فيلم في بيروت حول المعتقل السوري الترك،
دمشق: لسنا بحاجة إلى دروس في حقوق الانسان
عرض امام مئات المشاهدين الليلة قبل الماضية في بيروت فيلم حول المعارض السوري الشيوعي رياض الترك الذي اعتقل الاول من سبتمبر بعد ان افرج عنه سنة 1998،
--------------------------
ريــاض الـتــرك فـي فـــيـلـم "إبــن الـعـــم"
هل تخـرج الـسـياســة من دائـرة الثأر والدم
؟محمد أبي سمرا
قبل ايام من اعتقاله مجدداً وإعادته الى السجن، بعدما كان قضى فيه 17 عاماً (1980 - 1997)، روى رياض الترك في المشاهد الاولى من فيلم "إبن العم" الذي أخرجه محمد علي الأتاسي، ان مكتبه الخاص بمهنة المحاماة "ثانوي" في حياته اليومية. فبعد خروجه من سجنه أعاد فتح المكتب، لكن أحداً من الناس "غير أهل (هـ) وأقارب (هـ) وصديق واحد" لم يوكله في قضية او مرافعة قضائية. وفي المشاهد التي ظهر فيها في مكتبه بعد مضي اكثر من سنتين اثنتين على خروجه من السجن، وعودته الى ما سمّاه "العالم الخارجي"، بدا حضوره دخيلاً على المكان وأثاثاته التي غدت مسكونة بالوحشة والهجران، كما في سنوات انقطاعه المديد عنها. فالاوقات القليلة العابرة (وربما الطويلة) التي يقضيها المحامي القديم في مكتبه بعد عودته الى "الحياة"، لم تقوَ على وصل ما انقطع، وعلى محو ما راكمته في المكتب القديم وأثاثاته سبعة عشر عاماً من الانقطاع والغياب والخواء والموت البطيء. ذلك ان اقتصار الحضور الى مكتب تزاول فيه مهنة عامة - هي في صلب تركيب مجتمع مدني حديث ووظائفه (المحاماة) - على مزاولة هذه المهنة لصالح الاهل والاقارب والاصدقاء، وربما لتدبير شؤون اخرى، شخصية وحزبية، لا يعيد الحياة ودبيبها العام الى المكتب. انما يضاعفها حال مهنة المحاماة وغيرها من مهن المجتمعات الحديثة وادوارها ووظائفها في بلد يحكمه منذ اكثر من ثلاثة عقود متصلة نظام الحزب الواحد المشخصن، او المجتمعة سلطاته كلها في قبضة شخص واحد يختفي خلف صورته شبه المقدّسة بصفته روح الأمة، قائدها، وصانع تاريخها وأمجادها.
السياسة في الدم
لكن رياض الترك، العائد الى "العالم" بعد إنقطاعه عنه 17 عاماً امضاها في سجون الحزب الواحد والقائد، بل في سجن "استضافه" بأمر "خاص" من "القصر الجمهوري"، على ما نقل عن سجّانيه في مشهد من الفيلم، لم يعد الى مهنته القديمة الا على نحو عابر و"ثانوي"، ليس لأن الناس نسيته ونسيت مهنته القديمة ولا ترغب في تكليف سجين سياسي مغضوب عليه محاكمات قضائية فحسب، بل لأنه هو نفسه لا يطيق ان يكون محامياً فقط. فهو في رده على سؤال وجهه اليه الأتاسي حول الاعمال والنشاطات التي تمنحه شيئاً من "اللذة" في حياته، أجاب منفعلاً: "عندما تزول عني (صفتي) السياسية، أجدني تعيساً"، فالسياسة "جزء من دمي وحياتي". فالسياسة "جزء من دمي وحياتي"، على ما قال الترك.
السياسة من السجن
صفن الترك صفنة قصيرة لم يسمح لنفسه ان يصفن مثلها في سنوات سجنه الطويلة، بحسب زعمه، لأن "اي صفنة في السجن" تخرّب "نظام" القطيعة الارادية مع العالم الخارجي، وتغرق السجين في العذاب والضعف اللذين يستفيد منهما عدوه النظام الحاكم. ثم أجاب هذا العائد على خلاف عودة عوليس الى "عالمه الخارجي" القديم:
-
لا... لا... لا، وذلك بعدما حيّره السؤال وأقلقه وحمله على التفكر، قبل ان يجيب، فيما عيناه، خلف نظارتيه، ثابتتان صافنتان في ذهول، ويغشاهما ماء دمع ساخن لم يدعه ينهمر على خديه. لكنه ما لبث ان استدرك دموعه قائلاً ما معناه: دأبي انني سأترك لبناتي سمعة طيبة بعد موتي، ليتابع بعد قليل:-
أنا رجل جاف، ماذا تريد أكثر (من هذا الاعتراف)؟ أخجل ان اقبّل زوجتي عند عودتي الى البيت، ما ان أعود اليه.والاتاسي ومن ورائه مصوّرة الفيلم، لم يتوقفا عن مطاردة هاجسهما: اختبار عاطفة الابوة ومقدار حضورها في "حياة" السجين، واختبار مقدار نزوعه الى التضحية بهذه العاطفة على مذبح "صلابته السياسية". كأنهما في هذا الاختبار يرغبان رغبة أليمة ومأسوية ان يبلّغهما رياض الترك، العائد حياً من سجنه، رسالة من ابويهما اللذين قتلهما السجن وحرمهما التمتع بعطف الابوة حرماناً مراً نغّص عليهما طفولتهما وشبابهما، وربما لن يشفيا منه طوال حياتهما. وكم هي أليمة على الآباء رغبة الابناء المعذَّبة والمعذِّبة هذه. والارجح ان هذه الرغبة هي التي راحت تحشر رياض الترك في اجاباته الاخيرة عن اسئلة الاتاسي:
-
هل تحب ان تحضر ابنتاك المحاضرة التي ستلقيها في "منتدى الاتاسي"؟-
لا... لا أحب ان تحضرا، أجاب الترك، بعد صفنةٍ قصيرة.-
تخاف من حضورهما؟-
ربما، أجاب الترك، من غير ان تغادر الحيرة والذهول ملامح وجهه الذي كانت تكسوه، من قبل، ملامح القوة والصلابة.-
ألأنك لن تكون على طبيعتك (سجيتك الابوية)، في اثناء القائك المحاضرة؟-
ربما، اجاب الترك أيضاً. وفي صوت حزين اراد ان يعاتب به سائله ويقول له ضمناً: كم هي قاسية ومحرجة اسئلتك هذه!، تابع ما معناه: هل تريدني ان أكون أباً رؤوماً وسياسياً صلباً، في آن واحد، وفي مكان واحد؟!أخيراً سأله الاتاسي ما معناه:
-
ماذا تقول رداً على شعور ابنتيك بالوحدة اثناء سنوات سجنك الطويلة، لحاجتهما الى حضور الاب في حياتهما؟هنا، بعد هذا السؤال، اطال رياض الترك صفنته الصامتة، واقتربت الكاميرا من وجهه، فاذا عيناه طافحتان بدمع مرير لم يسقط منهما قبل ان يجيب:
-
لا أدري... لا ادري، فطلع صوته خافتاً ومتلعثماً، حائراً وعميقاً، بعيداً وداخلياً، متباطئاً ومنكسراً... كما لم يطلعه قط من قبل طوال الفيلم، حين كان يتدحث عن ارادته "السياسية" الصلبة في القطيعة مع العالم الخارجي."
سياسة" الثأر والكذبلكن هيهات ان "ينتصر" التلعثم والحيرة والانكسار والخفوت على صلابة الارادة "السياسية" الثأرية في بلاد يكاد الثأر ان يلخص الحياة "السياسية" فيها. لا ليس الثأر وحده، بل الكذب أيضاً. الثأر والكذب اللذان يقومان في أصل السياسات المحلية.
وبعد القائه محاضرته في "منتدى
الاتاسي"، والتي لم تخلُ من "صراحة ثأرية"،
اعتقل رياض الترك مجدداً واعيد الى السجن،
فما كان من ادارة "مسرح المدينة" الا ان
"اعتذرت" عن عرض فيلم محمد علي الاتاسي
مما دفع ادارة المهرجان الى عرضه في "مسرح
بيروت" .