فيروسات

المهندسة ندى الدانا

 

كان صيفاً كئيباً استقبلتني فيه عيادة طبيب الأمراض الهضمية عدة مرات ، واستقبلني مخبر التحاليل كثيراً ، أكد التحليل وجـود جراثيم وطفيليات تصر على الصمـود في جهـازي الهضمي . منذ زمن طويل أعاني من حساسية مفرطة في المعدة والقولون ، كل فترة تهاجمني تشنجات القولون الحادة ، فتحيل حياتي جحيمـاً . قال الطبيـب : تجنبي البرد ، والأطعمـة الدسمة ، وابتـعدي عن الانفعـالات والتوترات .

تطلعت إلى الطبيب مستغربة ، سألته : هـل يمكن للإنسـان أن يتوقف عن الإحساس والانفعال ؟ أجـابني وهو يكتب لي قائمة طويلة من الأدوية : حـاولي أن تتعاملي مع الحياة بهدوء ولامبالاة ، وإلا لن تنفعك هذه الأدوية ، أمراضك نفسية المنشأ ، وعلاجك أن تفــرحي وتضحـكي وتتجاهلي المشاكل .أعاني أيضاً من حساسية تجاه تغير الطقس ،

وغبار الطلع ، والرطوبة ، و ، و ، الخ ...... الجراثيم والطفيليات تجد في جسدي مرتعاً خصباً لها ، والفيروسات تحبني وتجد مأوى عندي في كل فصول السنة ، منذ طفولتي كانت حياتي معركة دائمة ضد فيروسات الحياة التي تـدمر مقـاومتي ومناعتي ، الأشنيات والطحالب تطفو على نهر حيـاتي الجـاري لتعيق مسيرته وتحوله إلى نهر راكد لتفسد صفاءه ، وتشوه صفحته حرب استنزاف رهيبة لاتنتهي .

كلما حاولت أن أهرب من المتاعب طاردتني ! ولم تكفني همومي بل حملت على عاتقي هموم الجنس البشري ، أشعر بعجزي أمام لغز الحياة ، تتفاقم حالتي المرضية . وزاد الطين بلة ذلك الكائن العجيب الذي حلّ ضيفاً على بيتنا منذ أكثر من عام ونصف وسبب لي كثيراً من الأزمات ، لم يرض أن يشرّفنا بحضوره إلا بعد أن دفعت له مهــراً مبلغاً محترماً من المال ، استدنته ومازلت أدفع أقساطه ، أصابني بأزمة اقتصادية خانقة ، توقفت عن شراء الملابس والكتب وألغيت النزهات والرحلات من مخططاتي اليومية . في البداية عارض أفراد الأسرة وجوده بيننا لأنه سيحتل مكاناً في البيت ، ويسبب إرباكاً للجميع ، و لكنهم رضخوا أمـام إصراري . ظننت أنه سيعينني في أمور الحياة ويحمل عنّي جزءً من أعبائها ، فتحول إلى هم جديد يستنزفني ، كائن فرض عليّ أن أعتني به دائماً ، أنظـفه وأرتبه ، وأشتري له الأشرطة الموسيقية والبرامج المتنوعة ليتسلّى بها ، ويجب أن أعامله بلطف كي يرضى عنّي ويحدثني ، ولا ينفجر صائحاً أو مصفراً .

أعادني إلى العصر الذّهبي لكتابة الرّسائل ، يكتب لي رسائل عتاب على أخطائي غير المقصودة ، ويكتب رسائل إنذار إذا تكررت الأخطاء ، أضطّر للرّضوخ لمتطلباته كي لايكفهرّ وجهه ، ويثور غضبه ، وقد تتحطّم جمجمته ، وتتطاير في أرجاء

الغرفة ، أو يحرد ويتوقف عن الكلام والعمل ، كائن غامض له برامجه ومخططاته الكثيرة ، يتحدّث عدّة لغات ، ولا يمكن أن أعرف نواياه أبداً ،

يفاجئني كلّ مرّة بأمر غريب يوتّر أعصابي ، فيزداد تشنّج القولون ، وأتجرّع الأدوية والمسكنات . ومثل كل الأزواج الشرقيين ، بدأ حكايته معي بإرهاقي بمتطلباته الكثيرة ومحاسبته الدقيقة ، ومحاولته الهيمنة على كل شؤون حياتي ، وإلغاء اهتماماتي الأخرى ، بعد فترة قصيرة من قدومه إلى بيتنا حرن وأصيب قلبه القاسي بتوقف عن الخفقان ، فشلت كل محاولات الإنعاش ، اضطررت لوضع قلب جديد له ، مر بفترة نقاهة طويلة ، كنت خلالها أعامـله بلطف شـديد كي لايمرض ثانية ، وظلت مناعته ضعيفة يصاب بين الحين والآخر بالزكام أو السعال الحاد ، ورغم وضعي الصحي السيئ اعتنيت به فهو حساس تجاه الفيروسـات ,كل مرة يهاجمه فيروس جـديد ،يكتب لي رسـائل شكوى ، أفحصه أو أحضـر الطبيب المختص كي يفحصـه ، ويطـرد الفيروس الذي يزعجه ويزلزل كيانه . كان مثلي يكره الحرارة الشديدة ويمرض بسببها فاشتريت له مكيفاً ، وزادت ديوني ، ولم يكن يتحمل الرطوبة والغبار ، وحين أشعلنا جهاز التدفئة في بداية الشتاء كتب رسائل شكوى ، فأطفأنا جهاز التدفئة ، وقضينا شتاءً بارداً إكرامــاً لخاطره . مع مرور الزمن تسلل إلى تفاصيل حياتي ، سرق كل شيء مني ، بدأ بإخـوتي الثلاثة الذين صاروا ينافسونني على قلبه ومشاعره يحاولون فهم شخصيته الغامضة ، وفك طلاسمه يتسابقون على العناية به ، ثم سرق صديقـاتي ، اللواتي يأتين لزيارتي ، تكــاثرت زياراتهـن ، ينظرن إليه بفضول ، ويحسدنني على صلتي به ، يقتربن منه يلمسن وجهه المشــرق ، وأزرار بِذْلته النافرة ، يتغزلن بوجهه النوراني ، وثقافته الواسعة ، ولطفـه و رقته ، حتى شعرت بالغيرة منه ، وصرت أغار عليه من نظراتهن ، وأعتذر عن استقبالهن . أطفـال الأسرة كان لهم صولات وجولات معه ، أسرهم بألعابه المسلية ، يتجمعـون حــوله يحكي لهم الحكايات ، ويلعب معهم ألعاباً غريبة . يوماً بعد يـوم شعرت أنني أخسره فهو رغم حساسيته وأمراضـه يستحوذ على اهتمام الجميـع ، فكـرت أن أطلقـه ، ألا تكفيني فيروساتي كي أبتليَ بكــائن مريض وحسـاس مـثلي للفيروسات ؟ ! ولكن دفعت له مهراً كبيراً وسوف أخسر المهر الذي دفعته ، وفرشت غرفة جميلة ، واشتريت مكيفاً من أجله ، اعتدت وجوده في البيت ، وأحببته رغم كل متاعبه ، رغم تعـب دماغي في فك طـلاسمه ، ويدي في لمس أزراره ، وعيـني من تأمـل شاشته ، ورقبتي من رسائله على الشاشـة أمامي ، ليس أمامي خيار آخر ! سأتابـع مسيرة حياتي مع الوافد الجديد ، جهـاز الكمبيوتر العزيز