إلى ابن العم
عزيزي رياض الترك،
ترددت كثيرا قبل ان اكتب اليك هذه الرسالة في مناسبة رأس السنة. فأنا لا اعرف كيف تعيّدون هناك في السجون، وصديقنا المشترك محمد علي الاتاسي في شريطه المؤثر عن تجربتك في الزنزانة الانفرادية لم يسألك عن الاعياد، وماذا كنت تفعل في مناسبة كهذه، خلال سبعة عشر عاما من الاقامة في السجن. هل كنت تحتفل ببداية سنة جديدة، أم كنت تشعر بالأسى لأن الزمن يمر على حياة السجناء بدلا من ان تمر اعمارهم في الزمن؟ كما اني لا اعرف هل ستصل رسالتي هذه، ام انك ستقرأها عندما تخرج من السجن، وتبتسم وتقول لي: "لا يا ابن العم، الاشياء كانت مختلفة عما تخيلته في رسالتك". اشعر بالحيرة يا سيدي، هل اكتب لك ام اكتب عنك. وانا اريد فعلا ان اكتب لك انت، لا لأنني لم اعد اؤمن بفاعلية الكتابة وقدرتها على التأثير، بل لأني اريد لرسالتي هذه ان تكون تحية مني اليك. من انسان يرى الكابوس الداهم الى انسان يعيش هذا الكابوس. هنا تكمن صعوبة الكتابة: كيف نجسد حكاية طويلة في كلمات قليلة؟ وكيف نحفر على الورق ما حُفر على الاجساد والارواح من وشم التاريخ الاعمى؟
فكرت وانا اشعر بهذه المهانة الكبرى التي تعيشها العرب، ان الكلام الحقيقي الوحيد الذي استطيع كتابته هو الكلام الذي اوجهه الى رياض الترك، لأنه في سجنه وصموده ومعاناته وكبريائه، يقدم لنا قليلا من دفء الروح وسط صقيع الهوان الذي يحاصرنا.
بدأت بالكتابة اليك، فرأيت امامي نلسون مانديلا في سجنه الافريقي الطويل، كما ارتفعت امامي صور المآسي في فلسطين. كأنك جمعت في جسدك الضعيف صورتين تتواصلان اليوم، وتقاومان عربة الزمن التي تجرها احصنة الموت فوق الشعوب والقيم.
رأيتك في صورة انسان يقاوم العبودية بالارادة، وفي صورة شعب يواجه عربدة القمع. هناك في جنوب افريقيا وهنا في فلسطين التي صارت جنوبنا الدائم، تبدو صورتك يا "ابن العم" كأنها تلخص زمنا لم يبدأ. هل صحيح يا سيدي ان زمن الحرية في العالم العربي لم يبدأ بعد؟
اعرف انك لا تحب هذا الكلام، لأنك ستقول لي ان الحرية يصنعها الاحرار، وان القمع مهما كبر واستشرى واعتقد انه يستطيع امتطاء الزمن، يهرم ويتلاشى. وسوف تشير الى جسدك الذي انهكه القمع، لا لتحزن، بل لترى فيه علامة مرور الزمن وقدرة الارادة على تحويل شراسة السجّان محض علامات على اجساد المقموعين.
هذا ما شعرت به حين قرأت شهادات عن سجن تزمامارت الرهيب في المغرب. قرأت رواية الطاهر بن جلون، "تلك العتمة الباهرة"، التي ترجمها صديقنا الشاعر بسام حجار (وهي في المناسبة افضل عمل روائي لبن جلون). وفيها نقرأ شهادة سجين سياسي عاش مع رفاقه ثمانية عشر عاما في سجن هو كناية عن قبر، سقفه منخفض بحيث لا يستطيع السجناء الوقوف في زنازينهم الانفرادية. تخيّل معي، ثمانية عشر عاما في العتمة المطلقة، ومع ذلك، فان شهادة السجين ويدعى عزيز بحسب الرواية برهان على كيفية نجاح القمع في تحويل جسد الانسان الى نصب تذكاري لزمن لا يستطيع ان يبقى الى ما لانهاية.
اخبرتك عن تزمامارت، لأني شعرت بالعار من اجل نفسي ومن اجل كل المواطنين في هذا العالم العربي، كيف سكتنا وتجاهلنا السجن - المقبرة، معتقدين اننا كنا نتابع حيواتنا كالمعتاد فاذ بنا نكتشف، حين نقرأ عنهم اليوم، اننا لم نكن احياء، بل كنا اشباحا تستند الى شبح حرية موهومة.
لذلك يا "ابن العم" فان وجودك في السجن اليوم، يجعل من كلماتنا التي وإن كتبت عن الحرية اشبه بقضبان سجن خفي يعيش في داخلنا. انا لا اتكلم عنك فقط، ولا عن السجناء السياسيين في سوريا، بل اتكلم عن هذا السجن العربي الكبير، الممتد من لبنان الى العراق، ومن جزيرة العرب الى اقصى موريتانيا الذي يشلّ ارادتنا ويجعلنا نشعر أننا خارج الزمن.
الزمن يا عزيزي لا يعيش خارج السجن، الا اذا نما في ارواح الناس، وسمح لارادتهم الحرة بأن تكون فعلا في التاريخ. ونحن نشعر اليوم أننا لا نمارس التاريخ، بل نتركه يستهلكنا ويقتلنا. اقول لك انها مرحلة صعبة، فلقد انفلت الثور العسكري الاسرائيلي من عقاله، لكن اعرف ماذا سيكون جوابك. ستقول اننا لو كنا احرارا لوجدنا طريقنا الى مقاومة عقلانية تحدد اهدافها بوضوح وتسعى الى تحقيقها.
الحق معك، ولكن اسمح لي ان اخبرك عن فلسطين، التي صارت جرحنا اليومي، سوف ارى عينيك الصغيرتين تتحركان لتطلبا مني التوقف عن الكلام. فلسطين تجد طريقها وتقاوم لأنها حتى وان كانت تحت الاحتلال، فهي اكثر حرية من كل هذا العالم العربي الذي ترفرف اعلامه وتعلو اناشيده.
هل تريدني يا "ابن العم" ان اقتنع ان السجناء سواء أكانوا في سجون الانظمة ام في سجون الاحتلال، هم اكثر حرية منا؟ لماذا اذاً نطالب لكم بالحرية، ونناضل من اجل اطلاق سراحكم؟
اراك تبتسم من خلف الجدران السميكة الصماء، وتهزأ من تشاؤم العقل لأنك تمتلك تفاؤل الارادة.
اكتب اليك بحثا عن تفاؤل وارادة. فأنتم، يا ابناء الحرية وشهداءها الاحياء العلامة على ان الانسان اقوى من الظلم، وان جرس الحرية والديموقراطية لن يقرعه في عالمنا العربي سوى المقاومين من اجل الخبز والكرامة والاستقلال.