معركة صفين
بعد الانتهاء من معركة الجمل ، أخذ الإمام علي يعد العدة لتجهيز الجيش لدخول الشام لإعادتها للخلافة الإسلامية . علم معاوية بخبر تحرك جيش الكوفة فأرسل جيشه بقيادة أبو الأعور الأسلمي إلى بقعة يقال لها صفين وأمرهم بأن يعسكروا على نهر الفرات لمنع المياه عن جيش الإمام علي . توجه أبو الأعور الأسلمي بالجيش واحتل الموقع ، وبعد فترة وصل مقدمة جيش الإمام علي بقيادة مالك الأشتر على أربعة آلاف رجل إلى نفس المكان وأدرك خطة معاوية في السيطرة على موضع الماء ، فشنَّ مالك حملةً على جيش أبو الأعور الأسلمي واحتل مكانهم . علم معاوية أن مالك الأشتر أحتل المكان فتقدم بنفسه ومعه جيش جرار وانضم إليه جيش أبو الأعور الأسلمي فانسحب مالك الأشتر إلى الخلف تاركاً لهم المكان لحين وصول الإمام علي ومعه مائة ألف رجل .
وصل الإمام علي مع جيشه فانضم إليه مالك الأشتر وأخبره بالأمر فأرسل الإمام علي صعصعة بن صوحان إلى معاوية يطلب منه أن يحيد مياه الفرات عن الجيشين لأن الدواب لا ذنب لها لكن معاوية رفض وقال : لن يشربوا الماء حتى يموتوا بأجمعهم عطشاً ! وانتظر الأمام علي لعل معاوية يفسح المجال أخيراً ومن ثم يتم الحوار في السبب الجوهري لخروج الجيشين إلا أن معاوية أصر على موقفه . أمر الإمام علي مالك الأشتر بأن يحمل على جيش معاوية ، فاتجه مالك ومعه اثني عشر ألف مقاتل وحمل على جيش معاوية فاشتعلت المعركة وارتفعت السيوف وسقط الجرحى والقتلى ولم يتوقف القتال إلا بعد أن ترك جيش معاوية مكانه وتراجع إلى الخلف تاركاً ماء الفرات لمالك الأشتر وجيشه . طلب الجيش أن يُمنع الماء عنهم كما فعلوا ، لكن الإمام علي رفض وقال : اتركوهم يأخذوا ما يشاءون فإن الله نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم .
ظل الجيشان متقابلين يدور الحوار بينهما أملا للوصول لنتيجة دون جدوى فبدأ القتال بينهما مرةً أخرى وازداد ضراوة فازداد القتلى والجرحى . ومع مرور الوقت انتشرت الجثث على مدى البصر في أرض صفين ونادى منادٍ لقد فُنيت العرب أوقفوا القتل .
ذكر ابن أثير في البداية والنهاية ج2 ص285 أنه قُتل من أنصار معاوية خمسة وأربعين ألفاً مقابل خمسة وعشرين ألفاً من أنصار الإمام علي . وكان ضمن من قُتل في معركة صفين الصحابي الجليل عمار بن ياسر وكان في صف الإمام علي . والجدير ذكره أن الرسول (ص) قد قال " ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار " ( البخاري ج4 ص52 ). وفي فضل عمار قال النبي (ص) : " من عادى عماراً عاداه الله ومن أبغض عماراً أبغضه الله " ، وقال (ص) : " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق " ( تاريخ ابن كثير ج7 ص270 ) وقال (ص) " إن عماراً مع الحق والحق معه ، يدور مع الحق أينما دار" ( طبقات ابن سعد ج3 ص187 ).
بعد مرور أكثر من ثلاثة شهور من بداية المعركة ومقتل أكثر من مائة ألف قتيل أصبح الميزان يميل إلى جيش الإمام علي . وعلم معاوية أنه لا مجال لانتصاره في المعركة واقتربت الهزيمة منه نتيجة اقتراب جيش الإمام علي منه بعد سقوط أغلب خطوطه الدفاعية فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يأمر الجيش برفع المصاحف ويطلبوا التحكيم بكتاب الله ، وقال لمعاوية إن قبلوا فسيكون اختلاف بينهم وإن لم يقبلوا فستكون نفس النتيجة !! فأستحسن معاوية فكرة عمرو بن العاص وأمر جيشه برفع المصاحف .
شعر الإمام علي بخدعة معاوية فأمر جيشه بالاستمرار في القتال إلا أن الأشعث بن قيس رفض القتال وطلب من الإمام علي أن يوقف القتال ويحتكم إلى القرآن ، وأخذ يحرض الجيش على وقف القتال والاحتكام إلى القرآن ، فأزداد الضغط على الإمام علي لوقف القتال ، فشعر الإمام علي أنه لا مفر من وقف القتال خشية انقسام الجيش فأوقف القتال للتحكيم بالقرآن .
لم يكن التحكيم بالقرآن إلا خدعة من عمرو بن العاص وتمرداً من الأشعث بن قيس ، والذي أصر أيضا أن يكون أبو موسى الأشعري ممثلاً عن جيش الإمام علي في التحكيم في حين أن الإمام علي أراد أن يكون مالك الأشتر ممثلا عنه أو عبد الله بن عباس ، إلا أن الأشعث وآخرون ضغطوا وأصروا على أبي موسى الأشعري . اضطر الإمام علي أن يوافق على أبي موسى الأشعري بعد أن حزن لذلك وقال " يا عجباً أُعصَى أنا ويُطاع معاوية " . دخل عمرو بن العاص ممثل معاوية وأبو موسى الأشعري ممثل الإمام علي الخيمة واتفق الأثنان على أن يخلعا الإمام علي ومعاوية من الحكم !! وبينما كان الجيشان بانتظار اتفاقهما النهائي حيث كان تنفيذ الاتفاق ملزما للطرفين ، اتفق الاثنان فيما بينهما على أن يطلبا الخلافة لعبد الله بن عمر بن الخطاب ! ولما خرجا من الخيمة طلب أبو موسى الأشعري من عمرو بن العاص أن يخطب أولاً ليقول ما عنده . فقال له عمرو بن العاص : لم أكن لأسبقك في الرأي بل أنت تكلم أولاً . فقام أبو موسى الأشعري وقال : أيها الناس إنا قررنا أن نخلع علي ومعاوية ، ألا وإني خلعت علياً كما أخلع عمامتي . وخلع عمامته !! ثم جاء دور عمرو بن العاص فقال : أيها الناس إن أبا موسى قد خلع علياً فهو أعلم به وأنا أخلعه وأثبت معاوية عليكم !! فالتفت إليه أبو موسى وقال : كذب عمرو لم نستخلف معاوية . فرد عليه عمرو بن العاص : بل كذبت أنت . فقال له أبو موسى : مالك ؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث !! فرد عليه عمرو بن العاص : بل إياك يلعن الله كذبت وغدرت إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً !! وهكذا وقفت المعركة دون نتيجة فدخل الطرفان في هدنة لمدة عام ورجع الجيشان .
بعد فترة وجيزة طالب الذين كانوا يطالبون وقف القتال والاحتكام للقرآن أن يرجعوا للقتال !! لكن الإمام علي رفض طلبهم لوجود الهدنة وقال : أما الآن فلن نحارب ، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع نحارب ؟! أليس الله تعالى قد قال " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون " (91 النحل ) . لم يقتنع أولئك بالهدنة وأخذوا يكررون طلبهم بالعودة لقتال معاوية فلم يأبه لهم الإمام علي فانقلبوا ضده وأصبحوا فيما بعد يُعرفون بالخوارج .
رجع الإمام علي مع جيشه إلى الكوفة وبقى هناك ينتظر انقضاء سنة كاملة مدة الهدنة بينه وبين معاوية كي يتمكن من بدء جولة جديدة ضد معاوية للقضاء على التمرد في الشام وتوحيد الدولة الإسلامية ، لكن الخوارج استمروا في الضغط والتهديد لمواصلة قتال معاوية . ولما لم يلتفت الإمام علي لرغبتهم كفَّروه !! ثم أعلنوا الحرب عليه ، فدارت معركة نهروان فقضى عليهم الإمام علي .
رجع معاوية إلى الشام وبدأ يفكر في كيفية التخلص من خطورة جيش الكوفة وكان الداهية عمرو بن العاص يخطط له ، فاتفقا بجعل المناطق التي تقع تحت سيطرة الإمام علي في حالة رعب وعدم الاستقرار ليشغله ذلك عن التفكير بالتحرك نحو الشام !! أخذ معاوية يرسل جيوشه على شكل عصابة خلسة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الإمام علي للقتل والنهب ، فأرسل جنده إلى الأنبار بالعراق وقاموا بالقتل والنهب وتدمير الممتلكات . ثم أرسل معاوية جيش آخر خلسة إلى صنعاء بقيادة بسر بن أرطأة الذي ارتكب أمهات الجرائم هناك فقتل حتى أطفال الموالين للإمام علي !! ويروي ابن عبد البر في الاستيعاب أن بسر بن أرطأة أغار على همدان وسبى نساءهم فكنّ أول مسلمات سَبَيْن في الإسلام .
إن خروج معاوية عن طاعة الإمام علي أدى إلى عواقب وخيمة على الدولة الإسلامية ، فإلى جانب مقتل المسلمين الذي بلغ الآلاف ، كانت هناك خسائر مادية كثيرة كالأسلحة التي دمرت والدواب التي ماتت لو تم استغلالها في الفتوحات الإسلامية التي توقفت طيلة فترة خلافة الإمام علي بسبب الخروج عليه من قبل عائشة ومعاوية والخوارج . فاضطر إلى دخول معارك فُرضت عليه وحاول أن يتجنبها لكن المصالح الدنيوية للآخرين حالت دون تفاديها . فالذين حاربوه لم يكونوا قد وضعوا مصلحة الإسلام نصب عينيهم ، بل أنهم لم يراعوا المبادئ الإسلامية . قال أبو قيس المتوفى عام 120 هـ : أدركت الناس وهم ثلاث طبقات أهل دين يحبون علياً ، وأهل دنيا يحبون معاوية ، والخوارج. ( الاستيعاب ج1 ص51 ).
وفاة الإمام علي
تعرض الإمام علي أثناء سجوده في صلاة الفجر إلى ضربة غادرة بسيف مسموم من عبد الرحمن بن ملجم انتقاما للخوارج . وكان ذلك فجر التاسع عشر من رمضان عام 40 للهجرة . واستشهد الإمام علي في يوم الحادي والعشرين من الشهر نفسه ، أي بعد ثلاثة أيام من الضربة التي تلقها بسيف ابن ملجم المسموم . وقبيل وفاته أوصى بالخلافة والإمامة لابنه الإمام الحسن سبط رسول الله (ص) .
علم معاوية بنبأ وفاة الإمام علي فوجد الفرصة سانحة لتحقيق هدفه فجهز جيشاً وتوجه إلى الكوفة لمحاربة جيش الكوفة مستغلاً تقاعس الجيش . ووجد الإمام الحسن بن علي نفسه في موقف صعب فمن جهة وجد الرجال ليسوا كما كانوا على أيام صفين ومن جهة أخرى ازدياد ولاء جيش معاوية له والاستعداد للقتال أكبر .
بعث معاوية إلى الإمام الحسن بن علي يطلب الاستسلام والبيعة فما كان للإمام الحسن إلا أحد الأمرين إما القتال في حرب غير متكافئة وبالتالي إلحاق الضرر بالناس وقتل الكثير من المسلمين دون نتيجة ، وإما مبايعة معاوية بشروط ، فاختار الأمر الثاني وعقد معاهدة صلح مع معاوية وفق الشروط التالية :
1 - أن يحكم معاوية بالقرآن والسنة .
2 - أن يعود الحكم بعد معاوية إلى الإمام الحسن ثم أخيه الإمام الحسين .
3 - منع الإساءة والشتم لإمام علي بن أبي طالب .
4 - يلتزم معاوية بالاستمرار في توفير المال لتوزيعها على الأرامل والأيتام لأولئك الذين استشهدوا في صف الإمام علي في معركة الجمل وصفين .
5 - عدم ملاحقة معاوية لاتباع الإمام علي أو إلحاق الأذى بهم .
اتفق الطرفان على تلك البنود بشهادة آلاف المسلمين من الطرفين وهكذا انتقل الحكم إلى معاوية بن أبي سفيان ورجع إلى الشام وأصبح الشام عاصمة الدولة الإسلامية ومعاوية خليفة للمسلمين . وبذلك تكون البذرة التي بذرها عمر بن الخطاب أثمرت ثمارها فأصبح معاوية خليفة للمسلمين لتكون قيادة العرب بالتناوب كما كانت في الجاهلية حيث كانت القيادة في قريش بالتناوب بين كبرى العائلات ولما ظهرت نبوة محمد (ص) حاربوه حتى لا تكون القيادة لبني هاشم فقط . فكان هذا السبب وراء قيام أبو سفيان وغيره بالوقوف ضد الإسلام لكنهم فشلوا بإرادة الله الذي أراد الملك لأهل البيت دون سواهم ( وآتينا آل إبراهيم ملكا عظيما ) . ولما تمكن عمر بن الخطاب من الحكم ، عمل على تحقيق ما كان عليه نظام الحكم في العهد الجاهلي إرضاء لذوي الميول الجاهلية كأبي سفيان ، حيث كان عمر يختار الولاة وفق النظام الجاهلي وقام بتهيئة معاوية بن أبي سفيان لاستلام الخلافة ، مع أن عمر كان يعلم ما سيكون مصير الإسلام عندما يكون معاوية هو القائد ، ولذلك توقع عمر أن يعور معاوية الإسلام حتى لا يعرف أين يذهب أو أين يجيء . ومما يبعث على الأسى أن علماء السنة لا يجيزون الخروج على الحاكم حتى لو كان فاسقا ، ومع ذلك فهم يبررون خروج معاوية على الحاكم المؤمن الإمام علي ويعتبرون فعل معاوية اجتهاد يؤجر عليه !! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .