فــي الـسـجـن الـكـبـيـر


الياس خوري

أستطيع ان أتخيله "عائداً" الى السجن. حمل الرجل أعوامه السبعين وواحداً على ظهره الذي لم ينحن، ومشى خفيفاً بالحرية. حمل حريته في يديه المغلولتين، و"عاد" بها الى الزنزانة الانفرادية.

الاسم: رياض الترك.

رجل نحيل، مربوع القامة، يحكي كرجل خبزته التجربة، وينظر كطفل يكتشف العالم كل يوم. قضى سبعة عشر عاماً في زنزانة انفرادية من دون محاكمة، لم يقابل احداً من افراد عائلته إلا بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على اعتقاله. امضى وقته الطويل والبطيء يصنع الارابيسك من حبات العدس السوداء، او يخترع اشكالاً من فتات ورق الصحف التي وجدها في مرحاض المعتقل.

الاسم: رياض الترك.

سبعة عشر عاماً داخل حيطان زنزانة تضيق كل يوم. لكن الرجل النحيل فهم ان الحرية تساوي الكرامة. تمسك بحريته رغم المرض ونقصان الهواء، بنى شمساً داخلية في روحه، وسمح للحرية بأن تستوطن جسده وروحه.

الاسم: رياض الترك.

ولد في مدينة حمص منذ واحد وسبعين عاماً. عاش طفولته في الميتم الاسلامي في المدينة، ثم عمل مدرساً في الميتم نفسه، قبل ان يبدأ رحلته الى اكتشاف الحرية في داخل السجون.

جاء من الفقر وما يُشبه اليتم، وحلم بالحرية للفقراء ولوطن الفقراء الذي ينتمي اليه.

كان رفيق فرج الله الحلو الذي ذُوِّب بالاسيد في زنازين عبد الحميد السرّاج، لكن موت رفيقه وقائده، لم يعلمه سوى التمسك بالحلم. فخاض في العمل السياسي اليساري، وذاق مرارة التجربة البكداشية في سوريا، قبل ان يتمرد، ويصالح اقتناعاته اليسارية مع الحرية ورفض الديكتاتورية داخـل الحـزب، وكل ذلك الطقس الستاليني البشع، الذي اسس للهاوية.

ومنذ تلك المصالحة، لم يتخلَّ الرجل عن ايمانه بالحرية ونضاله في سبيلها، الى درجة انه اضطر الى اخذها معه الى زنزانته طوال اعوام لا نهاية لها.

الاسم: رياض الترك.

رجل يفاجئ بتواضعه وانسانيته وبريق عينيه. لم التقِ به إلا مرة واحدة، مرة واحدة كانت كافية من أجل ان اكتشف معه وبه، عمق المأساة التي يعيشها العرب اليوم.

لم يقل مرة واحدة انه نادم على السجن.

حين كان يُسأل عن السجن، خلال عامَي اطلاق سراحه، كان ينظر الى البعيد، كأنه يستجمع زمنا سائلا لا يمكن القبض عليه، ثم يحدثنا عن المستقبل.

رجل امضى عمره في السجون، ينظر الى الحاضر والمستقبل بتفاؤل الارادة، وقوة الحلم.
من أين جاء بالقدرة على المقاومة، هذا الرجل المريض الذي خضع لجراحة في القلب، ويعاني السكري وضغط الدم؟

سرّ هذا الرجل بسيط وله اسم واحد: الحرية.

عاش معها، وحدهما طويلاً، بحيث وُلد بينهما تواطؤ غريب. الحرية عاشت في الزنزانة، والسجن عاش في الحرية. هذه هي المعادلة المرعبة التي اراد رياض الترك كسرها بعد خروجه من السجن.

كان يستطيع ان يحتفظ بالحرية لنفسه. ألم يقل انه خرج من السجن الصغير الى السجن الكبير، لكنه فهم ان الحرية لا تستطيع ان تعيش حبيسة في الوطن السجين، فأخذها معه الى دروب استعادة الحق في الكلام؟! كسر رياض الترك المحرّمات، حين قال ما لا يقال، وفاجأ الناس بالبديهيات. فمن شدة تعوّد الناس القمع، نسوا بديهيات الحياة والسياسة والثقافة. فجاء هذا الرجل من مشواره البعيد داخل الزنزانة الانفرادية من اجل ان يذكّر الذاكرة الانسانية بنفسها، ويقول ان الانسان لا يستطيع ان يكون انساناً من دون حريته.

وفجأة انزاحت الاغلال عن الكلمات، وعادت الكلمة تنبض بالحياة، بعدما تمّ تحنيط القيم والمبادئ والقضايا، داخل لغة السلطة. فجأة، تكلمت الثقافة السورية في انبل اقلامها، من انطون مقدسي الى نزيه ابو عفش، ومن ميشال كيلو الى برهان غليون، وارتفعت الأصوات بحثاً عن الحرية. كأن هذا الرجل النحيل، المربوع القامة، عاد الى مجتمعه بالكلام الذي سُلب منه، فانفتح افق دعاة الاصلاح والتغيير، وعادت اللغة العربية الى الحرية التي نبعت منها كل اللغات. كان وحده في البداية. حين تكلم، لم يحمل لغة الحقد والانتقام. فالحرية لا تحقد ولا تنتقم، ثمّ لماذا يحقد، وهو الوحيد ربما، الذي لم تتخلَّ الحرية عنه، لأنه لم يتخلّ عنها.

تكلم لغة الديموقراطية. هزّ بيديه الصغيرتين المريضتين ركام القمع والخوف الذي يهيمن على العالم العربي، وكان الوجه الآخر لصوت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، التي تذكّر العالم العربي كل يوم بأن المقاومة هي فعل حرية أولاً وأخيراً.

الاسم: رياض الترك.

أرى صورته المحجوبة خلف القضبان، وأرى كلماته، وأرى جسمه منحنياً على الألم، وهو يمضي وحيداً الى الزنزانة.

أعرف ماذا سيقول. أعرف انه لن يشكو، بل سيشفق على الجميع. رياض الترك يعلم أن الحرية لن تتخلى عنه، وانه سيبقى حراً حتى في زنزانة صغيرة معتمة، لكني أرى خوفه العميق. فهو يخاف على الحرية نفسها. يخاف ان تجبر الحرية على ان تعيش من جديد في السجن، وتترك المجتمع الى سجنه الكبير.

-----------------------

رياض الترك والحرية


الياس خوري
عندما التقيت به، بعد خروجه من السجن، فاجأتني حريته، كان ابو هشام الذي قضي سبعة عشر عاما في الزنزانة الانفرادية في دمشق، يبدو بأعوامه السبعين التي يحملها علي كتفيه، خفيفا بالحرية.
اردت ان اسأله عن اعوام السجن، وعذابات الوحدة، وآلام حجز الحرية، لكنني فوجئت برجل تضيء الابتسامة وجهه المستدير، ويتمتع بحريته التي لم يفقدها يوما، فالحرية كما فهمها رياض الترك وعاشها، هي ان يحافظ الانسان علي كرامته وانسانيته، وفهمت منه ان السجن كان مجرد محطة في اكتشافه لمعني الحرية.
منذ ثلاثة أيام، اعيد اعتقال رياض الترك، كان في طرطوس، في عيادة احد الاطباء، عندما سيق الي السجن من جديد، ومنذ ثلاثة أيام وانا اري صورة الرجل في كل مكان، اراه في ليل المدن العربية الغافية علي كابوس القمع، واراه في وجوه المواطنين الخائفين، واراه ايضا، وهذا هو الاساس في الصور الآتية من ارض فلسطين، حاملة علامة الكرامة الوحيدة في هذا العالم العربي المتصحر بالقمع والذل والخوف.
لا ادري اين وضع الرجل؟ ولا اعرف التهمة التي ستوجه اليه، لكن ما اعرفه جيدا، هو ان اعادة اعتقال رياض الترك، تعني ان الرجل اخذ الحرية معه الي السجن، تاركا الآخرين يتخبطون في عبوديتهم.
هذا الرجل الذي جاء من الميتم الاسلامي في حمص، الي صفوف الحزب الشيوعي السوري، حيث ذاق سجون الخمسينات والستينات، كان المناضل الذي اطلق اولي صيحات الحرية والتجدد في الحزب الشيوعي السوري، الذي افترسته الغرغرينا البكداشية، قبل ان يسقط في شرك الجمود والسلطة.
اطلق صيحة الحرية، وقاد حزب(
ه) الشيوعي، او ما عرف بعد ذلك باسم المكتب السياسي، وسط اقسي الصعوبات التي واجهتها الحركة اليسارية العربية في سبيل التحرر من هيمنة البيروقراطية الفاسدة، التي ارادتها موسكو اداة هيمنة ومساومة.
ليس رياض الترك منظرا كبيرا، لكنه رجل عرف كيف ينظر ويري. كسر الجمود الستاليني، وخرج الي فضاء الحرية الفكرية، لكنه لم ينس ان حريته لا تكون الا داخل مجتمع حر ومتعدد، تحتل فيه السياسة موقعها بوصفها هماً شعبيا وممارسة للسلطة يقوم بها الشعب.
لذلك، سرعان ما وجد الرجل نفسه في السجن، مثله مثل مئات المناضلين الديمقراطيين. عاش سج
نه بحرية، لأنه رفض ان يقايض حريته بأي شيء، بما في ذلك الخروج من السجن.
منذ اكثر من عام، وصوت رياض الترك يحتل مكانته في المعركة الديمقراطية في سورية، عجيب امره، كأنه لم يدخل سجنا في حياته، اذ بدا وسط الحركة السياسية الثقافية المعارضة التي اطلقها ب
يان ال 99، الأكثر حرية والأكثر قدرة علي اتخاذ المواقف وكسر المحرمات وتسمية الاشياء بأسمائها.
بدا، بقامته القصيرة ومشيته السريعة وقلبه الضعيف ومرض السكري، الأكثر صحة من بين جميع الاصحاء، لا لأنه لا يشعر بالآلام الجسدية، بل لأنه متصالح مع روحه، فالألم الذي يشلّ الرجال والنساء ليس الالم الجسدي، بل الالم الروحي، والروح تتألم حين تفقد كرامتها، لذلك كان ابو هشام قادرا علي ان يشعر الجميع انه الابن البكر للحرية في بلاده، وانه لا يدافع عن حريته الشخصية، لانها في موقع حصين، لكنه يدافع عن حرية المجتمع كخطوة في سبيل شفاء الأرواح التي يعذبها القمع، ويشل ارادة الحياة فيها.
رياض الترك في السجن من جديد.
اعادة اعتقاله اليوم تش
كل نكسة كبري لمناخ تحرري خافت، بدأ يعيد شيئا من الحياة في اوصال السياسة والمجتمع.
لذلك، فان مهمة جميع الديمقراطيين في سورية والعالم العربي، هي العمل علي اطلاق سراحه. رجل في السبعين يعاني امراض القلب والسكري، لكنه يقف وحيدا، حاملا كلمة الصدق والحرية.
ندعو الي العمل لاطلاق سراحه، ليس من اجله فقط، بل من اجل ان لا تقضي الحرية اعواما جديدة معه وحده، وتترك مجتمعاتنا غارقة في السواد.
QP20

------------------------------------------

مهامّ أكثر تعقيداً وخطورة من اعتقال أمثال رياض الترك

صبحي حديدي

يطيب للرئيس السوري بشار الأسد أن يحصر القسط الأعظم من جهود الإصلاح الداخلي في الشأن الإقتصادي، وفي هذا الشأن وحده تقريباً، مؤجلاً النظر في ملفّات الإصلاح الأخري: السياسية والإدارية والدستورية والحقوقية. وهكذا لم يكن من المدهش، علي سبيل المثال، أنه أثار مسألة الإصلاح الإقتصادي السوري لدي استقباله ريشارد برنز، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، الذي جاء ليتحدّث عن دعم سورية وإيوائها لمنظمات إرهابية تضعها واشنطن علي لائحة الأهداف المطلوبة في الحرب الأمريكية الشاملة ضدّ الإرهاب . أكثر من ذلك، نقلت أوساط أمريكية استغراب الأسد لأنّ الأمريكيين متلهفون علي معرفة موقف سورية من حزب الله و الجهاد الإسلامي ، ولكنهم لا يكترثون بالإصلاح الإقتصادي في سورية!
ذلك، ربما، يفسّر الرسالة المزدوجة التي أطلقها برنز من دمشق، في أعقاب لقائه مع الرئيس السوري مؤخراً: الرئيس غجورج بوشف والإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي مصممون علي مواصلة المعركة ضدّ المنظمات الإرهابية الدولية علي صعيد شامل ، من جهة؛ والولايات المتحدة مهتمة ب
أفكار الرئيس السوري بشار الأسد حول تطوير علاقاتنا الإقتصادية وتطوير الإقتصاد السوري وفتح الحوارات بين مجتمعينا ، من جهة ثانية.
وقد يلوح، وهو أمر يبدو منطقياً تماماً، أنّ الأسد يسعي إلي الحصول علي ثمن سياسي إقتصادي إذا ما قرّرت سورية الإستجابة للمطالب الأمريكية والكفّ عن دعم وإيواء المنظمات التي تواصل واشنطن وضعها علي لائحة الإرهاب . والأسد الإبن لا يشذّ في هذا عن نهج عريق اعتمده الأسد الأب طيلة سنوات الحركة التصحيحية ، وتمثّل في تحويل السياسة الخارجية (وبين تفاصيلها دعم سورية وإيوائها لمنظمات تسبّب الصداع لحلفاء أمريكا هنا وهناك في المنطقة) إلي عوامل مناورة وعناصر مساومة تدرّ المال والمساعدات، وتمدّ الإقتصاد السوري المتهالك بأسباب الحياة.
غير أنّ العالم تغيّر كثيراً في هذه الملفّات بالذات: تغيّر منذ حرب الخليج الثانية حين انخرطت سورية في تحالف حفر الباطن دون أن تحصل علي الأثمان الدسمة التي كانت تنتظرها؛ وتغيّر حين بدأت أوراق دمشق تتهاوي واحدة تلو أخري، في إيران كما في لبنان، ولدي منظمة التحرير الفلسطينية مثلما لدي دول إعلان دمشق ؛ وتغيّر بعد رحيل الأسد، بما يمثّله ذلك الحدث من معني غياب الصانع الماهر للسياسات المكيافيللية، وبما يمثّله من حلول الهواة محلّ الأصلاء إذا جاز التعبير؛ إلي جانب أنّ العالم بعد 11 أيلول لا يشبه العالم ما قبل هذا التاريخ في مسألة واحدة علي الأقل: الموقف من الإرهاب .
لا يعقل، إذاً، أن تكون دمشق بصدد هندسة صفقة ما، سياسية إقتصادية، لقاء تعاونها مع واشنطن، وذلك لسببين أساسيين كافيين:
أنّ واشنطن ليست مستعدة لعقد هذه الصفقة دون الحصول من دمشق علي ما هو أعمق أثراً من مجرّد إغلاق بضع منظمات لا تملك من الخطر ما هو أبعد من الصيت المبالغ به، أي دون الحصول من دمشق علي تعهد بإغلاق حزب الله في لبنان، بين أهداف أخري أقلّ شأناً؛
وأنّ دمشق لا تملك في الواقع أيّ هامش مناورة بين مبدأ القبول ومبدأ الرفض، وإذا لم تكن بحاجة إلي واشنطن في تنفيذ برامج الإصلاح الإقتصادي (العزيزة تماماً علي قلب الرئيس السوري)، فإنها بحاجة ماسّة إلي مساعدة حلفاء واشنطن في الإتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، سواء بسواء.
وقبل أن يلقي الرئيس الأمريكي جورج ب
وش خطبته أمام الجلسة المشتركة للكونغ رس ف ي أعقاب العمليات الإنتحارية ليوم 11 أيلول (سبتمبر) الماضي، أرسل البيت الأبيض مسودة الخطاب إلي مجلس الأمن القومي للمراجعة المعتادة التي لا تُعني كثيراً بالبلاغة بقدر اهتمامها بما يمكن أن تسبّبه شطحات البلاغة من أذي في ضوء اعتبارات استراتيجية أو تكتيكية تخصّ المرحلة الراهنة في منهاج رعاية الأمن القومي الأمريكي. ويروي غاري غامبل، م ن نشرة Middle East Intelligence Bulletin، أنه كانت ف ي الخطاب فقرة لفتت الإنتباه، تقول: كلّ أمّة تُلجئ أو تساند الإرهاب سوف تكون معادية في نظر الولايات المتحدة ، فدوّن أحد مستشاري مجلس الأمن القومي ملاحظة علي الهامش تقول: وماذا عن سورية ؟ وكان أن عُدّل النصّ بحيث أصبح هكذا: كلّ أمّة تواصل إلجاء أو رعاية الإرهاب سوف تكون معادية في نظر الولايات المتحدة . مطلوب من سورية، إذاً، أن تكفّ عن إلجاء أو رعاية المنظمات التي تعتبرها واشنطن إرهابية ، سواء أكانت تقيم علي الأرض السورية أم في لبنان حيث تمتلك دمشق نفوذاً واسعاً سياسياً وعسكرياً وأمنياً.
والحال أنّ البيت الأبيض لا يصنّف سورية في عداد الدول العاصية
Rogue States، كما يفعل مع العراق مثلاً، ولكنه يتعامل بازدواجية مع دمشق: فمن جهة أولي ما تزال سورية علي لائحة الدول الراعية للإرهاب، ومن جهة ثانية يقول التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية عن حال الإرهاب في العالم إنّ سورية واصلت فرض حظر طويل علي ضرب أهداف غربية ، بما في ذلك الأهداف الأمريكية.
وتقول المعلومات إنّ دمشق اتخذت، بدورها، موقفاً إزدواجياً: فمن جانب أوّل تجاوبت مع المطالب الأمريكية والبريطانية وقدّمت معلومات استخبارية بالغة الأهمية حول المنظمات الإسلامية، خصوصاً علاقة رجل الأعمال السوري الأصل مأمون دركزنلي بمصرف في هامبورغ يُشكّ في ارتباطه بأسامة بن لادن؛ أو صلات مجموعات إسلامية فلسطينية مثل حماس و الجهاد الإسلامي بمنظمة القاعدة ؛ فضلاً عن السماح لضابط في مكتب التحقيقات الفيديرالي (ال
FBI) بزيارة مدينة حلب، التي سافر إليها محمد عطا مرّتين في التسعينيات، والتحقيق مع بعض المواطنين السوريين الذين التقي بهم عطا لهذا السبب أو ذاك. ومن جانب ثانٍ حافظت علي مسافة نقدية من حرب أمريكا علي الإرهاب، في مستوي الإعلام والتصريحات اللفظية علي الأقل. ونقرأ في الصحافة السورية الكثير من البلاغة حول التمييز بين الإرهاب و المقاومة ، كما نقرأ ونسمع الكثير أيضاً حول عدم موافقة دمشق علي تعريف واشنطن لمفهوم الإرهاب وللمنظمة الإرهابية.
ومع ذلك يبقي محتماً علي دمشق أن تتعاون مع واشنطن، بشكل وثيق ومباشر ربما، في إغلاق أو تصفية أو تحجيم وجود منظمات مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة ، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، فتح الإنتفاضة ، حماس ، و الجهاد الإسلامي ، وهذا اختبار كبير وحساس لحال العلاقة الإزدواجية هذه، بالنسبة إلي دمشق كما بالنسبة إلي واشنطن.
أمّا علي الأرض اللبنانية فإنّ حزب الله يظلّ علي رأس أهداف أمريكا في لبنان، ليس بسبب المطالب الإسرائيلية الملحّة ووجود الحزب علي لائحة المنظمات الإرهابية التي تعتمدها وزارة الخارجية الأمريكية فحسب، بل أيضاً بسبب اسم محدّد هو عماد مغنية، الذي اعتبرت وزارة العدل الأمريكية أنه علي صلة مباشرة مع أسامة بن لادن. والتُهم الموجهة إلي مغنية كثيرة ومتعددة: أنه العامل في لبنان بالنيابة عن الإستخبارات الإيرانية، والمسؤول عن تفجير السفارة الأمريكية ومقرّات المارينز في بيروت سنة 3891، وخاطف عدد من الأمريكيين في لبنان خلال الثمانينات، والدماغ المخطط لخطف طائرة
TWA إلي بيروت سنة 5891، وتفجير أهداف إسرائيلية في الأرجنتين، إلي جانب وجود جائزة بقيمة مليوني دولار لقاء معلومات تفضي إلي القبض عليه. وفي العام الماضي سرّبت واشنطن معلومات أدلي بها علي محمد، الماثل أمام محكمة أمريكي ة بتهمة التورّط بتفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، تقول إنه كان مسؤولاً عن إعداد الترتيبات الأمنية للقاء عُقد بين مغنية وبن لادن في السودان مطلع الثمانينيات.
عصبة الأنصار هي الهدف المباشر الثاني. ويتردد أنّ هذه المجموعة، الإسلامية السنّية الفلسطينية، كانت صلة الوصل بين مغنية وبن لادن علي الأرض اللبنانية، وفي مخيمي عين الحلوة ونهر البارد ومدينة صيدا بصفة خاصة. وقد أسّس الحركة هشام شريدي، الذي اغتيل في عام 1991 إثر صراع مع فتح الرسمية (أي منظمة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات)، فأعقبه في القيادة أحمد عبد الكريم السعدي، المعروف بالإسم الحركي أبو محجن . ويقول الأمريكيون إنّ عصبة الأنصار تلقّت مساعدات مالية ضخمة من بن لادن، وساهمت في إرسال عشرات المتطوعين الفلسطينيين للعمل تحت قيادة بن لادن في أفغانستان.
الهدف المباشر الثالث هو منظمة التكفير والهجرة ، وهي مجموعة إسلامية حديثة العهد نفّذت ما يشبه انتفاضة فاشلة ضدّ السلطات اللبنانية في كانون الثاني(يناير) 0002 في أعالي الجبال المغطاة بالثلوج شرق ميناء طرابلس، دامت ثمانية أيام وسقط خلالها 41 جندياً لبنانياً و52 من أعضاء المنظمة. ويلفت الإنتباه أنّ أنصار التكفير والهجرة يتألفون من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وجنسيات عربية وإسلامية أخري، الأمر الذي يعطيها بعداً عالمياً. ويتردد أنّ قائد هذه المنظمة، اللبناني بسام أحمد كنج، كان في عداد الأفغان العرب وقاتل تحت إمرة بن لادن. لكنه قبل هذا كان قد سافر إلي الولايات المتحدة للدراسة ببعثة من رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ف
تزوج هناك من سيدة أمريكية اهتدت إلي الإسلام، وأسس عدداً من المنظمات الخيرية التي كانت تجمع التبرعات للمجاهدين الأفغان، بعلم وتشجيع السلطات الأمنية الأمريكية علي الأرجح.
الهدف المباشر الرابع هو الفلسطيني منير مقدح، الذي يقود في مخيم عين الحلوة مجموعة منشقة عن منظمة فتح الرسمية، وسبق لمحكمة أمن الدولة الأردنية أن أدانته بتهمة تدريب عناصر تابعة لأسامة بن لادن للقيام بعمليات تخريبية في الأردن. ولقد فشلت جميع محاولات السلطات الأردنية مع السلطات اللبنانية للقبض عليه وترحيله، لأنه كان وما يزال يتمتع بحماية الإستخبارات العسكرية السورية.
المطلوب من سورية واسع ومتشعّب ومعقّد إذاً، وقد تثبت الأيّام أنه باهظ الثمن سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وباهظ بمعني تسفيه العقائد الراسخة التي اعتادت التمييز بين المقاومة و الإرهاب . صحيح أنّ أيّام تورّط الإستخبارات السورية المباشر في عمليات خارجية (من النوع الذي كان يشرف عليه محمد الخولي قائد مخابرات القوي الجوية، أو ينفّذه أبو نضال، علي سبيل الأمثلة فقط) قد انصرمت إلي غير رجعة علي الأرجح، إلا أنّ الإقلاع عن العمليات شيء مختلف تماماً عن تصفية منفّذي العمليات وإغلاق الدكاكين مرّة وإلي الأبد. السحر هنا قد ينقلب علي الساحر في أيّة سانحة، وقد يطيح بمعادلات الإستقرار الداخلي الهشّة الخادعة، هذه التي يطمئن إليها الرئيس السوري حين يقصي كلّ الملفّات لصالح الإقتصاد وحده.
وكما أنه لا اقتصاد بلا سياسة، فلا اقتصاد بلا أمن أيضاً. وإذا تعيّن أن تنحني سورية لما تريدها واشنطن أن تقوم به في الداخل السوري وفي لبنان، فإنّ مهامّ جنرالات من أمثال حسن خليل (قائد المخابرات العسكرية) وهشام بختيار (مدير المخابرات العامة) سوف تصبح أكثر خطراً وخطورة من مجرّد اعتقال معارضين مدنيين من أمثال رياض الترك ورياض سيف ومأمون الحمصي!
QP19

 

 عودة إلى صفحة البداية