فــي الـسـجـن الـكـبـيـر
الياس خوري
أستطيع ان أتخيله "عائداً" الى السجن. حمل الرجل أعوامه السبعين وواحداً على ظهره الذي لم ينحن، ومشى خفيفاً بالحرية. حمل حريته في يديه المغلولتين، و"عاد" بها الى الزنزانة الانفرادية.
الاسم: رياض الترك.
رجل نحيل، مربوع القامة، يحكي كرجل خبزته التجربة، وينظر كطفل يكتشف العالم كل يوم. قضى سبعة عشر عاماً في زنزانة انفرادية من دون محاكمة، لم يقابل احداً من افراد عائلته إلا بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على اعتقاله. امضى وقته الطويل والبطيء يصنع الارابيسك من حبات العدس السوداء، او يخترع اشكالاً من فتات ورق الصحف التي وجدها في مرحاض المعتقل.
الاسم: رياض الترك.
سبعة عشر عاماً داخل حيطان زنزانة تضيق كل يوم. لكن الرجل النحيل فهم ان الحرية تساوي الكرامة. تمسك بحريته رغم المرض ونقصان الهواء، بنى شمساً داخلية في روحه، وسمح للحرية بأن تستوطن جسده وروحه.
الاسم: رياض الترك.
ولد في مدينة حمص منذ واحد وسبعين عاماً. عاش طفولته في الميتم الاسلامي في المدينة، ثم عمل مدرساً في الميتم نفسه، قبل ان يبدأ رحلته الى اكتشاف الحرية في داخل السجون.
جاء من الفقر وما يُشبه اليتم، وحلم بالحرية للفقراء ولوطن الفقراء الذي ينتمي اليه.
كان رفيق فرج الله الحلو الذي ذُوِّب بالاسيد في زنازين عبد الحميد السرّاج، لكن موت رفيقه وقائده، لم يعلمه سوى التمسك بالحلم. فخاض في العمل السياسي اليساري، وذاق مرارة التجربة البكداشية في سوريا، قبل ان يتمرد، ويصالح اقتناعاته اليسارية مع الحرية ورفض الديكتاتورية داخـل الحـزب، وكل ذلك الطقس الستاليني البشع، الذي اسس للهاوية.
ومنذ تلك المصالحة، لم يتخلَّ الرجل عن ايمانه بالحرية ونضاله في سبيلها، الى درجة انه اضطر الى اخذها معه الى زنزانته طوال اعوام لا نهاية لها.
الاسم: رياض الترك.
رجل يفاجئ بتواضعه وانسانيته وبريق عينيه. لم التقِ به إلا مرة واحدة، مرة واحدة كانت كافية من أجل ان اكتشف معه وبه، عمق المأساة التي يعيشها العرب اليوم.
لم يقل مرة واحدة انه نادم على السجن.
حين كان يُسأل عن السجن، خلال عامَي اطلاق سراحه، كان ينظر الى البعيد، كأنه يستجمع زمنا سائلا لا يمكن القبض عليه، ثم يحدثنا عن المستقبل.
رجل امضى عمره في السجون، ينظر الى
الحاضر والمستقبل بتفاؤل الارادة، وقوة
الحلم.
من أين جاء بالقدرة على المقاومة، هذا الرجل
المريض الذي خضع لجراحة في القلب، ويعاني
السكري وضغط الدم؟
سرّ هذا الرجل بسيط وله اسم واحد: الحرية.
عاش معها، وحدهما طويلاً، بحيث وُلد بينهما تواطؤ غريب. الحرية عاشت في الزنزانة، والسجن عاش في الحرية. هذه هي المعادلة المرعبة التي اراد رياض الترك كسرها بعد خروجه من السجن.
كان يستطيع ان يحتفظ بالحرية لنفسه. ألم يقل انه خرج من السجن الصغير الى السجن الكبير، لكنه فهم ان الحرية لا تستطيع ان تعيش حبيسة في الوطن السجين، فأخذها معه الى دروب استعادة الحق في الكلام؟! كسر رياض الترك المحرّمات، حين قال ما لا يقال، وفاجأ الناس بالبديهيات. فمن شدة تعوّد الناس القمع، نسوا بديهيات الحياة والسياسة والثقافة. فجاء هذا الرجل من مشواره البعيد داخل الزنزانة الانفرادية من اجل ان يذكّر الذاكرة الانسانية بنفسها، ويقول ان الانسان لا يستطيع ان يكون انساناً من دون حريته.
وفجأة انزاحت الاغلال عن الكلمات، وعادت الكلمة تنبض بالحياة، بعدما تمّ تحنيط القيم والمبادئ والقضايا، داخل لغة السلطة. فجأة، تكلمت الثقافة السورية في انبل اقلامها، من انطون مقدسي الى نزيه ابو عفش، ومن ميشال كيلو الى برهان غليون، وارتفعت الأصوات بحثاً عن الحرية. كأن هذا الرجل النحيل، المربوع القامة، عاد الى مجتمعه بالكلام الذي سُلب منه، فانفتح افق دعاة الاصلاح والتغيير، وعادت اللغة العربية الى الحرية التي نبعت منها كل اللغات. كان وحده في البداية. حين تكلم، لم يحمل لغة الحقد والانتقام. فالحرية لا تحقد ولا تنتقم، ثمّ لماذا يحقد، وهو الوحيد ربما، الذي لم تتخلَّ الحرية عنه، لأنه لم يتخلّ عنها.
تكلم لغة الديموقراطية. هزّ بيديه الصغيرتين المريضتين ركام القمع والخوف الذي يهيمن على العالم العربي، وكان الوجه الآخر لصوت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، التي تذكّر العالم العربي كل يوم بأن المقاومة هي فعل حرية أولاً وأخيراً.
الاسم: رياض الترك.
أرى صورته المحجوبة خلف القضبان، وأرى كلماته، وأرى جسمه منحنياً على الألم، وهو يمضي وحيداً الى الزنزانة.
أعرف ماذا سيقول. أعرف انه لن يشكو،
بل سيشفق على الجميع. رياض الترك يعلم أن
الحرية لن تتخلى عنه، وانه سيبقى حراً حتى في
زنزانة صغيرة معتمة، لكني أرى خوفه العميق.
فهو يخاف على الحرية نفسها. يخاف ان تجبر
الحرية على ان تعيش من جديد في السجن، وتترك
المجتمع الى سجنه الكبير.
-----------------------
رياض الترك والحرية
الياس خوري
عندما التقيت به، بعد خروجه من السجن،
فاجأتني حريته، كان ابو هشام الذي قضي سبعة
عشر عاما في الزنزانة الانفرادية في دمشق،
يبدو بأعوامه السبعين التي يحملها علي كتفيه،
خفيفا بالحرية.
اردت ان اسأله عن اعوام السجن، وعذابات
الوحدة، وآلام حجز الحرية، لكنني فوجئت برجل
تضيء الابتسامة وجهه المستدير، ويتمتع
بحريته التي لم يفقدها يوما، فالحرية كما
فهمها رياض الترك وعاشها، هي ان يحافظ
الانسان علي كرامته وانسانيته، وفهمت منه ان
السجن كان مجرد محطة في اكتشافه لمعني الحرية.
منذ ثلاثة أيام، اعيد اعتقال رياض الترك، كان
في طرطوس، في عيادة احد الاطباء، عندما سيق
الي السجن من جديد، ومنذ ثلاثة أيام وانا اري
صورة الرجل في كل مكان، اراه في ليل المدن
العربية الغافية علي كابوس القمع، واراه في
وجوه المواطنين الخائفين، واراه ايضا، وهذا
هو الاساس في الصور الآتية من ارض فلسطين،
حاملة علامة الكرامة الوحيدة في هذا العالم
العربي المتصحر بالقمع والذل والخوف.
لا ادري اين وضع الرجل؟ ولا اعرف التهمة التي
ستوجه اليه، لكن ما اعرفه جيدا، هو ان اعادة
اعتقال رياض الترك، تعني ان الرجل اخذ الحرية
معه الي السجن، تاركا الآخرين يتخبطون في
عبوديتهم.
هذا الرجل الذي جاء من الميتم الاسلامي في
حمص، الي صفوف الحزب الشيوعي السوري، حيث ذاق
سجون الخمسينات والستينات، كان المناضل الذي
اطلق اولي صيحات الحرية والتجدد في الحزب
الشيوعي السوري، الذي افترسته الغرغرينا
البكداشية، قبل ان يسقط في شرك الجمود
والسلطة.
اطلق صيحة الحرية، وقاد حزب(
------------------------------------------
مهامّ أكثر تعقيداً وخطورة من اعتقال أمثال رياض الترك
صبحي حديدي
يطيب للرئيس السوري بشار الأسد أن
يحصر القسط الأعظم من جهود الإصلاح الداخلي
في الشأن الإقتصادي، وفي هذا الشأن وحده
تقريباً، مؤجلاً النظر في ملفّات الإصلاح
الأخري: السياسية والإدارية والدستورية
والحقوقية. وهكذا لم يكن من المدهش، علي سبيل
المثال، أنه أثار مسألة الإصلاح الإقتصادي
السوري لدي استقباله ريشارد برنز، مساعد وزير
الخارجية الأمريكي، الذي جاء ليتحدّث عن دعم
سورية وإيوائها لمنظمات إرهابية تضعها
واشنطن علي لائحة الأهداف المطلوبة في الحرب
الأمريكية الشاملة ضدّ الإرهاب . أكثر من ذلك،
نقلت أوساط أمريكية استغراب الأسد لأنّ
الأمريكيين متلهفون علي معرفة موقف سورية من
حزب الله و الجهاد الإسلامي ، ولكنهم لا
يكترثون بالإصلاح الإقتصادي في سورية!
ذلك، ربما، يفسّر الرسالة المزدوجة التي
أطلقها برنز من دمشق، في أعقاب لقائه مع
الرئيس السوري مؤخراً: الرئيس غجورج بوشف
والإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي مصممون
علي مواصلة المعركة ضدّ المنظمات الإرهابية
الدولية علي صعيد شامل ، من جهة؛ والولايات
المتحدة مهتمة ب