المشنوق
الكسندر ديماس
.
هل تعرف قرية لابيروتشى ؟!
من المؤكد أنك لا تعرفها و لا أنا الآخر أعرفها . لذلك فأنا لن أسئ إلى ماهيتى كمؤلف و أصفها لك ، و خاصة و هم يقولون إن عملية الوصف هذه مملة جدا ، و هذا بيني و بينك طبعا ، هذا إن لم يكن الوصف يتناول بالطبع شيئا مثل غابات أمريكا العذراء كما في مؤلفات كوبر ، أو جانبا من هذه الأقطار البعيدة ففي هذه الحالات ينبغي أن نعاون الخيال بخبرات هئولاء الذين زاروا هذه الأماكن ، أما بوجه عام فلا فائدة أو جدوى ترجى من عملية الوصف إلا لو شارك فيها القارئ بنفسه . فالأدب يتميز عن الرسم و النحت و الموسيقى بهذه الميزة و هي إنه قادر على رسم صورة كاملة بكلمة واحدة أو نحت تمثال كامل بعبارة واحدة أو تكوين لحن متكامل على صفحة واحدة ، و على هذا فلابد أن نترك للفنون الأخرى ميزاتها هي الأخرى . و لذلك فأنا أعترف ، بالنسبة لي على الأقل ، إنني عندما أجد نفسي مضطرا أن أصف للقارئ بلدا قد رآها من قبل ، أو يستطيع أن يراها ، أو أرضا لا تختلف عن أرضه ، فأنا أترك للقارئ سعادة أن يتذكر بنفسه و يسترجع هذا الوصف أو يتخيله إن كان قد رآه من قبل . و غالبا ما يفضل القارئ أن يترك له هذا النصيب من المشاركة أثناء عملية القراءة . و علاوة على ذلك فإن الناس جميعا يعرفون ما هو البحر و ما هي الغابة و السماء الزرقاء و الشمس و القمر و غيرهم ... فلماذا نصفهم لهم ؟! ماذا يبقى إذن ؟! يبقى أن نذكر كلمة واحدة و هي إذا كان الوقت نهارا أم ليلا ، في الشتاء أم في الربيع ، الجو معتدل أم عاصف ، المكان سهل أم غابة -- و هكذا نستطيع أن نثير في نفس القارئ خلفية القصة كاملة .
لذلك فليس لدى ما أخبرك به سوى أنه عندما بدأت القصة التي سوف أرويها لك كان الوقت حوالى منتصف النهار ، و كان ذلك في شهر مايو . و أن الطريق الذي نتحدث عنه كان محفوفا بأشجار الرتم الشائكة من الجهة اليمنى و البحر من الجهة اليسرى . و بمجرد ما أن أذكر لك أنا ذلك ستعرف أنت بنفسك أن هذه الأشجار خضراء و أن الموج كان يترقرق و أن السماء كانت زرقاء و أن الشمس كانت دافئة و أنه كان هناك تراب على الطريق .
لا يبقى إذن سوى أن أضيف أن هذا الطريق كان فى قرية لابيروتشى ، و أن قرية لابيروتشى هذه قرية لا أعرف عنها أى شئ إنما هى قرية لابد و أنها تشبه كل القرى التى كانت موجودة فى القرن الخامس عشر ، و بالتحديد عام 1418، و أنه على هذا الطريق كان يسير رجلان ، أحدهما أكبر من الآخر و واحد منهما والد الآخر و الثانى بالطبع ابنه . و الاثنان كانا من الفلاحين ، و أنهما كانا يمتطيان حصانين ، و أن الحصانين كانا يسيران بالسرعة العادية التي يمكن أن يسير بها حصانان يحملان فوق طهرهما اثنين من الفلاحين .
قال الابن : هل نستطيع أن نصل في الميعاد ؟!
رد الأب : نعم فالأمر لن يحدث قبل الساعة الثانية ، و ها هى الشمس تشير إلى الساعة لا تزال الثانية عشرة و الربع .
:
أوه ، و لكنني شغوف جدا بأن أرى ذلك !:
أظن ذلك أنا الآخر:
إذن فهم سيشنقونه و هو يلبس الدرع الذي سرقه:
نعم:
و لكن كيف بحق الشيطان أتته هذه الفكرة بأن يسرق الدرع ؟!:
ليس من الصعب أن تأتيه الفكرة ، إنما من الصعب ---:
إنما من الصعب أن يأتيه الدرع نفسه ، قال الابن ذلك و هو يريد أن يشارك بنصيبه هو الآخر من النكتة:
و حتى الدرع لم يحصل عليه:
و هل هو درع جيد ؟!:
أوه ، رائع ، أنهم يقولون إنه يلمع بالذهب بأكمله .:
و هل أمسكوا باللص و هو يحمله ؟!:
نعم فأنت تعرف كما أعرف أنا تماما أن هذا الدرع لا يمكن أن يختفي دون أن يثير ضجة عظيمة .:
إذن فقد كان درعا حديديا ؟!:
لقد استيقظ جميع من في القصر على الضوضاء:
و هل قبضوا على الرجل ؟!:
لم يقبضوا على الرجل في الحال فقد خافوا منه أول الأمر:
بالطبع هذه هي الطريقة التى يتصرف بها الناس المسروقون عندما يدركون أنهم فى حضرة اللصوص ، و إلا ما كان هناك هدف أصلا من أن تكون لصا !!:
لا ، و لا أى إثارة فى أن تسرق ، لكن هئولاء الناس الشجعان لم يكن لديهم فى البداية أية فكرة عن أن العملية عملية سرقة .:
و ماذا ظنوا إذن ؟!:
لقد ظنوه شبحا ، فقد كان الرفيق الشجاع يحمل الدرع أمامه بطريقة مؤثرة جدا ، أضف إلى هذا الضوضاء التى كان يسببها سيره فى الممر و أنت تعرف حجم الرعب الذى انتاب الخدم وقتها . و لكن اللص لسوء حظه أيقظ بضوضائه هذه سيد لابيروتشى و الذى لا يخاف أحدا أبدا لا من الأحياء و لا من الأموات ، و الذى قبض على اللص بمفرده و سلمه و هو مقيد ليلقى جزاءه .:
لكن لماذا اختار سيد لابيروتشى أن يشنق اللص و هو يلبس الدرع ؟!:
لآن سيد لابيروتشى كما ترى ليس قائدا شجاعا فقط ، إنما هو رجل حكمة أيضا . و هو يهدف من وراء حكمه هذا على اللص إلى شيئين ، الأول هو أن يجعل هذا اللص عبره لغيره ، و الثانى هو أن يستفيد هو نفسه من هذا الجزاء ، أولا أعرف أن أى شئ يلمس جسد الرجل المشنوق يعتبر تعويذة ضد الموت لمن يملكه من بعده ، لذلك أمر سيد لابيروتشى أن يشنق الرجل و هو يلبس درعه و ذلك حتى يسترد هو الدرع بعد وفاة الرجل و بذلك يصبح هذا الدرع تعويذة له تحميه من الموت عندما يلبسه فى الحروب القادمة .:
إنها فكرة بارعة حقا:
بلا شك:
إذن دعنا نسرع فأنا مشتاق جدا كي أراهم و هم يشنقون هذا الرجل المسكين:
لا زال لدينا متسع من الوقت فلا حاجة بنا إلى أن نسرع و نهلك خيولنا . ثم أننا لن نتوقف عند لابيروتشى ، بل سنسير بعدها بميلين ثم نعود إليها بعد ذلك .:
نعم ، و هكذا تستريح الخيول لمدة خمس أو ست ساعات ، فكما ترى نحن لن نعود قبل المساء .استمر الأب و الأب في طريقهما و هما يتحدثان هكذا حتى وصلا إلى لابيروتشى بعد حوالى نصف ساعة . و كما قال الأب فقد وصلا فى الموعد تماما . ألي الأباء دائما على حق ؟!!
كان هناك حشد كبير جدا من الناس فى الميدان الكبير الذى أمام القصر ، حيث كان هذا هو المكان الذى نصبت به المشنقة ، و هى مشنقة جميلة حقا من خشب البلوط القوى ، و إن كانت فى الحقيقة ليست عالية جدا حيث إنها كانت قد صنعت خصيصا من أجل هذا المجرم النكرة المتشرد المسكين ، و لكنها رغم ذلك كانت عالية بالدرجة التى تسمح للموت بأن يؤدى دوره فى تلك المسافة بين الأرض و طرف الحبل المتأرجح فى هواء البحر المنعش و كأنه ثعبان بحر معلق من ذيله .
و هكذا فقد انعموا على هذا المجرم بأن يرى هذا المنظر الجميل أثناء موته حيث إنهم كانوا سيعدمونه و وجهه ناحية المحيط . فليبارك الله لهم و له إذا كان هذا المنظر سوف يكون له أى نفع له ، و لكننى لا أعتقد ذلك .
كان البحر أزرق صاف ، و من حين لآخر بين زرقة البحر و زرقة السماء الآزورية كانت تسبح سحابة بيضاء و كأنها إحدى الملائكة فى طريقها إلى الجنة و هى ترفل فى ثوبها الأبيض .
اقترب الرفيقان بأكبر درجة ممكنة من المشنقة حتى لا يفوتهما شئ مما يحدث هناك ، و انتظرا مثل بقية المنتظرين جميعا ، و إن كانت لهما ميزة فوق الجميع و هى إنهما كانا يمتطيان صهوة جوادين ، و هكذا استطاعا أن يروا أفضل بمجهود أقل .
و عموما لم يطل انتظارهما ، ففى الساعة الثانية إلا ربعا انفتح باب القصر الكبير و ظهر الرجل المحكوم عليه يتقدمه حراس سيد لابيروتشى و خلفه الجلاد . و كانوا قد ألبسوا اللص نفس الدرع الذى سرقه و أركبوه فى وضع معكوس على ظهر جحش . و كانت على رأسه المنحنية خوذة حربية بالإضافة إلى أنهم كانوا قد ربطوا يديه خلف ظهره أيضا .
قادوا اللص إلى جانب المشنقة ، و وضع الجلاد سلمه على عمود المشنقة ، و صعد قس لا بيروتشى على منصة أعدت خصيصا كى يقرأ من فوقها حكم الإعدام هذا .
لم يتحرك الرجل المحكوم عليه أو يبدى أية حركة ، حتى أننا ظننا أنه ق خدع كل هئولاء الذى أتوا ليروا موته و توفى قبل أن ينفذ فيه الجلاد حكم الإعدام .
نادوا على الرجل كي ينزل عن ظهر الدابة الموضوع فوقها و لكنه لم يتحرك ، أمسكه الجلاد من مرفقيه و رفعه عن ظهر الجحش و وضعه منتصبا على الأرض .
و عندما نقول وضعه منتصبا على الأرض فإننا لا نكذب فى ذلك ، إنما نكذب لو قلنا إنه بقى منتصبا هكذا لمدة طويلة ، ففى أقل من دقيقة كان هذا اللص قد قفز أكثر من ثلثي حروف الهجاء ، أو بعبارة أخرى بدلا من أن يقف منتصبا كالألف راح يتلوى كالياء . و أثناء ذلك كله كان القس قد انتهى من قراءة حكم الإعدام .
سأل القس المجرم : هل لديك أى طلب ؟!
رد المسكين بصوت حزين منخفض : نعم
:
ما هو طلبك ؟!:
إنني أطلب العفوتراجع سيد لابيروتشى ازدراء و أمر الجلاد بأن ينفذ واجبه
استعد الجلاد كى يرتقى السلم المسنود على المشنقة ، و التى كانت بدون أي إحساس أو رحمة على وشك أن تنزع الروح من جسد هذا المجرم المسكين . حاول الجلاد أن يجعل المجرم يصعد السلم أمامه ، و لكن هذا لم يكن شيئا سهلا بالطبع ، فالإنسان لا يعرف ما هي العقبات و الموانع التي يمكن أن يضعها هئولاء الأشخاص المحكوم علبهم بالإعدام فى طريق موتهم . و قد بدا الأمر و كأن الجلاد و المجرم كانا يحترمان بعضهما البعض أكثر مما يجب ، فكلا منهما كان يريد الآخر أن يصعد السلم قبله .
و فى النهاية و لكى يجعل الجلاد المجرم يصعد السلم عاد مرة أخرى إلى نفس الطريقة التى اتبعها معه كى ينزله من فوق ظهر الدابة ، أمسك به من وسطه و وضعه على الدرجة الثالثة للسلم و بدأ يدفعه من أسفل . صرخ الحشد المجتمع فى الميدان " برافوا " ، و يبدو أن المسكين كان يحسن الصعود .
عند ذلك أمسك الجلاد بكل مهارة بأنشوطة الحبل المعلق فى الهواء و ألقي بها حول عنق المجرم ثم دفعه بركله من قدمه فطاح فى الفضاء الذى بدا و كأنه لا نهائى .
حيى الجمهور هذه اللحظة التى طال انتظاره لها بشكل عجيب ، ثم سرت رعشة فى جسد الجميع . و بصرف النظر عن الجريمة التى ارتكبها هذا المجرم فأن الرجل المشنوق دائما يكون أعظم من هئولاء الذين يشاهدونه لحظة موته .
تأرجح الرجل المشنوق فى طرف الحبل لمدة ثلاث أو أربع دقائق ، كما كان يحق له أن يفعل ذلك ، فقد راح جسده يتراقص و يتلوى حتى جمد فى النهاية تمامابلا حراك ، و ها هى الياء قد تحولت إلى ألف مرة أخرى .
نظر الجميع إلى المجرم بعد ذلك لعدة دقائق ثم تفرق الجمع إلى مجموعات صغيرة عائدين إلى بيوتهم و هم يتحدثون حول هذه الحادثة .
قال الابن و هو يسير بجوار والده : اوف ، حقا أن الموت هذا شئ مرعب .
:
فى الحقيقة أنا أعتقد أن مسألة أن يشنقوا رجلا بهذا الشكل الذي فعلوه لا لشيء سوى أنه لم ينجح في سرقة درع فهذا شئ كثير ، ألا تعتقد ذلك ؟:
أنا أتعجب حقا ماذا كانوا سيفعلون به لو كان قد نجح في سرقته فعلا ؟:
لم يكونوا ليفعلوا به أو له أي شئ على الإطلاق ، لأنه لو كان قد نجح فى سرقته هذه لكان قد هرب من القصر ، و من الطبيعى أنه لم يكن ليعود لهم كى يقبضوا عليه .:
و بالرغم من ذلك فها هم يعاقبونه على جريمة لم يرتكبها عقابا أشد من الذى كانوا سيعاقبونه به لو كان قد نجح فى ارتكابها :
و لكنه كانت لديه النية فى ارتكاب جريمته هذه:
و لكن النية ليست حقيقة:
هذا حقا:
أليس من المؤسف أن يحدث هذا ؟!و نظرا لأنهما وجدا انفسهما يمران فوق بقعة مرتفعة من الأرض فقد توقفا لحظة ليلقيا النظرة الأخيرة على هذه المشنقة و هذا المشنوق البائس . و بعد عشرين دقيقة أخرى كانا قد وصلا إلى المدينة المجاورة حيث كان عليهما أن يتسلما مبلغا معينا من المال ثم يغادرا المدينة و يبدءا رحلة العودة إلى قريتيهما فى نفس الليلة .
و فى صباح اليوم التالى خرج حراس قصر لابيروتشى لكى ينزلوا جثة الرجل المشنوق من فوق المشنقة و ينزعوا عنها درع سيد لابيروتشى ، و لشد ما كانت دهشتهم عندما رأوا شيئا لم يتوقعوه أبدا فقد وجدوا المشنقة كما هى و كما كانت دائما فى نفس مكانها و لكنهم لم يجدوا جثة الرجل المشنوق التى كانت فوقها بالآمس .
مسح الحراس عيونهم و ظنوا أنهم ما زالوا يحلمون ، و لكن الشئ كان حقيقيا و لا خلاف عليه فلم يكن هناك جثة و طبعا لم يكن هناك درع . و ما هو أكثر من ذلك غرابة أن الحبل لم يكن مقطوعا أو مفكوكا إنما كان تماما فى نفس الحالة التى كان عليها قبل أن يستقبل المجرم الذى شنقوه بالأمس .
أسرع الحراس إلى القصر ليخبروا سيد لابيروتشى بهذه الأخبار . لكن سيد لابيروتشى لم يكن على استعداد أبدا لأن يصدق مثل هذه الأخبار و أسرع بنفسه ليتأكد منها على الطبيعة ، فقد كان سيد لابيروتشى واثقا من نفسه لدرجة أنه تخيل أن الرجل المشنوق سوف يظهر له هناك مرة أخرى و أنه لن يجروء حتى بعد موته أن يهرب من أمامه . و لكن ما شاهده لم يختلف بالطبع عما شاهده بقية الناس فلم يكن هناك رجل مشنوق فوق المشنقة .
إذن ماذا حدث للجثة ، حيث أن الرجل قد مات بالطبع أمام أهل القرية كلهم .
هل استفاد لص آخر من هدوء و عتة الليل و سرق الدرع الذى كان يغطى الجثة ؟! و لكن إن كان هذا حدث فعلا فإن اللص الذى سرق الدرع كان سيترك الجثة ، و إلا ماذا سيفعل بها ؟!
هل أتى أقارب المجرم أو أهله و أحبوا أن يدفنوه دفنة مسيحية كبقية خلق الله ؟!
تبدو هذه وجهة نظر معقولة جدا لولا أن هذا المجرم ليس له أى أقارب أو معارف أو أصدقاء فى هذه المنطقة . ثم إن اناسا بهذه العواطف و النزعات الدينية كانوا سيأخذون الجثة و يتركون الدرع . إذن فحتى هذه الفكرة من الصعب قبواها . فماذا حدث إذن ؟!
انتابت سيد لابيروتشى حالة رهيبة من اليأس فقد كاد يجن من أجل هذا الدرع و قد وعد بمكافأة قدرها عشر قطع ذهبية لمن يأتيه بهذا المجرم و هو يلبس درعه .
راح الجنود يفتشون كل بيوت القرية ، و لكنهم لم يجدوا شيئا ، و كذلك لم يقدم احد من الأهالى نفسه لسيد لابيروتشى .
لذا فقد تطلب الأمر أن يرسلوا فى حضور حكيم مدينة "رينس " و طرحوا عليه هذا السؤال :" بأى طريقة يستطيع الرجل المشنوق بعد أن يموت أن يحرر نفسه من الحبل المعلق به من عنقه ؟! طلب منهم الحكيم مهلة عشرة أيام يمعن فيها النظر حول هذا السؤال و يفكر فيه ، و فى نهاية العشرة أيام قال لهم : لا ، لا يستطيع ، فلا يستطع أحد أن يفعل ذلك .
عند ذلك طرحوا عليه السؤال الثانى و هو : لص لم ينجح فى السرقة و هو حى ، و قد حكم عليه بالإعدام شنقا و نفذ فيه الحكم و مات فعلا ، هل يستطيع أن يسرق و هو ميت ؟!
أجاب الحكيم على هذا السؤال بنعم .
سألوا الحكيم كيف يكون ذلك و لكنه قال لهم : لا أعرف .
و بالرغم من ذلك فقد كان هذا الرجل هو احكم رجال عصره ، و على هذا فقد اعادوا الحكيم إلى بلدته و ارتضوا بتفسير واحد للحكاية ، حيث كان هذا العصر هو عصر السحر و الشعوذة فقد اقتنعوا بأن هذا اللص المشنوق كان من أبرع السحرة . و على هذا فقد بدأوا فى تلاوة القداس ليطروا هذه الأرواح الشريرة التى كانت بلا شك سوف تنقض على سيد لابيروتشى و على كل هئولاء الذين آتوا ليشاهدوا هذا الرجل و هو يشنق .
مر شهر كامل فى هذا البحث المضنى و لكن دون جدوى ، فها هى المشنقة لا زالت تقف كما هى كئيبة و ذليلة و فارغة . فلم يحدث أبدا فى التاريخ كله أن قامت مشنقة بهذا الفعل من أفعال الخيانة . و استمر سيد لابيروتشى يجد فى طلب درعه من الله و الإنسان و الشيطان و لكن لا شئ.
و فى النهاية و بعد أن كان سيد لابيروتشى قد بدأ يترك موضوع الدرع هذا كلية ، و فى صباح أحد الأيام استيقظ على صياح و هياج شديدين فى الساحة المواجهة للقصر و التى تم فيها شنق المجرم . و كان سيد لابيروتشى على وشك أن يخرج ليعرف ما هو الأمر عندما دخل عليه القس قائلا : سيدى هل تعرف ماذا حدث ؟!
:
لا و لكننى كنت على وشك أن اسألك ماذا حدث ؟:
أنا استطيع أن أخبرك بكل شئ:
أخبرنى إذن ماذا حدث ؟!:
معجزة من السماء:
حقا:
الرجل المشنوق---:
ماذا ----:
إنه هناك معلق فوق المشنقة:
أين ؟!:
فوق المشنقة:
مشنوق ؟!:
بالطبع يا سيدى:
و هو يرتدى درعه ؟!:
و هو يرتدى درعك:
حقا صدقت ، فهذا الدرع درعى أنا . و هل هو ميت ؟!:
طبعا - ميت تماما - لكن --:
لكن ماذا ؟!:
هل كان فى قدميه مهاميز عندما شنقناه ؟!:
لا:
حسنا يا سيدى فهو يضع مهمازا الآن ، و بدلا مما كان مشنوقا و هو يلبس خوذته هو الآن مشنوق حاسر الرأس . فالخوذة موضوعة بكل عناية أسفل المشنقة .:
دعنا نرى أيها القس - دعنا نرى .جرى سيد لابيروتشى إلى الميدان المزدحم بالناس . و كان الرجل المشنوق هناك حقا . فها هو عنقه قد دخل مرة أخرى فى انشوطة الحبل ، و ها هى الجثة تتعلق بطرف الحبل ، و ها هو الدرع ، نعم ها هو الدرع . لقد كان ما حدث بمثابة صاعقة للجميع ، و اعتبره الجميع معجزة بكل المقايس .
قال رجل : لقد تاب و عاد ليشنق نفسه بنفسه مرة أخرى
و قال آخر : لقد كان فى نفس مكانه طوال الوقت و لكننا نحن الذين لم نره
و سأل ثالث : و لكن لماذا هذه المهاميز التى فى قدميه ؟!
:
لا شك إنه قادم من مكان بعيد و كان يود أن يعود فى أقصر وقت ممكن .:
أما بالنسبة لى أنا فسواء كان المكان بعيدا أو قريبا فأنا لم أكن لأحتاج أبدا لكل هذه المهاميز ، لأننى بعد أن هربت لم أكن لأعود مرة أخرى أبدا .و ضحك الجميع و هم ينظرون على الوجه القبيح لهذا الرجل الميت . أما بالنسبة لسيد لابيروتشى فلم يكن يهتم بأى شئ قدر اهتمامه بأن الرجل قد مات حقا و أن الدرع قد أصبح فى أمان الأن.
أنزل الجنود الجثة من مكانها و ربطوها فى جسم المشنقة حتى لا تهرب ثانية ، و بعد أن بدأت تتحلل علقوها فى مكانها مرة أخرى . و فى نهاية اليوم الثانى كانت النسور و الصقور و العقبان قد عرفتها تماما حتى صارت ممزقة و مملؤة بالثقوب . و فى نهاية اليوم الثامن كانت قد صارت تشبه خرقة بالية . و فى نهاية اليوم الخامس عشر كانت قد صارت لا تشبه أى شئ على الإطلاق .
و لكن ما الذى كان يفعله الرجل المشنوق خلال الشهر الذى غاب فيه عن المشنقة ؟! كيف حدث هذا الأمر و كيف أنه بعد هروبه من فوق المشنقة و نجاحه فى الهروب فعلا عاد ليشنق نفسه مرة أخرى ؟! سوف نقدم هنا الثلاث تفسيرات التى وصلتنا حول هذا الموضوع .
قال أحد السحرة إنه فى لحظة الموت إذا أراد المجرم أن يختفى و كانت له إرادة قوية و رغبة فى الاختفاء ، فإن هذه الإرادة و التى هى شئ غير مادى و غير مرئى تنجح فى أن تفرض نفسها على الجسد و الذى هو شئ مادى و مرئى و بذلك تحوله هو الآخر إلى شئ غير مادى و غير مرئى و بهذا يختفى المجرم . أما كيف يظهر المجرم مرة أخرى فى نهاية الشهر و هو معلق فى الحبل هكذا فتفسير ذلك أنه فى لحظة حاسمة ضعفت الإرادة و أصبحت بفعل الضمير المضطرب غير قادرة على السيطرة على الجسد فأنهزمت و فقدت كل تأثير عليه .
و بالرغم من أن هذا التفسير ليس تفسيرا جيدا ، إلا أنه أحد التفسيرات التى وصلنا إليها على كل حال .
و يؤكد علماء الدين أن المجرم بعد أن نجح فى الاختفاء وجد نفسه لا يستطيع أن يهرب من وخز الضمير و الندم و الرغبة فى التصالح مع الله ، و هكذا فهو لم يستطع أن يتحمل مثل هذه الحياة لأكثر من شهر واحد ثم عاد تائبا ليشنق نفسه و ينفذ نفس الحكم الذى استطاع أن يهرب منه فى المرة الأولى .
و بالرغم من أن هذا التفسير أيضا يعتبر تفسير غير دقيق و غير حقيقى على الإطلاق إلا أنه نظرا لأن هذا التفسير يعتمد على المنطق المسيحى ، و نظرا لأننا مسيحيون فإننا لا نستطيع أن نهمله كليا .
و فى النهاية أعلنوا أن الرجلين اللذين ذكرناهم هنا من قبل ، أن هذين الرجلين اثناء عودتهما إلى بلدتهم فى المساء سمعا صوت بكاء و خشخشة درع و صوت رجل يدعو و يصلى . رسم الرجلان علامة الصليب على صدريهما و سألوا ما الأمر . و لكن لم تأتهم إجابة و إن كان الصوت استمر فى البكاء و الصلاة . و بدا و كأن الصوت يأتى من هذه الجثة التى فوق رأسيهما . أخذ الرجلان السلم الذى تركه الجلاد هناك و اسنداه على منصة المشنقة و صعد الابن حتى وصل إلى مستوى الرجل المشنوق و سأله : هل أنت الذى تبكى أيها الرجل المسكين ؟!
قال اللص : نعم
:
و هل ندمت على خطيئتك تلك ؟!:
نعم:
إذن فسوف أفكك من حبلك هذا . فبما أننا يجب أن نساعد هئولاء الذين يعانون و يتعذبون ، و بما أنك تتعذب فسوف أساعدك و سوف أعيدك إلى الحياة مرة أخرى فقد تهتدى إلى الصواب و الخير . و على كلفالله يفضل الأرواح التائبة عن الجثث المعلقة . عند ذلك أنزل الأب و الابن الرجل المشنوق من فوق المشنقة و تأكدا أنه ما زال على قيد الحياة فعلا ، فقد كان حبل المشنقة بدلا من أن يربط و يقفل على رقبة المجرم قد ربط على قاعدة الخوذة التى كان يلبسها فى رأسه . و هكذا بقى المجرم معلقا فى الهواء و لكنه لم يختنق . و قد نجح فى أن يحتفظ برأسه فى وضع معين داخل الخوذة بحيث ظل قادرا على التنفس ، و بهذا بقى على قيد الحياة حتى مر الرجلان من تحته .و قد حملاه الرجلان معهما إلى البيت و هناك تركاه فى رعاية زوجة الرجل و ابنته الشابة . و لكن من سرق مرة يسرق اخرى . و لم يكن هناك شئ يستحق السرقة فى منزل الفلاحين حيث إن المال الذى كانا قد أحضراه معهما فى طريق عودتهما كانا قد تركاه فى مكان آخر و ليس فى البيت . و لم يكن هناك شئ فى المنزل يجذب نظر اللص المشنوق الذى اعاداه إلى الحياة سوى شيئين الأول فرس الرجل و الثانى ابنته العذراء الجميلة ذات الستة عشر عاما . فكر اللص المشنوق فى أن يسرق كلا الشيئين ، حيث إنه كان معجب جدا بالفرس و كان قد وقع أيضا فى حب الفتاة .
و فى إحدى اليالى أسرج اللص الفرس و لبس المهاميز حتى يستطيع أن يجعل الفرس يعدو بسرعة و ذهب كى يخطف الفتاة و هى نائمة . لكن البنت استيقظت و صرخت ، و خرج الأب و الابن مسرعين ليروا ماذا حدث بالبيت . حاول اللص أن يهرب و لكنه كان قد تأخر كثيرا . و اخبرت البنت والدها و أخاها عن محاولة اللص لخطفها . و هكذا عرف الآب و الابن أن مثل هذا الرجل لا ينتظر منه خير أبدا و لا ترجى أو تقبل له توبة . و على هذا فقد قررا إقامة العدل عليه و لكن بطريقة أقوى و أوقع من تلك التى سمح سيد لابيروتشى لنفسه أن يقيم بها عدله . ربط الرجلان اللص على نفس الفرس الذى اسرجه بيديه و قاداه إلى ميدان لابيروتشى و هناك شنقاه بنفس الحبل و على نفس المشنقة التى انقذاه منها من قبل ، و لكن ليس قبل أن يخلعوا عن رأسه الخوذه ليتأكدوا أن ما حدث فى المرة السابقة لن يحدث مرة أخرى . بعد ذلك عاد الرجلان إلى بيتهما بكل هدوء .
و هذا هو التفسير الثالث للقصة ، و لا أعرف لماذا أجد نفسى أميل إلى تصديق هذا التفسير أكثر من التفسيرين السابقين .
أما بالنسبة لسيد لابيروتشى فبمجرد ما أن أمن لنفسه هذا الدرع التعويذة الذى سيحميه من الموت و من كل شئ حتى ذهب سعيدا إلى الحرب حيث كان أول رجل قتل هناك .