رياض دمشق

بقلم سمير قصير_ النهار 28-6

رائع النظام العربي، رائعاً كان، ورائعاً لا يزال. بعد 54 عاماً على النكبة، بعد 53 عاماً على اول انقلاب عسكري، يتكرّر الخطأ للمرة الالف، تتكرر الخطيئة، ولا ينتهي اليأس.

المشرق العربي على كف عفريت، الامبراطور جورج الابن قرر اعدام فلسطين بعدما قامت من الموت، والحرب ضد "الارهاب" اضحت اكثر فأكثر تمويهاً لاستعمار من نمط جديد لا يأبه إنْ سقطت دول او حُطّمت شعوب... العراق في الانتظار، ولبنان خاصرة ارتخت من كثرة ما حصّنوها، وسوريا حائرة بين رضى امني اميركي ووعيد استراتيجي لا يقل اميركية، لكن محكمة امن الدولة في دمشق لم تبالِ الا بإسكات صوت رياض الترك لأنه راهن على اصلاح ممكن لنظام الحكم ولم يسترسل لحظة لنزعة الثأر.

كنا نعرف ان المؤسسات الديموقراطية العريقة، مثل محاكم امن الدولة العربية، لا تبحث عن نصائح خبراء العلاقات العامة، ولا تأبه لصورة بلدها في الخارج. والمؤسسات الديموقراطية العريقة في سوريا تأبه اقل من غيرها لصورتها عند الاجنبي. لا يعنيها على الاطلاق أنّ بلدها يرأس حتى يوم الاثنين المقبل اعلى هيئة سياسية في العالم، وأنّ المحاكمات السياسية ليست افضل وسيلة لتلميع سمعة اقل ما يقال فيها انها متهافتة. حسبهم على العكس انهم يبزّون الاجنبي المتغطرس. هل رأيتم ماذا نفعل بديموقراطيتكم؟ انتظروا ما سنفعله باسرائيلكم؟

سينتظرون طويلاً...

غير ان الخطأ والخطيئة يتخطيان بكثير دائرة العلاقات العامة ليصبّا في صلب فهم النظام العربي لمسيرة شعوبه ومصائرهم. انه خطأ الخلط الدائم بين السلطة والدولة، وبين الدولة والامة. انها خطيئة المساواة بين العدل والامن، وبين الامن والرعب.

محكمة امن الدولة، هذا اسمها، ليست سوى غطاء لمراكز قوى لا تفصح عن اسمها. لكن المحكمة ليست براء من حرية هذا الصدّيق، على الاقل لتفنّنها في توزيع العقوبات التي حكم بها رياض الترك، قبل دمغها فخفْضها الى عقوبة واحدة هي سنتان ونصف سنة، بالاضافة الى حرمانه الحقوق المدنية لخمس سنوات. ذلك أن التهم التي تمّ تجريم رياض الترك بها تستحقّ لوحدها ملحقاً خاصاً في اي طبعة جديدة من "طبائع الاستبداد". هناك طبعاً "الدعوة الى عصيان مسلح" (في بلد يعدّ نصف دزينة اجهزة امنية)، و"الاعتداء على الدستور" (الديموقراطي جداً كما هو معروف، والمطبّق روحاً ونصاً وتعديلاً كما هو معلوم ايضاً)، ولا ننسى "التقليل من هيبة الدولة". لكن التهمة الاروع هي من دون شك "وهن نفسية الامة".

يا ملعون، يا رياض الترك! تخرج من السجن الانفرادي الذي امضيت فيه 17 عاماً (من دون محاكمة، مما يؤكد اننا تقدّمنا الآن)، فيضيرك ان تجد امة زاهرة واحدة حرة ولا تنفك تبث السموم فيها حتى تحبط نفسيّتها. ماذا فعلت يا رياضاً؟ كنا على وشك تحرير القدس والجولان، ومزارع شبعا في طريقنا، كنا نستعد لتصدير نموذجنا الديموقراطي الى بلاد العجم حيث لا دولة قانون ولا مؤسسات، كنا نهيئ لاطلاق المحطة الفضائية العربية، كنا اشعنا الرخاء في آخر قرية من الريف، كنا سنصير قِبلة اليد العاملة الماهرة الساعية الى حصة من ازدهارنا، كنا سنتأهل للمباراة النهائية في كأس العالم لكرة القدم حيث كنا سنهزم البرازيل بفارق هدفين في الوقت الاصلي. لكنك لم ترضَ، اردت تثبيط العزائم، ولم يكلّ لك جهد قبل ان توهن نفسية الامة !

بئس هذه الامة اذا كانت محاكم امن الدولة تقيس نفسيّتها... بئس هذه الامة اذا كانت هيبة دوَلها تستهيب الربيع في نفوسها...

هل انتهى ربيع سوريا؟ لم يبدأ حتى ينتهي. كان مجرد وعد طاب لشعب ان يطلقه ليقوّي نفسيّته التي وهنت. لكن الوعد لا ينطفئ ما دام ورد الربيع يعرف الطريق الى رياض دمشق.