علي آل شفاف - talib70@hotmail.com
"ثقافة المظلومية" (2): من خدع من في "المدائن"؟
بعد أن ذكرت في مقال سابق وبإيجاز أسباب نشوء "ثقافة المظلومية", أي: ثقافة
القبول بالظلم, ثقافة البكاء والإبكاء, ثقافة الإنزواء, ثقافة الخمول, ثقافة
التخاذل, ثقافة الإنكسار, ثقافة الخوف, وثقافة قبول الهزيمة. وبعد المرور
السريع على آثارها التأريخية والنفسية, في شخصية الفرد العراقي والعربي الشيعي.
وتجاوزا للكم الهائل من المصاديق, على عمق الأثر النفسي الشعوري واللاشعوري
الناشئ منها.
نقفز مؤقتا إلى ما جرى قبل أيام من أحداث في المدائن, لنرى التجسد الحقيقي
لآثار هذه الثقافة في نفوس شيعة العراق. وأحد أهم هذه الآثار هو عدم الثقة
بالنفس, و استصغار الإمكانات والقدرات الذاتية في مقابل ما للآخر, بسبب التراكم
التأريخي لحكم الآخر, وبقاؤهم محكومين له!!
إن ما حدث هو إختطاف مجموعة كبيرة من الأبرياء, من سكنة المدائن (الشيعة),
وفيهم الأطفال والنساء والشيوخ, ومن ثم ذبحهم والتمثيل بجثثهم, بإسلوب يظهر
قذارة وبشاعة هؤلاء المجرمين. في محاولة (للتطهير) الطائفي من قبل مجاميع
سياسية فاشية, وسياسية بغطاء ديني, لغايات استراتيجية كإعطاء صبغة سكانية
مغايرة لما عليه واقع هذه المدينة وتكتيكية بنفس الوقت كبناء قاعدة جديدة
"للإرهاب الأسود", بعد سقوط قاعدته الأولى وكذلك لتطويق بغداد بحزام من الجزر,
قد تمهد لهم ـ فيما يحسبون ـ لعمل ما يمنون به أنفسهم ـ غباءا وجهلا ـ في
المستقبل.
إن الوقائع لا يمكن إنكارها, خصوصا عندما تعزز بالشواهد الملموسة. ولكن يمكن
التعتيم عليها, بل والترويج لعكسها تماما, ومن ثم شياع الوجه المعكوس والمقلوب
والمشوه للواقع, تحت وطأة الإعلام الواسع الإنتشار والهائل القدرة وغياب
الإعلام المظهر للحقيقة. فليس غريبا ـ مثلا ـ أن تشاهد بأم عينك واقعة ما, ومن
فعلها, فيما تجد أن الإعلام يروج لنفيها تماما, بل ويصفك ـ أنت المعاين الحقيقي
لها ـ بأنك مغرض ومشبوه, وربما عميل أيضا!! وهذا ما حدث في المدائن. الأمر الذي
يتطلب منا إعلاما مضادا واسعا, وصوتا جهوريا قادرا على كشف الحقيقة والدفاع
عنها أمام التضليل الإعلامي الواسع النطاق.
فقد تظافرت وسائل الإعلام الداخلية والخارجية, المغرضة وغير المغرضة, على نفي
حقيقة خطف هؤلاء الفقراء. استنادا إلى تصريحات فاضحة ومخزية لوزير الداخلية,
الذي كذب الخبر ونفاه, ورمى المسؤولية على إيران ـ كعادته. ولا ندري ما الذي
دفعه إلى ذلك, أتعمد مخالفة الواقع, والتستر على القتلة؟ أم وقع ضحية لمعلومات
كاذبة لكادره البعثي؟ أم وراء الأكمة ما وراءها؟!!
وليس غريبا أن تتناغم هذه التصريحات, مع تصريحات هيئة علماء المسلمين السنة,
التي كشفت عن وجهها الحقيقي للأعمى بعد أن كشفته للبصير من قبل!! والغريب في
هذه المرة, دخول الوقف السني على الخط! وتكذيبه ـ هو الآخر ـ للواقعة! وبكل
جرأة على الحق! ثم لتأتي جماعة "سيد مقتدى" لتعضد الباطل بدون أي مبرر!! تسرعا
ونزقا, وربما لأمور أخرى!! ومن ثم تأتي أغلب وسائل الإعلام لتتلقف هذه
التصريحات, وتبدأ بحملة للتشنيع على الشيعة, ولوي عنق الحقيقة واضطهادها كما هو
العهد بها دائما, استضعافا لمن استضعف نفسه واستهانة بمن استهان بنفسه
واستصغارا لمن استصغر نفسه.
فمن ـ إذا ـ خدع من في المدائن؟!!
لذا, فليس غريبا أن تجد الشيعة أنفسهم ـ وتحت هذا الضغط الإعلامي الهائل ـ
يلوذون بالصمت والإنكسار, وكأنهم جناة وليسوا مجني عليهم.
وهنا يتجلى المظهر الحقيقي لآثار "ثقافة المظلومية" والإنكسار, التي تضعف همم
الرجال عن المجالدة والصبر والدفاع عن الحق ـ ولو ـ إعلاميا, بالكلام والتصريح
المضاد, وتوضيح الحقيقة وكشفها!
بل, بدأ البعض بتصديق خدعة البعثيين والقتلة, حتى أنهم بسلبيتهم هذه, شجعوا
أئمة القتل والذبح والإبادة, أتباع الأردني "الخلايلة", أن ينكروا ـ هم أيضا ـ
هذه الحادثة على غير عادتهم!! في خدعة مكشوفة لرمي تهمة الفتنة على آخرين!! وهم
من صرح مرارا وتكرارا, بسعيهم لخلق الفتنة بين أبناء العراق.
إن سلبية الشيعة في تعاملهم مع قضايا مصيرية من هذا النوع, وانهيارهم تحت الضغط
الإعلامي, وترددهم في الدفاع عن حقوقهم, التي تتناسب مع واقعهم في العراق وباقي
الدول العربية, وقبولهم بالأدنى من شروط الحياة, وسرعة التنازل هو نتيجة واضحة
للآثار النفسية لهذه الثقافة السوداوية, التي ترسخت بسبب الواقع الذي مر به
الشيعة عبر التأريخ.
فعلينا ـ إذا ـ أن نؤكد مرارا وتكرارا, على محاربة كل أنواع وأشكال ثقافة
التوهين والضعف والإنكسار وبناء الثقافة الأصيلة, التي تؤكد روح الصمود والجلد
والقوة, في مجابهة الباطل, والدفاع عن النفس الذي هو غريزة إنسانية وحيوانية
أيضا. من فقدها فقد الحياة, وأصبح ميتا.
"ليس من مات فاستراح بميت * * * إنما الميت ميت الأحياء"
لنتخلص من قيود الثقافة التي غرسها فينا الجهلة والمتخاذلين وغير المبالين.
ولننهض بواقعنا, ولنكن بقدر المسؤولية التي حملنا إياها الواقع الجديد, الذي لم
يعد فيه فرصة للتخاذل, والإنزواء, والإنطواء, بعيدا في الكهوف والسراديب.
فلا قيود عسيرة على الفك,
ولا طغيان عصي على الوقف,
ولا قتلة بعيدون عن القصاص,
ولا تضليل بعيد عن الكشف,
ولا تآمر بعيد عن الفضح . . .
فلا عذر لمن يغفو والناس يعملون!
ولا عذر لمن يصفح والمجرمون يقتلون!
الموت لثقافة الخوف والجبن والتخاذل والإنهزام!
إن ما أدعو إليه ليس ثقافة للقتل والتخريب والتدمير, ولا هو ثقافة الكراهية
والحقد والأنانية,
ولا ينافي الإنفتاح, والدعوة لتقبل الآخر, وروح التسامح والأخوة الإنسانية,
والإسلامية والعربية والعراقية. إن ما أدعو إليه هو منع الظلم, والوقوف بوجه
القتلة والمجرمين, وعدم التخاذل في نصرة الإنسان المظلوم والمضطهد أيا كان عرقة
ودينه وقوميته وهذا ما تنادي به ـ نظريا على الأقل ـ أغلب الأفكار والثقافات
والأحزاب, من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها.
|