغ قـاصيـاً أو دانِ

  ولأكتبن إلى البـــلاد بسبكم             فيسير سير البزل بـالـركبـان

أين نحن من هذه المواقف المشرِّفة لسلف الأمة مع أهل البدع، والله لو فعل أحدنا كفعلهم أو نصفه، لقامت نفوس وقعدت، وقالوا: عميل للدولة، ترك الكفار والعلمانيين وحارب هؤلاء المساكين إلى غير ذلك من الحجج التي يستحي ـ والله ـ أن يبديها إبليس فضلاً عن غيره، أقول لهؤلاء وأمثالهم أين نحن عن السلف الصالح وجهادهم المستميت لأهل الأهواء حماية للعقيدة عن كل دخيل، أين نحن من كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وشرح السنة للخلال والبربهاري، والطحاوية، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية كالواسطية والتدمرية وكتب ابن القيم كالصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة .... وغيرها كثير وكثير.

فهل يجب السكوت عن الأفكار الهدامة، التي لبست لباس السنة وقد حوت البدع والضلالات ـ وقد حارب السلف الصالح ما هو أهون منها بكثير؟! ـ فهل السكوت عن كل هذا من النصيحة والأمانة، ومن الإعتصام الكتاب والسنة، أو هو من الغش والخيانة؟!.

إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قال لرجل كان يبيع حباً فأصابته السماء وابتل أسفله، واعتذر البائع بهذا السبب قال له: ـ ( هلا أبديته في أعلاه، من غشنا فليس منا ) هذا في الحب والذرة، فكيف الغش في الدين، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -  (.. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه ) أبو داود.

قد يعذر من لا يعرف الشر ولم يدركه، أما أنا وقد عرفته فقد آليت على نفسي لأقومن بذلك الواجب، فراراً من جريمة الغش  وفراراً من جريمة الكتمان في قوله تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ..) وعملاً بقوله:ـ ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ..).

إنني والله أنطلق في عملي هذا من منطلق النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ومتأسياً بالسلف الصالح في جهادهم ونصحهم.

أقول ذلك وإن ساءت ظنون المبطلين المخذلين، وإن كثرت إشاعات المرجفين، فهذه سنة الله في خلقه، صراع بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلا جاعلاً نصب عيني قوله تعالى ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ..)، وقوله ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا..).

وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:ـ ( .. قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أَحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل ). [ الفتاوى 28/ 231].

فهذه بعض أقوال السلف الصالح، أهل الديانة والتقى، وأهل الزهد والورع، جاءت مصرحة بجواز الطعن على أهل البدع، وبيان حالهم للناس، بل عدهم ذلك من الواجبات التي لا يقوم الدين إلا بها، ولهذا كان يحث بعضهم بعضا على تأدية هذا الواجب، ويتواصون به فيما بينهم، ويرجون فيه من الأجر والثواب ما لا يقدره إلا الله سبحانه.

وقفه لابد منها:

إن الرد على المخالف أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وأَول من قام بهذا رب العزة سبحانه فرد على أهل الشرك والإلحاد، وفضح المنافقين، ودافع عن المؤمنين والمؤمنات، ثم فعل ذلك رسول -صلى الله عليه وسلم-والصحابة من بعده، بل إن الرسول  -صلى الله عليه وسلم-كان يرد الخطاء الصادر من صحابته بمايناسبة من قول أو فعل، ففي الصحيح والسنن أن سبيعه الأسلمية مات عنها زوجها وهي حامل، فلما وضعت حملها تزينت للخطاب فأفتاها أبو السنابل أن عليها عدة المتوفي عنها زوجها فانطلقت إلى رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- تخبره فقال لها  -صلى الله عليه وسلم- " كذب أبو السنابل ". فبين خطأَه في ذلك ولم يتردد .

فهذا من المواقف التي لا تحصر، بل رد على المخالف في أمور بسيطة، فلما قيل لناقة رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- ( خــلأت القصواء، قال: ـ " ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق " كل ذلك يريد تبيين أن المخالف يجب أن يرد عليه كي يتضح الحق، ففي السكوت تلبيس وخيانة.

وهكذا سار الصحابة والسلف الصالح، فهذا ابن مسعود رضي الله ـ ينكر على أهل الصُفة طريقة تسبيحهم الله بالحجارة، وابن عمر يبرأ من القدرية، وابن عباس يرد على الخوارج، وسار على ذلك الأئمة من بعدهم فهذا الإمام أحمد بن حنبل يؤلف كتاباً اسمه ( الرد على الجهمية )، وهكذا ابن تيمية؛ فما الحموية، والتدمرية، ودرء التعارض، إلا ردود على المخالفين، وكذا ابن القيم أيضاً فلم يكتف بمجرد الرد والدفاع عن السنة بل ارتضى الهجوم عليهم فألف كتاب:ـ ( اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة الجهمية ) وكتاب:ـ ( الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة) وكذا الإمام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه رحمهم الله إلى عصرنا الحاضرن فترى الردود على الصابوني الأشعري حتى بلغت الردود عليه أكثر من عشرين رداً، والغزالي كذلك، وأبي غدة ... الخ.

 

العودة للصفحة الرئيسية