كتله النيران الضعيفه
كان ذلك الشيطان جالساً على شاطيء البحر يتأمله باعجاب وهو يؤمن بأن الله
قد خلق تلك المياه بذلك الشكل البديع كرمز ضئيل لقدراته عزّوجل كما علّـمه ذلك
الشيطان الأب منذ آلاف السنين القريبة ، ولكنه كان عاجزاً عن أن يكون شريراً
كان يعلم تاريخ أجدداه كله وكان يعلم انهم مخطئون .. معاندون .. جهلة .. ولكنه
لم يكن ليحيد عن نمطهم في الحياة .. وبينما هو يتأمل ويفكر في هدوء شعَر
بذلك الهاتف في داخله يناشده لأن يتجرع من زجاجة الخمر تلك بجانبه رشفة
ترجعه إلى صوابه .. كان كأي شيطان جاهل يعتقد أن أحد البشر هو الذي
يوسوس له بذلك ولكن ما لبث الهانف أن ذكره بأن أجداده ما كانوا ليتركوا
الخمر أبداً ليذكروا به أجدادهم بدورهم .
امتدت يده إلى زجاجة الخمر الكبيرة وارتشف منها رشفة صغيرة
أفرغ منها النصف إلى جوفه ليزداد تألقاً بألوانه الزاهية في ظلمة الليل من حوله
، ثم عاد ليتأمل البحر مرة أخرى .. عاد ليحاول أن يقتنع بأن أجداده على
حق .. ولكنه لم يفلح .. حاول أن يجد مبرراً لما سلكوه من درب .. ولكن ذلك
الهاتف عاد ليدوّي بداخله ويأمره بألا يكون كسولاً كبعض أبناء البشر .. وأن
عليه مواصلة رسالة الأجداد بأن يحوِّل البشر إلى أنصاف شياطين .. بأن يجعلوا
الانسان نسخة من روح شيطان أصيل مادام لن يفلح في أن يجعله في مثل
جسده .. كان الهاتف يأمره مباشرة بأن يبحث في المساجد والمدارس والشوارع
وكل مكان في تلك المنطقة التابعة له والمسئول هو عن تحويل البشر فيها إلى
ماذكرناه عن إنسان صالح متعبّد لكي يبذل معه قصارى جهده ويوسوس له
بشيء ما يكون على درجة عالية من الخبث يخسر بها ذلك الصالح درجة عند الله
ويربح بها ذلك الشيطان ترقية من عند آبائه ومباركة من أرواح أجداده .
قام ذلك الشيطان صاغراً يحثّ السير إلى ذلك المسجد الكبير الذي
لمحه أثناء ذهابه إلى البحر ، فقد كان ذلك الشيطان حديث العهد بالمنطقة ولم
يقم بدراسة معالمها وأهلها بعد ، ولكنها كانت صلاة الفجر وكانت فرصته
المثالية ليثبت قدراته في يومه الأول ، دخل بقدمه اليسرى عامداً إلى ذلك
المسجد ليراه وقد امتلأ عن آخره والإمام يقرأ الفاتحة ويبدو أن الجميع لازالوا
في الركعة الأولى ، أخذ يدقق النظر في وجوه المصلين ثم انطلق إلى الإمام
وأخذ يقرأ أفكاره في سرعة جنونية ، ثم أخذ يهمس له في أذنه اليسرى قائلاً :
- ماذا لو أنك دافئ في منزلك الآن تقي هذذا البرد الشديد ؟؟.
فارتجف الإمام رجفة خفيفة وتوقف عن الجهر بما كان يقرأ ليستعيذ
بالله من الشيطان الرجيم ، ثم أخذ يستطرد في قراءته .
هنا انعقد حاجبي ذلك الشيطان ولم يُـعجبه هذا ثم شعَـر بجسده يرتجف بشدة
وعقله يدور كأنه إعصار داخل رأسه فأخذ يعدو حتى آخر المسجد ليشعر بالهدوء يتسلل إليه مرة أخرى ..
ثم أخذ يُـطالع أوجه الحضور وانتقى وجه أحدهم الدال على الخشوع والإيمان
ليقترب منه ويقرأ أفكاره ..
ولكنه فوجيء بكمية كبيرة من الفراغ تحتل عقل ذلك البشري ،
وأن الصلاة هي التي يفكر بها الآن في ذلك الجزء البارز من عقله مصحوبة
برهبة وضع العبادة التي هو فيها ..
شعَـر الشيطان بعجزه أمام ذلك الرجل ، فحاول بذل مجهود أكبر ليتوغل داخل أفكار الرجل ..
وعندما يحاول الشيطان أن يقتحم أفكار شخص ما فهذا يعني أن كيان الشيطان
اللامادي كله في داخل عقل الرجل ..
لذا فنجد الشيطان وقد تاه بين تلك الأفكار المدفونة في جزء بعيد من عقل
الرجل ليجعل هيبة الصلاة تطفو عليها حتى يفرغ منها ..
لذا فقد تاه الشيطان بداخل عقل عالِم .. نعم عالِم .. عالِم يحوي بداخل رأسه
عالَم من الأفكار والأسرار والمعلومات التي حار فيها الشيطان ..
حار بين علوم الدين والدنيا قي عقل الرجل .. والشيطان الطماع بطبعه حاول أن
يُفنِّـد أفكار ذلك العالِـم ويفهمها ..
ولكنه كجاهل عجز عن ذلك وإن استوعب بفكره البسيط أنه لا قِـبل له برجل
كهذا ، فقرر الانفلات من طيّـات أفكاره المدفونة ..
ولكنه عجز عن ذلك ..
عجز لاكتشافه أنه في ذلك الجانب المدفون من أفكار الرجل والتي لم يحن
الوقت لكي تظهر الآن ..
لقد انساب إلى الداخل مع الأفكار التي يختزنها الرجل مع كل حركة يفعلها
وكل كلمة يقرأها ..
لذا فقد أوقع الشيطان نفسه في الشرَك الذي صنعه لنفسه بغبائه ..
فكر بعقله البسيط وحاول أن يقنع نفسه بأن الرجل ما أن يفرغ من الصلاة حتى
يرجع إلى طبيعته وترجع أفكاره مرة أخرى إلى مكانها الطبيعي ..
فتطفو على سطح عقله البشري ويطفو معها الشيطان ليجد الملاذ للفرار ..
فقرر أن ينتظر .. وينتظر .. وينتظر ..
لكن الأفكار لم تتحرك من كمونها ..
كان يعلم أن صلاة الفجر ركعتان ، وأنهما ما كانا ليحتاجا كل هذا الوقت
لأدائهما ..
ولكن الرجل كان أكثر إيماناً مما توقع الشيطان ..
فقد أخذ الرجل يزيد من صلاته النفل ..
ثم جلس ليقرأ القرآن بتعبد مؤمن وشراهة جائع وجهل عالِـم ..
كل هذا والشيطان يجاهد للخروج من بين أفكار الرجل التي أخذت تتزايد
وتتراكم رويداً رويداً ..
كانت الأفكار تخنقه بتضاغطها المستمر ، ولكنه كان أقوى من أن يموت بهذه
السهولة ..فأخذ يجاهد ليزيح الأفكار عنه جانباً حتى يفرغ الرجل من عبادته
ويُمكِّنه من الخروج من عقله ..
ثم أخذت ذكرياته الأخيرة تتدفق بسرعة كبيرة ..
قرار آبائه بالاجماع نقله إلى تلك المنطقة الحاوية للعديد من المسلمين تأديباً له
على تقصيره في منطقته الأولى في تلك الدولة الكافر أهلها والتي كان عمله
فيها أشبه بنزهة ترفيهية منها إلى مجهود مضني يستحق العناء ..
قرروا نقله بعد أن انتصر عليه أحد أفراد البشر ..
ذلك البشري الكافر الذي انتصر على الشيطان في شرِّه ..
نعم شرِّه الذي لم يرَ الشيطان أو يسمع عن مثله قط ..
ذلك البشري الذي وصلت به درجات الشر أن يوسوس للشيطان حاثاً له على
التمرد ..
وسمع الشيطان له ، وأثبت ضعفه أمام انتصار البشري عليه ..
وأدرك أن هناك نموذج من البشر يمكن أن ينتصر حتى على الشيطان ..
ثم هاهو يرى نموذجاً مضاداً من البشر لينتصر عليه هو الآخر ..
ذلك الرجل شديد الإيمان الذي انتصر على الشيطان بإيمانه وتعبده ..
وأدرك الشيطان حينها أنه ليس إلا كتلة من النيران الملتهبة ..
العاجزة ..
الضعيفة ..
أمام البشر كافة ..
وخاصة المؤمن منهم ..
المؤمن الحق .
=======================================
احمد محيى الدين خليل