(
1-
1
)
من معابثات النقد الحداثي السائد
عندنا أنه يبدأ بالنظر في النصوص الشعرية ليصفها وصفاً ظاهرياً آلياً, باحثاً
عن شروط الحداثة واشتراطاتها كهمٍّ أول.. ثم ومن بعد ذلك تصنيفها أرشيفياً
كإسنادها إلى رفِّ المجايلة, أو رفّ المصطلح, فيما يظل شرط الشاعرية مستجهلاً
عندهم. وكثيراً ما تصدمني دراسات لا يقدم فيها الدارس أكثر من: هذا سبعينى,
وذاك تسعينى, وهذا حداثى وذاك ما بعد حداثى أو..هذا رومانسى وذاك خليط من حس
رومانسى أربعينى وكلاسيكى ثلاثينى.
وفى الحقيقة - ولأنى لا أبحث فى
النقد عن تسعيرة جبرية للنصوص الأدبية - كثيراً ما أقع في الأسى وأنا أطالع
كتابات هؤلاء المؤرشِفين .
أما الأكثر مدعاة للأسى هم النقاد
الأكاديميون الذين يميلون إلى تصديق خرافة أكاديمية تقول : إن علمية النقد تكمن
في تكريس أكبر قدر من المنهجية ومن ثم يصرفون همهم إلى تكريس المقولات
التنظيرية التى تخدم النظرية دون أن يكون همهم هو خدمة النص . وفى الحالتين
فالنص هو الضحية . إن العناية بالمنهج هو إخلاص للمنهج وإن كنت أراه سلاحاً
يمتشقه البعض فى وجه النصوص من أجل استخلاص جمالياتها , ولا أظن أن أجمل ما في
النص يقطره السلاح . لهذا يتحول البحث الممنهج فى النصوص إلى بحث عن علمنة
النقد ليس إلا .
على أية حالة الشاعرية ليس لها
موطن محدد , كما أنها تستعصى على التحديد كمفهوم . فقد يتوقف شخص ما أمام مكون
جمالى ليقول : " هذا الشىء شاعرى جداً " وهو يعنى بالتأكيد أنه جميل جداً .
لنتساءل إذن : هل إدراك الجمال راجع بالضرورة إلى الشىء المعايَن ؟ أم لشخص
المعايِن وذوقه ودرجة حساسيته وعلو مداركه ؟ ؛ وفى رأيي أن الخيارين يسيران في
الاتجاه الخطأ . فلا الشيء المعايَن بتكويناته وتشكيلاته الخاصة ولا الشخص
المعايِن بذوقه ودرجة حساسيته ورقى مداركه هما موطن الشاعرية . ذلك لأن
الشاعرية تتولد أساساً من خلال العلاقة التي تنشأ بين المعايِن والمعايَن ,
وهذه العلاقة تبادلية ولابد أنها تسير في الاتجاهين معاً .
في النصوص الأدبية لا أزعم إذن أن الشاعرية خصيصة نصِّيَّةَ إلا عندما أتحدث
عن دلائلها وإمكانيات تحقيقها . صحيح أن ثمة ظاهر فيزيقى أيستروبى يحقق هذه
الإمكانيات والدلائل من خلال اتساقه وفق هارمونية ما . هذه الكيفية من الاتساق
الأيستروبى الهارمونى هي التي تسمح بإمكانيـة الشاعرية .. ومع هذا فإن وصف هذا
الاتساق هو وصف للدلائل ليس إلا .
غير أن إدراك الشاعرية يتوقف على العلاقة التي ستنشأ بين هذا الظاهر الفيزيقى
وبين الشخص المعايِن / المتلقي الذي من دونه لن تتحقق الشاعرية بوصفها عملية
تذوقية معقدة لمكونات جمالية معقدة أيضاً .. المتلقى وحده ينفتح بوعيه وحسه
وذوقه ومشاعره وخبرته على جماليات الظاهر إلى فضاء سحري متسع خلف هذا الظاهر
الفيزيقي المصمت .
ربما لهذا هو يراه ناطقاً رغم
صمته , ويراه متسعاً رغم ضيقه , ويراه يمور بالحركة رغم سكونه . لهذا أقول : إن
إمكانيات الشاعرية لابد أن تتعدى النص إلى المتلقي , فليس كل الأشخاص تتوافر
فيهم هذه الإمكانيات , وإن توفرت في مجموعة فإنها تتفاوت ومن ثم فهي نسبية
بدرجة كبيرة .
أما عن العلاقة التى تنشأ بين
القارئ والنص فإنها تعتمد وإلى حد كبير على المساحات المشتركة بينهما من
الإمكانيات الجمالية وليس من ضرورة لحصرها عند مجرد وجهة النظر أو المنظور الذي
نعاين من خلاله النصوص أو المنهج الذى نحدده سلفاً لمعاينة النصوص لأن ذلك يظل
مفترضاً ومن ضمن مكتسبات القارئ حتى وإن لم يعِ أنه من ضمن مكتسباته ومن ثم
فليس من ضرورة لتحديده للآخرين وهو يقدم لهم درجة وعيه بالشاعرية أو درجة
انفعاله بها . إذ يكفينى كقارئ للنص لإثبات شاعرية النص أن أقدم لك النص نفسه
بوجه آخر , ومن ثم فإن ثمة عبء ما يفرض علىَّ إعادة إنتاج النص بطريقة أخرى .
أما عندما تسألني عن دلائل الشاعرية فإنني سأجد نفسي مضطراً لتقديم بعض الدلائل
, وساعتها سأكون مضطراً لشرح وجه نظري بشكل تطبيقي يركز على الخصائص النصية .
وأرى أن الإجراءين معاً ضروريان ومتلازمان ويسيران معاً باتجاهين متوازيين
يصبان في مجرى الشاعرية .
لهذا وإن لم أكن معنياً بتخطيط
خطوات إجرائية معينة كعادة المتتلمذين الأكاديميين , فإنني ــ ومن ثم ــ لن
أنشغل أيضاً بمزاحمة القارئ بالأساس الإبستمولوجى التنظيرى وما إلى ذلك من
كراكيب النقد بعيداً عن الفعل الإجرائى . ومع هذا فلا ضير من القول : " إن
دلائل الشاعرية عندي فيما يحققه النص من نظام ايستروبى هارمونى " متماثل ومتسق
" من خلال بنياته " . . ومن خلال توافر ممكنات جمالية تتيح إمكانيات القراءة
والتأويل , وكلها ممكنات باللغة وبقدرة الشاعر على التعامل معها بشكل رمزي مشف
داخل سياق تتضافر فيه المستويات الدلالية : النحوية والصرفية والإيقاعية
والصوَرية لصنع دلالة كلية متسعة تمرح فيها رؤية متسعة للحياة والكون . وفى هذا
يمكننى أن أركز على التناص بوصفه استنساخاً للحياة بطعم جديد وبكارة حاضرة , لا
بوصفه نَسْخاً لمألوفاتها . ومن ثم فإن عنصر الجدة أو عناصرها ومدى اكتناز النص
بها تعطيه وجاهة وحضوراً فذاً يكسرا حدة المكرور والمعاد وهما يُلفتان إلى
مكونات النص الشكلية في بساطتها الآسرة , ويشدان القارئ إلى أغوار كامنة تستحي
عن السفور . لهذا لا ضير أن أبدأ مع نصوص الديوان بقراءة لإحدى قصائده قبل
البحث عن دلائل الشاعرية فى النصوص , لأن ذلك سيتيح لنا استشعار الشاعرية
ودرجتها قبل فحص مكوناتها الشكلية . ولا أراني بذلك قد أقمت شروطاً في وجه
الشاعرية أو نظرت إليها من خلال منهج عنيد ؛ لأن قناعتى ليست طارئة ولم تترب
لدى من خلال النظريات الأدبية فحسب بقدر ما أنها تربت من خلال معاقرة النصوص
نفسها . أو بالمعنى إن مسيرة الشعرية العربية حافلة بالنصوص الكفيلة بتحقيق
وجهة نظرنا فى الشاعرية وتعطينا دلائلها , ومن ثم فإن الشروط تبدو بديهية , غير
إنه ومن البديهى أننى لن أقيم شروطاً على ذائقتى , ومن ثم فكل شيء يبدو طبيعياً
.
الذي ليس طبيعياً أن يضع نقاداً
شروطاً للحداثة ويتجاهلون شروط الشاعرية . وفى رأيى أن شرط الحداثة في غياب
الشاعرية لا قيمة له ؛ لأن الموضوعة انتفت من أساسها . لهذا لا يمكنني أن أضع
عنواناً على شاكلة " شرط الشاعرية .. شرط الحداثة " دون أن أقدم الشاعرية على
الحداثة , ودون أن أقبض عليها أولاً غير أنه
– ومن وجهة نظر أخرى – إذا
جاز أن يكون للشاعرية شروطها فإن شرط الحداثة
يكمن في مجاوزة شرط
الحداثة نفسه .
هذه الحقيقة الأخيرة لم يعها حتى
شاعر الديوان الذي نحن بصدد دراسته . لا لشىء إلا لأنه انخدع عندما قالوا له :
" شروط الحداثة " , فتوقف عند محاولة تحقيقها . لقد لمست في الديوان على ضآلة
حجمه اتساعاً ثقافياً , وانفتاحاً على مجمل الشعر العربي قديمه وحديثه , كما
لمست تعاملاً مع اللغة يشي بثقافة لغوية عميقة الجذور , ومن ثم فهو هاضم جيد
لتراثه ومنفتح باتجاه عصره , غير أنه موهوب بالقدر الذي نلمس معه شاعرية غزيرة
. ومع هذا كان يتشاعر وعينه على هؤلاء المؤرشفين من نقادنا . ومن ثم فقد حجَّم
نفسه عند شروطهم . لهذا قد لا أُرضِى شاعرنا عندما أحاصره برأيى هذا , وقد
أوليت الشاعرية وجهتى الأولى لكننى لن أنخدع مثله وقد سـبق القول : إن شرط
الحداثة يكمن فى مجاوزة شرط الحداثة نفسه . لقد أدرك شاعرنا أن النقد عندنا
نخبوياً فأراد أن يتنخوب .. نعم نعم .. أيها الشاعر : أنت لست أنت وكنت أتمنى
أن أراك أنت أنتَ ؛
هو رأيي الشخصي إذن قد أحاصرك به وأنا أقدم لك كل ما يثبت أنك شاعر تحقق الشروط
التي تجعل منك شاعراً كـ .. أو شاعراً مثل .. أو شاعراً ضمن .. أو شاعراً من ..
أو شاعراً تخضع للشروط وكنت أتمنى أن أراك شاعراً وحسب , ذلك لأنني أبحث عن
سمات نوعية فارقة في التجارب ولا أراني أبعد بهذا عن مفهوم الحداثة أو حتى
مفهوم الشاعرية على نحو ما طرحت سلفاً . إن القصدية الواعية لدى منتج النص
لتحقيق عمليات الانحراف والانتهاك التى يباشرها أثناء إنتاج النص تبدو مهمة ,
ذلك لأنها تشير من جهة أولى إلى طموح المنتِج / المبدع إلى إنجاز ذلك النص
الشاعرى الأمثل المتميز والمتفوق على غيره من النصوص الشاعرية الأخرى . ومن ثم
يكفى لضرب الشاعرية في مقتل أن نشير بالقول : هذه هى الأساليب المعهودة أو هذا
هو السائد من استخدام لغوى . بعد أن نكون قد تأكدنا من ذلك .
(
1
– 2
)
" موسيقا للبراح "(1)
ليس عنواناً لإحدى قصائد الديوان.. إذن فهو عنوان مشترك يخص كل القصائد .
والأمر على هذا فلابد أن نتوقع أننا أمام وحدة كلية تضم القصائد جميعها وإن
اتخذت لها عناونين
داخلية متباينة, أو لكأننا أمام عنوان رئيسي تصطف تحته عناوين تابعة صغيرة . أو
على الأرجح إننا أمام قصيدة واحدة طويلة تتخلل أجزاءها عناوين جانبية .
ما يعنينا أن موسيقا للبراح عنوان
يدفع للتأويل الشعرى وإلى استكناه مدلولاته فى اتجاهين : اتجاه مفردة " موسيقى
" وهى بمدلولاتها : الماء الذى تسبح فيه الشعرية , وبدونه لا أتوقع إلا أن أجد
شعرية نافقة فى القاع بين صخور النص وتمدداته المصمتة . والموسيقى هى النغم
والأثير الذي
يسبح الشعر فيه ليكتسب إيقاعه ووقعه . أما مفردة " البراح " فلها مدلولاتها فى
الاتساع وتعدد الاتجاهات والانطلاق وعدم القيود والحرية .
ومن ثم فإن المفردتين بمدلولاتهما
وبأريحيتهما الشعرية نجحتا فى خلق الأثر المطلوب مبدئياً فى نفس القارئ للدخول
إلى الديوان بنفس الأريحية الشعرية , وقد فتحتا شهية القراءة وخلقتا انطباعاً
أولياً بأننا أمام نصوص تمتلك حريتها واتساعها وموسيقاها الخاصة , وأنها نصوص
ذات فضاء متسع منفتح على كل الاتجاهات وهى تنهل من كل المشارب .
ها نحن خاضعون مبدئياً لمفهوم الأثر , والحقيقة إن الشاعرية تركز أول ما تركز
على مفهوم الأثر .. أى أثر النص فى القارئ , وهو تركيز فى غاية الأهمية ويتعلق
تحديداً بكون الأثر بعداً من أبعاد جماليات النص , تتولد فى / من تلك المسافة
التى تفصل النص عن المؤلف / الشاعر , وتصله بالمتلقى باعتباره منتجاً أو مبدعاً
آخر للنص . فالمؤلف هنا لا يعد أباً للنص الشاعرى أو مالكاً له أو ذا سلطة عليه
, وإنما ناسخاً له أو ضيفاً عليه ومن ثم فإن مقولة " موت المؤلف " تتحول هى
ذاتها إلى مقولة جمالية ؛ لأنها تحول المؤلف إلى إشارة فيما ينفتح النص على
المتعدد والمتجدد من القراء والقراءات , وفيما يتحول النص إلى بنية دينامية أو
كينونة حية لها حضورها الخاص بها .. كلما تحقق هذا دلَّ على قيمة النص الشاعرية
.
إننى وخضوعاً لمفهوم الأثر
وتأكيداً على قيمة النص الشاعرية سأقدم قراءتى للقصيدة الأولى من الديوان
المعنونة " الراعى" يقول فيها:" سآوى إلى جبلٍ/ يمنح الغارقين العراء/ يبوح
لهم/ بخطى امرأة في مفاصل قلبى/ تموء/ ويتبعها جسد من ضياء/ ملائكة
الراغبين/....../ يغنى/ فيحترق العشب/عند الصباح/يمد عصاه/ تثور المراعى/
غباراً من الذكريات/ ويبدأ عطر الحقول/ بطعم الظهيرة/أو مطر من جوى/ هكذا ظل
مثقلاً بالقطيع/ تنام المسافات بين يديه/ يهش بها غنماً/ يختفى فى النبوءة/
مزدحماً باصطياد الحروف/ ففيها مآرب أخرى/......./ وعند الغروب/ يغنى:/ سآوى
إلى جبل/ يمنح العارفين/الصفاء/
يبوح لهم بخطى امرأة/ فى
مفاصل قلبى/ تموء " . صـ9 .
إننى هنا أمام معطيات بلاغية من
حيث المبدأ تمثل جوهر عملية الإنشاء وسأبدأ بالتقـاط النكرات : "جبلٍ – امرأةٍ
– جسد " وسألتفت إلى دلالات هذا التنكير على التخصـيص والتعظيم , إذن هذه
المفردات تمثل ثقل التجربة وسألتفت إلى الإبدال المقصود الذى يضع العراء فى
موضع النجاة , فالمفترض أن النجاة هى كل ما يلزم الغارقين وعندما يصبح العراء
نجاة فلاشك أننا أمام مفردة تشدنا نحو عراء مخصوص غير ما للإبدال من وظيفة
بلاغية أخرى عندما يكسر توقعاتنا محققاً صفة الإغراب وهى جوهر الأدب . وسألتفت
إلى الحذف المقصود فى " يبوح لهم بخطى امرأة " والمفترض " يبوح لهم بتفاصيل خطى
امرأة " وتفاصيل الخطى هي السيرة . ومن ثم فإن مفردة الخطى تأخذ دلالتها في
السيرة / التاريخ والأثر .
وسألتفت إلى الفعل تموء بما يوحى
به من ضعف واستكانة وهو خاص بالقطة / المرأة فى القصيدة . وسألتفت إلى المرأة
بوصفها فاعلاً لهذا المواء ومع ذلك فهى فى النص قائد إذ يتبعها جسد من ضياء ومن
ثم سألتفت إلى رمزية المرأة كأصل لكل وطن وهى الدفء والحنان والاكتمال والجمال
وسألحظ موضعها فى مفاصل القلب متمكنة من نبض القلب وحركته ومن ثم فهى بموضعها
هذا متمكنة من الحياة نفسها وسألتفت إلى التعريف فى "الغارقين والعارفين" لألحظ
دلالتهما على التعميم , وسألحظ علاقة الجبل بهما فهو مانح لكليهما إذ يمنح
العارفين الصفاء ومن دون أن يحدد النص : عارفين ماذا ؟ وفى العرف الصوفى من ذاق
عرف , ومن ثم سأتوقف عند دلالة كلمة ( الجبل ) على ما بها من إيحاءات الشموخ
والارتفاع وصعوبة اعتلائه ومن ثم فإن الفعل سآوى هو بحث عن استقرار فى القمة
رغم صعوبة المشوار من أجل المنح إذ يتوزع المنح فى اتجاه الغارقين أسفل الجبل
والعارفين بأسرار الجبل .
وسأتوقف عند مفردة ( يغنى ) وهى فعل ارتبط فى ثرائنا بالحداء وبالراعى وسأجده
فى النص بمثابة الشرارة إذ يحترق العشب ما أن يبدأ الراعى فى الغناء والمفترض
أن لا يغنى حتى لا يحترق العشب باعتباره ثروة الراعى وضالته ... من هنا فإن
الغناء الشرارة يبدأ فى اتخاذ دلالة أخرى يتحول معها الفعل يحترق إلى فعل
إيجابى كما يتحول معها العشب إلى قيمة سلبية. ومن ثم تضيع قيمة الغناء النشوة
وتبرز قيمة الغناء كشرارة تبدأ مع بدء الصباح . ومن هنا ترتبط مفردة الغناء
بالصباح كرمز للبدء وللنور والوضوح والاستجلاء ومن ثم فكل معانى الليل ودلالاته
فى الخوف وعدم الوضوح والخديعة ستتلاشى مع بدء الغناء . وبورود مفردات النبوءة
والحروف يأخذ الغناء دالته فى الشعر والحدس والرسالة والانفتاح على
الميتافيزيقى , وبارتباط الغناء بالراعى يصبح الغناء مشروعاً جمالياً يتلازم
ومعانى الصباح ويَصُبُّ فى دلالاته ومن ثم يأخذ العشب دالته فى الهشيم البالى
وفى العرض وفى التافه من مطالب حسية للإشباع البيولوجى عند الغنم التى ستأخذ
دلالتها فى البشر الرعية ومن ثم تأخذ مفردة الراعى دلالتها فى الشاعر نفسه
وهكذا ترتبط التجربة بالذات الشاعرة وبمشروعها الجمالى . وهى تجربة تضع الشاعر
/ الراعى فى موضع المسئول وتضع الآخرين فى موضع الرعية وتصور عظمة دوره فى
الحياة وعِظَم معاناته التي لن
تقل عن مهمة صعود الراعى البدوى لجبلٍ شاهق عظيم . هكذا تتضح لنا رمزية الراعى
كمفردة تعتلى النص لتشد إليها كل الخيوط .
وبالنظر إلى مفردة ( الجبل ) نجد
أنها ارتبطت فى موروثنا الدينى بـ ( ابن نوح ) وكان من العاصين المتمردين على
الحقيقة التى جاء بها أبوه . كما ارتبطت بموسى النبى الذى كان يذهب إلى جبل
الطور لمناجاة ربه , لكنما بورود مفردة " العصا " / المسافات التى يهش بها على
الغنم .. ترتبط الدلالة أكثر بموسى وتبعد عن ابن نوح . ومن ثم تنفتح دلالة
الجبل باعتباره وسيلة وملاذاً للانفتاح على الميتافيزيقى والسحرى , وهو المكان
الأثير للتهيؤ للفعل النبوئى . أو الحدسى أو الشعرى ومن ثم يبدا الفعل الشعرى
بانفتاح الشاعر على سحرية الوجود ومن ثم أيضاً تتداخل الحواس وتتراسل وتأخذ
الأشياء صفات جديدة " يمد عصاه تثور المراعى " – " مطر من جوى " – " غباراً من
الذكريات " – " طعم الظهيرة " – " تنام المسافات بين يديه يهش بها غنماً " ,
وهكذا يبدأ العالم يتشكل شعرياً على نحو ما . وهكذا يصبح الغناء شرارة بدء
مقدسة . إن مفردة "الراعى" مفردة ثرية وتنفتح دلالتها على اتجاهات عدة ,
ولكونها عنوان النص فإن اختيارها ولا شك لم يكن اعتباطاً بقدر ما كان انتقائياً
ووفق رؤية شمولية لكافة الدلالات الممكنة .. هكذا هى : بوابة رئيسية تنفتح على
كافة جوانب النص ومن ثم فهي محملة بأكبر قدر من المدلولات وإمكانيات التأويل .
الراعى فى ارتباطه بالجبل والصحراء والغنم تعطى المفردة دلالتها فى كل معانى
الصبر والتحمل والتقشف والمسئولية فى آن .
الراعى فى ارتباطه بالطبيعة
المفتوحة وامتلاك الوقت هو دالة فى كل معانى التأمل والحدس والانفتاح على ملكات
أخرى كامنة فى النفس . والراعى فى ارتباطه بمهنة الأنبياء هو دالة فى النبوءة
والرسالة والهداية . واستتباعاً لهذا تأخذ مفردة الغنم دلالة متسعة أخرى فلكل
راع غنم / رعية . ومفردة غنم لم ترد فى النص غير مرة واحدة لتؤكد أن الغنم همٌّ
ثقيل على الراعى " مثقلاً بالقطيع / تنام المسافات بين يديه / يهش بها غنماً "
لكن المفردة تغيب تماماً عند تمام الصعود إلى الجبل ويغيب الوجه الغنمى للأحياء
فإذا هم عارفون وغارقون .
العارفون : هم من تمكنوا
من المعرفة واقتربوا من الحقيقة , والغارقون : هم الذين يعوزهم العراء لأنهم لا
يزالون مغموسين في ظلام جبلتهم وجهالتهم ومن ثم فالعراء نجاة لهم والعراء هو
امتلاك ذؤابة الجبل. وهكذا ينقسم البشر إلى صنفين بينهما رسالة جمالية من
نبوءات وحقائق يتحملها الشاعر وحده باعتباره بعض نبي .
ومن هنا تتضح لنا قيمة الفعل "
تموء " المنسوب للمرأة باعتبارها هاجساً ودالة في الضعف الظاهرى أو البساطة
الآسرة للقطة / المرأة . ومن ثم فإن المرأة كرمز للعالم نفسه عندما تدخل إلى
قلب الشاعر تتخلى عن كل شراستها وشرورها للتحول إلى مظهر للبساطة والبراءة في
آنٍ وهما معاً , البساطة والبراءة حلم الشاعر إذ يحلم أن يرى العالم بريئاً
بسيطاً بلا تعقيدات . ومن ثم فإن مفردات الراعي ومهنته وأدواته وبيئته تصنع
طقساً يتوجه بنا نحو هذا العالم البسيط البريء المتسع الذي ينعم بالصباح والنور
إلى أبعد مدى , ومن هنا تأخذ مفردة جسدٍ من ضياء " كتابع للمرأة الرمز "
دلالتها في الشاعر نفسه .
أعترف أننى لم ابذل جهداً في تلقى
هذا النص ومداخلة عالم الرؤية المطروحة فيه خاصة أن النص جاءنى عائماً في ماء
آسرٍ جميل من إيقاع هادئ هامس متناغم أُفضِّل أن أتعرض له فى جزئية الإيقاع
التي سنفرد لها جانباً من دراستنا هذه .
وإني لأتساءل بعد هذا : هل أنا شريك مساهم في صنع الدلالة ؟ أقـول : نعم ..
إنها شراكة مؤسسة على وعى مشترك بينى وبين النص , لكنما براعة النص فى أنه سمح
لي بهذه الشراكة فى الأساس, عندما حافظ على مكتسباتى أو رأسمالى الذى سأشارك
به في هذه الشراكة, وهو الموروث لدى من قصص الأنبياء.. ومن هنا فإن ومن هنا فإن
التناص مع القرآن ومع الموروث الدينى القصصى المختزن لدىَّ حافظ على رأسمال
مشترك بينى
وبين النص , ومن ثم فإن التناص
يلعب دوره ببراعة فى فتح الدلالة الشعرية , ويسمح بإمكانيات القراءة على هذه
الشاكلة التى تسير باتجاه النص / اتجاه القراءة . ومن هنا فإننى ومهما كنت صاحب
مكتسبات فإن النص يفرض قراءته عندما ينضح من داخله ما تنضح به قريحة القارئ فى
الوقت الذى يعاين فيه النص .
وليس التناص وحسب .. بل إن ثمة
تسامح مبدئى لدى النص لا يصدنى عن القراءة أو مواصلتها .. أولها عدم المباهات
بتواجده الشكلى بل - على العكس من ذلك - إنه ومن خلال بساطته المتناهية كان
يشدنى إلى بسطته المتسعة .. إضافة إلى أن مفردات النص لم تكن متحزلقة أو ضالعة
القاموسية , أو غريبة الاستخدام أو حوشية أو مندثرة أو ميتة أو حتى مصرة على
الرصانة . بل كانت مألوفة ومبذولة تماماً واعتيادية , وهى رغم ذلك اكتسبت من
خلال الاستخدام ( عملية التوليف والانتقاء , والجمع , والنظم بتعالقاته النحوية
والإيقاعية ) اكتسبت وضعية جديدة مدهشة , ومن ناحية أخرى أتت محملة بوظائف
دلالية ضخمة .
هكذا هى البساطة اللغوية من خلال
الاستخدام تكتسب بسطة وسعة ومن خلال التركيز على ما هو دال , والاستغناء عن
الثرثرة الموقعة فى اللاشعرى .. هكذا هى من خلال التكثيف دللت على الاكتناز
الرؤيوى.
وبهذا يمكنني أن أجزم أن النص
محمل بالشاعرية , إذ لم يكتفِ النص بصفاته الأدبيـة وحسب , بل استطاع من خلال
هذه الصفات أن يكتسب جمالياته الخاصة التى أولها اتساع دلالاته وانفتاحه على
فضاء متسع للتأويل , محققاً أيضاً مفهوم الأثر الذى يجذب المتلقى نحو الفضاء
النصى والتأويل والمتعة والاندهاش .
أستطيع إذن أن أتفاءل – وأنا بصدد
التوقف عند النص الأول من الديوان – أن النصوص ستحقق الشاعرية على نحو ما سلف .
لكنما التساؤل : هل تحقق النصوص
شرط الحـداثة – إذا جاز لنا أن نفترض أن للحداثة شروطاً ؟ فالشاعرية شىء
والحداثة شىء آخر , وإن كان بينهما اتصال , فكثيراً ما تحقق النصوص شاعريتها من
خلال مجاوزة السائد وهى تبحث عن التجدد المستمر على مستوى الرؤية ومستوى الفن ,
والحداثة كمفهوم عام تبحث عن التجدد النوعى على نفس المستويين .. ومن خلال هذا
البحث يحدث ما يمكن أن نعاينه من مجاوزة ومغايرة السائد حتى لو كان هذا السائد
حداثياً .. أو بالمعنى نعاين الحداثة وهى تجاوز الحداثة .. وإلا أصبحت الممارسة
موسومة بكلاسيكية الحداثة ومن دون أى سمات نوعية فارقة .
هل تحققت فى نصوص ديوان موسيقا
للبراح تلك السمات النوعية الفارقة التى تجعل منها حداثيةً بالفعل أم أنها
حداثية بالتبعية ؟
هذا ما سنحاول أن نجيب عنه .
(
2
– 1
)
من المعلوم أن إنجاز شعراء الحداثة منذ بداية السبعينيات وحتى الآن هو إنجاز
لغوى بحت , وهو الإنجاز الأهم الذى أصبح مصدر مباهاة الشعراء , وهو إنجاز له
عدة أوجه منها : الإيقاعى : حيث بدأت عملية تحطيم الإيقاعات الموروثة المنظمة ,
والتحول إلى إيقاع القراءة والبصر وليس إيقاع السمع والأذن , وإدخال أكثر من
وزن فى القصيدة الواحدة أو السطر الواحد . أما الوجه الثانى فهو دلالى , حيث
الاعتماد على العلاقات المتباعدة بين المجالات الدلالية للمفردات . وهناك وجه
ثالث صرفى , حيث استخدام مفردات كثيرة من العلوم والفلسفة , وأسماء الأشخاص ,
اعتماداً على مقولة أن كل الكلمات صالحة للشعر . أما الوجه الرابع فهو نحوى حيث
: علاقات التضايف والجمل الممتدة والحذف والتداعى ... الخ .
والحقيقة إن هذا الإنجاز لم يكن
شيطانياً بل اعتمد على إنجازات سابقة ظهرت منذ أوائل الأربعينيات وخاصة على
مستوى المعجم الشعرى حيث أن إدخال المفردات من مجالات العلوم والفلسفة هو إنجاز
المدرسة الرومانسية وأعقبها الشعراء العرب المأثورون بالسريالية والرمزية في
الأربعينيات ثم حركة الشعر الحر. أي أن حركة الشعر الحداثي
التي
بدأت تترسخ فى الساحة منذ بداية السبعينيات ورثت كافة القواميس الشعرية السالفة
عليها وعمدت لتوسيعها, لهذا لا نعدم أن نجد القاموس الرومانسى منثوراً فى
القصائد الحداثية بجانب القواميس الأخرى كالقاموس المسيحى أو الإسلامى أو
الجاهلى أو العصرى بمفرداته العصرية المتداولة أو القاموس المجتمعى المبذول فى
حياة الأفراد..الخ.
بهاء الدين رمضان في ديوانه كان
واعياً بهذا الإنجاز القاموسى ومن ثم كان معجمه الشعرى شاملاً لكل هذه
الاتجاهات المعجمية , مركزاً على الاتساع والتنوع وعلى استنساخ القاموس الحداثى
السائد فى الساحة الشعرية ووظف التيمات الحداثية التي أحسبها شائعة فى التجارب
الحداثية . من هذه التيمات : " الطير / الطيور / العصافير - الغزالة - السفر –
الغبار – الصهيل – النخيل – الأغنيات – المدى – الصقيع – الوردة – التواريخ –
الخيول .. الخ " .
وأحسب أيضاً أنه التقط كثيراً من
المفردات الشائعة فى القاموس الحداثى دون تحفظ مثل : " ثورة – الفجيعة – الزمان
– التشرد – الكوابيس – البلاد – العاصفة – العتمة – الفضاء – غربة – براح –
انفلات – فصول – العشب القلب – الوقت – المزركش – التضاريس – التمرد – العراء
– المشانق – الخلاص – المراوغة – الاشتعال – الكلام – اللغة – الجمرة – الفوضى
– الأمسيات ... " , كما أنه استخدم كثيراً من الأفعال الشائعة فى القاموس
الحداثى مثل : " يسكن – يشرد – يرشف – يشعل – يسافر – يوغل – يركض – يشتهى –
يشخبط – يشاكس – يصهل ... الخ " . بجانب هذا كان القاموس الرومانسى مجاوراً
ومتقاطعاً مع بقية القواميس , ومن مفردات هذا القاموس : " الصباح - الحقول –
المساء – الحزن – الحلم – الأوراق – الصمت – الفجر – الحب – الفراشات – السماء
– العشب – التذكر / الذاكرة – التباريح – العشق – السنابل – القمر – الشمس –
الأرق ...الخ".
بالإضافة إلى مفردات الطبيعة التى
يحفل بها القاموس الرومانسى .. يتقاطع - أيضاً - مع هذه القواميس قاموس صوفى
مثل : " الحقيقة – البحر – اصطفاء – الحوادث – الخليقة – الكشف – المعشوق –
النور – المكاشفة – الدهشة – الحضرة – العارفين – الصفاء – الحروف – السر –
الكشف – الورد – الجسد – الطين – الروح – النور – القرب – المقدس – العاشقين –
المحو – الصحو...الخ ".
يتجاور ويتقاطع مع هذا
أيضاً مفردات القاموس الإسلامى مثل : " فتوحات – النبوءة – آية – الجحيم –
ملائكة – الله – مدثر / متدثر ..... الخ " . وهناك أيضاً القاموس المسيحى مثل :
" الرب – المسيح – الروح – يصلى ... الخ " كما أن هناك القاموس التراثى البدوى
مثل : " الراعى – العشب – المراعى – فارس – فحيح – الجب – قطيع – ذئاب – مهرة
– خيل / خيول – الرمال – قنديل – سراب – قوس .... الخ "
.
يتقاطع معهم قاموس مصطلحى عصرى
مثل : " الحضارة – الثورة – الشيوعية – اليسار – الأربيسك – الجاذبية الأرضية –
اللغة الحداثية ... الخ " . وثمة قاموس من أسماء الأعلام مثل : " أبو العلاء –
سلفادور دالى – أوزوريس – الصعيد – القاهرة – يوسف – محمد أبوزيد – رامبو –
لوركا ... الخ " . وثمة بعض الألفاظ المنحوتة مثل : " يكوكب " .. اضف إلى ذلك
قاموس من المفردات العصرية والمبذولة على السواء مثل : " الإيدز – الشيوعية –
دخان القاهرة – الانتخابات – المقاهى – تشخبط – رباط طبى – موسيقا الجاز –
فيروس – اليسار – الكمبيوتر – قيثارة – السكك الحديدية – النفايات النووية ....
الخ " .
هكذا كانت كل الخيارات مفتوحة أمام الشاعر فى مسألة القاموس الشعرى , إذ لم
يتقيد إلا بدلالات كلمة " البراح " المتسعة والمفتوحة على كل الاتجاهات . ولكن
يعاب على هـذا
القاموس أنه التقط ما هو سائد فى
القاموس الحداثى باستثناء بعض المفردات القليلة التى لا تذكر , وخاصة فى تركيزه
على استخدام التيمات الثابتة والمكرورة فى الشعر الحداثى , وإن كانت هذه
إشكالية لا تخص " بهاء الدين رمضان " وحده , فهو اتهام موجه لجميع شعراء
الحداثة بلا استثناء , فجميعهم يلوكون نفس القاموس ونفس التيمات بلا أدنى تحفظ
. يبقى بعد ذلك الإنجاز المهم وهو التركيب بين المفردات فى الجمل , وبين الجمل
وبعضها . وإذا كان التركيب بين المفردات هو فى الحقيقة تركيب نحوى ومجازى فى
الوقت نفسه فقد سعى شعراؤنا إلى إحداث تغيير جوهرى فى هذه العلاقات النحوية
المجازية , وإن كان جانب المجاز أقوى , حيث كان محور اهتمام الشعراء من هذه
الزاوية , فقد قامت العلاقات على أساس التقاء ما لا يلتقى عادة , أما من
الناحية النحوية فقد كان بـاب الإضافة والنعـت والربط بـ " من أو الَّلام " من
أهم العلاقات للربط بين مفردتين أحدهما حسى والآخر معنوى وبينهما علاقة معدومة
في الواقع ويصعب التقاؤهما أو تصور التقائهما عقلياً . ومن هذه العلاقات
النحوية المجازية الكثير عند بهاء الدين رمضان نلتقط منها على سبيل التمثيل :
1) الإضافة : مثل : " كوابيس
القابلة – فراشات التمرد – شلال النسوة – خديعة راهب – أهداب النبوءة – أسطورة
الصهيل – ضجيج الأحزان – معطف القلب – خديعة الأعشاب – ضوء العتمة – تفاح العرى
– مفاصل قلبى – بومة كفيه – طعم الظهيرة – اصطياد الحروف – رحم الوقت – اشتعال
السنابل – شهوة اللغة – ربوع الزمان – باب القلب – امتداد الصهيل .... الخ "
2) الربـط بـ"من أو الَّلام":"
ابتداء للرمال– طاولة من
دثار– تاريخاً من الأسفلت– نساء من لهب– مطر من جوى– غبار من الذكريات– جسد من
ضياء– خارطة للشوق...الخ".
3) النـعت : " الأغنيات اللهب –
الممالك القديمة – الكأس المضرَّجة – عكاز فارغ – الشعراء الموتى – الولد
الطالع – أحلامنا الخائنات – الأرق الليلى – أجراسه القاتلة – السواد الملازم –
تضاريس مبعثرة .... الخ " .
ومن الواضح أن العلاقة هنا تقوم
على الربط بين مفردتين بغرض إبراز صفة فاقعة الدلالة للمفردة الأولى , أو لغرض
بلاغى مثل : التهويل أو التضخيم أو ما شابه ذلك .
4) الإضافة مع الإضافة . مثل :
خطى موسيقى الجنائز .
5) الربـط بـ"من أوالَّلام"مع
النعت،
مثل:صرح ممرد من قوارير–
عصفور للغموض الجميل .
6) الإضافة مع النعت أو المراوحة
أو العطف . مثل : " خيول الجسد المرمر – انتصاف الحلم والفوضى – اشتباك اللغة /
الحلم – غربة الجسد / الشرنقة – أنامل القمر المشروخ - افتعال المشانق
والمراوغة – جرح الخليقة والمدى – انفلات جسدك الربيعى – جرذان السكك المعتمة
...... الخ "
غير أن أهم ما يميز التركيب فى
الشعر الحداثى اعتماده على سمات بارزة متكررة نلتقط منها عند بهاء الدين رمضان
:
1) تراسل الحواس : مثل : " طعم
الظهيرة – جمرة من وداع – خطى موسيقا – عويل المسافة – تقضم تفاح العرى –
تثقلها بالأنين – متكئاً على أحلامك – يرشف نار الحضارة – تخلع حزن الكـلام –
يشد الرعشة " .
2) المفارقة وكسر التوقعات . مثل : " موتى وامضاً – أوهام الحقيقة – أفـاجئها
بموتـى– أبى العــلاء حين خدعنا كثيراً ولـم يجن على أحد"
؛
والمفترض أن الموت انطفاء , ومع الحقيقة يقين , ومع المفاجأة حضور , أما فى
الأخيرة فالثابت أن أبا العلاء لم يخدعنا , حيث أنه مات دون أن يجنى على أحد ,
وهذا ما اشترطه على نفسه
ولكنه هنا خدعنا ومات دون أن يجنى
على أحد .
3) المشترك اللفظى فى التراكيب
:
وهو الاعتماد على ثلاث ألفاظ فقط
لتكوين تركيبين كل منهما مكون من لفظين بحيث نجد لفظة مشتركة بين التركيبين .
مثل التراكيب الآتية : -
ـ خديعة راهب – خديعة الأعشاب
:
حيث اعتمد على مفردات ثلاثة : "
خديعة – راهب – الأعشاب "
؛
ـ خداع النوافذ – نافذة الحلم
:
حيث اعتمد على :" نافذة – الحلم –
خداع " ؛
ـ انكسار الصهيل – انكسار الشعاع
:
حيث استخدم : " انكسار – الشعاع –
الصهيل " ؛
ـ رحم الوطن – رحم الوقت
:
حيث استخدم : " رحم – الوطن –
الوقت " ..،
وغير ذلك كثير كثير . وإن كان
يؤخذ على هذه الطريقة عند بهاء الدين رمضان بجانب نمطيتها واتباعها الشائع من
الطرق البنائية هو تكرار نفس التراكيب أحياناً مثل : أحلامنا الخائنات صـ46
وأحلامك الخائنات صـ79 .
أما عن التركيب النحوى بين الجمل
نلتقط عند بهاء الدين رمضان :
1) الجمل الممتدة : مثل :
ـ ابتداء للرمال وللعصافير /
الفضاء صـ55
ـ فى آخر عاصفة للقراصنة الموتى
والأمواج,لا تنظر للبحر المتعب , يملؤه ضجيج الأحزان .. صـ49 .
ـ لمجىء المهرة السمراء ، حيرى ،
ترتوى من رغبتى ، عند اكتمال الوقت تاريخاً من الأسفلت ، أغفو على ساعدها حتى
الصباح صـ20 .
ـ وليس هناك سوى نجمة وحياة – تحس
رغائب كل السنين , تعود وأنت الذى حاصرتك البلاد صـ23 .
ومن الواضح التقديم والتأخير في
التركيب الأخير والذي يمكن أن يصاغ بشكل مترتب على النحو "وأنت الذي حاصرتك
البلاد تعود ، تحس رغائب كل السنين وليس هناك سوى نجمة وحياة " .
ومن الواضح أن تمديد الجمل اعتمد
على عدة تشابكات نحوية متتالية مثل : العطف والمراوحة والإضافة والاعتراض
وتكرار الحال وتكرار النعوت وتوالى الأفعال لفاعل واحد واستولادها بعضها من بعض
, وكلها وسائل وطرق شائعة فى الاستخدام الحداثى .
2) التفصيل : مثل تفصيل " مــا "
المجملة صـ50 .
" واشرب آخر ما في الكأس :
فيرس الكمبيوتر
/
ضحايا دفن النفايات النووية
جرذان السكك الحديدية
دخان القاهرة
/
وجدب الصعيد المتشعب الأطراف
النخاسين البلهاء
ومثل ما نقرأ صـ17 حيث يأخذ
التفصيل معنى الوصف العارض :
" فهيئ سهرة "
من صفحات امرأة
/
للشعر والعشق
ومثلما نقرأ صـ19 حيث المفعول به
المفصل .
" يكتب الليل :
/
تباريح نساء من لهب
اشتباك اللغة / الحلم
خيول الجسد المرمر / نار
ذكرى خيال من جنون
3) الحـذف : ويتخذ الحذف عدة صور منها حذف الأدوات أو المبتدأ أو الخبر أو ما
شابه ذلك . ومثل هذا الحذف يهدف إلى الإيجاز وكذا التكثيف اللفظى بغرض جعل النص
مكتنزاً بالإيحاءات والدلالات وجعله إشارياً وعميقاً .
مثل " كون لا منته
/
من يكشف سر الوردة
من يكشف سر الدمعة
/
من يدنو حتى يراك
كون .. لا منتهاك صـ31
ومن الواضح أن إعادة الصياغة بدون
حذف ستكون على النحو :
هذا الذي أراه كون لا منتهٍ
فمن سيكشف سر الوردة
ومن سيكشف سر الدمعة
ومن يدنو منك حتى يراك ؟
كون هو لا منتهاك ! "
وقد يأخذ الحذف صورة الاستغناء
كلية عن جمل كثيرة متتالية والاستعاضة عنها بفراغ مملوء بالنقاط المتراصة يوكل
في مثل هذا الحذف إلى القارئ عملية ملء الفراغ وفق تصوراته وحسبما يفتح النص
أمامه من دلالات ومعاني . وهى عملية تهدف إلى التركيز على فاعلية القارئ
وتحويله إلى شريك مساهم في الكتابة والقراءة معاً . ومن هذا كثير عند بهاء
الدين رمضان : مثل :
نور يمحو كل المحو
/
يكشف كل الصحو
/
ويكشف سر الاسم
ويكشف سر خطاك
....
نور وكون
/
لا منتهاك " صـ32 .
ومن الواضح أنه بالإمكان ملء
الفراغ بمكتشفات أخرى كثيرة . ومثال ذلك في قصيدة "وليمة" حيث الأسطر الكثيرة
الشاغرة
" لامرأة تقف على باب القلب
عارية
كالإثم
.......... (1)
للوطن
المضرج بخديعة الحكام
.......... (2)
للشعراء الموتى
......... (3)
للجورب المثقوب
باتساع العالم "
ومن الواضح أن ترك الفراغ هنا
يهدف إلى إشراكنا في وضع تشبيهات أخرى للمرأة في السطر (1) , وصفات أخرى للوطن
في السطر (2) , وصفات أخرى للشعراء في السطر (3)
؛
ثم يبدأ الشاعر في تبديل الهدف من
الفراغ فيما يلي من القصيدة :
" .........
للصقيع المتقطر
/
من موسيقى الجاز
.........
لأبى العلاء
/
حيث خدعنا كثيراً
/
ولم يجن على أحد
.............
لانكسار الشعاع
...........
داخل لهفة زجاجية "
ومن الواضح أن الهدف من الحذف هو
إلقاء مسئولية إضافة أصحاب جدد للوليمة غير المرأة والوطن والشعراء الموتى
والجورب المثقوب والصقيع وأبى العلاء .. وهى مسئولية ملقاة على المتلقى . ثم
يبدأ الشاعر تبديل الهدف من الحذف فيما يلى
:
" للشهداء
/
الخارجين
من رحم الوطن /
المقطوع الكفين
............
............
...........
أقول لكم جميعاً :
/
هذا جسدي فكلوه "
ومن الواضح أن الهدف أن نضيف صفات
جديدة للوطن تتفق مع المعطيات الدلالية لـ " الوطن المقطوع الكفين "
؛
وفى نهاية القصيدة يتبدل الهدف
بصفة أخيرة :
" هذا جسدى فكلوه
وهذا دمى ....... (1)
................. (2)
................. (3)
ومن الواضح أن الهدف هو أن نضيف
صفات لـ " دمى " فى السطر (1) وأن نضع مكان الفراغ في السطر (2) , (3) ما يمكن
أن يفعله كل هؤلاء الممنوحين حرية مطلقة بالدم .
(
2
– 2
)
وسائل إنتاج الدلالة كثيرة فى
الشعر الحداثى , وهى وسائل نصية وأسلوبية تدخل فيها طريقة كتابة النص في مساحة
الصفحة البياض . وكلها وسائل تهدف أساساً إلى التركيز على القارئ فى إنتاج
الدلالة وتحوليه عن سلبيته المعتادة فى المتلقى , كما تهدف إلى وضعه فى حالة
مشابهة لحالة منتج النص . ومن ناحية أخرى تهدف إلى خلق الفضاء النصى وفتح
الدلالة أمام المتلقى على أفق واسع متعدد , وإلى أبعد مدى . ومن هذه الوسائل
عند " بهاء الدين رمضان "
:
1) التنــاص : وإن كنت لا أود أن
أكرر كلاماً معهوداً عن التناص , إلا أننى أركز على القول : إن التناص يتكئ على
ما لدى القارئ من مكتسبات دلالية لنصوص تراثية شعبية أو دينية أو تاريخية شعرية
كانت أو قصصية أو غيرهما . وعن طريق هذا الموروث يبدأ التناص إفراغ محتوى آخر
جديد لتلوين الطقس الدلالى فى النص بطقس آخر مشابه موروث لا بهدف الإبقاء على
الموروث , ولكن بهدف توظيفه فى إنتاج دلالة جديدة تخص الحالة الشعرية فى
القصيدة . وثمة وظائف أخرى للتناص تتعلق بإنتاج الشعرية , عندما ينفتح النص على
سحريه الطقس الذى تحمله النصوص التى يتقاطع معها . وكثيراً ما يكون التناص
ناجحاً فى إنتاج الدلالة على نحو ما سلف فى قصيدة " الراعى " التى سبق أن قدمنا
قراءة لها .
وعند " بهاء الدين رمضان " يكثر
التناص مع النصوص القرآنية ، وإن كان شعراء الحداثة يتوسعون فى التناص على مجمل
التراث الدينى والمقولات التاريخية والحكم والأمثال والقصص الموروث ومع نصوص
شعرية شهيرة ومع نصوص أجنبية وبنفس لغاتها أحياناً أو بترجمتها .
ومن أمثلة التناص مع القرآن الكريم عند بهاء الدين رمضان
:
" سآوى إلى جبل " صـ7 متناصاً مع الآية " ( قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ
مَنْ رَحِمَ)(هود: من الآية43)" و " تنام المسافات بين يديه يهش بها غنماً "
صـ8 و " ففيها مآرب أخرى " صـ9 متناصاً مع قصة سيدنا موسى كما ساقها القرآن
الكريم . إذ تقول الآيات : " وما تلك بيمينك يا موسى . قال هي عصاي أتوكأ عليها
وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى " ( طه 17 ، 18 ).
وثمة تناص مع النص الإنجيلي"في البدء كانت الكلمة"حيث يقول ص55": في البدء ...
/ لم يكن المريدون ... "
وثمة تناص آخر مع المثل المعروف "
أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام " حيث النص صـ 80 يقول : " أشعل شمعة لهذا
الممر المظلم " ، وكذلك ثمة تناص مع قصة إبراهيم عليه السلام عندما سأل ربه
أرنى كيف تحيى الموتى فأمره الله أن يذبح أربعة من الطير ويوزعها على الجبل ثم
يدعوهن فتأتينه سعياً .. حيث يقول بهاء الدين فى قصيدته " خديعة العشاق " صـ55
: " أرسم وردة / وأدعوها / فتأتينى سعياً " , وثمة تناص حاد مع سورة البلد فى
إيقاع كلماتها وتراكيبها حيث النص القرآنى " لا أقسم بهذا البلد. وأنت حِلٌّ
بهذا البلد . ووالد وما ولد . لقد خلقنا الإنسان فى كبد "
وحيث النص الشعرى صـ59 " والبلد
/ والعيون التى فى كمد . والنساء الشواغل / والشاغلات بلا حد / لقد رسمت فى
القلب / أخدوداً / من كبد "
2) من الوسائل الأخرى المعينة على
إنتاج الدلالة هو القاموس الشعرى المستخدم بحسب تنوعه واتساعه وانفتاحه على
اتجاهات عدة سواء نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية أو شعبية أو تاريخية .
فمثلاً القاموس الرومانتيكى له دلالته فى انفتاح النص على عاطفة الشاعر
ووجداناته وعلى طبيعته النفسية الداخلية عموماً . كما أن له دلالته على تعنق
الذات مثاليتها وتراميها نحو العالم اليوتوبى الأثير. وعند بهاء الدين – كغيره
من شعراء الحداثة – توظيف لهذا القاموس ، غير ما هنالك من مفردات الطبيعة التى
تكثر فى الديوان . مثل " جبل – جداول – سحـابة – عشب – تضاريس – نهر – رياح –
براح – كهف – صقيع – مساء – مراعى – نهـر – الليل – الفصول – الكون – البلاد –
الجهات – شجر – السراب – الرمال – العالم – البحر – النور – الظلام ..... الخ "
؛
وهى مفردات تعطى دلالتها فى
التعدد وتلون الطقس والأماكن والأصوات والتنقل المستمر والحرية وجميعها تصب فى
مدلول العنوان " موسيقا للبراح "
، غير أن هنالك من دلالة
نفسية على ارتباط الشاعر بالكون والمطلق والطبيعة المفتوحة بلا حدود , كما تعطى
دلالتها فى اللامحدود وميل الذات الشاعرة إلى التوحد بالكون والطبيعة وهجرة
القبح البشرى الماثل بحضارته المادية المشوهة وشرورها الماثلة فى صور عدة فى
الواقع . كما تدل من جهة أخرى على ميل الذات للوحدة وشعورها بالغربة والحزن
والعزلة أو ما شابه ذلك , وكلها من أغلفة رؤية الشاعر " بهاء رمضان " وغيره من
شعراء الحداثة , وقد سبق للدكتور عز الدين اسماعيل أن أجرى دراسة على قاموس
شعراء الحداثة بهدف الإفادة منه فى تفهم أبعاد تجارب الشعراء الحداثيين واستطاع
رد هذا القاموس إلى حقول دلالية محددة هى : " الحلم – الزمن – الذاكرة – العشب
والشجر – المكان المتجمد البليد – الماء – النار – عناصر طبيعية " ووجد أن هذه
المفردات ترد إلى مقولتين أساسيتين هما الحلم والسفر كمحورين تدور حولهما
التجارب الشعرية الحداثية(2) , وقد أفاد من ذلك فى تفهم طبيعة هذه التجارب .
وغير ما هنالك من ألفاظ
مشحونة بالدلالة عند " بهاء الدين رمضان " مثل : " القراصنة – الموتى – الغرقى
– النخاسين – سرير – غرف – البلد – الوطن – فحيح الأنثى "
،
وغيرها ما هو مشحون بالدلالة التى
تصب فى العصر مثل : " الانتخابات – الزعامات – الجرائد – المقاهى – الشيوعية –
اليسار – دخان القاهرة .... الصرب – الإيدز " . وهى
ألفاظ
تأتى مصحوبة بدلالاتها فى النصوص , فورود كلمة " الصرب " يستدعى الحرب بين
الصرب والكروات والبوسنة والهرسك وما تلى ذلك من تداعيات ومظالم واحتشادات
ومؤتمرات ... الخ وكلها صور للعالم المتمدين المشحون بالصراعات والتحزبات
والتعصبات والشرور .
والحقيقة إن القاموس عند بهاء رمضان متسع ومتعدد الدلالات ومنفتح على كل
الاتجاهات ممَّا أعطى نصوصه تشبعاً وثراء دلالياً , ومن ثم هو يفتح أمام القارئ
إمكانات عدة للتأويل واستشفاف مدلولات متعددة .
3) الرمــز: وهو الوسيلة البلاغية
الأنجع في ديوان موسيقا للبراح, فقد اعتمد على رمزية الأشياء والألوان والفصول
والمواقيت والطقس ووظائف وطبائع وأسماء الأعلام . مثل:"
بومة– سرب نمل– الطيور–
الصقيع– السواد– الغبار– رامبو– وحش– الجب– المشانق– الإسفلت– الدمى– الحمام–
الياسمين– الطين– الجنوب– الحدائق– الفصول– الربيع– القاهرة– الجمرة– الخيول–
الريح– زنجي– راهب– لوركا– سلفادور دالى– القابلة– الزرقة–المساء– المهرة–
السمراء– البحر– يوسف–النيران–العواصف– القارورة...الخ".
حشد بالغ العظم من
المفردات الصوفية التي تشف عن طقس روحي وحدسي لا متناهٍ, وعلى انفتاح الدلالة
على فضاء متسع التأويل على جوانب روحية وإدراكية خاصة.. وقد سبق استعراض هذا
القاموس على سبيل التمثيل .
وإن
كانت رمزية اللغة ليست قاصرة على الشعر الحداثى إلا أن شعراء الحداثة توسعوا في
استخدام الرمز المنفتح على جميع الاتجاهات بحثاً عن رؤية شمولية للحياة والكون
, وتعميقاً للرؤى الشعرية . التي تزعم استيعابها العميق للواقع والتاريخ .
(
2
– 3
)
تشكلات الصورة الشعرية مبحث متسع وهام ودقيق للغاية , وذلك لأن الصورة هى
الإطار الذى يضم الشاعرية بين جوانبه ... وهى ضفيرة اللغة بكل مدلولاتها
وإيحاءاتها ورموزيتها .. وهى التى من خلالها يتحقق منهج الشاعر الرؤيوى فى
انكساراته وتألقاته وفرحه وترحه , وهى المخزون الحى لكل تاريخه النفسى وتاريخ
علاقته بالأشياء والحياة والوجود . وفى رأيى أنها تحتاج إلى مبحث خاص عند بهاء
الدين رمضان فى ديوانه " موسيقى للبراح " . لكننا لابد أن نتوقف بشىء من التأنى
عند أهم ملامح وتشكلات الصورة الشعرية عنده لنكشف عن مدى أريحيتها على استيعاب
الحداثة الشعرية ومدى أصالتها أو جدتها . وأول ما يمكن أن توصف به الصورة
الشعرية الحداثية هو اعتمادها على ظاهرة التكثيف الزمانى والمكانى فى انتخاب
مفردات الصورة وتشكلاتها ففيها تتجمع عناصر متباعدة فى المكان والزمان غاية
التباعد لكنها سرعان ما تأتلف فى إطار شعورى واحد , وهذا ما يفسر عادة وجهة نظر
التحليل النفسى بأن العمل الفنى إنما يتم والفنان فى حالة حلم . ومن ثم قيل أن
القصيدة حلم الشاعر . وجدير بالذكر أن المفردات المتباعدة فى الزمان والمكان لا
تلتقى فى الصورة الشعرية اعتباطاً , ذلك لأنها لا تنفصل عن التفكير , وكذلك هى
لا ترتبط ارتباطاً منطقياً يخص المكان والزمان , وإنما هى خاضعة لمنطق الشعور .
هذه الصفة أو ظاهرة التكثيف الزمانى والمكانى متحققة بعمق فى الصورة الشعرية فى
ديوان بهاء الدين رمضان , ولنا أن نطالع بعض هذه الصور : " يشب عويل المسافة
فينا / وتخطفنا عند هذى الحروف / تؤلفنا فى بروق العواصف والأمسيات .. / فقط /
يعرف الشعراء أرضاً براحاً / فيسكن عند المساء / رموزاً / إلى الشمس / يتسع
البحر / خارطة للشواطئ / عصفورة للغموض الجميل / دماء تفجر سر النهار ... تمر
السنون / تجادل فينا قتيل اللغات / وموروث تلك البلاد / تصور موجاً / يعانق
ريحاً جسوراً / فتخرج كل المصابيح من أضلع / قد تشخبط نجم الفصول / وتوغل فى
صولجان الرياح / ومأساة هذى الرمال .. " صـ30 . فى هذا المقطع من قصيدة "
القصيدة " ثمة مصابيح تخرج من الأضلاع ومصابيح تشخبط النجوم والفصول , ومصابيح
توغل فى الرياح والرمال وثمة صولجان للرياح . ومن الواضح فى مثل هذه الصور
الجزئية الجمع بين المصابيح التى على الأرض والنجوم التى فى السماء . وبين
المصابيح والرياح والرمال والمصابيح هى الفاعلة فى كلٍ . رغم تباعد المفردات في
الزمان والمكان المقننين بمنطق الواقع . والمصابيح أكثر من ذلك تخرج من الأضلاع
. كل هذه الصور ليست تشكيلاً اعتباطياً , وإنما هي صورة تسربت في لا شعور
الشاعر , ولم يجمع بينها إلا شعور خفي بقيمة الوهج الشعري وقدرته على إخراج
المصابيح التي ستغير طبيعة الحياة وتشخبطها ,
ومن ثم فهى تتجمع وفق رؤية الشاعر
ومنطقه الشعورى الذى يعطى للكلمات بعداً رمزياً آخر يحول الوهج الشعرى وألق
الحقائق إلى مصابيح . ويعطى السيادة للرياح صاحبة الصولجان . ويعطى للمصابيح
سلطة عليها لتمحوها . وفيما تتحول الرياح إلى صورة رمزية تصب فى المشكلات التى
تجتاح واقع الشاعر تتحول الرمال أيضاً إلى وطن ملئ بالحزن وهو يعنى بالضرورة
البشر الذين يعيشون فوق الرمال , وفيما تعطى الرمال دلالتها فى البادية الموطن
العربى الأول .. لذلك يحق للشاعر بعد هذه الصورة أن يتساءل : فهل يدعى العربى
امتداداً للصهيل وحلماً قديماً ؟ وفى صورة أخرى : " لى أن أعلق / فوق حائطها
الجماجم / والضفادع والهزائم / .. أن أراقب / شعلة تسرى من الكهف البعيد / ..
إلى خديعة راهب متمرد .. / لى أن أجرد كل شىء / فى المساء / وعند تأويل الصباح
/ بمدية الزنجى / أو برباطه الطبى .. " صـ36 .
ثمة أشياء معلقة على حائط , وهى
أشياء متباعدة غريبة . بعضها ميت وبعضها جماد . ثمة شعلة تسرى من الكهف وهو
الذى يلفه الظلام فى الواقع . وثمة راهب يمارس التمرد , وثمة خديعة تترصد
الشعلة , وثمة أشياء تتجرد من خصائصها سواء باستئصال كينونتها بمدية الزنجى أو
بمداراة عيوبها بالرباط الطبى , وهذه الصور الجزئية ما كانت تأتلف إلا داخل
منطق شعورى خاص يعى أن لحظة تأويل الصباح هى لحظة فلسفة الزمن ويعنى بملامسة
الوضوح , ويعى أن المساء هو وقت السبحة التأملية والوحدة وتعى أن هذه اللحظة هى
إلى حد ما موعد لإطلاق الشعرية , وفى الشعر تأتلف الصورة المتباعدة أساساً ,
ومن ثم تأخذ طباعها الجديدة , فالكهف الذى هو الظلام يضئ ، والراهب الذى من
المفترض فيه الرضى والخشوع يمسى متمرداً ويصبح مخدوعاً أو خادعاً وهكذا تأخذ
المفردات أبعاداً أخرى دلالية وتتحمل بالرمز ليتحول المتحدث بضمير " لى أن
أعَلِّقَ " إلى راهب متمرد ، فيما يصبح الكهف دالة فى الخلوة والانطواء تأخذ
الشعلة بعداً رمزياً لكل ما انطوى فى صدر الشاعر . وفيما يحدث كل هذا التحول
والتبديل تصبح القصيدة بيتاً عجيباً يجمع فوق حوائطه كل الغرائب والعجائب التى
أولها الهزائم الغريبة التى تمنى بها الذات فى واقعها .. وهكذا تستحيل القصيدة
حياة , ومن ثم يحق للشاعر بعد هذه الصورة أن يقول : " أشعل ثورة ضد الجهات /
وضد أوهام الحقيقة .. / هكذا / حتى أفاجئها .. / بموتى وامضاً " .
حقيقة فى مثل هذه الصور كثيراً ما
يستغل الشاعر رواسب الصور الشعبية التى تنقلها إليه الخرافات والأساطير
والحكايات أو تلك التى ينسجها خياله على غرارها . وهى فى كلتا الحالتين تمثل
وسيلة تفاهم روحى أوضح وأقوى من أى وسيلة أخرى . وفى مثل هذه الصورة يبدو
الشاعر مستوعباً تاريخ الإنسان, فيما يستمد من هذا الوجود التاريخى الزاخر
بالقصص والدلالات الصور المعبرة . وقد نجح كثيراً " بهاء الدين " فى إيصال هذا
المفهوم والاتكاء عليه فى التشكيل الصورى عندما اعتمد على التاريخ العربى
الإسلامى فيما جاء به من تناصات مع القرآن وخاصة قصص الأنبياء .
•
ومن الحقائق التى يمكن إقرارها أيضاً عن الصورة الشعرية الحداثية اعتمادها على
التفكير الحسى لا الرؤية البصرية للأشياء , ومهما قيل أن الرؤية ضرب من الحس ,
لكنما التفكير الحسى أكثر إيغالاً فى صميم الأشياء من مجرد الوقوف عند سطوحها
وأشكالها وخطوطها فيما تمور بالحركة وفق الحركة الداخلية التى تموج بها النفس
الشاعرة ومن ثم تتشكل فى المشاهد الشعرية تشكيلاً جديداً , وتكتسب من ثم الحركة
الباطنية للشاعر وتتشح بها . والشاعر الحداثى يولى هذه الحركة كل عناية , فقد
وثق الشعراء الحداثيون فى الشعور الباطني من حيث هو ملتقى الأهواء المتنازعة ,
ومن حيث نفاذه وتغلغله في صميم الأشياء دون صورها الخارجية , ومن ثم يتمكن
الشاعر من معانقة الحقائق الجوهرية , ولهذا فإنه إذ يمارس التفكير الحسي في
الطبيعة يقع فيها على المشهد أو الحركة الخفية التي تترجم ذلك التفكير. جدير
بالذكر أن التفكير الحسي يختلف تماماً عن استخدام الشاعر للألفاظ الحسية أو
استخدام المزيد منها, وهذا
بدهي
إذا نحن تذكرنا أن الألوان في ذاتها والمزيد منها في اللوحة التصويرية لا يضمن
للوحة النجاح الفني..المحسوسان والحسيات في ذاتها ومهما تكن مثيرة لا تؤدى
وظيفتها على الوجه الصحيح إلا بتوجيه من الشاعر وهذا التوجيه مصدره الفكر أولاً
وأخيراً،
ولنرى صورة يتمثل فيها هذا التفكير الحسي عند بهاء الدين رمضان في قصيدة " مساء
" صـ10 يقول : " المقاهي / تفر إلى الشعر / تسكنها رغبة الساهرين / فتملأ
أحزانها الطيور / تشرد في الجالسين / رياح الطفولة / والأرض خمر / وطاولة من
دثار/ يكوكبها سرب نملٍ / يدخن زوجته / فى النراجيل / ثم يفض من الذكريات /
رماداً / يسامر بومة كفيه / حول الزعامات / والجنس / والإيدز / والصرب /
والانتخابات / يرشف نار الحضارة / والشاي دون كلام " . من الأهمية أن نلتفت إلى
الشعور الباطنى الماثل فى النص , ومن ثم إلى الحركة الباطنية التى تغلف رؤية
الشاعر للأشياء والموجودات أمامه فى المقهى .. الذات الشاعرة التى اختارت
توجهها للرؤية من منطلق مفردة " مساء " بكل ما توحى به المفردة من إطلاق
للشاعرية وللهموم فى آنٍ . الذات التى تمارس حزنها الشاعرى وهى تتأمل صورتها
كذات شاعرة وسط كومة من هموم عصرية متصارعة وغريبة ومؤسفة فى الآن نفسه . هنا
تشعر الذات بغربتها فى عصر يدعى التحضر رغم كل المخالفات الحضارية المؤسفة
الماثلة . كلها مظاهر تدعو للأسى والحسرة وتذكى شعور الذات بغربتها وعذاباتها
التى إما أن تكون مورثة للصمت الحزين أو الفرار إلى الجنون . هنالك تتحرك الذات
نحو الوجود المجسد أمامها لترسم حركية فى شكلية تتناسب وتتوافق مع تفكيرها
وشعورها الباطنى فى تلك اللحظة التأملية , ومن ثم فكل الأشياء تكتسب حركية خاصة
مغلفة بالرؤية فالمقاهى التى يفر إليها الناس للراحة هى نفسها الآن فى حركية
جديدة تفر إلى الشعر لأنها المكان الذى يتأمله الشاعر ومن ثم فهى مكان مفجر
للشاعرية فى تلك اللحظة التى يتأملها . ولأنها حقيقة بكل ما تحويه من وجوه
وحركة دالة فى جوانيات الشاعر , فكل ما فى المقهى مسربل بالحزن : وجوه آدمية /
طيور حزينة .. ذكريات بائسة / رياح الطفولة .. أناس سكارى وما هم بسكارى ..
الأرض خمر والطاولات مدثرة , فيما يرتع النمل فوقها . هى صور موحية بالبؤس
والإهمال , فيما بدا المدخن للنرجيلة فى إشعال زوجته وهو فى الحقيقة لا يشعل
سوى التبغ , لكنه وفق رؤية الشاعر هو يدخن ليحرق همومه أو ليتلهى عن همومه
بالتدخين .. ومن ثم فهو فى تلك اللحظة التى يحرق همومه كأنما يحرق أفعال الزوجة
أو يتلهى عنها وهى التى تقف خلف همومه كمسبب أول , لهذا يتعدى فعل الحرق إليها
. وبينما ينتهى التبغ إلى رماد ينتهى الرجل إلى صورة رمادية بائسة مغلوبة على
أمرها ؛ لأنه فى الحقيقة لم يحرق إلا أعصابه وصحته , لا يملك حلاً ولا فعلاً
ولا وهجاً , وقد استحال إلى صورة ساكنة رمادية .. هكذا هى صورة الأشياء فى
سكونها وحركيتها , وفى وهجها وفى تحولها إلى رماد . وفيما يظل الشؤم مخيماً
ينظر الرجل الرماد فى بومة كفيه .. لكأنه يبحث عن شىء آخر جميل فى البومة ! ..
أو لكأن يده وهى أداة لكل فعل ما هى إلا بومة لا تقدم غير ما هو مثير للشؤم .
هكذا نرى كل صور المقهى والجالسين عليه تسير وفق حركية خاصة مرتبطة بحركية
الصورة الباطنية للشاعر . وفيما نرى صورة الرجل الذى يدخن زوجته يمكننا أن
نعاين صورة الشاعر الممارس للحظة الشرود والتأمل على نفس المقهى ممارساً
التدخين كذات مهيضة محبطة لا تملك حولاً ولا قوة غير الشرود والتأمل والتشاعر
المغلف بالأسى والحزن وقد حاصره العصر بالهموم والمشكلات جميعها تصب فوق رأسه .
لهذا يحق له بعد هذه الصورة أن يقول : " سيهبط بين الدمى / ربما .. / أو يغنى
بأغنية / عن سلام جديد .. / سيقرأ عورته / في الجرائد .. " كل الأشياء دُمى ..
في سكونها وبلادتها .. صورة الإنسان العصرى فى هبوطها وانحدارها .. فكيف يكون
الغناء إذن ؟ هنا ينفتح النص على صورة أخرى جديدة ساخرة وهى تنقل سلاماً وهمياً
مع هذا الوجود ..
هل يمكن أن تتصالح الذات الشاعرة
مع هذا القبح وتلك الشرور الماثلة .. لا شك يمكننا أن نتغنى بسلام وهمى , لأن
الوهم هو الباقى فى مخيلتنا .. يعشش ويرسم حركيتها الوهمية نحو تصور حياة أخرى
يمكن أن يتمثلها الشعر , فيما يختلط الوهم بالسلام ليصبح كل سلام وهماً على
غرار السلام / العورة الذى نقرأ عنه فى الجرائد مع الدول الشريرة التى لا تعرف
السلام . فليس ما حدث أو يحدث هنا أو هناك غير صور لانكسار القوى الضعيفة
المهيضة أمـام قـوى كاسرة .. لا سلام حقيقى , وإنما طرف غالب يفرض باسم السلام
شروطه على طـرف مغلوب .. هكذا ينكسر الصهيل / الحرية الإنسانية / الرغبة فى
التحرير / البطولة / الانطلاق نحو الفعل الحر , فيما يتحول الإنسان إلى دُمى ..
وهكذا يسقط الشاعر أيضاً منحدراً بين الدُمى مغلفاً بصمته وحزنه وانكساراته .
الحقيقة أن كثيراً من صور الديوان تتشكل وفق منهج التفكير الحسى هذا وتحتاج إلى
كثير تأمل وروية لإدراك مكنوناتها النفسية , وهى تتحرك بنا من الداخل إلى
الخارج , ومن حركة باطنية إلى حركة ظاهرة فى الصورة الشعرية .
(
3
– 1
)
من المسلَّم به أن موسيقى القصيدة الجديدة تقوم أساساً على فرضية أن القصيدة
بنية إيقاعية خاصة . ترتبط بحالة شعورية معينة لشاعر بذاته , فتعكس هذه الحالة
فى صورة جديدة منسقة تنسيقاً خاصاً من شأنه أن يساعد الآخرين على الالتقاء بها
, وتنسيق مشاعرهم وفق نسقها . وهذا هو الأساس الجمالى لفكرة التشكيل الجديد
لموسيقى القصيدة . ومن المعروف أن الأساس الجمالى للقصيدة الجديدة هو أساس
جديد وكان طبيعياً أن يحدد الشعراء موقفهم من الوسائل التشكيلية الموسيقية
القديمة , وأبرزها الوزن والقافية , ولم يكن من الممكن الإبقاء على الصورة
الجامدة لهما , وكان لابد من إدخال تعديل جوهرى على هذين العنصرين , حتى يمكن
تحقيق هذه الصورة الجديدة , وإن كان قد ظل مرتبطاً بهما باعتبارهما عصب الشكل
الشعرى , وهما الصفة الخاصة التى لابد من توافرها حتى يكون الكلام المشكَّل
أمامنا شعراً وليس مجرد كلام . والشعر الجديد أباح لنفسه أن يُدخل تعديلاً
جوهرياً عليهما لكى يحقق بهما الشاعر الجديد ما لم يكن الإطار القديم يسعفه على
تحقيقه , وليس معنى هذا غير أن الشعراء الجدد أضافوا إلى القيد التقليدى
المتمثل فى الوزن والقافية قيداً جديداً لكنه أكثر حيوية وامتلاءً هو قيد
الإيقاع . ولم تعد موسيقى الشعر مجرد أصوات رنانة تردع الأذن , بل أصبحت
توقيعات نفسية تنفذ إلى صميم المتلقى لتهز أعماقه فى هدوء ورفق . من هنا جاءت
القصيدة الحديثة نسقاً موسيقياًً بالغ الحساسية , بالغ الصعوبة . فكل حركة فيها
بميزان دقيق , وكل حركة ترتبط إيقاعياً مع سائر الحركات ارتباطاً نغمياً لا
يحكمه سوى الحالة الشعورية التى يخضع لها الشاعر , ومن ثم أصبحت القصيدة
الحديثة بنية موسيقية متكاملة تتألف من عناصر تحقق التآلف بين مفرداتها من خلال
عملية معقدة غاية التعقيد تأخذ فى اعتبارها أن القصيدة – مهما طالت – هى الوحدة
الفنية التى تعمل فى داخلها أشتات من المفردات والدقائق , وكان أن وصلت القصيدة
فى مرحلة السبعينيات إلى ما يسمى بالقصيدة المدورة , تحقيقاً لهذا الغرض الكلى
للبنية الموسيقية
.
والتدوير – كما هو معروف – هم تمدد الجملة الشعرية حتى تكون معادلة لدفقة
شعـورية موحدة , تنطلق بها ومعها من بدايتها إلى منتهاها , فى نفسٍ واحد أو حتى
أنفاس متلاحقة ومتلاحمة , على أن استخدام كلمتى الدائرة والتدوير لايقصد به
الشكل الهندسى المعروف , لأن جوهر عملية التدوير المقصودة إنما يتمثل فى
استمرارية النفس الشعرى فيما يلتمس لنفسه من تحقق لغوى وإيقاعى يبلغ من خلاله
مداه , دون أن يصطدم بضرورات فى الأداء تفرض عليه التجزىء , فتحول دون تدفقه
وانسيابيته .
فى قصائد بهاء الدين رمضان برزت
عملية التدوير بشكل أكثر حداثة عندما جعل من القصيدة دائرة واحدة لها بنيات
داخلية صغرى دائرية أيضاً , بحيث يمكننا أن نحقق وقفات دالة عند نهاية كل بنية
صغرى مع إمكانية الوصل فى الوقت نفسه , لهذا رأينا فى نهاية كل دائرة صغرى قفلة
مؤقتة , هى عبارة عن قافية بالمعنى التقليدى لو أردنا الوقف , فيما يتلاشى هذا
المعنى لو أردن الوصل . ومن ثم أمكننا أن نقرأ القصيدة بأكثر من صيغة قرائية ,
وفى كل صيغة كانت القراءة تأخذ بعداً نفسياً ودلالياً يضيف إلى الرؤية الكلية
ويعمقها ويزيد من اتساعها . مثال ذلك ما نقرأه فى قصيدة " مساء "
:
" المقــاهى
/
تفرُّ إلى الشعر
/
تسكنها رغبة الساهرين
فتملاء أحزانها الطيور
/
تشرد فى الجالسين
/
رياح الطفولـــة
والأرض خمــر " ...... الخ
وإثباتاً للتدوير فإنني سأعيد
كتابة هذا المقطع على شاكلة أخرى هكذا : " المقاهي تفر إلى الشعر , تسكنها رغبة
الساهرين ، فتملأ أحزانها الطيور , تشرد في الجالسين رياح الطفولة والأرض خمر ,
وطاولة من دثار , يكوكبها سرب نملٍ ... الخ "
وعند قراءتها سأقرأ كل الكلمات
محركاً نهايتها دون أن أضع في حسباني إمكانية الوقف , وسأكتشف فى النهاية أننى
أمام وحدة واحدة أو جملة طويلة جداً بطول القصيدة . وكل من له إلفٌ بإيقاع بحر
المتدارك , وتفعيلته المتكررة ( فاعلن ) التي تأخذ صيغتها الأخرى أحياناً (
فَعَلَن ) يدرك أن الكلام فى القصيدة السابقة يلتزم بهذا الإيقاع , ولكنه سرعان
ما ينسى التفعيلة وشكلها المتكرر الرتيب حين يستدرجه الكلام عبارة إثر عبارة ,
ودون أن تكون كل عبارة بادئة مع بداية التفعيلة أو منتهية بنهايتها .. لقد
تقهقر الإيقاع الحاد إذن خلف العبارة ليكون مجرد خلفية تحس بها بطريقة سرية ,
ولكنها لا تأخذ مكان الصدارة فى الضغط على حس المتلقى . نحن هنا أمام نظام
عروضى متلاحم بشكل اتصالى وإن كان الكلام قد أخذ شكل السطور المتوازية المتقطعة
.
المقـــاهى
فاعلــــن فا
تفر إلى الشعرِ
علن فعلن فاعـ
تسكنها رغبة الساهرينَ
لن فعلن فاعلن فاعلن فـ
فتملأ أحزانها بالطيور
علن فعلن فاعلن فاعلن فـ
تشرد فى الجالسينَ
علن فعلن فاعلن فـ
رياح الطفولـــةْ
.. علن فاعلن فــا ....
( مع ملاحظة أنني أضفت – من
عندياتى – الباء في " بالطيور " حتى يستقيم الوزن , وأظن أنها سقطت بسبب
الطباعة ) . وهكذا حتى نهاية القصيدة نجد أن السطر لا يبدأ ببداية التفعيلة ,
كما أنه لا ينتهى بها . معنى هذا أن الكلام مقسم ظاهرياً إلى أسطر متوازية لكنه
فى الحقيقة عبارة عن سلسلة متصلة متماوجة من إيقاع متصل أفقياً ورأسياً في آن .
وإن تلاحق عباراته واتصالها معنوياً هما - معاً - ما يعطى التدوير مبرره الفني
الأساسي.
أما لو نظرنا إلى الدوائر البنائية الداخلية للقصيدة فإن النص يتيح لنا الوقف
أثناء القراءة عند : "الساهرين – الجالسين – النراجيل – الذكريات – الانتخابات
" كما يمكننا الوقف عند " دثار " وعند كل وقف سنلاحظ أن القراءة نحت نحو دلالة
جديدة تضيف ولا تطرح إلى الدلالات السابقة التي توصل إليها القارئ في قراءته
السابقة للقصيدة . فمثلاً فى القراءة المتصلة للعبارة " فتملأ أحزانها بالطيور
تشرد في الجالسين رياح الطفولة " يمكننا القول أن رياح الطفولة هي الفاعل للفعل
" تشرد " أما لو وقفنا عند"الجالسين" فإن "الواو" هي لعطف الفعل "تملأ" على
"تشرد" ومن ثم فالمقاهي هي التي تشرد. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن الإمكانيات
التي وفرها النص للقارئ حققت تحولاً ليس في الإيقاع فحسب بل حققت تحولاً في
العلاقات النحوية والتي يتبعها بالضرورة تحولاً في العلاقات الدلالية .
وهكذا يرتبط الإيقاع بالدلالة ,
ليحققا معاً تنوعاً وثراءً فى إمكانيات القراءة , وانفتاحها على التعدد . أما
الأجمل من هذا فإن إمكانيات الوقف عند الدوائر الصغرى ستحقق تشكيلاً إيقاعياً
جديداً على النحو التالى:
" المقــاهى
فاعلــــن فا
تفر إلى الشعرِ
علن
فعلن فاعـ
تسكنها رغبة الساهرينْ
لن فعلن فاعلن فاعلان
فتملأ أحزانها بالطيور
فعولُ فعولن فعولن
تشرد فى الجالسينْ
فعولُ فعولن فعولْ
رياح الطفولةِ
فعولن فعولُ فـ
والأرض خمرٌ
عولن فعولن
وطاولة من دثارُ .. "
فعولُ فعولن فعولْ
هكذا سنجد أنفسنا أمام تفعيلة
المتدارك التى انتهت عند الساهرين بالتذيل الساكن " فاعلان " بعدها انقلب
الإيقاع إلى تفعيلة المتقارب " فعولن " التى أخذت أحياناً صيغتها المقبوضة "
فعولُ " والتى تأخذ عند الوقفات الساكنة صيغة " فعولْ " بتسكين الَّلام .
والحقيقة أن تفعيلتى المتدارك والمتقارب وتداخلهما فى قصائد الشعر الحداثى
ظاهرة شائعة وليست جديدة على هذا الديوان أو هذه القصيدة التى ننظرها , ولكن
الطريف أن طريقة القراءة وحدها هى التى خلقت هذا التنوع فى الإيقاع على نحو ما
سلف , وهى إمكانية أتاحها لنا النص بوعى وقصد ولم تأتِ اعتباطية من الشاعر .
الذى تعمد فتح هذه الإمكانيات أمامنا تحقيقاً للتنوع وإثراءً للدلالة وكسراً
للوتيرة الواحدة التى لا تخلف سوى بعداً دلالياً واحداً .
والحقيقة إن الشعر الحداثى يأخذ
على عاتقه هذا التنوع الإيقاعى على هذه الشاكلة التى تعتمد على الدوائر الصغرى
التى تشكل فى مجموعها الدائرة الكبرى " القصيدة " والتى تشكل الكلمات التى يمكن
الوقوف عليها مِفْصَلاً بين كل دائرة وأخرى , وهو المفصل الذى يتيح لنا تحريك
العلاقات النحوية والإيقاعية والدلالية . والأمر فى هذا ليس قاصراً على ما
صنعـــه " بهاء الدين رمضان " فى قصائده .. إنه أمر معهود ومألوف فى القصائد
الحداثية , مثلما أن التداخل بين تفعيلة المتدارك والمتقارب أمر معهود أيضاً
ومنذ الستينيات , لكنما يحسب لشاعرنا أنه استطاع تحقيق هذا , فليس كل شاعر
حداثى قادر على تحريك الإيقاع أو السيطرة عليه بهذه الكيفية الضالعة البراعة.
أما لو نظرنا إلى البنى الداخلية الصغرى للإيقاع فسنجد أنفسنا أمام براعة أخرى
. سنجد أنفسنا أمام تقفية متنوعة يمكننا أن نقف عندها مثل : " الساهرين –
الجالسين – دثار – ذكريات – انتخابات – كلام " وهى إن كانت لا تمثل قافية
بالمعنى التقليدى إلا أنها تمثل وقفات موسيقية مريحة فى نهاية كل دائرة صغرى ,
ترد حسبما يقتضى النفس الشعرى , وطبيعة التدفق الموسيقى الذى يمليه الشعور .
وهى وإن لم تلتزم بحرف روى واحد إلا أنها التزمت بحرف مدولين كتأسيس سابق للحرف
الأخير . إضافة إلى انتهائها جميعاً بالمقاطع الصوتية المتساوية التى تتكون من
" سين , ثار , بات , لام " وهى جميعها تأخذ الرمز ( ص ح ص ص ) الذى يرمز إلى :"
صوت ساكن + حركة قصيرة + صوت ساكن + صوت ساكن " . غير ما هنالك من كلمات
متناغمة ومتماثلة التوقيع مثل " والجنس – والإيدز – والصرب" . وكذا النهايات
المتجانسة المتوالية " الدمى – ربما " وكذا حرف المدواللين الذى يعقبه تسكين
مثل : " حديد – صهيل " وتكرار نفس الأصوات " سيهبط بين الدمى " مرتين على
فترتين متباعدتين وتكرار نفس الحروف المهموسة كالسين والشين " مساء – الشعر –
تسكنها – الساهرين – تشرد – الجالسين – سرب – يسار – الجنس – يرشف – سـيهبط –
سلام – سيقرأ – انكسار – سيهبط " .
إن مثل هذا التماثل الصوتى
للأصوات المهموسة مع بعضها يشكل بعداً إيقاعياً على مستوى النص . وهذا الإيقاع
بدوره يتناسب فى كثير من الأحوال مع الحالة الشعورية فى القصيدة ومع الحالة
النفسية ومع البعد الدلالى المطروح فى النص .
فالحالة الشعورية فى هذه القصيدة
التى نحن بصددها مغلفة بالسكون والوجوم فيما تشيع الوجوه الساهمة والمقاهى
الهامدة , والنفوس المنكسرة والأحلام المحبطة والهموم الجاسمة علـى النفوس ,
وثمة حالة من الشؤم تعم الأجواء وشعور بمستقبل مظلم أمام البشر عموماً , فالغد
ليس بأفضل من اليوم وما يحفل به الحاضر من جنس وإيدز وصرب وزعامات وما إلى ذلك
من ديمقراطيات زائفة باهتة ومظاهر لحضارة مادية طاغية .. كلها أمور ليست مطمئنة
بل هى على المستوى الأعمق للرؤية ستحول الإنسان إلى مجرد دمية معدومة الإحساس
والمشاعر وستنتهى به إلى مرحلة من الاستلاب والفقد , ومن ثم فليس غريباً أن ترى
الذات الأرض كطاولة من دثار والبشر كأسراب نمل متكوكب فى حركة بطيئة فوق جوانب
المنضدة .
لقد كان الإيقاع معبراً ومتضافراً مع هذه الرؤية الشمولية التى تطرحها القصيدة
فقد انتهت الجزئية الأولى من القصيدة بالجالسين على المقاهى فى المساء بعد أن
دخن واحد الجالسين زوجته فى النراجيل , وفض الذكريات وسامر بومة كفيه .. انتهى
هذا الموقف الشعورى بـ " يرشف نار الحضارة والشاي دون كلام " كما أن القصيدة
انتهت بهذا الجالس منكسر الصهيل , وتوقعت أنه سيهبط بين الدمى .. وهكذا نحن
أمام حالة من انحدار شعورى واحباط صامت ساكن ساهم , فيما يشيع في القصيدة طقس
مسائى , ليس فيه غير حركة ذكريات رمادية .. إن مثل هذا الطقس السكونى الصامت
الحزين جاء مغلفاً بطقس إيقاعى يتوافق معه ومع الحالة الشعورية ومع الأبعاد
الدلالية , فشاع فى النص جو هامس من الموسيقى نابع من انتشار الحروف المهموسة
مثل : " السين , والشين " فى توزيع متقارب: " تفر إلى الشعر – تسكنها رغبة
الساهرين – تشرد فى الجالسين " ولتأكد هذه السكونية جاءت حروف المدِّ و اللين
التى يتبعها حرف ساكن مثل : " الساهرين – الجالسين – النراجيل – الذكريات –
كلام " وهى نهايات تتيح لنا التوقف , , ومن ثم توقف النفس وقد خرجت كمية الهواء
عند النطق كآهة حبيسة متخافتة متوافقة مع الحالة الشعورية والنفسية المعبرة عن
موقف الأسى والسخط التى تعيشها الذات . على أن التوقيع الموحد فى " الجنس
والإيدز والصرب " له دلالته النفسية وهو يضغط على حس المتلقى بدرجة تسعى إلى
نقل عينة من الصوتيات النافرة والممجوجة باعتبارها إفرازاً لحضارة مادية حديثة
طاغية , غير أن هذه المفردات تشيع فيها حروف الصفير " السين والزاى والصاد "
محدثة صوتاً صفيرياً يؤكد على حضور هذه المفردات بإيقاعها المزعج المميز وسط
طقس أشبه بالموات تؤكده الأصوات المهموسة والإيقاعات المتخافتة بما يتفق مع
الحالة السكونية للذات الأسيانة المغلوبة على أمرها . غير ما هنالك من إيقاع
خفى تشى به حركية الأفعال " تسكن – تشرد – يسامر – يرشف " كلها أفعال موحية
بإيقاع هادئ وحركية حفية تتم فى الذاكرة أو بحركة الرموش أو الشفاه . هذا
الإيقاع الخفى يتفق إلى حد كبير مع الإيقاع المتوالد من تكرار جملة " يسقط بين
الدُمى " . إن الإيقاعات الخفية فى النص والتى تستشفها الذات هي إيقاعات كامنة
في الأفعال نفسها , والفعل دائماً يشى بالحركة والحركة دالة في الحالة , إضافة
إلى أن المبنى اللفظي للأفعال كثيراً ما يشى بإيقاعها المصاحب فالفعل " تسكن "
لابد أن يشي بإيقاع متخافت ينتهي بالسكون والصمت. وهو إيقاع يناسبه التسكين
المتوالي بعد حركة" سبب خفيف متكـرر" هكــذا : " فَعْلٌ:/5/5" كما تناسبه
الحروف المهموسة " التاء – السين – الكاف"غير أن"النون"وهو الصوت المجهور
الوحيد جاء بآخرةٍ ومسكناً حتى لا يظهر إلا بكونه حالة من سكون, كما لو كان
نهاية للرنين/الحياة.وغالباً الأصوات المهموسة في النص الأدبي تتوافق مع الصوت
المنخفض سواء صوت الذات الشاعرة
أو صوت الذوات التى يرصدها النص ومن ثم يرصد أفعالها . ومن وجهة نظر أخرى فإن
الإيقاع الذى نشعر به فى النص والذى يكمن فى الحركات اللفظية أو الأصوات
الموسيقية ليس مادة.. وإنما هو الشعور أو الاحساس الذى تجسمه المادة التى يتلبس
بها ليتخذ شكلاً مادياً, وتعتبر اللفظة بمثابة الظرف أو القالب للحركة اللفظيـة
والصوتية, فيظهر للحس, ومن ثم فكل ألفاظ النص تخضع لهذا الشعور والإحساس الذى
يغلف الذات الشاعرة
على
ما لنا فى هذه القصيدة.
والمتتبع لقصائد الديوان جميعها يجد مثل هذا التشكيل الإيقاعى المتناغم مع
الحالة الشعورية ومع الدلالات الكلية للقصيدة , ويلمس تنوعاً وثراءً يرتكز على
خبرة معرفية بالإيقاع ووسائله المتعددة وأولها التفاعيل واستخدام الخصائص
الصوتية للحروف والكلمات ومدى توائمها مع المعانى والدلالات التى تحملها . كما
يلمس نوعين من الإيقاع الظاهرى المرتكز على الصوتيات , والإيقاع الخفى المرتكز
على إيحاءات الحركة التى تشى بها الأفعال . كما يلمس خصائص واضحة لصنيع الحداثة
فى هذا الإيقاع وخاصة ظاهرة التدوير الموسيقى وتداخل التفاعيل وإمكانيات الوصل
والوقف , والدوائر الصغرى التى تشكل الدائرة الكبرى . ومثلما أمكننا النظر على
هذه الشاكلة السالفة فى قصيدة " مساء " يمكننا أن نعاين قصيدة " الراعى " التى
اعتمدت على تفعيلة المتقارب " فعولن " أو فى صورتها المقبوضة " فعولُ " وتتوفر
فى القصيدة خاصية التدوير وإمكانية قلب التفعيلة من المتقارب إلى المتدارك لو
لم نقف عند الكلمات المفصلية , أما لو وقفنا فإن تفعيلة المتقارب تظل هى
المتكررة , مثلما نقرأ فى : " سآوى إلى جبل / يمنح الغارقين العراء / يبوح لهم
/ بخطى امرأة فى مفاصل قلبى / يموء .. " الملاحظ أن النص يتيح إمكانية الوقف
عند " العراء " و " تموء " كما يتيح إمكانية الوصل , وفى كل قراءة سيأخذ
الإيقاع شكلاً مغايراً عن الآخر . كما نلاحظ التقفية المتباعدة الساكنة التى
يسبقها حرف مدٍّ ولين كتأسيس كـ "العراء – الضياء"
؛
كما نلاحظ خاصية النهايات الصوتية ذات المقطع الطويل المكون من"صوت ساكن+ حركة
طويلة+ صوت ساكن" والذى يرمز له بالرمز"ص ح ح ص" مثل:"راء" فى كلمة"العراء" و"
ياء"فى كلمة"ضياء", و" يات" فى كلمة ذكريات, و"قول" فى كلمـة حقول, و" طيع" فى
كلمة قطيع, و" روف" فى كلمة حروف, و" فين" فى كلمـة العارفين, و"موء" فى كلمة
تموء, و"صاه" فى كلمة عصاه, و" فاء" فى كلمة الصفاء... وهكذا. كما شاع فى
القصيدة تكرار حرف العين فى:" عند– عصاه– عطر– مراعى– طعم– صقيع" كما شاع حرف
الطاء"عطر– طعم– مطر– قطيع" كما شاعت النهايات المتحركة بالكسر مثل:"الصباحِ–
الحقولِ– القطِيعِ– الحروفِ"
.
غير ما هنالك من الكلمات والجمل المتساوية التوقيع مثل:"تبوح – تموء" و" سآوى
إلى جبل– ويتبعها جسد", وغير ما هنالك من إيقاع خفي مستمر ومصاحب لحركية
الأفعال " يغنى – يحرق – يمد – تثور – يبدأ – يهش ... وهكذا "
؛
ومثل هذا أيضاً فـ قصيدة " الغزالة " نجد التقفية المتباعدة " فاكتوى – جوى –
المدى – الهوى " والتقفية المتقاربة : " تصدع – تلوع " والنهايات الموحدة الجرس
" قوساً – قلباً "،
" تدخله – تسكنه " ومحاولة التجنيس : " ينهار نهراً " و " يرف رفيفاً " و " فصد
تصطد " و "براح الغزالة – دماء الغزالة " . غير ما هنالك من ظاهرة التدوير
الموسيقى واعتماد تفعيلة الكامل "متفاعلن " التي اتخذت صورتها المذيلة "
متفاعلان " في نهاية الدوائر الصغرى التي يمكن الوقف عندها . هذا ولو تتبعنا
التشكيل الإيقاعي هذا في إطار السياق وفى إطار الدلالة الكلية للقصيدة لأمكننا
بيسر الربط بينه وبين التجربة النفسية والشعورية للذات الشاعرة, ولأمكننا على
غرار ما فعناه مع قصيدة "مساء" أن ندرك أن بنية الإيقاع في قصائد الديوان إنما
تشكل ضفيرة
من بنى متعددة تحمل التجربة وأرى
أن ذلك بحاجة إلى مبحث مستقل مستفيض خاص بالإيقاع في ديوان"موسيقا للبراح" بما
يحمله من اتساع وانفساح وتعدد الاتجاهات وتداخلها وسنكتشف على نحوٍ ما أن ثمة
تراثية وحداثية, فهو متنوع ومتسع ومتناغم تماماً كالبراح .
(3
– 2
)
حقيقة.. وجرياً وراء التقليعات
الشكلية التي تفرض نفسها أحياناً على التجارب الشعرية, وعلى النصوص بلا مبرر
فني, تأتى عند"بهاء الدين رمضان" العنونة الداخلية التي تشكل من الديوان ثلاث
مجموعات:"من المكاشفات– خديعة العشاق– قصائد للخديعة". والحقيقة أيضاً أن كثرة
العنونة لقصائد محدودة العدد والكم, وتتميز بالرشاقة
والقصر
لهو
أمرٌ
منفر وضد
الشاعرية
في
الأساس
خاصة
عندما
تأتى
هذه
العناوين
التي
تضم
مجموعة
من
القصائد لبعضها
كالسعفة التي تضم أعواد الجرجير
إلى بعضها وهى ليست من جنسه, لتبقى السعفة نشازاً
ضد
مدلولات كلمة"البراح" التي يسعى الديوان إلى توصيلها, لكنها وكما قلت
محاولة اقتناص كل ما يفعله الحداثيون حتى ولو كان بغير مبرر فنى. وقد أمكن
قراءة الديوان دون حاجة لهذه العناوين الثلاثة التي شطرته والتي لا قيمة لها من
أية زاوية للتعامل مع النصوص.
هذا وقد
عزَّ على " بهاء الدين رمضان " أن ينهى ديوانه دون أن يقدم لنا مجموعة من
القصائد الفلاشية القصيرة التى تتميز بحسها الدرامى , وسرديتها وانكسار حدة
الغناء فيها . ليقول لنا إنه حداثى بدرجة عالية التميز شكلاً ومضموناً , ولـه
باع فى كل الاتجاهات الشعرية بأشكالها وأنماطها , ولقد وضحت الرسالة , ولكنها
رسالة من قبيل الإصرار .. فتذييل الديوان بمثل هذه القصائد الفلاشية هو تأكيد
على رغبة الشاعر فى إظهار فطحلته وتنوعه وانفتاحه على كل التجارب .. هذا أمر
مؤكد وإلا لماذا يضم الشامى إلى المغربى ؟
كان بإمكان " بهاء الدين
رمضان " أن يؤجل هذه القصائد الفلاشية ليضمها فى ديوان خاص بهذه القصائد كجنس
أدبى له خصائص وسمات نوعية فارقة ومميزة .
نخلــــص
إلى أن :
1 – نصوص
ديوان " موسيقا للبراح " تتمثل فيها دلالة العنوان , فى التنوع وامتلاك حريتها
فى الانطلاق نحو التراث العربى والإنسانى , وهى إذ تفعل ذلك تعود فى حركة سريعة
إلى عصرها لتمارس فيه نجعة الانطلاق الجديد نحو أفق رحب من التعابير والرؤى
والأداء الفنى .. هى انطلاقة الحداثة فى استيعابها لتراثها , وبحثها عن
المغايرة والمجاوزة وهى تجتاز لحظتها نحو أفق جديد بحرية الصقر فى البراح
المتسع . تَمثَّل فى النصوص التعدد واختلاف المشارب والإفادة الثرية من كل
التجارب والاتجاهات , كما تعددت وسائلها الفنية وصور التشكيل الموسيقى الذى
ارتبط بالبراح فى تنوعه وتناغمه وتآلفه .
2 – نصوص
الديوان يتحقق فيها شرط الحداثة على المستويات المختلفة سواء على مستوى الرؤية
أو الفن . من وجهة نظر أخرى هى ناجحة فى تمثيلها الحداثة لا لشىء إلا لأنها
تمثلت المنتَج الحداثى بدرجة عالية الاتقان .. هى تسير على درب النصوص الحداثية
إذن , وثمة فارق كبير بين الإيمان بالحداثة كمبدأ يستدعى مناهجه وبين تَمَثُل
الحداثة كمنتَج . نصوص " بهاء الدين رمضان " تضع أمامها الرغبة فى أن تكون داخل
الإطار الحداثى .. تماماً كالقاطرة التى تسير على قضيبين بسرعة منتظمة تماماً
.. هى ناجحة إذن بدرجة عالية الاتقان فى السير بسرعة منتظمة على نفس الشريط .
لكنما ومن جهة أخرى يمكن أن تكون البراعة والحرفية وإتقان الصنعة فشلاً كبيراً
إذا ما نظرنا إليها فى إطار مفهوم الحداثة نفسه .. فليس إعادة إنتاج الحداثة من
الحداثة فى شيء ..
الحداثة تتطلب حسب مفهومها العام
تغيُّراً نوعياً مطرداً عبر مسيرة تحققها , كما تتطلب مغايرة دائمة ومجاوزة لا
تريم لما هو سائد من أنماط الحداثة نفسها , وإلا أصبح الأمر ممارسة لما يمكن أن
نسميه " كلاسيكية الحداثة " .. ترى إلى أى مدى كانت نصوص الديوان معبرة عن هذا
المنحنى الأخير ؟!
••
|