ثانياً: الجذور السياسية للخلافات العقدية: الاختلاف أمر طبيعي في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات، بل لا يكاد يخلو بيت من الاختلاف فضلاً عن المجتمعات والشعوب، والشعوب الإسلامية ليست استثناءً من هذا بل كان الخلاف يحدث في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أفضل الناس، فحدث الاختلاف بين المهاجرين والأنصار[1] وحدث بين المهاجرين مع بعضهم –كالخلاف بين أبي بكر وعمر في تولية الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن حتى ارتفعت أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ونزل في ذلك قرآن –ثبت ذلك في صحيح البخاري[2]، وحدث الاختلاف بين الأنصار أيضاً[3]. لكن الخلاف في عهد النبوة كان يحسمه النبي (صلى الله عليه وسلم) إما بالإصلاح بين المتخاصمين أو بالقضاء أو بنهي الناس عن هذا الاختلاف. وكان إنكار النبي (صلى الله عليه وسلم) أو موقفه من الخلاف يمثل عند الصحابة الموقف الشرعي فينقاد المؤمن لهذا الحكم ويعرض عنه المنافق أو الذي في قلبه مرض. أما بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وسلم) فلم يكن أحد بمكانة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى تصفو القلوب لحكمه لأن الصحابة المختلفين سواءً في السقيفة أو غيرها، لم يكونوا يرون شرعية مطلقة لموقف فلان من الصحابة وإنما الشرعية لأحكام الإسلام ونصوص الشريعة التي يختلفون في العلم بها وفهمها ونحو ذلك، فلذلك استمر الخلاف، فإذا عقلنا هذا المعنى الدقيق عقلنا كثيراً من أسباب الاختلاف الأولى وكان للاختلاف –بعد النبي (صلى الله عليه وسلم)- أثر على الأمة بعكس الاختلاف في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي حُسِم بموقف النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه وهذه مسألة لم أجد من انتبه لها من قبل ولعل هذا من فتح الله على عبده الضعيف الفقير إليه. والخلاصة أن الأصل في المجتمعات ألا يخلو منها الاختلاف والتناقض، بل يصبح هذا الاختلاف صحياً إذا بقي في دائرة السلم والاجتهاد، أما إذا كان الاختلاف طريقاً لتفرق المسلمين وتنازعهم وتكفير بعضهم بعضاً أو تبديع بعضهم بعضاً فإنه يصبح مذموماً[4]. وسنحاول هنا أن نذكر أبرز الاختلافات السياسية بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) التي شكلت –فيما بعد- المذاهب الإسلامية الأولى فذهب أصحاب المذاهب إلى تضخيمها أكثر مما ينبغي وأصبحت كل طائفة تنفصل رويداً عن الاهتمام بأصول الإسلام بالتركيز على الانتصار لمواقف بعض المختلفين دون بعض حتى وإن صاحب ذلك اعتذار عن الآخرين، لكن هذه الانتصارات المتبادلة أضاعت الأصول العامة للإسلام إذ أصبحت الأجواء النفسية والعلمية مشبعة بالفرعيات من عقائد وأحكام وتركيز على الأشخاص مع ذبول الحماس لأصول الإسلام والدعوة إليها مما أدى إلى التزهيد فيها من الناحية التطبيقية للتدوين في العقائد وغيرها حتى أصبحت أصول الإسلام لا تشكل عند المسلم إلا أموراً فرعية لا تكفي لدخول الجنة ولا تنجي من النار!! وهذا التزهيد في الأصول كان من الناحية التطبيقية والوجدانية لا الدعاوى النظرية، لأن الاعتراف باقٍ بأهمية تلك الأصول من أركان الإيمان وأركان الإسلام…، ولولا وجودها في القرآن الكريم لنسي الناس أهميتها نظراً لإهمالها من قبل المتخاصمين والمتناظرين والمؤلفين، وهذا التزهيد كان له أبلغ الأثر في نسيان حق المسلم الذي يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً مع قيامه بأركان الإسلام ومع اجتنابه للمحرمات فكل هذا أصبح لا قيمة له –عند أصحاب العقائد- إذا كان هذا المسلم قد أخطأ في مسألة أو أكثر من المسائل الفرعية –العظيمة عندهم- أو توقف فيها من تلك المسائل المختلف فيها التي امتلأت بها كتب العقائد. هذه المحاولة منا اليوم هي محاولة من تلك المحاولات التي تهدف لتجديد بعض المفاهيم التي اندرست ومحاولة لرفع ما رفعه الله ورسوله وإهمال ما أهمله الله ورسوله ليتمكن المسلمون بعد هذا من رؤية الإسلام الشامل في أصوله العامة وواجباته المشهورة ومنهاياته المحظورة ومبادئه السامية، فهذا هو الإسلام الذي دعا إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) لا إسلام النزاعات والتشاتم الذي دعا إليه أصحاب كتب العقائد. [1] كما حدث في غزوة المريسيع من الخلاف بين المهاجرين والأنصار، إذ نادى مهاجري: يا للمهاجرين، ونادى أحد الأنصار: يا للأنصار فتنادوا فنهاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عن هذا وسمى هذا (دعوى الجاهلية)، وقال: (دعوها فإنها منتنة) وكان هذا الخلاف أشهر خلاف بين المسلمين في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ كان بين أكبر تجمعين وهما تجمع المهاجرين وتجمع الأنصار، فكان إنكار النبي (صلى الله عليه وسلم) قوياً بالألفاظ السابقة (جاهلية / منتنة). ولفظ الحديث: (عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال كنا في غزاة.. فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: الأنصاري يا للأنصار، وقال: المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة...) (البخاري – كتاب تفسير القرآن). [2] في صحيح البخاري (عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلا خلافي قال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ) الآية قال ابن الزبير فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر) كتاب تفسير القرآن من صحيح البخاري. أقول: قصده بأبيه هنا جده من جهة الأم فأبو بكر الصديق هو والد أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع. [3] كما حدث بين سعد بن عبادة وأسيد بن الحضير إذ اتهم أسيد سعداً بالنفاق وأخطأ في ذلك وهما أنصاريان أو ما حدث بين عمر بن الخطاب وحاطب بن أبي بلتعة وهما مهاجريان وقد اتهم عمر حاطباً بالنفاق وأخطأ في ذلك، كما أخطأ المهاجري والأنصاري عندما تداعيا بدعوى الجاهلية. إذن فهذه الخلافات رغم قسوة الاتهامات فيها إلا أنها طبيعية جداً لأنها لم تستمر وإنما كانت للحظات غضب وعصبية كان للشيطان فيها نصيب منهم ثم يزول هذا مع التذكر والتعوذ من الشيطان والرجوع إلى العقل والعودة لواجب الإخاء الديني. [4] وهذا لا يعني بالضرورة أن الباطل عند حدوث القتال والتكفير موزع بالسوية على الطرفين جميعاً فقد يكون الحق مع طرف ولكنه نادر خاصة في العقائد والأصل أن معظم الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة وهذا الاختلاف لا يوجب تنازعاً ولا اختلافاً بين القلوب والجماعات والفئات إذا وجد عقلاء لهم علم بمقاصد الإسلام وعلم بطبيعة النفس البشرية وقدراتها وأدوائها فالعاقل يقدر الاختلاف الفكري ويعرف طبيعته بعكس الجاهل أو المتعالم الذي يظن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة ولا يؤمن بنسبية الحقيقة وأنها الأصل في معظم المعلومات. إذن فالاختلاف يعد أمراً لازماً من لوازم المجتمعات وكل مجتمع ليس فيه اختلاف فهو مجتمع غير صحي، بل أنه يستحيل وجود مجتمع بلا خلاف لكن هذا الخلاف قد ينقل لنا عبر الأخبار والروايات المدونة أو الشفهية وقد لا ينقل لظروف معينة. إذن فلا يجوز أن ننزعج من الاختلافات الفكرية والفقهية والسياسية التي حدثت في عهد الصحابة سواءً ما كان منها في خلافة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضي الله عنهم وهذا ليس تبريراً لخروج من خرج على الإمام الشرعي وأحدث سفك الدماء كما فعل مانعوا الزكاة وبغاة الشام وأصحاب النهروان فخلافهم تجاوز إلى السيف وهنا نقول أصبح الاختلاف غير صحي في مجمله إذ لا بد من حق وباطل، من ظالم ومظلوم، أما الاختلاف بين المهاجرين والأنصار أو الاختلاف بين أبي بكر وعلي أو بين بعض الصحابة وعثمان فهذا اختلاف مشروع كل له أدلته واجتهاده ولم يصل للتفرق المذموم كما سيأتي بيانه. فالاختلاف نتيجة طبيعية لتمايز عقول الناس وتدينهم وأفهامهم وتكوينهم الخلقي والنفسي وتشكيلاتهم القبلية والمجتمعية ونظرتهم للدين والأمة والعلم000 وما إلى ذلك. وهذا المعنى غاب عن كثير ممن ألف في الموضوع قديماً وحديثاً وذهب هؤلاء إلى أن الصحابة لم يختلفوا ولم تتعدد أفهامهم ولم ولم000الخ. فالذين يقولون هذا القول يحتاجون لمعرفة النفس البشرية وطبيعة المجتمعات وما إلى ذلك من المعلومات الأساسية التي تساعد على تفهم ما يجري في التاريخ ثم تحليله بدلاً من مصادرة الحقائق وإنكارها أو المبالغة في تأويلها والاعتذار عن أمور ليست بحاجة أن يعتذر عنها. إذن نستطيع أن نقول بعد هذه المقدمة أنه حدثت خلافات بين الصحابة أنفسهم بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) مباشرة ونظراً لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان قد توفي فإن كثيراً من تلك الاختلافات لم تجد من يحسمها فحاول محبو كل طرف من الأطراف أن يحسموها دون جدوى والأمور تحتاج لمن يعقلها أكثر من حاجتها لمن يحسمها أو يصادرها أو يؤولها 000الخ |