هل تنتظر دمشق خريف الغضب بعد ربيع الحرية

الضياع السوري بين جدلية التصحيح و متاهة التغيير

أن القول و العنف هما أعظم الاضداد في الوجود الانساني)) ب .ريكور ))

خالد المشعان*

تعم الرأي العام السوري حالة من القلق الاجتماعي و السياسي , و تظهر مؤشرات هذا القلق في اللامبالاة التي ينتهجها المواطن العادي ناهيك عن حالة التململ الظاهرة التي يبديها المثقف و مرد ذلك هو العنف السلطوي , فالسلطة في سورية لا تضم الى قائمة احتكاراتها العملية السياسية و حسب بل و تضم كذلك ضمن قائمة طويلة من الاحتكارات العنف الجسدي هذا العنف الذي يجد المواطن نفسه ضحية له و هذا القلق الذي لايزال يعبر عن نفسه بمظاهر سياسية مسالمة . و مرشح في أي لحظة لأن يعبر عن نفسه على صورة سلوك عشوائي غير منظم , فالعنف و القمع الذي تمارسه الاجهزة الامنية و السلطوية في سورية مرشح لأن يؤدي الى ردة فعل من نفس النوع و الطبيعة فلا يوجد اي رادع لان يكون كسر الاحتكار السياسي مرفوق بكسر احتكارات اخرى من بينها العنف .

في سورية اليوم يبدو من الصعوبة بمكان العودة إلى الممارسات القمعية التي كانت سائد لمدة تزيد على الأربعة عقود قبل غياب الرئيس الاســد . فمنذ غياب الأســد الأب , قطعت الشرائح السياسية و الاجتماعية السورية بما فيها السلطة , أشواطاً غير قابلة للإنتكاس في مجال التعبير عن الرأي و مداولة الشأن العام , إن كان ذلك على مستوى المنتديات السياسية أو عبر وسائل الاتصال الجماهيري من فضائيات و صحف و مجلات أو في الاحاديث اليومية في البيوت و المقاهي فقد ولى زمن الخوف .
و قد يمضي وقت ليس بالقصير حتى نصل بالنضج السياسي في الشارع السوري إلى المستوى الأدنى المقبول , بما فيه تأصيل للظواهر الديمقراطية و مؤسسات المجتمع المدني في سورية , أو تأطير حقيقي و تنظيم فعلي للقوى الاجتماعية في أنساق سياسية مؤثرة في في محصلة الفعل السياسي السوري .
و لكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بأن نوع من الوعي السياسي قد أخذ يتأصل في صلب الحياة السياسية السورية و أصبح هناك بوادر لأخلاقيات جديدة , تجتاح الوسط السياسي و الثقافي السوري , جوهرها الاعتراف بالأخر المختلف , على الاقل فيما بين الفصائل السياسية , و لو أنها لا تزال بوادر خجولة لكنها موجودة على كل حال , و ينتظر أن يكون الاعتراف بالاختلاف هو الناظم للعلاقة في المستقبل فيما بين السلطة و بقية الفعاليات السياسية , أو على الأقل هذا هو الأمل

.

الاستقرار السياسي مرهون بعدم تهور السلطة

و قد يمضي وقت أطول حتى يتسنى للناس نسيان أربعة عقود من القمع و التنكيل و الاهانة التي يمكن أن يتعرض لها أي إنــسان في وطنه بدأ من الملحمةاليومية للحصول على رغيف الخبز و أختصار الوجود الانساني بعلبة سمن و رزمة محارم ورقية و انتهاء بمصادرة كل ما هو ليس بسلطوي إبتداء من الظواهر الثقافية و النشاطات الاجتماعية مروراً بكل ما لا يحمل بصمات السلطة حتى لو كان الاعتراض على جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني و العربي . لكن الرغبة في نسيان كل هذا موجودة و معبر عنها من قبل الكل بما فيهم السلطة في بعض تجلياتها .
فالإنفتاح النسبي الذي عاشته النخب السياسية السورية , و النضج و الاحساس بالمسؤلية التي أتصفت بهما هذه النخب و التي تعاملت به مع الانتكاسات الاخيرة للمسيرة الديمقراطية , المتمثلة بالاعتقالات التي طالت رموز وطنية مثل المناضل رياض الترك و رموز برلمانية كانت الى وقت قريب مقربة من السلطة مثل الحمصي و سيف , يبشر بعقلانية سياسية مطلوبة من قبل حملة لواء المجتمع المدني , و بأستقرار سياسي مرهون بعدم تهور السلطة أو من يسبح في فلكها بمحاولة جر عجلات التطور السياسي و الديمقراطي الى الخلف ضد عقارب الساعة مما يؤدي الى تدهور حقيقي في الاستقرار السياسي الهش الذي تعيشه سورية , خاصة و العالم مقبل على رسم جديد للخرائط السياسية و الجغرافية و الحضارية بحجة محاربة الارهاب بتعريفه الامريكو-بريطاني أو بتسمية أصح البوشوبليري و منطقتنا العربية بشكل عام ومشرقه بشكل خاص أكثر المستهدفين إذا لم يكن المستهدف الوحيد .

التغييرلا يخضع لمزاجيات السلطة

إن الآليات التي تتغير بها النظم السياسية تغييراً إيجابياً يكون في الحقيقة نابعاً من إيجابية القيم و المعتقدات السياسية التي تحتويها الثقافة السياسية للمجتمع , وبالذات ثقافة النخبة السياسية السلطوية التي تتربع على قمته أو في القطب الآخر من القمة كمعارضة , بالاضافة إلى صحة العملية السياسية و العلاقات البين مجتمعية في هذا المجتمع أو ذاك . و تتجلى الايجابية أولاً في إستمرارية التغيير و تأصله . فالتغيير لا يخضع لمزاجية اشخاص يفترض بهم أن يكونوا مجرد منفذين في منظومات مؤسساتية , يطلقونه تارة و يمنعونه تارة . أو لظروف العلاقة بين الفعاليات السياسية, و درجة توافقها الايديولوجي أو تنافرها و بالتالي الخضوع لجدلية الراشي و المرتشي و الرائش بينهما , أي أن السلطة ترشي الفعاليات السياسية ببعض الانفراج لعبور مرحلة معينة , ثم تعود وتصادر ما منحته بعد أن يستتب لها الأمر . فالتغيير هو في حقيقته ظاهرة تطورية تتماشى مع حركة التاريخة السائرة أبداً نحو الأمام , و لا تملك السلطات و مهما ارتفعت قدرتها القمعية , أي مقدرة على ايقافه لأنها لا تملك القدرة على ايقاف التاريخ , و لكن قد تستطيع إعاقته و جعل مسيرته عسيرة و دموية و أكثر إيلاماً

الوصاية على الشعوب لم تحرر الارض المغتصبة

و ثانياً يجب أن يخرج التغيير الايجابي من إطارة المكرمة التي يمنحها سلطان الى رعية , إلى إطار

حقيقة علمية على قاعدة تحليل الظواهر السياسية تحليل علمي , أي دراسة مرحلة سابقة و التسليم التامة بسلبياتها , و بالتالي تشخيص هذه السلبيات و تجاوزها الى الايجابي وترسيخه بالقوانين . و بالتالي الخروج من الارتجالية السياسية التي بليت بها شعوبنا العربية حتى أصبح شيخ كل قبيلة أو عشيرة أو حتى حارة يجد في نفسه القدرة و الطموح على قيادة بلد من عشرين مليون نسمة . فالتغيير الايجابي و الأ مر كذلك هو عملية شاقة و متعبة يجب أن يسبقها ترسيخ لأليات دستورية و قانونية تفّعل الحركات الاجتماعية و السياسية كأدوات دستورية للتغيير أي بعبارة أدق , تفعيل مؤسسات المجتمع المدني . وقبل هذا و ذاك الاقتناع و الاعتراف بأن زمن الانظمة الشمولية قد ولى و زمن الوصاية على الشعوب العربية لم يؤتي ثماره خلال الخمسين سنة الماضية و لن يؤتي ثمار خلال الخمسين سنة القادمة , و لم و لن يحرر سنتيمتر واحد , بل و الاهم من ذلك لم يؤمن الاستقرار المطلوب حتى للأنظمة نفسها . و تقوية الاجهزة الأمنية و إطلاق يدها في المجتمع العربي تقمع و تنكل و تبدد الطاقات . على حساب المجتمع و مؤسساته المدنية , بل على حساب المؤسسة العسكرية نفسها و تحويل مهماتها في التحرير و استعادة الاراضي المغتصبة . الى حماية الأنظمة و قمع المواطن و مصادرة المواطنة , كل ذلك لا ينفع في أيقاف عجلة الزمن أو العودة بها إلى الوراء .

الحوار يجب أن يكون سمة المرحلة

في هذه الاجواء المشحونة بالعداء لكل ما هو مسلم و عربي , و في مناخات هذه الحملة الصليبية التي تقودها الولايات المتحدة ضد كل من لا يغزل على نولها , نظام كان أو شعب , هل يبقى لنا إلا أن نجرب ما حاولنا دوماً التهرب من تجربته , و هل تطمع الشعوب العربية المقهورة بعلاقات حوار حقيقية مع انظمتها السياسية . و هل يكون النظام السوري الفتي قدوة لغيره من الانظمة و السبَاق كمثل إيجابي للتغيير , بعد أن كان و لعقود طويلة القدوة السيئة في الوثوب الى السلطة . فالتغيير يجب أن يتعدى حدود الاعلانات و الدعاية ضمن سياق لعبة إعلامية مشبوهة , الى قرارات جذرية حاسمة تأخذ بعين الاعتبار حالة القلق الاجتماعي و السياسي التي تعم الشارع السوري , هذا القلق الذي لايزال يعبر عن نفسه بمظاهر سياسية مسالمة . و مرشح في أي لحظة لأن يعبر عن نفسه على صورة سلوك عشوائي غير منظم , فالعنف و القمع الذي تمارسه الاجهزة الامنية و السلطوية في سورية , تنمي إحساس المواطن السوري بوقوعه ضحية عدوان من قبل السلطة وردة الفعل مرشحة لأن تكون من نفس النوع و الطبيعة . و على السلطة أن لا تســتكين الى سـلبية الشارع السوري إزاء ما يحدث من تطورات سياسية سلبية في سورية , على أنه إستقرار و نجاح لسياستها , بل على العكس إن دل هذا على شيء فأنه يدل أن الشارع أدار ظهره للسلطة , و أخذ يتعامل مع المرحلة الحالية كما تعامل مع مرحلة الاســد الأول و حركته التصحيحية , عزل و إسقاط من المنظر الوطني و وضع في خانة الغرباء عن الوطن و همومه .حتى أصبحت صورة الوطن بضعة الاف من الاشخاص ( وجلهم من الفعاليات الامنية و الحزبية) يخرجون في مسيرات التأييد و المباركة , و هم في الحقيقة لا يمثلون دلائل على اللحمة الوطنية التي يروج لها النظام و لا يمثلون الشعب السوري المقهور , و التغني بالديمقراطية و المشاركة الجماهيرية بينما تقبع في السجون السورية النخب العلمية و الثقافية الوطنية أو تهجر أو تلاحق في المنافي , و نعتقد أن النظام الحالي الذي يطرح نفسه كمخلص من حقبة يريد الكل أن ينساها بما فيهم أبناء النظام نفسه , لا يطمع بوضع كهذا . ولا يطمع المواطن بالعودة الى مرحلة يعتقد أنه تجاوزها و باتت من مخلفات الماضي