بسم الله الرحمن الرحيم
طريـــق النهضـــة
النهضة هي الارتفاع الفكري، وليست هي الارتفاع الاقتصادي ولا الارتفاع الروحي ولا الارتفاع الخلقي وانما هي الارتفاع الفكري ليس غير، فاذا كان هذا الارتفاع الفكري مبنيا على اساس روحي كانت النهضة نهضة صحيحة، لان الفكر مستنير فيها الى اساس يستحيل عليه النقص فلا يتسرب الخطأ الى الفكر من ناحية اسسه وانما يكون الخطأ ممكنا عليه من ناحية الفروع ولذلك يكون مأمون الاساس ثابت الاتجاه مقطوعا بنتائجه، اما اذا كان الارتفاع الفكري غير مبني على اساس روحي فانه يكون نهضة ولكنها نهضة غير صحيحة لان الفكر فيها لا يستنير الى ما يستحيل عليه النقص فيكون عرضة للخطأ والخلل والاضطراب والضلال وجميع انواع النقص فيتسرب ذلك الى الاساس وبالتالي الى الاتجاه والنتائج ولكنه على اي حال يحدث نهضة .
الا ان الفكر الذي تحصل بارتفاعه نهضة هو الفكر المتعلق بوجهة النظر في الحياة وما يتعلق بها لان ارتفاعه هو الانتقال من الناحية الحيوانية البحتة الى الناحية الانسانية، فالفكر المتعلق بالحصول على الطعام فكر ولكنه غريزي منخفض، والفكر المتعلق بتنظيم الحصول على الطعام اعلى منه، والفكر المتعلق بتنظيم شؤون الاسرة فكر ولكن الفكر المتعلق بتنظيم شؤون القوم اعلى منه واما الفكر المتعلق بتنظيم شؤون الانسان باعتباره انسانا لا فردا هو اعلى الافكار ومن هنا كان مثل هذا الفكر هو الذي يحدث نهضة فعلى دعاة النهضة اذن ان ينشرون هذا الفكر ويجعلوه اساسا لغيره من الافكار وان يجعلوا العلوم والمعارف مبنية على هذا الفكر واخذة الدرجة الثانية من الاهتمام حتى يستطيعوا ان يحدثوا نهضة .
والذي يتبادر الى الذهن من نشر الفكر هو تأليف الكتب واصدار الصحف والمجلات ولذلك اقبل الناس عليها كطريقة لنشر الفكر وبالتالي كطريقة للنهضة بيد ان الواقع ليس كذلك فالكتب والصحف والمجلات والنشرات ان هي الا ادوات ووسائل ليس غير وهي لا تحدث نهضة وانما توجد افكارا عند من يقرأها فاذا اقتصر على ذلك وجدت من قراءة الافكار عن قصد التأثير فيحتم هذا القصد ان يقوم من يعطيها بالاتصال الحي بمن قرأ الافكار فرديا وجماهيريا في وقت واحد للمناقشة في هذه الافكار لتمكين من قرأها من لمس
واقعها ووضع اصبعه على هذا الواقع ولحثه على العمل لايجادها رأيا عاما بين الناس وفي العلاقات وفي الدولة فينتج عن ذلك الثورة الفكرية التي توجد النهضة فاذا وجد هذا الاتصال الحي فقد بدأ السير عن طريق النهضة، واذا لم يوجد لا يمكن ان تبدأ النهضة، وانما قد يبدأ علم ومعرفة وقد يبدأ تأليف الكتب وهذا لا ينتج نهضة ولو اصبح اكثر اهل البلاد متعلمين ولو كانت الكتب التي تؤلف تعد بالالاف بل لا بد من الاتصال الحي الى جانب الكتب والى جانب المتعلمين، وهذا يؤدي الى ان تتحول هذه الافكار الى تشريع والى دولة فتنتقل الافكار الى التطبيق العملي بالاختيار وبالقسر وحينئذ تسير النهضة في طريقها العملي بعد طريقها الفكري فيجتمع الطريقان معا : دولة وقوانين تقوم بالنهضة في المجتمع وافكار تنشر متبوعة بالاتصال الحي فرديا وجماهيريا معا في وقت واحد تسير بالمجتمع الناهض الذي يحمل رسالة النهضة لغيره من المجتمعات وبذلك يصل الامر الى ذروته من السمو والارتفاع .
والناظر في العالم الاسلامي او ما يسمونه اليوم الشرق الاوسط يلاحظ انه بدأ بتحسيس النهضة منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر حين بدأت استانبول - وهي حاضرة الخلافة الاسلامية - تحاول ان تقتبس الافكار التي تظن انها سبب نهضة اوروبا ثم اصبح ذلك واقعا عمليا في اوائل القرن التاسع عشر بعد غزوة نابليون لمصر وجلوس محمد علي على عرش مصر واقتطاعه اياها من جسم الدولة الاسلامية بواسطة عمولته لفرنسا ثم صار اخذ ما يظن انه افكار توجد النهضة عاما في البلاد منذ ان دك عرش الخلافة وحطمت الراية الاسلامية وبسط الكفار المستعمرون سلطانهم على جميع بلاد الاسلام . وها قد مضى نصف قرن ومع ذلك فحتى هذه الساعة لم تحصل نهضة وانما وجدت بعض المعارف والعلوم . ولهذا فقد ان الاوان لان يدرك الناس في هذه البلاد بعد محاولات تقرب من قرنين ان الطريق الذي يسيرون فيه من دراسة المعارف والعلوم وحدها لا توجد نهضة وانه قد ان الاوان لان يبحثوا عن طريق يكون من طرق النهضة واقعيا وان يتركوا الطريق الذي يسلكون بعد ان اصبح اخفاقها يقينيا مقطوعا فيه .
نعم لقد ادرك بعضهم ان اعطاء الافكار لا بد ان يتبعه الاتصال الحي للمناقشة في هذه الافكار لتمكين الناس من لمس واقعها وللحث على ايجادها رأيا عاما وعند الدولة وفي العلاقات، ومن اجل ذلك اوجدوا الاحزاب السياسية فكانت بذلك لفتة لافتة للنظر في طريق التغيير . الا ان هذه الاحزاب لم تعتنق فكرة كلية عن الكون والانسان والحياة تجعلها الاساس الذي تنبثق عنه وجهة النظر في الحياة وبذلك لم تتبن الفكر الاساسي الذي يكون مقياسا للافكار ولم تتبلور لديها وظيفة الدولة ووظيفة القوانين في المجتمع ولهذا فقدت ما يوجد النهضة اي فقدت الافكار التي يجب ان تقوم بنشرها وان تتبع هذا بالاتصال الحي فرديا وجماهيريا معا، ولهذا سارت بالافكار الجزئية مأخوذة من وجهات نظر متناقضة من الرأسمالية والاشتراكية متجنبة عن تعمد وجهة نظر الاسلام ومن اجل ذلك ظلت تدور في دوامة وغلب عليها الانتهازية والاستعجال او محاولة الاصلاح الترقيعي الذي يؤخر النهضة ويطيل عمر الفساد . واذا استثنيناالحزب الشيوعي وحزب التحرير وهما حزبان مطاردان من جميع السلطات فانه لا يوجد في العالم الاسلامي كله الذي يسمونه الشرق الاوسط من يعمل للنهضة وان كان فيه من يخبرون الناس بانهم سائرون في طريق النهضة ولذلك كان الامر الطبيعي وفي الامة احساس عام بارادة النهوض وفيها متحمسون بذلك فعلا ان يوجد من يفحص هذين الحزبين المتعارضين بفحص افكارها سواء منها ما يتعلق بالفكرة او ما تعلق بالطريقة او يوجد من يتملس افكارا اخرى بفكرتها وطريقتها ليساهم بالصراع الفكري لايجاد الثورة الفكرية وبالتالي احداث النهضة ام هل سيظل المتعلمون يكتبون في المجلات والصحف ويؤلفون الكتب ويظل الناس غارقين في دوامة الالفاظ الطنانة يرددون بحماس كلمات القومية والتحرر ومحاربة الاستعمار دون ان يكون لها واقع ودون ان يكون لها اي معنى يتعلق بوجهة النظر في الحياة .
ان الشيوعية في جعلها المادية والتطور المادي الحتمي عقيدة تخالف فطرة الانسان من ناحية ان الايمان بوجود خالق غريزة من الغرائز وتناقض حقيقة التطور"اي الانتقال من حال الى حال"فانه لا يمكن ان يكون ذاتيا بل لا بد من وجود مؤثر خارجي اقصاه النسبة التي لا بد من توفرها بين اجزاء المادة حيث يحصل حدوث التطور، والشيوعية في جعلها حتمية التاريخ طريقة تبنى على كذب واوهام . فالافكار هي التي تغير اتجاه الحياة والانسان الذي يحمل هذه الافكار عقيدة يقينية هو الذي يباشر تغيير الاتجاه في الحياة فيحصل من هذا التغيير التاريخ وليس التاريخ هو الذي يحدث هذا التغيير . ولهذا لا تستطيع الشيوعية ان تثبت في الحكم وفي المجتمع الا بالقوة والبطش ولو اباحت للناس الاختيار لما رضيها مجتمع من المجتمعات .
اما الاسلام فان عقيدته هي التوحيد للخالق وتسيير الاعمال بما ثبت انه قد اوحى الله به لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم باعمال العقل في فهمه للوقائع المتجددة والمتعددة لاستنباط الاحكام . وهذه الاحكام هي القوانين ووظيفتها في المجتمع انما هي اباحة السعي طلبا للرزق الحلال وجعل الاصل في الاشياء التي تملك وفي الافكار التي تؤخذ الاباحة وتقييد كيفية التملك وكيفية التغذية الروحية بطريقة خاصة .
فهل ان للناس ولا سيما المتعلمين ان يدركوا ما هي النهضة وان يفكروا في الافكار التي تقوم على اساسها النهضة بعد ان تحسسوا الكيفية التي تثبت فيها الافكار لايجاد النهضة باتباع نشر الافكار بالاتصال الحي للمناقشة من اجل ان يلمس الناس واقعها ويحث على العمل لايجادها، لا جرم انه قد ان الاوان لذلك لا سيما بعد هذه المرحلة المشاعرية الكاسحة التي شملت الدولة العربية منذ سنة 1955 حتى اليوم ثم برز للواعين السراب الخادع الذي كانت تنشره بمختلف اساليب الدجل فان هذا وحده كاف لان يوقظ من الغفلة وان يلفت النظر بقوة الى تلمس الهدي عن طريق الفكر المستنير .