ثانياً ـ عهد يزيد بن معاوية
توفى معاوية بعد أن أوصى ابنه يزيد أن يقتل كل من يشكل خطراً على حكمه حتى لا تفلت الأمور من يده . وأوصاه باثنين من الصحابة أن لا يتركهما وشأنهما أبداً فهما أكثر خطورة على حكمه ، وهما الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله (ص) في المدينة ، وعبد الله بن الزبير في مكة ، وقال لأبنه يزيد إني أخاف عليك منهما .
استلم يزيد بن معاوية الخلافة بعد أبيه بموجب القرار الذي فرض على المسلمين فأصبح يزيد بن معاوية الفاسق السكير خليفةً للمسلمين ، ولكون الإسلام في عهد أبيه قد طرأ عليه ما طرأ ، وتحول الإسلام النبوي إلى الإسلام الأموي المتشرب بمعتقدات الروم واليهود والهنود ، عين يزيد له مستشارا نصرانيا أسمه سرجون كان أبوه مستشارا لهرقل ملك الروم عندما كان يحتل الشام ، وكان سرجون هذا يعرف في زمن معاوية بكراهيته للإسلام . كما عين يزيد مستشارا نصرانيا آخر أسمه الأخطل أكثر كرها للإسلام بل أنه كان يحرض على بناء الكنائس .
أصدر يزيد قراره إلى والي المدينة أن يأخذ البيعة له ممن تأخر في البيعة قاصداً بذلك الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله (ص) وأهل بيته ، لكن الإمام الحسين بن علي رفض أن يبايع يزيد وقال " مثلي لا يبايع مثله " ثم خرج إلى مكة ليتجنب ما حدث لأبيه الإمام علي عندما أُجبر على البيعة لخلافة أبي بكر وشتان ما بين يزيد الفاسق الفاجر وبين أبي بكر الذي لم يكن يريد مضايقة الإمام علي لولا عمر بن الخطاب الذي كان هو صاحب القرار . فأبي بكر كان مدركاً لأحقية الإمام علي بالخلافة ، ومنزلته من النبي (ص) ، لكن يزيد بن معاوية لم يكن ليضع الاعتبارات الدينية موضع أهمية فكان يرى أنه الخليفة وأنه السلطة وأن الناس عبيد السلطان .
علم يزيد أن الإمام الحسين رفض بيعته وغادر إلى مكة فأصدر أمره بملاحقته لأخذ البيعة منه أو قتله . وتمكن جيش والي يزيد في الكوفة عبيد الله بن زياد من حصار الإمام الحسين بالعراق بعد أن قطع أكثر المسافة من مكة إلى الكوفة تلبية لدعوة أهل الكوفة له لمناصرته . فقام الجيش بحصاره مع أهل بيته وبعض أصحابه في منطقة كربلاء ومنعوا الماء عنهم ليعطشوا حتى يبايعوا أو يُقتَلوا .
رفض الإمام الحسين بيعة يزيد وقال لا أعطي بيدي عطاء الذليل ولا أقر أقرار العبيد ، فأُستشهد مع أهل بيته وأصحابه في ذلك الموقع وكان يوم العاشر من محرم الحرام . وقام الجيش بقطع رأس الإمام الحسين وأصحابه وحملوها على الرماح إلى يزيد بن معاوية في الشام ليهدأ باله بزوال أحد الخطرين . وأخذوا بنات رسول الله (ص) سبايا وغنائم حرب إلى يزيد !! وكان بذلك أول إنجاز أنجزه الخليفة يزيد بن معاوية في السنة الأولى من حكمه حيث قتل ذرية رسول الله (ص) الذين أمر الله تعالى مودتهم ، وأحد الخمسة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وسيد شباب أهل الجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون .
لقد كان خروج الإمام الحسين ضد حكم يزيد بن معاوية بمثابة ثورة ضد الفساد والجور ، بل ثورة ضد تبديل الإسلام النبوي بالإسلام الأموي الذي انتهجه معاوية بن أبي سفيان وأبنه يزيد من بعده .
إن الأمة الإسلامية كانت بحاجة إلى صدمة لتفوق من غفلتها والوقوف ضد ما تفعله حكومة بني أمية في الشام . وكانت الحاجة إلى ثورة لتصحيح قيّم ومبادئ المجتمع الإسلامي الذي تعرّض إلى الغزو الفكري المنحرف . إن دم الإمام الحسين وأهل بيته كان ثمنا لاستقامة دين جده رسول الله (ص) ، فلولا ثورة الإمام الحسين لأصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا علمانيا آنذاك ولأصبحت الخمّارات وأماكن اللهو في كل أرجاء الدولة الإسلامية ولأصبحت الكنائس تنافس المساجد .
إن الإمام الحسين رأى أن الأمة لن تفوق إلا بمصيبة تحدث لها ، من هنا كانت ثورة كربلاء . وعندما علم أهل المدينة ومكة بالمصيبة غضبوا من يزيد بن معاوية وتمردوا على حكمه فبعث في السنة الثانية من حكمه جيشاً إلى المدينة عام 63 للهجرة فدارت واقعة الحرّة حيث قام جيش يزيد باستباحة المدينة فُقتل الرجال وأُغتصبت النساء وسُرقت الديار ثم هُدمت . يروي ابن كثير في البداية والنهاية أنه قُتل من أهل المدينة في تلك الواقعة ثمانون صحابياً وسبعمائة رجل من حملة القرآن الكريم وألف وسبعمائة من بقايا المهاجرين والأنصار ( البداية والنهاية ج10 ص22 ) . وقيل أن بعد تلك الواقعة ولدت ألف امرأة أطفالاً لم يُعرف آباؤهم . وبذلك أصبح إنجاز يزيد بن معاوية في السنة الثانية من حكمه استباحة مدينة رسول الله (ص) وحرمة المسلمين ودمائهم . وفي السنة الثالثة من حكمه أمر جيشه بالهجوم على مكة لقتل عبد الله بن الزبير وأصحابه الذين رفضوا مبايعته واتخذوا مكة ملجأ لهم ولم يتمكن يزيد من إرسال والياً من طرفه ، فقام جيش يزيد بعدة محاولات لدخول مكة لكنه فشل ثم قام أخيراً بالهجوم باستخدام الكرات النارية على طريقة الروم ، فاستخدم المنجنيق لحرق مكة فاضطر عبد الله بن الزبير إلى الاحتماء بالكعبة الشريفة لكن جيش يزيد لم يتردد في ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق المشتعل فاحرقوها وكان ذلك آخر إنجاز لخليفة المسلمين يزيد بن معاوية حيث أحرق الكعبة المشرفة ولم يراعي حرمة بيت الله الحرام وقتل الأبرياء فيه في السنة الثالثة لحكمه .
لم يكن يزيد بن معاوية مبالياً لمشاعر المسلمين في المدينة ومكة ، بل كان غارقا في ملذاته فكان يشرب الخمر ويسكر ويغني ويسهر مع الطرب ويقيم الحفلات لأجل إسعاد حتى قروده ! وكان له قرد مدلل اسمه( قيس) يأمر الشعراء ليمدحوه !!
في أحد الأيام تعرض يزيد بن معاوية لعضة قرد تسمم على أثرها ! وأصابته الحمى فارتفعت حرارته ومات على أثر ذلك . فقد كان يلاعب قرده وأراد أن يشربه الخمر فعضه القرد وقضى عليه في السنة الرابعة من حكمه . وبذلك فإن يزيد بن معاوية الذي وُلد وتربى كافراً ثم أصبح مسلماً منافقاً كما قال الحسن البصري عن أبيه معاوية ، قد مات فاسقاً فاجراً كافراً .
قال الإمام أحمد بن حنبل : هل يحب يزيد أحداً يؤمن بالله واليوم الآخر : فقيل له كيف ذلك ؟ فقال أليس هو الذي فعل لأهل الحرّة ما فعل . وقال ذات مرة إن القرآن قد لعن يزيد بن معاوية فقال له أبنه عبد الله : يا أبي لقد قلت إن القرآن لعن يزيد وأني لم أرى في القرآن ذلك . فقال الإمام أحمد : ألم تقرأ قوله تعالى " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أُولئك الذين لعنهم الله " يا بني وأي رحم أكبر من رحم رسول الله (ص) الذي قطعه يزيد بن معاوية . ونقول أيضا وأي فساد أكبر مما فعله في المدينة حيث سفك دماء الأبرياء وهتك أعراضهم ، وفي مكة أحرق بيت الله الحرام وقتل الأبرياء .
مات يزيد بعد أن استخلف ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية خليفةً على المسلمين . وكان أبنه معاوية غير راضٍ عن تصرفات أبيه ، فكان يشعر بالندم لما كان يفعله أبوه يزيد وجدُّه معاوية بحق الإسلام والمسلمين خاصةً أهل البيت ذرية رسول الله (ص) الذين أوصى الله ورسوله المسلمين بمودتهم وأخذ الدين عنهم . لذلك لم تمر فترة طويلة على حكم معاوية بن يزيد بن معاوية حيث بعد ثلاثة شهور فقط صعد المنبر وخطب في الناس بقلب حزين ليعلن تركه للحكم . يروي ابن حجر في الصواعق المحرقة أن معاوية بن يزيد صعد المنبر فقال : إن هذه الخلافة حبل الله وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن أحق به من علي … ثم صار رهيناً بذنوبه ، ثم قلَّد أبي الأمر وكان غير أهلٍ له … وصار في قبره رهيناً بذنوبه ثم بكى وقال : إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبِئس منقلبه وقد قتل عترة رسول الله وأباح الخمر وخرَّب الكعبة ( الصواعق المحرقة لابن حجر ص124 ). ثم تنازل معاوية بن يزيد عن الحكم فاستخلف مروان بن الحكم وأصبح خليفة المسلمين .
لقد امتد الحكم الأُموي إلى حوالي سبعة عقود من الزمن سلك المسلمون فيها مسارات متشعبة ومعقدة صعب على المؤرخين تصنيفهم بسبب انتماءاتهم الفكرية والعقائدية . فقد فشل المؤرخون في تصنيفهم وفق المدارس الدينية ، وفشلوا في التصنيف وفق الانتماء الفكري حيث كان كل ذو رأي له أتباع ويتهمون غيرهم بالانحراف العقائدي ! ونشأت مذاهب إسلامية كثيرة فاق العدد خمسين مذهباً بعد أن كان الإسلام واحد هو مذهب رسول الله (ص) . وبلغت المدارس الفكرية أكثر من مائة مدرسة فكرية تخالف بعضها حتى ضمن نفس المذهب . فقد كان كل رجل دين أو شيخ له حلقة دراسية يشرح لطلابه الشريعة الإسلامية من واقع أفكاره هو . وقد صنف بعض المؤرخين عدة أشخاص ضمن مذهب مستقل لاختلافهم عن غيرهم في العقائد أو الفروع .
إن نشوء تلك المذاهب كانت نتيجة طبيعية لغزو المعتقدات بأشراف ومباركة خلفاء بني أُمية . فقد ساهم معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد في إطفاء نور الإسلام النبوي بعد أن بدلوا نظام الحكم الديني إلى نظام سياسي . ولما جاء مروان بن الحكم إلى الخلافة تلاعب هو وذريته بالدين تلاعب الكرة فلم يتورعوا عن حرام بل أصبح توفير عناصر الفساد من مستلزمات راحة الخليفة ، فكثر الغناء والطرب والفواحش والنفاق في سهرات الخليفة ، حتى أن عبد الملك بن مروان أول من تجرأ بمحاربة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ذكر السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء عنه أنه قال : لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عُنقه !! فأُسلوب التهديد علناً كان الوسيلة لردع من يُنكر عليه تلك السهرات الماجنة . أما الخليفة الأُموي الوليد فقد استهزأ بالقرآن الكريم فرماه بسهم وهو يشعر ويقول :
تهدد كل جبار عنيد ها أنا جبار عنيد
إن جِئت يوم الحشر فقل مزقَنِيَّ الوليد . ثم رمى القرآن بسهم !!
هكذا كان الخلفاء الأُمويون يستهزئون بالدين . وصدق رسول الله إذ قال " هَلَكة أُمتي على يَدَيْ غلمةٍ من قريش " ( البخاري كتاب الفتن ) . وذكر القرطبي في تفسيره ج10 ص186 وكذلك السيوطي في الدر المنثور ج4 ص191 في قوله تعالى " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس " (60 الإسراء) إنها نـزلت في بني أُمية حيث رأى رسول الله (ص) في المنام أن قرود يصعدون على منبره فأخبره جبرائيل إن القرود هم بنو أمية فاغتمَّ لذلك رسول الله (ص) وعلم أن الأُمة مقبلة على وضع صعب .
لقد بين الله تعالى لرسوله الكريم أن ذلك سيحدث وتكون فتنة للناس ليرى الله من يهتدي ومن يضل مصداقاً لقوله تعالى " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " (2،3 العنكبوت) ، ليميز الخبيث من الطيب ، من يتبع الهداية المحمدية (ص) ممن ينحرف بدينه كما انحرف اليهود والنصارى .