الرهينة
سى. اس . فورستر .
في خريف 1944 عندما كانت قوات الحلفاء تتقدم إلى منطقة فازرلاند عبر فرنسا ، تلقى قائد المشاة الجنرال فريدريك فون ديكستر أمرا جديدا باستدعائه . و قد وصلت الأوامر إلى بيته الذي يقع في منطقة ويلفنستراس عن طريق أحد الجنود و الذي كان يركب دراجة نارية . و من الواضح أن هذه الأوامر قد أتت من المقر الرئيسي للقيادة العليا للقوات المسلحة عن طريق التلغراف . و قد كانت الغارات الجوية على المدينة قليلة و متقطعة في الفترة الأخيرة ، و ها هي أطلال المنازل و حطامها و قد بدأت تنطفئ و تكف عن التدخين ، و رغم ذلك فقد كانت حركة المرور تكاد تكون معدومة . لذلك فقد سمع الجميع صوت الدراجة النارية و فتح جميع سكان المنطقة نوافذ بيوتهم ليروا ما الأمر ؟ . رأى الجيران الجنرال نفسه و هو يقف على عتبة باب بيته يتسلم مظروفا و يوقع بالاستلام ، ثم بعد ذلك رأوا الدراجة النارية و هي تزأر و تعود من حيث أتت و دخل الجنرال بيته مرة أخرى .
و في البيت وجد الجنرال صعوبة كبيرة في قراءة الأوامر المطبوعة على الآلة الكاتبة ، فلم يكن الجنرال يلبس نظارته و قتها ، لذلك أمسك بالورقة على طول ذراعه ، و هو أمرا ليس مريحا على ابدا . وقفت الويسى زوجة الجنرال بجواره صامتة ، و دون أن تبدى أية حركة بينما كان الجنرال يقرأ الأوامر ، فكزوجة جنرال كانت هذه السيدة تعرف تماما كيف تخفى قلقها و مشاعرها . و بعد أن قرأ ديكستر الرسالة ناولها لزوجته دون أن ينطق كلمة واحدة ، و قرأتها هي بدورها و لكن بصعوبة أقل من تلك التي قابلت زوجها .
حاولت الويسى أن تتكلم قائلة : " هل هذا يعنى ..... ؟ " و لكنها راجعت نفسها و الغت سؤالها فقد كانا يأويان فى بيتهما الكثير من عمال المصانع ، و بالرغم من أن هؤلاء الأخيرين كان يفترض أن يكونوا نائمين حيث أنهم يعملون فى الوردية الليلية ، إلا أنها لم تستطع أن تخاطر بأن يسمعها أحد و هى تناقشالأوامر الصادرة من القائد الأعلى نفسه . استبدل العجوزان الكلمات بالنظرات ، و بالرغم من جو الحجرة المظلم إلا أنهما بعد أربعين سنة زواج كانا يستطيعان أن يفهم كل منهما الآخر من مجرد نظرته أو حتى دون أن ينظر إليه .
نظر الجنرال إلى الساعة المرمية التي فوق الرف ، و التي كانت هدية من الكتيبة 19 مشاة بمناسبة ترقيته كولونيل ثم قال : " ما زال أمامنا عشر دقائق _ دعينا نتجول _____ "
خرج الزوجان يتجولان بين حطام الشوارع ، فهناك بين المشاة المسرعين و راكبي الدراجات يستطيعان أن يتحدثا بأمان أكثر طالما انهما لا يظهران أي انفعال أثناء حديثهما . و قد كان الجنرال يرتدى الملابس المدنية لأنهم حرموه من ارتداء الملابس العسكرية منذ اليوم الذي طرده فيه من الخدمة بناء على الأوامر العصبية للقائد الأعلى . لذلك كان الجنرال يرتدى حلة من التويد عمرها عشرون عاما ، أما الويسى زوجته فقد كانت ترتدى تنوره و معطفا قديما. و بدا الاثنان و كأنهما أشباح عائدة من القرن الماضي ، و لكن بفضل جسم الجنرال الرشيق و ظهره المستقيم و قبعته التي كانت تخفى شعره الأبيض لم يكن هناك من يستطيع أن يخمن عمره الحقيقي .
و قبل أن يصلا المنعطف الأول سألت الويسى : ماذا يعنى ذلك يا عزيزي ؟!
قال الجنرال : إنه أمر مباشر من القائد الأعلى بتعييني كقائد لحصن مونتيفرل .
: نعم ، نعم الذي يقع في فرنسا ؟
: على حدود بلغاريا بالقرب من ساحل القنال .
: و لكن أي نوع من الحصون هذا ؟!
تلفت الجنرال و نظر حوله في جميع الاتجاهات قبل أن يجيب قائلا : أنا أشك إن كان هناك حصن أصلا ، فليس هناك أية حصون في هذه المنطقة .
: لكن يا عزيز ------
نظر الجنرال خلفه مرة أخرى ثم قال : " إن القائد قد ابتدع نظاما جديدا ، و قد بدأ هذا النظام في روسيا في العام الماضي _ لا منذ عامين تقريبا _ فهو يحدد منطقة معينة ك " حصن " ثم يحدد لها حامية عسكرية و قائدا أيضا .
: ثم ماذا ؟!
: و لأن هذه المنطقة أو تلك قد تسميتها " حصن " لذا يجب أن يصمد المكان و يقاوم حتى آخر رجل .
: فهمت ------
كان شيئا صعبا جدا أن تشارك فى محادثة وسط كل هذه الجماهير و أنت تحاول أن تتظاهر بأنك تتجول تجولا عاديا .
قال الجنرال : لا يا عزيزى فهناك الكثير الذى لم تفهميه بعد ، فالقائد مأخوذ بهذه الفكرة ، و هو ما زال يعتقد و يؤمن بالرغم من كل شئ و كل ما يحدث أن ما يتمناه لابد أن يتحقق . هو يقول إن هذا المكان حصن ، إذن هذا المكان حصن و لابد أن يقاوم و يصمد حتى آخر رجل بصرف النظر عن الظروف و مهما كانت الأحوال ، و كل ما يحتاجه الأمر هو سياج من الأسلاك الشائكة و بعض القوات غير المنظمة و بعض المدافع العتيقة و نقص فى الذخيرة إلى آخره من كل هذه الأشياء التى إذا تكلمتى عنها يتهمونك بالخيانة العظمى .
: إذن ليس هناك أمل .
تكلم الجنرال قائل : " أن واجبى __ " ثم توقف و هويحاول أن يطرد من رأسه كل هذه الأفكار التى استدعنها هذه الكلمة و التى تعتبر أكثر الكلمات دلالة فى مفردات الجندى كلها ، أكمل الجنرال : " أن واجبى يحتم على أن أطيع الأوامر و أن أحارب من أجل بلدى بصرف النظر عن المستقبل ."
: طبعا يا عزيزى ، طبعا ---
قال الجنرال : " لكن -- " ثم توقف مرة أخرى كما يجب على الجندى أن يتوقف بعد كلمة " لكن " هذه عندما يتكلم عن الواجبات ، فالواجب لا يعرف " لكن "
: لكن ماذا يا عزيزى ؟!
: لكن لا فائدة ---- ففى الحصار -----
كان الجنرال قد تزوج منذ أربعين عاما ، و خلال هذه الفترة كان دائما ما يتناقش مع زوجته فى مسائل الحرب المهنية الدقيقة و المعقدة بطريقة تجعلنا نشك فى الأعتقاد القائل بأن اهتمام المرأة مقصور كله على الذهاب إلى الكنيسة و المطبخ و الأولاد ، و رغم ذلك فقد كان من الصعب جدا على الجنرال أن ينقل لزوجته فى كلمات قليلة تلك الصورة التى فى رأسه للحصار ، تلك الصورة التى حفظها بفضل خبرته العسكرية الطويلة .
: كنت تقول فى الحصار ----- يا عزيزى !!
: أثناء الحصار أحيانا يكون هناك وقت يصبح فيه الأستمرار فى الدفاع أمرا بلا جدوى ، يحدث ذلك عندما يسيطر العدو على المرتفعات و عندما تكون مدفعيته هى الأقوى ، فحتى ذلك الوقت تكون الحامية قد أدت دورها و قامت بما يجب أن تفعله . فهى تكون قد احتجزت قوة كبرى أمامها و تسببت أيضا فى حجم إصابات أكبر بكثير من التى ألمت بها ، و ربما تكون قد قطعت خطا هاما من خطوط الاتصال أيضا . و لكن عندما نصل إلى هذه اللحظة ---"
كان الجنرال يتحدث بهذه الطلاقة التى يتحدث بها عندما يتكلم فى أمور مهنته ، و بنفس الطريقة التى كان يتحدث بها لأجيال عديدة من الرجال فى كلية الحرب عندما كان مدرسا فيها . توقف الجنرال فى الحديث بينما كانا يمران بصف طويل من الناس يقفون طابوار أمام أحد المتاجر . و عندما اجتازوا ذلك الموقف ذكرته زوجته بما كان يتحدث عنه .
: كنت تتحدث عن الحصار يا عزيزى !!
: نعم ، نعم عندما نصل إلى نقطة معينة يصبح الدفاع بعدها بلا جدوى . لأن الذين يحاصروننا تكون مدفعيتهم أقوى من مدفعيتنا و الأماكن التى يقفون فيها أفضل و نقاط ملاحظتهم جيدة ، و يكونون قد عرفوا بالفعل كل الثغرات التى فى دفاعنا . عند ذلك تكون الخسائر ثقيلة جدا بين المدافعين ، و على الجانب الآخر لن تكون هناك خسائر تذكر بين المحاصرين ، و لكى نستمر فى القتال بعد ذلك فإن هذا يعنى ببساطة شديدة جدا مذبحة ، مذبحة يقتل فيها الرجال بلا سبب أو جدوى ، عندها يموت الرجال دون حتى أن تكون لديهم فرصة أن يردوا ضربات أعدائهم ، و أحيانا يكون هذا الأمر ضروريا فعلا .
قالت الويسى و هى تحاول أن تتكلف لهجة إمرأة حرب محترفة : " من الصعب فعلا تفسير ذلك --- " و غالبا ما يكون رد فعل النساء عندما تذكر أمامهم عبارة " الجرحى و المصابين " إنهم لا يفكرون ساعتها فى عدد المصابين أو فى القائد الذى يقر بأن حاميتة قد انهزمت ، إنما تفكر كل النساء ساعتها فى شئ واحد ، تفكر فى الرجال الذين قتلوا و الرجال الجرحى و المعذبين و الأطفال الذين تيتموا و الزوجات اللآتى ترملن ، لكن الويسى كانت تعرف أن هذه الطريقة ليست هى الطريقة التى يجب أن تتحدث بها زوجة جنرال عند مناقشة أمور الحرب ، لذلك كانت دائما ما تحاول أن تجعل صوتها ثابتا كى لا يكتشف زوجها ما بداخلها .
أكمل ديكستر قائلا : أحيانا تكون الحامية ما تزال تسد خطا هاما من خطوط الاتصال ، و ساعتها فإن الأمر يستحق أى تضحية كانت و يستحق أن نقاتل حى آخر رجل لدينا لنحتفظ بخط الاتصال هذا مقطوعا .
قالت الويسى بشك : أعتقد ذلك .
: لكن هذا الأمر غير عادى و نادرا ما يحدث و ليس بالشكل الذى تعتقدينه .
فى الحقيقة كانت الويسى تعتقد فى أعماق أعماق قلبها أنه لا يوجد أى موقف على وجه الأرض يستحق التضحية بكل هذه الآلاف من الرجال مهما كانت الأسباب ، و لنها لم تقل ذلك إنما انتظرت بكل طاعة حتى يكمل زوجها حديثه .
قال ديكستر : و بشكل عام فإن أى حامية لا يمكنها أن تلعب دورا هاما فى أى هجوم أخير .
عند هذا الحد لم تستطع الويسى أن تشارك بأى شئ فى المحادثة و قد اعتقد زوجها عدم مشاركتها هذه بسبب أنها لم تفهم هذا الجزء الأخير ، لذلك راح يبحث فى رأسه عن مثل محدد يسوقه لها ، و بالرغم من أنه كان دائما يحذر صغار الضباط فى الأكاديمية من التفكير بهذه الطريقة .
قال الجنرال : لنفترض أننى لدى حامية مكونة من عشرين ألف جندى ، و هو رقم محتمل جدا . و نفترض أننى احتجز أمامى قوات للعدو مقدارها أربعون ألف جندى ، و هو شئ جيد جدا و حسن ، و أن هذا العدو يهاجمنى فى نقاط حساسة ، فإذا لم تكن مدرعات العدو قوية فإننى سوف أصيبهم إصابات كبيرة و بالغة ، و لكن قبل أن يأتى الوقت الذى يسيطر فيه العدو على نقاط الضعف التى لدى أكون أنا قد خسرت ععلى الأقل خمسة الآف جندى .
حاولت الويسى أن تتخيل فى رأسها مشهد الخمسة الألآف جندى و كلهم قتلى و لكنها فشلت فىذلك .
استمر ديكستر قائلا : و لكن العدو يكون قد خسر عشرة الآف أو اثنتى عشر ألف جندى و هو شئ جيد جدا و حسن كما قلت لك من قبل . و لكن عند ذلك تبدأ معداتى تعطب و ذخيرتى تنفذ بالإضافة إلى أننى أكون وقتها تحت القصف المستمر للعدو . عند ذلك الحد فإن أية هجمة بسيطة يقوم بها العدو سوف تنجح ، و إذا استمررت أنا فى القتال وقتها فإن الخمسة عشر ألف جندى الذين معى سوف يقتلون جميعا ، و ماذا سيخسر العدو ألف جندى ؟! لا أعتقد حتى أنه سيخسر عددا كبيرا بهذا الشكل .
قالت الويسى و هى تومئ برأسها : فهمت ---
نظر الجنرال إلى ساعته و قال : أخشى أن أكون قد تأخرت --- لابد أن نعود الآن .
نظرت الويسى من جانب عينيها بحدة إلى زوجها و قد لاحظت هذا الإنكسار المفاجئ فى صوته و الذى يعكس حجم التوتر و الأجهاد اللذين يشعر بهما . و بعدما عاد للمنزل أضاف الجنرال جزءا آخر كملحق لمحاضرته هذه.
قال الجنرال : قد تظنين أنها نقطة غير مهمة ، ماذا سيحدث ، حامية زادت أو نقصت !! و لكن هذا غير صحيح فلدينا بقية الجيش كى نفكر فيه ، و لدينا ألمانيا المستقبل أيضا .
" إن الجنود غالبا ما يحاربون تحت قيادة الضباط الأكفاء ، يمكنك ساعتها أن تطلبى منهم أى شئ ، يمكنك أن تطلبى منهم تضحيات غير عادية "" قال الجنرال ذلك ثم توقف و بدت عيناه الزرقوان الباهتتين و كأنهما تحاولان أن لا تتذكرا شيئا ما ، شيئا منحوتا فى الذاكرة ، ثم أكمل الجنرال قائلا : " و لكن الجنود لا يمكنهم أن يتحملوا حتى مجرد التفكير فى أن أرواحهم و حياتهم سوف تضيع هباء بلا فائدة ، ساعتها سيتذمرون و يهجرون مواقعهم ، ساعنها لن يؤدوا واجبهم ، فقط اخبريهم أنهم ذاهبون إلى قبورهم حيث يموتون بلا هدف أو غاية ، و عنها لن تصمد أية حامية و لو حتى دقيقة واحدة ، هل تفهميننى يا عزيزتى ---""
قالت الويسى : نعم نعم أفهمك .
: و على كل فإن الجيش لم يعد كما كان فى الماضى .
نظر الجنرال حوله فى كل الإتجاهات بعد أن قال هذه العبارة ، و يبدو أنها قد خرجت من فمه رغما عنه ، و لو أن أى شخص قد رآه أو سمعه وقتها لكان الجنرال نفسه فى عداد الموتى فى نفس هذه الليلة ذاتها ، و ساعتها سوف يموت ميتة مكللة بالخزى و العار بسبب كلمته هذه .
معظم الناس يعتقدون أنه ليس لدى الجنرال فريدريك فون ديكستر أى شئ يمكن أن تحبه المرأة فهو جندى محترف ، محدود النظرة و التعليم و متقدم فى السن أيضا . حتى أن بعض الرجال يضحكون عليه و يسخرون منه و بعضهم الآخر يحتقرونه . و بالرغم من كل ذلك فهناك الكثير من الضباط الشباب الذين يعجبون به بل و منهم من يحبونه أيضا و خاصة أيام الكابوس الأول عندما نجحت روحة المقاتلة وحدها فى أن تنقذ فرقته من الدمار الشامل فى ورلينكورت . و بعد ذلك بفترة طويلة أيضا ، فى العام الماضى فقط عندما استطاع أن يشق طريقة و يخترق بالبقية الباقية لدية من الجنود الحصار المفروض عليه ، يومها شعروا بالتعاطف الشديد معه عندما وصلت الرسالة الوحشية من مركز قيادة الطاغية يعزله فيها عن القيادة و قد وصفه ب " الجنتلمان الضعيف " و قد كان الحزن الشديد على خسارة هذا القائد هى أول عاطفة شعر بها الجنود يومها ، و قد عرف الجنود أيضا أنه لابد أن يكون هناك شئ ما خطأ فى مركز القيادة و إلا لما أرسلوا رسالة مثل التى أرسلوها هذه ، و لكن هذه الفكرة أتت بعد ذلك ، و لم يستطع أحد من الجنود أو يجرؤ أن يتفوه بها وقتها .
يومها لم يسمح الجنرال لملامحه بأن تعكس أى تغير يذكر . و غادر الجنرال الجيش تاركا القيادة و عاد إلى بيته مكسورا مذلولا و مكللا بالخزى و العار . و عندما نظرت إليه الويسى و هى ترحب به عند عودته يومها عرفت فى الحال حجم المذلة التى يشعر بها زوجها ، و قد تكون الويسى قد أحبته أكثر من ذى قبل لهذا السبب .
كانت هى عجوز فى الستين من عمرها و هو فى الثانية و الستين و كانا يسيران بين أطلال المنازل فى الشوارع المحطمة وقت الغروب فى أحد أيام الخريف و هما يتناقشان حول مقتل عشرين ألف جندى --- من الذى يمكن أن يتصور أو يتخيل أن يكون بين هذين المخلوقين حب ؟؟!! و رغم ذلك فقد كان هناك الكثير من الحب ، تماما مثل الزهور التى تنمو بين الأحجار و الصخور .
قال ديكستر : لابد أن أطيع .
: أعرف أنك يجب أن تفعل ذلك .
و حتى لو لم تكن المسألة مسألة واجب ، فقد كان على المرء إما أن يطيع أوامر هذا الطاغية أو يموت .
: " عزيزتى --" قال ديكستر هذه الكلمة و هو ينظر أمامه مباشرة دون أن يجروء أن يضع عينيه فى عينى زوجته للحظة واحدة حتى بدا الأمر و كأنه يخاطب الأفق لولا إنخفاض صوته .
: نعم يا حبيبى ، ماذا تريد ؟!!
: هل تعرفين قانون الرهائن ؟!
: نعم .
لم يكن هناك فى ألمانيا كلها من لم يسمع بقانون الرهائن هذا . فقد صدر القانون فى الصيف لماضى ، بالرغم من أنه كان ساريا قبل ذلك بفترة طويلة بعلم الجميع ، و لكنه لم يطبع أو يعلن رسميا سوى فى الصيف الماضى فقط . و طبقا لهذا القانون فإن أسر الجنود مسئولة مسئولية كاملة عن أفعالهم ، فلو فر الجندى من موقعه فإن أباه أو أمه أو أخته أو زوجته يقتلون فى الحال . و ليس فقط الرجل الذى يترك موقعه ، بل الجندى الذى يفشل فى مهمته أيضا و الجندى الذى تخونه شجاعته ، و كذلك الذى لا يستطيع أن يتغلب على ضعفه الجسدى ، ففى اللحظة التى يفعل فيها أى جندى ذلك فأنه يحكم بالموت على أعز الناس لديه . فلا يوجد مكان للضعف البشرى و الإنسانى فى الدفاع عن الرايخ الثالث و إطالة حياة هذه المخلوقات غير البشرية التى تحكمه .
قال ديكستر و هو ما يزال يخاطب الأفق : أنت الوحيدة التى بقيت لى الآن يا حبيبتى .
قالت الويسى : أعرف ذلك .
كان فريدريك فون ديكستر الصغير قد قتل فى معركة العلمين ، و لوثر فون ديكستر فى ستالينجراد ، اما ايرنست فكان فى عداد المفقودين و يعتقد أنه قتل فى رستوف . و على ذلك لم يتبق من كل هذه الأسرة سوى هذين العجوزين ، أحدهما سيتولى القيادة فى مونتيفريل و الآخرى ستنتظر كرهينة فى البيت .
قال ديكستر : هل لاحظت فى الأمر الذى أتانى من الذى سيكون رئيس الجنود ؟!
: واحد من التابعين للقائد طبعا ، لا أستطيع أن أتذكر اسمه و لكننى لا أعرفه !
: اسمه جروبينفيورير فرى ، أنا أيض لا أعرفه و لكنىى أعرف لماذا عينوه معى .
: ليتجسس عليك طبعا
: ليحول بينى و بين الفرار أو الأستسلام .
كان الأثنان قد وصلا تقريبا إلى المنزل فى ذلك الوقت ، و قد كان كل شئ جاهزا و معدا ، و لم يبق سوى " إلى اللقاء " التى كانت لابد أن تقال فى الحال .
و فى نفس هذه اللحظة كان هناك الكثير من الرجال يودعون زوجاتهم فى ألمانيا . فقد كان هتلر يستدعى للخدمة كل الجنرالات الذين سبق و طردهم من الجيش و هم مكللون بالخزى و العار و ذلك ليعينهم كقاده على هذه " الحصون " فقد كان فى حاجة إلى ضباط ذوى مراكز عالية و سلطة كبيرة ، ضباط ذوو خبرة طويلة ليقوموا بهذه المهام حتى يتأكد أن الجنود سيطيعون الأوامر . و قد أستطاع هتلر أن يعتمد على قانون الرهائن فى أن يتأكد أن الجنرالات أنفسهم سوف يطيعونه بالرغم من المعاملة القاسية و المهينة التىعاملهم هو بها منذ فترة ليست ببعيدة . و بينما كان ديكستر يقبل زوجته و هو يخرج ليركب السيارة التى كانت تنتظره أمام منزله لم يكن يفكر سوى فى شئ واحد هو قانون الرهائن .
و فى اليوم السابع لحصار مونتفريل شنت قوات الحلفاء هجومها الثالث و نجحت فى اختراق دفاعات العدو و اجتياح كامل المنطقة التى خلف القنال ، و التى كان الألمان يفخرون كثيرا باحتفاظهم بها . و قد كان القتال مستميتا وسط الأمطار و قد شارك الجنرال نفسه فى هذا القتال و يمكن أن يقال إنه هو شخصيا الذى أنقذ ذلك اليوم ، فقد راح يعطى جنود الشاة الذين انكسروا قوة و دفعة جديدة و دفع بكل الاحتياطى الذى لديه إلى ساحة القتال و نجح فى سد الثغرة التى كانت تتثائب فى المنطقة التى بين القنال و تقاطع الطرق و نصب المدافع بنفسه أيضا . و قد كادت الهجمة المضادة التى قام بها الجنرال أن تنجح فى استعادة المنطقة الحيوية و الأرض المرتفعة التى تقع خلف تقاطع الطرق ، لولا القذيفة التى سقطت عليه فجأة و التى كادت أن تعجزه . و قد أصابت هذه القذيفة مساعد الجنرال و حولت العميد قائد اللواء إلى أشلاء و بعثرته بعيدا ، و أصابت الشظايا ذقن الجنرال أيضا و لكنها لم تصبه بأى أذى بالرغم من أنع قد اهتز جدا لهذا الانفجار ، و قبل أن يستعيد ثباته و يقف على قدميه مرة أخرى كانت الهجمة المضادة قد فشلت و خفت صوت المعركة اللهم سوى بعض طلقات المدافع المتقطعة . و قد حجبت الأمطار الغزيرة الرؤية عن كلا الجانبين و حولت الحقول المنخفضة إلى مستنقعات غرق فيها الكثير من الجرحى الذين كانوا يرقدون فى المنطقة المحايدة التى حول تقاطع الطرق .
ترك الجنرال تعليماته حول هذه المسائل مع الكولونيل الذى يتولى هذا القطاع الآن قبل أن يذهب وحده و هو يعرج ليتفقد الدفاعات على ضفة القنال . و هنا كان الحلفاء قريبين جدا . فقد أحضر الحلفاء الكثير من مكبرات الصوت و نصبوها بأقصى سرعة و ها هى الآن تنعق بشكل لا ينتهى فوق حوض القنال الجاف . كان الصوت يتحدث لغة ألمانية سليمة ، هذا النوع من الألمانية الذى تتوقعه من أمريكى ألمانى استخدم هذه اللغة فى وطنه عندما كان طفلا صغيرا . و قد كان الصوت يطلب من الألمان أن يستسلموا و يقلعوا عن قتال لا جدوى منه. انصت الجنرال لتلك النداءات و هو يقف بجوار أحد القادة ، و قانونا كان الاستماع إلى إذاعات العدو عقوبته الموت ، و هى نفس العقوبة المخصصة لمن يجدوا فى حوزته نشرات من نشرات الحلفاء . و لكن فى مثل هذه الظروف لم يكن أحد يتوقع تنفيذ هذه العقوبة حيث أن الحامية كانت قريبة جدا من قوات الحلفاء . استمرت مكبرات الصوت تتحدث و هى تشير إلى أن الحلفاء يسيطرون تماما على المنطقة كلها و إلى أنه لا توجد نقطة واحدة فى كل دفاعات الألمان ليست عرضة لقصف المدافع و إلى أنه من الأفضل للألمان أن يستسلموا ، و إذا منع الضباط الألمان المخابيل جنودهم من الاستسلامفيمكن للجنود أن يهجروا مواقعهم و يعبروا القنال إلى حدود الحلفاء حيث سيجدون هناك المعاملة الكريمة التى تنتظر كل من يقبل هذه الدعوة . استمع الجنرال إلى كل هذا و هو يقف بينما كانت الأمطار تنهمر بغزارة فوق خوزته و معطفه الواقى من المطر .
قال الجنرال لقائد السرية : أنا عائد الآن لمقر القيادة ، إذا اتصلوا أخبرهم أننى فى الطريق .
: حسنا يا سيدى .
كان قائد السرية هذا رجلا فى الأربعين من عمره قد هده التعب و اضنى وجهه الشاحب و عيونه الحمراء . نظر قائد السرية و هو يشعر بخليط من الحسد و الشفقة إلى هذا الرجل الصلب الذى فى الستين من عمره و رغم ذلك يسير وحده و هو يعرج على قدم واحدة وسط هذا الطريق الموحل .
أوضح قصر الرحلة التى قام بها ديكستر من مكان دفاعاته إلى مقر قيادته صعوبة موقفه . فبالرغم من أن ديكستر كان لابد أن يتمهل فى سيره و يسير ببطء نظرا لقدمه المصابة و أوحال الطريق إلا أن الرحلة لم تستغرق وقتا طويلا رغم ذلك . و هناك كان يوجد أربعة خيول ميتة و قد بدأت بطونها تنتفخ و تنتن ، و لم يكن هناك حتى الوقود الكافى لحرقهم ، و لم يكن هناك طبعا العدد الكافى من الأيدى لدفنهم . راح الجنرال يفكر بمرارة و حزن فى كيف أن معدات الحلفاء كلها ميكانيكية و ليس بينها فرس واحد . و كيف أن قوات الحلفاء أكثر منهم عددا بأربع مرات على الأقل و أفضل منهم عشرات المرات فى العتاد و التسليح و أقوى منهم مائة مرة فى الروح المعنوية العالية . تبادل ديكستر بعض كلمات قليلة مع قائد المدفعية و الذى كان مجهدا تماما مثل قائد السرية الذى تركه لتوه ، لكن مهما كان الثمن فلابد من دفن هذه الخيول فقد بدأ الحصن كله ينتن . و هنا و هناك حيث تم دفن بعض جثث القتلى من الجنود أجبرت قذائف الحلفاء الأرض أن تخرج موتاها مرة أخرى . لابد أن يتذكر ديكستر أن يعطى أوامره حول هذا الموضوع .
تعثر ديكستر أثناء سيره فى بركة من المياة القذرة ، و لكن لا يهم فقد أطال الجنرال اليوم بأفعاله الدفاع عن الحصن لعدة ساعات أخرى . و لابد للحلفاء أن يعيدوا ترتيب جنودهم و يتزودوا بالزخيرة قبل أن يقوموا بأى هجوم جديد . و لو أن الهجوم المضاد نجح لكان ديكستر استطاع أن يكسب يوما كاملا بل و ربما حتى يومين . و لكن هيهات و الهجوم قد فشل و لم يتبق حتى و لو كتيبة واحدة و لم يتبق جنود احتياط ، فها هم المشاة و المهندسون و الطباخون جميعهم على الخطوط الأمامية . و فى أحد الأقبية بالقرية كان هناك جنديان مقبوضا عليهما . و قد كتنوا ينتظرون ديكستر فى مقر القيادة كى يوافق على حكم المحكمة العسكرية ، و لكنه أجل هذا القرار حتى يعود . و بالرغم من ذلك فقد كان لابد من تنفيذ هذه الأحكام ، و قد أخطأ ديكستر كثيرا بتأجيله هذه ، فالعقاب السريع و الفورى كان أمرا لا مفر منه لجعل الحامية تستمر فى القتال . و لكن هل يعنى الأمر شيئا أن يحاول جنديان بائسان أن يفرا عندما يكون هناك عشرة الآف اخرون فى طريقهم إلى الموت الحتمى دفعة واحدة ؟؟!! هز ديكستر رأسه ليس بالرفض طبعا ، إنما ليخرج من رأسه هذه الأفكار الشريرة التى بدأت تعشعش داخلها .
كان مقر القيادة يقع أسفل سرداب دفن الموتى فى الكنيسة التى لم يبق من كل مبانيها سوى جزء من حائط واحد . دخل ديكستر من خلال المدخل المموه و المحاط بأكياس الرمال ثم هبط السلم الحجرى حتى وصل إلى السرداب حيث كانت هناك أربع شمعات تجاهد بكل طاقتها كى تحتفظ بنفسها مشتعلة وسط هذا الهواء الملوث القذر و الخالى من أى أكسجين على الأطلاق . و حول قبر أحد القديسين صفت طاولة و أربعة مقاعد ، نهض جروبينفورير فيرى ، و الذى كان هو المسئول فى غياب ديكستر لتحية الجنرال عندما رآه .
قال فيرى بصوته الحاد : اهنئك أيها الجنرال أهنئك .
نظر الجنرال إليه بتعجب فلم يكن هناك شئ فى أحداث الساعات الأخيرة و لا الأيام الأخيرة و لا حتى الأسابيع الأخيرة يستحق التهنئة على الأطلاق . عاد فيرى إلى مكتبه المرتجل و أخذ علبة صغيرة و فتحها و وضع شيئا ما فى يد الجنرال ، شيئا لامعا ذا ملمس معدنى بارد .
قال فيرى : إنه صليب الفرسان ، إننى سعيد جدا و أنا أسلمه لك بنفسى ، فأنت تستحقه بجداره أيها الجنرال .
سئل ديكستر : كيف وصل هذا إلى هنا ؟!
: بالطائرة طبعا ، ألم ترى الطائرة التى مرت من هنا هذا الصباح لقد أسقطت صندوق رسائل .
: لا ، لم أرها !
يبدو أن ديكستر كان مشغولا جدا فى الصباح حتى أنه لم يلاحظ هذه الطائرة الألمانية الوحيدة التى مرت بالحامية منذ أن بدأ هذا الحصار .
سئل ديكستر : و هل كان هناك شئ آخر بصندوق الرسائل ؟!
عبثت أصابع فيرى فى مكتبه مرة أخرى ثم عاد يقول : خطاب من رئيس المجلس العسكرى كان مع وسام صليب الفرسان و هو خطاب كله مجاملة و إطراء لك .
ألقى ديكستر نظرة على الخطاب ، كان بالفعل كله إطراء و مجاملة و لا يحتوى أى شئ غير النفاق . فها هى ألمانيا تسقط و تستحيل دمارا و خرابا و القيادة العليا تتجاهل كل هذه الحقائق و لا تشغل نفسها سوى بصليب الفرسان و خطابات الإطراء .
: هل هناك شئ آخر ؟!
: لا--- مجرد أوامر شخصية لى من مكتب العمليات السرية .
: هل هناك شئ آخر ؟؟
: نعم -- القليل من الخطابات لبعض الوحدات فى الحامية ، و لكننى لم أقرر بعد إن كنت سأوزعها أم لا ، فكضابط سياسى فإننى لابد أن أضع فى الأعتبار -----
: هل بينهم خطابات لى ؟؟؟!
: خطاب واحد فقط .
عرف ديكستر الخطاب بمجرد أن رآه ، خطف ديكستر الخطاب من يد فيرى التى كانت ترتعش لتفتحه ، هذا الرجل الوغد الذى ولد جاسوسا . و كضابط سياسى كان فيرى يستطيع أن يطلب من ديكستر أن يطلعه على الخطاب . و لكنه كان يعرف أيضا أنه على الأقل فى حامية منعزلة مثل هذه فقد كانت هناك حدود عملية لسلطاته تلك . هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن هناك أى شئ على وجه الأرض كلها يمكن أن يقنع ديكستر بأن يترك فيرى يرى خطاب زوجته الويسى . وقف ديكستر ممسكا بالخطاب بيده و هو يشتاق أشد الشوق كى يفتحه و يقرأه ، و لكنه لم يكن ليفعل ذلك فى حدود فيرى هذ أبدا . فهو سوف يقرأه عندما يكون وحده . فقد كان ديكستر يعرف أن هذا الخطاب نافذة صغيرة على عالم آخر ، و أن هذا الخطاب سيسبب له سعادة و عذابا لا يمكن قياسهما ، و أنه سوف يتذكر حب الويسى الثابت له و إخلاصها و انتظارها بينما هو هنا يتنقل بين الجحيم ، فقد كانت جهنم نفسها حوله فى كل مكان فأين و كيف يستطيع أن يهرب ؟!
كانت جهنم حوله فى كل مكان تطلب منه الأنتباه الكامل و الالتفات .
سئل ديكستر : هل أتت أى تقارير ؟! . فقد كان عليه أولا أن ينتهى من كل واجباته قبل أن يقرأ خطاب الويسى
قال بوسى ، و هو مساعد فيرى : كلها تقارير شفوية يا سيدى ، يقول بارمرز ، و لكن من الأفضل أن أقرأ لك كلماته بالضبط فقد دونتها كلها بالحرف الواحد .
قال ديكستر : حسنت ،، ( كان بارمرز هذا هو ضابط طبيب الحامية )
: يقول بارمرز " إن الواجب يفرض على أن أخبر سيدى الجنرال بأننى ليس لدى ما أفعله لكل هؤلاء الجرحى الذين يأتون إلى ، فمواد التخدير قد نفذت تماما و كذلك الضمادات و البلازما تقريبا أيضا . وحدات الإسعاف فى الحامية تطلب منى مورفين ، و لكننى أنا نفسى ليس عندى مورفين ، و الجرحى الجدد الذين يأتون إلى المستشفى يضطرون أن يرقدوا فى ساحة المستشفى لليوم التالى حيث تجرى لهم العمليات الجراحية بدون تخدير أيضا ."
قال ديكستر : شكرا .
: و كذلك فأن المسئول عن المدفعية يقول ----
: لقد قابلته و أنا فى طريقى إلى هنا ، أعرف ما الذى سيقوله " أن المدافع لم تعد صالحة للعمل "
: إن الجنرال فاسيل يطلب عودة الكتيبة
كان فاسيل هذا هو المسئول عن الكتيبة رقم 816 التى على الجانب البعيد من الحصن ، و التى لم يعد بها رجلا واحدا يمكن أن يصد أية هجمة أو يقوم بهجمة مضادة .
تدخل فيرى فى الحديث قائلا : لقد تركت القرار لك أنت فى هذا الموضوع يا سيدى .
قال ديكستر : تبقى الكتيبة مكانها كما هى .
قال بوسى بتحذير رقيق : إن فاسيل لم يعد لديه أى احتياطى يا سيدى .
: أعرف ذلك ، هل هناك شئ آخر ؟!
: إن مساعد الجنرال ----
: أعرف ما سيقول ، شئ آخر --؟؟!
: المحاكمة العسكرية يا سيدى ؟
: نعم .
كان هناك رجلان ينتظران حكم الموت رميا بالرصاص . رجلان اكتشفا و هم يحاولان الهرب ، لا يجب أن تكون هناك أية رحمة تجاه هذين الجنديين إذا كنا نريد للحامية أن تستمر فى الدفاع عن الحصن . فكلما أسرعنا فى العقاب كلما كان أثر ذلك أقوى على الآخرين . و قد كان من واجب ديكستر أن يسرع فى تنفيذ الحكم لا أن يؤجله . و رغم ذلك فها هو قد خاض معركة جيدة و صد هجمتين و كاد أن يصد الثالثة ، و لو كانت هذه الحامية تحت قيادة رجل غيره لكانت انهارت منذ اليوم الثالث على أقصى تقدير . أما الآن فها هو اليوم السابع و الحصن لم يزل صامدا . من المؤكد أن ديكستر كان يستحق مكافأ من نوع ما ، مكافأة مختلفة عن صليب الفرسان هذا . و الآن ها هو يستطيع أن ينقذ حياة هذين الجنديين . فهل يستطيع أن ينقذ هذه العشرة الآف جندى التى تحت قيادته ؟!!
و فجأة و بينما كان ديكستر مستغرقا فى أفكاره هذه شعر بعينى فيرى المثبتة على وجهه ، و تمنى ديكستر ألا تكون تعبيرات وجهه قد عكست أى شئ من مشاعرة و أفكاره تلك .
أنقذ رنين التليفون الموقف ، حيث إن أية مكالمة تأتى عن طريق هذا التليفون هى مكالمة هامة ، فلا يوجد غير ستة ضباط فقط هم الذين لهم الحق فى استخدام هذا الخط المباشر ، أما بقية المكالمات الروتينية فقد كانت تتم عن طريق الحجرة الخارجية . التقط فيرى سماعة التليفون و قال : رئيس الأفراد ، نعم أسمعك ، نعم نعم . نظر فيرى إلى ديكستر و السماعة لم تزل فىيده و قال : إن فاسيل يقول إنه يخيل إليه أنه يسمع صوت المدرعات تتحرك خلف الحصن فى لاهى .
قال ديكستر : أنا أعرف المكان جيدا ، أخبره أن هذا لا يغير أى شئ فى الأوامر الموجهة إليه .
كان من الواضح أن فاسيل قد اعترض على الطرف الآخر للخط ، فقد كانت هناك مناقشة بسيطة قبل أن يضع فيرى السماعة . حسنا فليعترض فاسيل كما يحلو له . و لكن إذا حضر الحلفاء بدباباتهم حقا فسوف يقتحمون القطاع الذى يسيطر عليه فاسيل و كأنهم يقتحمون طوقا من الورق .
قال فيرى بصوته الحاد و هو يشير إلى الخطاب الذى كان ما يزال فى يد ديكستر : أتمنى أن تكون البارونة بصحة جيدة .
كانت هناك حدة هيستيرية فى الطريقة التى قيلت بها هذه الملاحظة ، ففى ظروف أخرى غير هذه فأن مثل هذه الكلمة كانت يمكن أن تمر ككلمة عابرة ليس أكثر ، أما الآن فمضمونها مفهوم طبعا ، أن فيرى يستخدم التهديد ليضمن موت هذه العشرة الآف من الجنود . فقد كان فيرى هو الآخر مغرما بنفس الرغبة المجنونة التى سرت فى الحزب كله من الطاغية إلى كل من تحته ، نفس الرغبة المجنونة و الشهوة للدمار و الفناء . فلو قدر لهذا الحزب أن يبقى فلن يبقى بعد ذلك أى شئ ألمانى على وجه الأرض كلها ، سيقتل الرجال و تموت النساء و الأطفال جوعا و ستتحول منطقة الرايخ كلها إلى صحراء خربة فى نهاية كل هذا ، صحراء لا تستطيع أن تجد بها حجرا فوق آخر فى كل قراها و مدنها ، و هذه هى الطريقة الوحيدة التى يستطيع بها هذا الحزب أن بؤكد نفسه و يحقق ذاته . أما فيرى بدوره فقد كان يحاول أن يضمن لنفسه صحبة العشرة الآف رجل لتؤنسه فى رحلته و هو يعبر هذه المنطقة التى ما بعد الموت ( هذا إذا كان ما زال يعتقد فى ذلك أصلا ! ) و هذا هو السبب فى أنه كان يحاول دائما أن يذكر ديكستر بالخطاب ، أى بزوجته الويسى .
كان مسدس ديكستر معلقا فى حزامه ، و بالفعل كان ديكستر يفكر فى أن يخرج مسدسه و يقتل هذا الرجل المجنون . و لكن لن يكون هذا بمثابة أى مساعدة لأليوسى ، لن يحميها هذا من سيطرة البوليس السرى ، بل على العكس من ذلك تماما ، فلو وصلت الأخبار إلى ألمانيا ، و هو أمر مؤكد الحدوث بمنتهى السرعة مع أنتشار كل هذه الأعداد من الجواسيس و المخبرين ، فهذا يعنى ببساطة أسوأ شئ يمكن أن يحدث ، حجرات التعذيب و الكلآبات و الكماشات و الــــ و الــــ . شعر ديكستر أن قواه العقلية على وشك الأنهيار التام ، و قد بذل مجهودا رهيبا جدا فى محاولة للسيطرة على نفسه . و عندما تكلم ديكستر تعجب جدا من هذا الثبات الذى كان فى صوته و هو الأمر الذى لم يكن يتوقعه أبدا ، فقد بدا و كأن شخصا آخر هو الذى يتحدث .
قال ديكستر : لقد نسيت الخطاب تماما .
فجأة شعر ديكستر بأنه متعب جدا و أنه يكاد يرتعش من شدة البرد . و لكن يجب أن يسيطر على ذلك أيضا و الإ ظنوا أنه يرتعش من الخوف . وصل ديكستر إلى قرار ما فى رأسه ثم قال : سأذهب لأستريح ربع ساعة .
أومأ فيرى و بوسى برأسيهما و عيونهما ما تزال مثبتة على وجه ديكستر و هما يتبعانه و هو يسير بخطوات بطيئة و ثقيلة حتى وصل إلى أحد الاركان حيث كانت هناك بطانية معلقة كستارة تستر سرير ديكستر . تذكر ديكستر أن يأخذ معه شمعة ، و بمجرد أن أصبح خلف البطانية حتى وضع الشمعة على حافة السرير . لقد كان فى حاجة إلى ضوء ما ليقرأ الخطاب ، بالرغم من أنه لم يكن فى حاجة إلى أى ضوء ليفعل ما كان ينوى أن يفعله بعد ذلك .
التفت ديكستر ليحكم شد البطانية الستارة و فى هذه اللحظة رأى وجه بوسى و هو يتعذب من فرط الشفقة عليه .
و خلف البطانية لم يكن هناك أى مكان سوى للسرير فقط ، لذا كان يجب عليه أن يرقد حتى يستطيع أن يقرأ الخطاب . كان يجب عليه أن يخلع حذاءه أولا و إلا فسوف يلطخ الطين الفراش جعلت هذه الفكرة عقل ديكستر يضطرب فقد تذكر أنه قد أصدر تعليمات عندما تولى قيادة هذه الحامية بعقاب أى جندى يسمح لنفسه أن يكون غير نظيف و أن أى جندى يفعل غير ذلك سيعاقب عقابا قاسيا . و قد كان هذا ضروريا للحفاظ على نظام الحامية و الجنود حتى النهاية ، و لكن ها هى النهاية ، فهذه هى النهاية بالنسبة له هو على الأقل . و إذا كان هذا الفراش سيتلطخ كله بالدماء بعد قليل فهل ستؤثر هذه الأوحال كثيرا ؟؟!! استلقى ديكستر و راح يؤرجح حذاءه الملطخ بالوحل فوق الفراش .
كانت يد ديكستر ترتاح فوق صدره و هى لا تزال ممسكة بالخطاب ، مرت لحظة إغراء ما بألا يفتح هذا الخطاب أو يقرأه . كان ديكستر قلقا ، و لكن الشئ الذى كان قد قرر فى عقله أن يفعله كان سهلا جدا بالنسبة له . سوف يكون هذا بمثابة النهاية لكل مشاكله و الآمه و عذابه ، و سينقذ هذا حياة الويسى أيضا . و ستسكن هذه التضحية الدموية غضب رجال البوليس السرى المخابيل المجانين ، و حتى لو لم يحدث هذا ، فساعتها لن يعرف هو أى شئ عن كل هذه الموضوعات ، ساعتها سيكون هو راقدا فى سلام ، و حتى إذا حدث لألويسى شئ --- لا --- لا لا يجب أن يفكر الآن فى هذا الموضوع .
و لكن حتى موته هذا لن يحل المشكلة ، فبعد موته سيتولىفيرى قيادة الحصن و الحامية و سيسعى بهذه العشرة الآف روح نحو الموت الأكيد . و لكنه لا يجب أن يفكر فى هذا الموضوع أيضا . فبما أنه لا يستطيع أن يفعل لهم شيئا فيجب أن يهنئ نفسه على أنه سيستطيع أن ينهى مأساته و لا يفكر فى مآسيهم هم . و لكن هذا جبن . فقد أجبر نظام الرايخ المجنون هذا فريدريك فون ديكستر نفسه على أن يكون جبانا ، فهل يحتاج الإنسان لدليل آخر على الشر الذى ينطوى عليه هذا النظام ؟!!
و لكى يسحب ديكستر مسدسه كان يجب عليه أن يضع الخطاب جانبا . و عندما لمست يد ديكستر كعب المسدس البارد تراجعت بسرعة . فلابد أن يقرأ خطاب الويسى أولا طبعا . سوف يقرأه مرتين و عندما يصل إلى آخر كلمة فى المرة الثانية سيسحب مسدسه بسرعة ----- و بدأت شفتى ديكستر تنفرجا و ترتسم عليهما شبة ابتسامة فقد كان يفكر فى حب الويسى له و حساسيتها و رقتها . و بالفعل فتح ديكستر الخطاب .
" زوجى العزيز :
هذا الخطاب يصلك من زوجتك المحبة لك دائما و التى تتمنى لك الخير دائما أينما كنت و كيفما كانت الظروف . أرسل إليك مع أطيب تمنياتى خالص حبى و أشواقى و انت تعلم أنك قد استحوزت عليهما جميعا طوال سنين زواجنا هذه .
و لكن أخشى يا عزيزى أن يضيف هذا الخطاب تعاسات جديدة إلى تعاستك و أحزانك ، فللأسف عندى لك أخبار سيئة هذه المرة . و أنا لم أخبرك بهذه الأخبار عندما كنا سويا آخر مرة لأنك فى هذه الفترة كان لديك ما يكفيك من المشاكل و الأحزان و لم يطاوعنى قلبى أن أضيف إلى أحزانك أحزانا جديدة . و لذلك فقد أخفيت هذا الأمر وقتها ، و لكننى لابد أن اخبرك به الآ، .
زوجى الحبيب : عندما يصلك هذا الخطاب سأكون أنا قد مت ، فأنا مصابة بالسرطان . و قد أخبرنى الطبيب بذلك . و قد كنت أنا أعرف ذلك حتى قبل أن يخبرنى الطبيب ، بل أنا التى جعلته يخبرنى بهذه الحقيقة . و قد أخبرنى أن السرطان أصابنى فى نفس المكان الذى اصاب فيه السيدة إنجيل ، و أنت تعرف بالطبع ما الذى حدث معها . و قد كان الطبيب يعطينى أقراصا لتخفف عنى الألم و تساعدنى على النوم . و لكننى تعبت كثيرا و لا أستطيع أن أستمر طويلا على هذه الحال . لذلك كنت أختزن هذه الأقراص ، و الليلة بعد أن أرسل لك خطابى هذا سوف آخذ هذه الأقراص كلها دفعة واحدة . و قد قمت بكل الترتيبات و أنا أعرف إننى سوف أموت .
لذلك كان لابد لى أن أودعك يا حبيبى و أشكرك على كل هذه لبسعادة التى عشتها و تمتعت بها معك خلال الأربعين سنة هذه من عمر زواجنا . فقد كنت لى دوما أعز و أحب و أطيب الأزواج و قد أحببتك من كل قلبى ، و أنا أحمد الله على أننى إمرأة محظوظة بهذا الشكل و أن اللع قد رزقنى بزوج مثلك أحبه و أحترمه ، فقد كنت دائما مثالا للأمانة و الإخلاص و الصدق و الرعاية طوال حياتنا معا .
و كل ما يحزننى اليوم يا عزيزى هو أننى لا أستطيع أن أفعل لك شيئا ، و لطالما تمنيت لو أننى أستطعت أن أحمل أحزانك و أحزانى عندما فقدنا أبنائنا فى الحرب . و لكن كما تعرف فأنا لن أشعر بأى تعاسة أو حزن أو ألم بعد الآن ، فعندما يصلك خطابى هذا سأكون راقدة فى قبرى بسلام . و الليلة لن أفكر فى شئ غيرك أنت يا زوجى العزيز كما كنت أفعل دائما . و تأكد أن أفكارى الأخيرة ستكون عنك أنت وحدك يا حبيبى دائما و إلى الأبد .
الوداع يا حبيى ....
زوجتك المخلصة لك إلى الأبد ""
كان هذا هو الخطاب الذى قرأه ديكستر مرتين كم خطط لذلك من قبل . و لكنه لم يقرأه مرتين كاملتين كما كان ينوى . فقد قرأ الخطاب بشكل متقطع ، كان يقرأ كل سطر ثم يعيد قراءته مرة أخرى . و قد كان من الصعب عليه جدا أن يركز عينيه على الكلمات ، و قد يكون ذلك بسبب الضوء الخافت للشمعة الوحيدة التى كانت معه . و فى النهاية أنهى ديكستر الخطاب و استلقى ساكنا و الخطاب لم يزل فوق صدره . لم يشعر ديكستر ساعتها بأى شئ سوى إحساسه بالضياع التام . فالعالم الذى لن يحتوى الوبيسى بين جنباته لن يكمون هو نفس العالم الذى عاش هو فيه طوال حياته ، و لن يكون هو العالم الذى يريد أن يعيش فيه . تذكر ديكستر لماذا دخل إلى هنا ، وضع يده مرة أخرى على كعب المسدس ، و ربما تكون هذه اللمسة الباردة هى التى أعادت إليه إدراكه و جعلته يتذكر كل الحقائق الأخرى ، إن الويسى قد ماتت -- ماتت -- ماتت --- . إنها قالت إنها لن تشعر بعد ذلك بأية أحزان أو هموم أو آلام ، و بالرغم من أنها لم تقل أنها قد أصبحت خارج سيطرة البوليس السرى إلا أن هذه كانت حقيقة مفروغ منها . تصلب جسد ديكستر عندما تذكر أن لديه الآن واجب لابد أن يؤديه ، واجب يستطيع الآن فقط أن يؤديه . ظل جسد ديكستر متصلبا لعدة ثوان و هو يفكر فى هذا الموقف ، ثم استرخى جسده و ذهبت التنميلة التى اعترته و بدأت أفكاره تسرى بحرية و سلآسة مرة أخرى . و قد كان ديكستر رجل مواقف و أفعال و قد تربى و تدرب على سرعة إتخاذ القرار و وهبه الله الإرادة اللازمة لتنفيذ القرارات التى يصل إليها أيضا . لم يكن هناك وقت ليضيعه فهو لابد أن يفعل شيئا . أخلاج ديكستر مسدسه من حزامه و أرجح رجليه و أنزلهما من فوق الفراش و حرر أمان المسدس و وقف مكانه ، و بذراعه اليسرى أزاح ديكستر الستار جانبا و ظهر فى السرداب و هو يصوب مسدسه و جاهزا تماما .
و قد كان الثلاثة فيرى و بوسى و بيكر ينتظرون أن يسمعوا صوت إطلاق الرصاص من خلف الستار ، لذلك فقد اندهشوا كثيرا عندما رأوا ديكستر يخرج عليهم بهذا الشكل . صوب ديكستر مسدسه على فيرى الذى كان أخطر رجل بين الثلاثة ، أما الأثنان الآخران فقد كان يستطيع أن يأتمنهما بسهولة .
قال ديكستر و هويصوب مسدسه على فيرى : إذا تحركت حركة واحدة فسوف تموت فى الحال .
قال فيرى و هو يتراجع مندهشا و هو يرى السلاح هكذا : و لكن --- و لكن --- لكن --- :
قف ثابتا و ضع يديك فوق رأسك .
ربما يكون التذكر اللآشعورى لبعض أفلام رعاة البقر الأمريكية التى شاهدها ديكستر فى الماضى هو الذى أغراه بإعطاء هذا الأمر ، و لكن لا شك أيضا أن ديكستر قد رأى بعض الأسرى الروس و هم يخرجون من حصونهم و يضعون أيديهم فوق رؤسهم بهذه الطريقة . لم ينطق ديكستر أية كلمة أخرى بالرغم من أن شفتيه كانتا تتحركان .
قال ديكستر : بوسى .
: نعم يا سيدى
: اتصل بفاسيل ، اتصل به حالا .
قال بوسى و هو يتجه ناحية التليفون : حالا يا سيدى .
قال فيرى و قد عاد إليه صوته الحاد مرة أخرى : من المؤكد أنك لن تستسلم . قال ذلك و جسده كله يرتعش من قمة الانفعال الذى به و هو لا يستطيع أن يشير بيديه .
قال ديكستر : نعم سأستسلم .
كان ديكستر قد قرر أن ينقذ حياة العشرة الآف جندى من أجل مستقبل ألمانيا .
قال فيرى : و لكن زوجتك ، تذكر ---
: زوجتى ماتت
: و لكن زوجتى أنا --- أطفالى ---
أرتفع صوت فيرى شيئا فشيئا و هو يتحدث حتى صار صراخا ، و حدث كل شئ فى لحظة واحدة . تغلب الانفعال على فيرى و أنزل يديه من فوق رأسه و حاول أن يصل إلى مسدسه . و لكن هذا استغرق منه وقتا طويلا ، يبدو أن أفلام رعاة البقر لم تعلمة كيف يكون سريعا فى سحب المسدس ، فقبل أن يفك فيرى حزام مسدسه كان ديكستر فد أطلق عليه رصاصتين سقط فيرى بعدها قتيلا فوق قبر القديس الذى بالسرداب .
قال ديكستر : هذا أفضل و الآن أستطيع أن أتحدث بنفسى مع فاسيل .
و فى هذه الليلة أعلنت الإذاعة البريطانية خبر استسلام مونتفريل ، و قد تمت إذاعة هذه الأخبار بخمس لغات بطول أوروبا كلها . فقد خرج عشرة آلاف جندى ألمانى من الموت الؤكد و دخلوا إلى معسكرات الأسرى عند الحلفاء ، و طوال هذه الليلة كان أطباء الحلفاء مشغولين جدا بمعالجة الجرحى الألمان . و على مسافة غير بعيدة من ذلك فى شرق النمسا ، فى مقر القيادة الكئيب المحفور تحت الأرض فى أحدى غابات الأناناس ، كان هناك طاغية يكاد يجن من الغضب لوجود عشرة الآف جندى على قيد الحياة كان يتمنى هو أن يموتوا .
و فى نفس الليلةى أيضا كان هناك أربعة رجال يطرقون باب أحد المنازل فى ويلفنستراس . فتحت الباب سيدة محتشمة ، و بمجرد ما أن نظرت إليهم حتى عرفتهم من الزى الذى كانوا يرتدونه .
قالت السيدة : لقد كنت انتظركم أيها السادة ، أنتم تريدوننى أن آتى معكم اليس كذلك ؟
قال أحد هؤلاء الرجال : هيا .
كان معطف السيدة و قبعتها معلقين فى الصالة فى متناول يديها تماما ، و بسرعة ارتدت السيدة المعطف و القبعة و سارت مع الرجال الأربعة إلى السيارة التى كانت تنتظرهم أمام الباب . لقد كانت لم تزل حية ، و لم يبدو عليها أبد أنها كانت مصابة بالسرطان كما قالت أو أى شئ من ذلك . و كما وعدت زوجها فقد كانت تغكر فيه حتى آخر لحظة فى حياتها .