خامسا - الاختلاف في العبادات

 

 

  اختلفت السنّة والشيعة في العبادات اختلافاً جزئياً ، لكن الاختلافات في تلك الجزئيات انحصرت في أمور من شأنها أن تبطل بعض الفروض . فعلى سبيل المثال الاختلاف في الوضوء جزئي ، وصحة الوضوء شرط لصحة الصلاة والتي هي عمود الدين ، إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدت رُد ما سواها . فإذا كان الوضوء ليس صحيحاً لم تصح الصلاة ، فالوضوء الصحيح شرط واجب للدخول في الصلاة ، ومما لا شك فيه أن النبي (ص) قد بيّن كيفية الوضوء ، ولا يصح بغير تلك الكيفية . وينحصر اختلاف السنّة والشيعة في الوضوء في موضع الرجل ، فالسنّة لا يمسحون على الرجل بل يغسلونها في الوضوء ، بينما الشيعة يمسحون على الرجل ولا يغسلونها في الوضوء .  لذلك لابد أن يكون هناك خطأ عند إحدى الفرقتين ، وبالتالي فإني الوضوء عند أحدهما هي بغير ما أمر الله به ومن ثم فإن الصلاة باطلة كما أشرنا ، وإن لم تقبل الصلاة لا تقبل الأعمال الأخرى كما جاء في الروايات .

 

  ومن الأمور التي اختلفت السنّة والشيعة ، موضع السجود  ، فالشيعة تسجد على التربة وهي عبارة عن قطعة جافة من طين الأرض ، ولا يجوز عندهم السجود إلا على الأرض أو ما نبتت منها . وبالمقابل فإن بعض السنّة ( المذهب الوهابي ) يرون أن السجود على التربة شرك بالله !! وهم بذلك يتهمون الشيعة أنهم يعبدون الحجر ‍‍!! ويذهب علماء السنة بجواز السجود على أي شيء .

  واختلفت السنة والشيعة أيضاً في الجمع بين الصلاتين ومواقيت بعض الصلوات كالعصر والعشاء ، واختلفتا في الأذان ، ففي أذان الشيعة ( أشهد أن علي ولي الله ، وكذلك حي على خير العمل ) أما في أذان السنّة ( الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر ، وساهم تلك الاختلافات في قيام كل فرقة ببناء مساجدها الخاصة بها .

 

  

أولا الوضوء

 

  من الطبيعي أن تختلف الفرقتين السنة والشيعة في المسائل الفقهية ، ولكن أن تختلفا في الوضوء فهو أمر غير طبيعي لوجود النص القرآني الذي يحدد ترتيب وتفاصيل الوضوء  ، فكيف اختلفا السنّة والشيعة في الوضوء ؟!!

 

تقول الآية " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " . يبدو واضحا أن الشيعة أخذوا بظاهر نص الآية الكريمة ، بينما رأى السنّة أن عبارة ( أرجلكم إلى الكعبين ) في الآية الكريمة تعود إلى فعل الأمر ( فاغسلوا ) وكأنما الآية الكريمة أصلها اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين . فقالوا أن عبارة ( إلى الكعبين ) معطوفة على ( فاغسلوا ) .

 

  إن القرآن الكريم الذي نزل بلغة قريش وهي لغة أهل الحجاز آنذاك ، يحتوي على  بعض العبارات أو الكلمات يختلف مفهومها عن مفهوم الكلمة في اللغة العربية المعروفة لدينا . فكما هو معلوم أنه لكل قوم مفهومه الخاص لبعض المفردات ، وعلى سبيل المثال كلمة جيوبهن التي وردت في الآية " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " ، فإن كلمة ( جيوبهن ) في لغة أهل الحجاز آنذاك تعني فتحة الثوب التي يدخل بها الرأس ، ولذلك أمر الله بستر ما يظهر من الصدر والرقبة عند النساء إذا كانت تلك الفتحة كبيرة تكشف عن بعض الصدر ، بينما في لغتنا العربية تستخدم كلمة جيوب ومفردها جيب لغير ما ورد بشأنه في القرآن الكريم . فكلمة جيوب أو جيب في اللغة العربية تعني أماكن في الثوب لحفظ الأشياء فيها وليس الموضع الذي يدخل فيه الرأس كما ذُكر في القرآن الكريم .

 إن كلمة  ( الكعبين ) ينطبق عليها نفس الشيء ، فالكعب في لغة أهل الحجاز ( لغة القرآن ) يطلق على الشيء البارز ، وتسمية الكعبة المشرفة جاءت لهذا المعنى ، لكونها بارزة عما حولها . وكلمة الكعبين كانت تستخدم للإشارة إلى العظمتين البارزتين على جانبي القدم تحت الساق مباشرة ( أي ما نسميه طبيا الدبوس ) . وأما مؤخرة القدمين التي نسميها نحن الكعبين ، فقد كانت تسمى عقبي الرجلين عند أهل الحجاز آنذاك ، أي لكل رجل عقب ، كما في الآية " نكص على عقبيه " . وكذلك عند الجمع " انقلبتم على أعقابكم " و " انقلبوا على أعقابهم " . ومعنى " انقلب على عقبيه " أي تراجع إلى الوراء على مؤخرة القدم ( أي ما نسميه نحن الرجوع على الكعبين للوراء ) . فقد استخدم القرآن لفظ ( عقب أو أعقاب ) كناية عن الرجوع إلى الخلف على مؤخرة القدم بعكس ما يتقدم الشخص على مقدمة القدم ، كأن يتقدم الإنسان خطوات ثم يتراجع على مؤخرة قدميه من حيث ما تقدم .

  قال تعالى " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " (144 آل عمران). لاحظ أن الخطاب موجه للمفرد ( ومن ينقلب ) ولاحظ كلمة ( عقبيه ) مثنى أي أن للفرد عقبين وهما ما نسميه نحن بالكعبين في حين أن في لغة القرآن تسمى عقبين . فالعبارة في الآية ( أرجلكم إلى الكعبين ) ليس المقصود بها أرجلكم إلى العقبين ، وإنما إلى المنطقتين البارزتين على جانبي القدم تحت الساق ( الدبوس ) . وما نقصده نحن بكعبين الرجل إنما هما في القرآن عقبي الرجل ، وأما الكعبين في لغة القرآن فهما المنطقتين البارزتين على جانبي القدم تحت الساق مباشرة ، وقد سميا بالكعبين لبروزهما في كل قدم .

 

  أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال : تخلف رسول الله (ص) في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح فنادى بأعلى صوته ويلٌ للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً ( صحيح البخاري ج1 باب من أعاد الحديث ثلاثاً ص32 ) . وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال : تخلف عنا النبي (ص) في سفر سافرناه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح فنادى ويلٌ للأعقاب من النار ( صحيح  مسلم ج1 ص148 ).

إن هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم يبعث على التساؤل ، ماذا قصد النبي (ص) بقوله " ويل للأعقاب من النار " ؟  هل قصد به لفت أنظار الصحابة إلى خطأ في وضوءهم ؟!! أم قصد إلى التحذير من خطأ وضوء قسم من أمته بعده ؟ لماذا ركز عبد الله بن عمر على موضع المسح في الوضوء ؟!! حيث قال : وكنا نمسح .

 

  إن قول النبي " ويلٌ للأعقاب من النار " عندما كان الصحابة يمسحون لاشك أنه (ص) لم يقصدهم لأنه من المستبعد أن يكون الصحابة لم يحسنوا الوضوء طيلة تلك الفترة ليلفت النبي (ص) أنظارهم ، فهذا غير وارد . وحيث أن النبي (ص) ذكر تحذيره عند عملية المسح فإن ذلك يثبت أن هناك تحذير لتغيير سيحدث في موضع المسح في الوضوء ، فالأصل هو المسح كما كان يفعل عبد الله بن عمر وباقي الصحابة ، ولكن البعض سيغيّر هذا المسح لذلك حذّر الرسول (ص) من ذلك فقال " ويل للأعقاب من النار" . وهنا نطرح سؤالا أي موضع كان الصحابة يمسحون عليه الرأس أم الرجل ؟!!

 

  إن قول النبي (ص) " ويل للأعقاب من النار "  يدل على أن موضع التحذير هو الأعقاب ، وهي جمع عقب أي مؤخرة القدم ( ما نسميه نحن بالكعبين ) ، وقول النبي (ص) تحذير عن أن أناس سيدخلون النار بسبب أعقاب أقدامهم ولابد أن يكون ذلك مرتبط بالوضوء لأن التحذير تم والصحابة يتوضئون كما ركز على ذلك عبد الله بن عمر . وحيث أن عبد الله بن عمر قال كنا نمسح حينما حذّر النبي (ص) من النار ، دل ذلك على أن تحذير النبي كان عندما كان الصحابة يمسحون إلى الكعبين ، فلفت النبي النظر إلى ذلك التحذير ، إذ حذّر أن تستبدل الكعبين بعقب الرجل . فأراد النبي (ص) القول أنه سيأتي بعده  أناس يغيرون في الوضوء من المسح إلى الكعبين إلى الغسل إلى عقب القدم . لأن المسح على الرجل يبدأ من الأصابع حتى يتوقف عند الساق حيث موضع الكعبين ( الكعبين بلغة القرآن ) ، بينما من يغسل رجليه لابد وأن يصل الماء إلى مؤخرة القدم ( عقب الرجل بلغة القرآن ) ولذلك حذّر النبي (ص) فقال " ويل للأعقاب من النار ".

 

  لقد ورد المسح على الرجل في روايات عديدة ، يروي أحمد بن حنبل في مسنده عن الإمام علي انه قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرها حتى رأيت رسول الله (ص) يمسح ظاهرها( مسند أحمد بن حنبل ج1 ص95). وذكر أحمد بن حنبل في مسنده أن أبا مالك الأشعري صلى في قومه يعلمهم وضوء رسول الله فمسح على رجليه ( مسند أحمد بن حنبل ج5 ص342 ). وذكر الشوكاني في نيل الأوطار نقلاً عن الطبراني عن عبادة بن تميم قال : رأيت الرسول (ص) يتوضأ ويمسح على رجليه ( نيل الأوطار ج1 ص164 ). وذكر ابن ماجه عن رفاعة بن رافع أنه كان جالساً عند النبي (ص) فقال : إنها لا تتم الصلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين (سنن ابن ماجه ج1 ص156). وذكر ابن حزم في كتابه المحلى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن بالمسح يعني الرِجلين في الوضوء (المحلى ج1 ص207).

 

  إن منطق غسل الرجل في الوضوء بحجة أن ( أرجلكم ) معطوفة على ( أيديكم ) ولطالما غُسلت الأيدي فإن الأرجل تُغسل ، فإن هذا المنطق يصطدم بعدة حقائق إذ لم يكن زمن النبي (ص) الإعراب معروفاً ، لذا كان لزاماً أن يستفسر أحداً من الرسول (ص) عن سبب عدم مسح الرجل كما يُفهم من ظاهر الآية ، وهنا سيواجه النبي مشكلة في بيان إن أرجلكم معطوفة على أيديكم لأن العرب لم يكونوا قد عرفوا الإعراب في حياة النبي (ص) فمنطق العطف والمعطوف عليه لا أساس له . من جهة أخرى فإن مبدأ الإعراب في اللغة يلزم السلامة اللغوية بحيث لا يفقد أو يضعف المعنى والفهم . ولو كانت ( أرجلكم ) معطوفة على ( فاغسلوا ) لبُعدت المسافة بينهما لوقوع ( أرجلكم ) بعد بدء جملة جديدة ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) ، وبالتالي تفتقد السلامة اللغوية أساسها والتي هي لإتمام وضوح المعنى .

 إن السبب في القول بغسل الرجل لربما يعود إلى العرف السائد عند الناس وهو أن الرجل تغتسل من أجل النظافة ، ولذلك اعتقد السنّة أن الرجل ينطبق عليها ما انطبق على الأيدي . فمثلاً لو قيل ( فأكلوا الطيور والسمك ولا تأكلوا الحشرات و الثعابين ) فإنه لا يمكن أن نقول أن الثعابين تُأكل وندعي بأن كلمة ( الثعابين ) معطوفة على كلمة ( فأكلوا ) ، لأن كلمة ( الثعابين ) تقع في نطاق تأثير فعل آخر ( ولا  تأكلوا ) وخارج نطاق تأثير الفعل ( فأكلوا ) . أما إذا كان أكل الثعابين عرفا عند قوم فمن غير المستبعد أن يعتقدوا إن الثعابين للأكل أيضا وبذلك يفسرون الجملة وفق عرفهم بأن يأكلوا الطيور والسمك والثعابين !! وكذلك أصبح الحال بالنسبة لغسل الرجل .

  أن الغسل لاشك هو العرف في النظافة ، لذلك من غير المستبعد لأن يكون فقهاء السنّة اعتقدوا بأن الغسل للوجه واليدين وللرجل بسبب العرف المتبع في النظافة بأن تغسل الرجل وليس تمسح ، لكن الوضوء طهارة وليس القصد منه النظافة وسر الوضوء والهدف منه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى . ولو فُرض جدلاً أن ( أرجلكم ) معطوفة على ( فاغسلوا ) ، فإن التحديد لمكان غسل الأرجل ( إلى الكعبين ) لا مبرر له لأن مجرد وضع الرِجل تحت الماء فإن الكعبين تلقائيا سوف يغطيها الماء فلا حاجة لوجود كلمة ( إلى الكعبين ) . لكن بالمقابل نجد أن في حالة المسح على الأرجل فإن وجود ( إلى الكعبين ) في غاية الأهمية حيث أن المسح بدءًا من أصابع الرِجل يتطلب موضعاً ينتهي عنده المسح والكعبين هما أول مكان يجبر الوقوف عندها لموقع ساق الرجل الذي يمنع مرور اليد إلى ما بعد الكعبين بلغة القرآن .

 

  إن الغسل في الوضوء هما للوجه والأيدي والمسح للرأس والأرجل يؤكد ذلك ما جاء في التيمم عند فقد الماء ، فما كان يُغسل أصبح يُمسح وأُلغي ما كان يُمسح . ففي التيمم يُمسح الوجه والأيدي فقط ، ولو كانت الأرجل تُغسل في الوضوء لشملها المسح في التيمم لكن هذا لم يحدث كما لا يُخفى .

  ولعل الله تعالى جعل حكمة في مسح أعلى موضع بجسد الإنسان وهو قمة الرأس وأدنى مكان وهو القدم ، وكأنما الله تعالى أراد للإنسان أن يتطهر بمحيطه حيث بعد أن يغسل وجهه يغسل جانبيه ( اليدين ) ثم يمسح أعلى جزء منه ( الرأس ) وأدنى جزء منه ( الرجل ) . لذلك قال الإمام علي : كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرها حتى رأيت رسول الله (ص) يمسح ظاهرها( مسند أحمد بن حنبل ج1 ص95) . لأن باطن القدم هو بالفعل أسفل جزء في الإنسان ، لكن يبدو أن ذلك بسبب ملامسة باطن القدم للأرض وقد يشق على الإنسان ويخل بتوازنه في حالة قيامه بمسح باطن القدم لذلك أمر الله بالمسح على الرجل . 

 

  إن الغاية من الوضوء الذي أمر الله به قبل الدخول في الصلاة هي من أجل التطهير " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ، وفلسفة التطهير لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ونحن لا نعلم ما هو تأثير الوضوء علينا سوى فلسفة النظافة !! فقد نكون بعد وضوء صحيح ندخل في نطاق الطهارة والقدسية ونرتقي إلى مستوى الملائكة الذين يعبدون ويسبّحون حول العرش ، وإن الله تعالى لا يقبل أن يسبّح له مخلوق إلا أن يكون بهذا المستوى ، فلهذا أمرنا بالوضوء وبتلك الطريقة . ومن الخطأ أن ننظر إلى الوضوء على أنه من أجل النظافة وبالتالي الاعتقاد بأن الغسل أفضل من المسح . ولعل التيمم خير برهان من أن فلسفة الوضوء لا يُقصد بها النظافة ، فإن لم يجد الماء للوضوء فمن باب أولى أن لا يستخدم التراب لأن ذلك ضد النظافة . فضرب الكفين على التراب والمسح على الوجه يؤدي إلى تعلق ذرات التراب على الوجه وهذا يخالف النظافة.

  إن فلسفة الوضوء ليست ضمن نطاق قدرة الإنسان الغير مخوَّل لمعرفة حقيقتها ، وبالتالي من الصعب مقارنة الوضوء بغسل الأطراف المعتاد عليه الإنسان . فالوضوء  طهارة ، والهدف منه السمو والارتقاء لمستوى يؤهل الإنسان الوقوف أمام الله لعبادته تماماً كطهارة الملائكة الذين يسبحون حول العرش . وكما قال الإمام علي بن أبي طالب : الوضوء استغفار للعبد من غير دعاء .

 

  يتضح مما سبق أن منطق المسح إلى الكعبين هو الصحيح كما يفعل الشيعة وليس غسل الرجلين كما يفعل السنّة .  

 

 

ثانيا السجود

 

  اختلفت السنّة والشيعة في موضع السجود فبينما يستوجب عند الشيعة السجود على الأرض أو مما ينبت منها ، ويسجدون على التربة في حالة وجود سجاد ، فإن بعض السنّة ( الوهابية ) ينظرون إلى أن السجود على التربة شرك بالله ! ويجوز عندهم السجود على السجاد والمفروشات والأرض وذهب بعضهم بجواز السجود على الجلود كأبي حنيفة .

 

  لقد دلت الروايات على أن النبي (ص) كان يحرص على السجود على الأرض ، ويمنع الصحابة من وضع شيء يفصل جبهة الرأس عن الأرض حتى لو كانت العمامة . فكانوا يرفعون العمامة حتى لا تعيق ملامسة جبهة الرأس للأرض . وتفيد الروايات أن الصحابة عندما كانوا في السفر أو الغزوات اشتكوا من شدة حرارة الأرض عندما كانوا يسجدون ، وطلبوا الترخيص لهم للسجود على الكم أو العمامة لكن النبي (ص) لم يأذن لهم بذلك . كما تفيد الروايات أن النبي (ص) عندما كان يريد أن يصلي في بيته النوافل كان يضع الخُمرة ليصلي عليها ( راجع البخاري ج1 ص151 ، ابن ماجه ج1 ص328 ) . والخمرة قيل أنها قطعة من الطين اختلطت بالقش .

  وقد أفتى بعض علماء السنّة بالنهي عن السجود على غير الأرض ، فقد قال أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي عن السجود على العمامة : لا يعجبني السجود إلا في الحر والبرد ( مقدمة المغني لابن قدامة ج1 ص373 ) . أي أن السجود يجب أن يكون على الأرض ولا يفصل بينها أي شيء حتى العمامة إلا في حالات الحرارة الشديدة للأرض أو البرودة الشديدة . وقال الإمام النووي : إذا سجد على كور عمامته أو كُمه ونحوهما فقد ذكرنا أن سجوده باطل فإن تعمده على علمه بتحريمه بطُلت صلاته ( المجموع شرح المهذَّب ج1 ص424 ) . وقال مالك : لا يُسجد على ثوب إلا لحر أو برد ( المدونة الكبرى ج1 ص74-75 ). وقال الشافعي : ولو سجد على جبهته ودونها ثوب أو غيره لم يجز السجود  ( كتاب الأم للشافعي ج1 ص99 ). وقال الإمام النووي : إن العلماء مجمعون على أن المختار مباشرة الجبهة للأرض وأما المروي أن النبي (ص) سجد على كور عمامته فليس بصحيح  ( المجموع شرح المهذّب ج3 ص426 ) . وقال ابن قدامة : وروي عن النبي (ص) أنه سجد على كور العمامة وهو ضعيف ( مقدمة المغني لابن قدامة ج1 ص372 ) .

  لقد حرص الأولين من أئمة وعلماء المذاهب السنيّة على عدم جواز السجود على غير الأرض ، بمعنى عدم جواز السجود على السجاد والمفروشات ، وهذا يوافق رأي الشيعة بعدم جواز السجود على غير الأرض . لذلك فالشيعة يضعون التربة التي هي قطعة من الأرض للسجود عليها عندما تكون الأرضية مفروشة بالسجاد . وهذا ما كان يحرص عليه النبي (ص) من عدم جواز السجود إلا بملامسة الجبهة للأرض كما جاء .

 

 

ثالثا جمع الصلاة

 

  لقد اختلفت السنّة والشيعة في أوقات الصلاة أيضا ، فقد اختلف موعد صلاتي العصر والعشاء بين الفرقتين حيث أن الشيعة يصلون الظهر والعصر في فترتين متقاربتين وكذلك بالنسبة لصلاتي المغرب والعشاء ، ويستندون في ذلك إلى قوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس وغسق الليل وقرآن الفجر " والتي تحدد الصلوات الخمس بثلاث فترات هي دلوك الشمس أي زوال الشمس ثم غسق الليل أي بعد ذهاب الحمرة ثم الفجر وبذلك ثلاث فترات . أما السنّة فلا يجوزون جمع الصلاة إلا في الخوف والمطر وبذلك يفصلون العصر عن الظهر بساعات عديدة وكذلك العشاء عن المغرب .

 

 ذكر الرازي في التفسير الكبير في تفسير الآية " أقم الصلاة لدلوك الشمس " عن ابن عباس إنه قال : صلى رسول الله (ص) الظهر والعصر جمعاً والمغرب والعشاء جمعاً من غير خوف ولا سفر ( الرازي في التفسير الكبير ج21 ص27 ). وبنفس المضمون ذكر مسلم في صحيحه ج1 ص489-492 . وورد أيضا في كتاب الجوهر النقي في الرد على البيهقي ج1 ص226 . وقد علل الإمام مالك ذلك الحديث بقوله : أرى ذلك في وقت المطر ! وقد يكون رأي مالك يرجع لعدم ذكر ابن عباس المطر في حديثه ، لكن هذا الرأي مردود عليه إذ إن قول ابن عباس ( من غير خوف ولا سفر)  جاء لبيان الجمع في ظل عدم وجود العوارض التي كانت من أسباب الجمع ، وإلا لو كان الجمع من أجل المطر لما قال ابن عباس قوله إذ في هذه الحالة لا يعد لخبره قيمة بل دعابة وهذا ما لم يجز له . فالإمام مالك الذي اعتقد أن جمع الصلاة في الرواية كان بسبب المطر ، يدحض هذا الاعتقاد أن الراوي هو ابن عباس حبر الأمة . فلو كان هناك مطر لما تطرق ابن عباس إلى الحديث لكونه شيئاً معتاداً أن يجمع الصلاة بسبب المطر ، ولكن أبن عباس أراد أن يبين أن الجمع بين الصلاة تم بدون العوارض التي من أجلها كان يتم الجمع قبل نزول الآية . فبعد نزول الآية " أقم الصلاة لدلوك الشمس وغسق الليل وقرآن الفجر " أخذ النبي في جعل الصلوات الخمس وفق ثلاث فترات هي الظهر والعصر وكذلك المغرب والعشاء إضافةً إلى الفجر .

  ويعترف بذلك الفخر الرازي عندما يتطرق إلى الآية يقول : تطبيق الآية يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً ( التفسير الكبير ج21 ص22 ). لكنه يضيف بعد ذلك أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز!! فأي تناقض يناقض نفسه ؟!  طالما أجاز الجمع بالمطلق استنادا للآية ، فبأي دليل أستدل بعدم جواز الجمع في الحضر ؟!!

  ذكر مسلم حديث ابن عباس عن طريق أبي الزبير وأضاف أن أبا زبير سأل سعيد بن جبير عن السبب في جمع الصلاة بدون عذر فقال سعيد : لقد سألت ابن عباس ذلك فقال : أراد أن لا يحرج أحداً من أمته . ( انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج5 ص215 ). روى مسلم عن عبد الله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة . فجاء رجل لا يفتر ولا ينثني فقال : الصلاة الصلاة . فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنَّة لا أُمَّ لك. ثم قال : رأيت رسول الله (ص) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قال عبد الله بن شقيق : فحاك من ذلك في صدري شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدَّق مقالته ( صحيح مسلم ج5 ص217 ، البخاري ج1 ص137 ، ابن جرير في نيل الأوطار ج3 ص217 ، الزرقاني في شرح الموطأ ج1 ص294 ).

  وأخرج البخاري عن عائشة أن رسول الله (ص) صلى العصر والشمس في حجرتها ولم يظهر الفيء في حجرتها ، أي أن الشمس كانت لازالت عمودية على حجرتها. وكذلك أخرج البخاري عن أبي برزة الأسلمي عندما سُئل كيف كان يصلي رسول الله (ص) فقال : كان يصلي الهجير (الظهر) التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ( البخاري ج1 باب وقت العصر ص137 ). يُلاحظ في حديث برزة الأسلمي أن بعد الانتهاء من صلاة العصر والقيام بجولة أو زيارة أحد في صحراء  ثم العودة إلى المدينة تكون الشمس لازالت حية أي شديدة الحرارة  يستدعي التظلل ‎منها . ويروي البخاري عن أنس بن مالك قال : كنا نصلي العصر ثم يذهب الإنسان إلى بني عمرو ابن عوف فيجدهم يصلون العصر ( البخاري ج1 باب وقت صلاة العصر ص138 ). فبعد أن ينتهي الصحابة من صلاة العصر خلف النبي (ص) يذهبون إلى بيوتهم ثم ينطلقون لمسافة أميال ليصلوا إلى بني عمرو ليجدوهم يصلون العصر أي أن النبي صلى العصر قبلهم بوقت كبير . لقد كانت الصلوات الخمس يصليها النبي (ص) في ثلاث فترات الصبح ثم الظهر والعصر ثم المغرب والعشاء فكان يفرِّق بين الظهر والعصر بالنوافل فيصلي الظهر بالمسجد ولا يخرج منه إلا بعد أن يصلي العصر ، بينها بعض النوافل ، وهكذا في صلاة المغرب والعشاء استناداً لقوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس وغسق الليل وقرآن الفجر " ، أي ثلاث فترات .

  أخرج البخاري ومسلم عن أبي أمامة بن سهل أنه قال : صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلت : يا عم ما هذه الصلاة التي صليت ؟ قال : العصر وهذه صلاة رسول الله (ص) التي كنا نصلي معه ( صحيح البخاري ج1 ص138 ، صحيح مسلم ج2 ص110 ). إن الصحابي أنس بن مالك الذي كان على وشك الانتهاء من صلاة العصر حينما دخل عليه أبو أمامة يدل على أنه بدأ صلاة العصر حينما خرج أبو أمامة وجماعته من صلاة الظهر ، واستغراب أبو أمامة بن سهل يدل على أنه لم تكن ظروف جمع الصلاة مهيأة ، ورد الصحابي أنس بن مالك عليه بأن هكذا كان يصلي النبي دليل على أن الجماعة لم يكونوا يصلون بالكيفية التي كانت عليها صلاة رسول الله ، ويؤكد ذلك أن الصحابي أنس بن مالك كان يفضل الصلاة في بيته بدلاً أن يصلي خلف عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي بالمسجد لمعرفته أن صلاتهم لم تكن كما كانت الصلاة على عهد رسول الله (ص) .

  روى مسلم في صحيحه ج2 ص120 أن رسول الله (ص) قال لأبي ذر الغفاري : يا أبا ذر سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة فصلي الصلاة لوقتها (راجع أيضاً سنن الترمذي ج3 ص358 ، مستدرك الحاكم ج1 ص79) ولعل النبي (ص) قصد أمراء بني أمية الذين أخروا صلاتي العصر والعشاء لساعات بعد الظهر والمغرب مما دفع بالصحابي أنس بن مالك بمقاطعة الصلاة معهم بالمسجد وفضل أن يصلي في بيته .

 إن أسلوب أمراء بني أمية هو المتبع اليوم حيث يتم تأخير صلاتي العصر والعشاء لساعات عديدة ، والغريب أن من يفعل ذلك يعتقد أنه سنّة النبي (ص) !! في حين أن من يصلي مثل الصحابي أنس بن مالك الذي كان يصلي كصلاة رسول الله حيث يجمع الظهر والعصر وكذلك المغرب والعشاء أصبح يُتهم بالضلال !!

 

  إن رأي الشيعة في جمع الصلاة بلاشك هو الأصح كما أشرنا ، وأن تأخير صلاتي العصر والعشاء على نحو ما عليه اليوم عند السنّة إنما هو اقتداء بأمراء بني أمية وليس من سنّة النبي (ص) بشيء .

 

 

الصفحة الرئيسية