خارج الزمن: رياض الترك أم معتقِلوه?
بقلم: نهلة الشهال
صحيفة الحياة اللندنية - 14 تموز 2002
اعتُقل رياض الترك لمدة ثمانية عشر عاماً متواصلة في زنزانة انفرادية. ثم أُطلق لعام وأُعيد اعتقاله مجدداً منذ عام, وقد صدر عليه مؤخراً حكم بالسجن لسنتين ونصف العام.
للحبس زمانه الخاص, حياة اجتماعية يُعاد بناؤها وفق اشتراطات السجن والايقاع الناظم لعلاقات نزلائه في ما بينهم, ومع سجانيهم ومع العالم الخارجي.
للحبس المديد زمانه الخاص ايضاً, فهو يمنح صاحبه مكانة مستقرة في عالم يتغير باستمرار.
أما الحبس المديد الانفرادي فهو زمان خاص بذاته, أو هو, من حيث هدفه, سعي لوضع الإنسان الذي يخضع له خارج الزمن اصلاً, في الفراغ. شرح رياض الترك في هنيهة انتقاله الى الزمن العام, عند اطلاقه, كيف قاوم الفراغ بفضل مراقبة حركة النمل الذي كان يعبر زنزانته, كيف كان دخول ذبابة إليها حدثاً مثيراً لاهتمامه, كيف كانت حبّات الحصى الصغيرة المختلطة بالعدس كنزاً لأنها تتيح تشكيل رسوم تتطلّب صبراً ومثابرة وابداعاً: نقيض الفراغ.
في ألمانيا (الحالية وليس النازية) عُزل بعض افراد جماعة بادر ماينهوف في زنزانات (نظيفة) لا امل بدخول النمل والذباب اليها. ودُفع اليهم بطعام معقّم, بلا لون ولا رائحة. وكانت الزنزانات معالجة بطريقة تقنية حديثة, بحيث لا يسمع المرء صوته, غناءه او صراخه. بعضهم جنّ ومات وبعضهم الآخر انتحر.
بخصوص مكان آخر, هو اسرائيل, خيضت معركة, شارك فيها محامون ومنظمات حقوقية اسرائيلية وهيئات عالمية, من اجل انهاء عزل الشيخ (عبد الكريم) عبيد والسيد مصطفى الديراني. وتنازلت اسرائيل تحت الضغط ووضعتهما معاً منذ مدة, ثم قررت المحكمة العليا مؤخراً انه لم يعد هناك مبرر لعزلتهما عن سائر المعتقلين.
معتقل غوانتانامو يتحول رويداً ليصبح احدى النقاط الثابتة في تقارير وانشغالات منظمات حقوق الانسان العالمية, وفي كتابات احتجاجية تصدر داخل الولايات المتحدة نفسها.
ألمانيا تعتبر جماعة بادر ماينهوف ارهابية, واسرائيل في حالة حرب شرسة مع ما يمثّل السيدان عبيد والديراني وما ينتميان اليه, وأمريكا تسعى لتبرير نظام غوانتانامو بالقول ان التحقيق لم ينته وان التهديدات الموجهة اليها لم تنته, إلا أن تبريراتها تفقد شيئاً من حجتها الاقناعية يوماً بعد يوم.
الحبس المديد الانفرادي لم يدفع رياض الترك إلى الجنون ولم يحمله على الصمت حين استعاد القدرة على الكلام. والارجح ان المزعج في ما قاله هو صحته! والا فما مبرر اعتقال واعادة اعتقال رياض ورفاقه النائبين مأمون حمصي ورياض سيف والاقتصادي عارف دليلة? المزعج انه بعيد صدور الاحكام عليهم انهار سد زيزون وأغرق الزرع والضرع. كان ذلك رمزياً لأن "سدوداً" أخرى كانت قد انهارت قبلاً, سدوداً تتعلق بمناحي الحياة المختلفة, الاقتصاد والاجتماع والسياسة.
لا تجري المعركة إذاً حول نطاق الموجود في الواقع, بل حول ما يقال وما لا يقال. هكذا يحدث تعميق حالة الانفصام بين ما هو قائم ويعرفه الجميع من ناحية, وبين الكلام العلني من ناحية ثانية. هكذا تغادر اللغة معناها, وتتأسس لغتان, واحدة معرفية, الا انها ضمنية, واخرى متداولة. اما اذا خرج من يعيد التطابق بين الواقع والقول, بين اللغة ومعناها, فتلك هي الجريمة!
يهدف اعتقال رياض الترك ورفاقه الى تكريس حالة الانفصام هذه. التدبير ليس موجهاً اليهم فحسب, ولا الى علاقاتهم وأوساطهم ومن يتأثر بهم. انه تعيين لاصول السلوك اليوم, لحدود ما هو ممكن ومتاح وما هو ممنوع ويقع تحت طائلة الزجر. ولا يهم في ذلك ان كانت حدود تلك الميادين غير مطابقة للواقع وحاجاته ولا هي مطابقة لأية رؤية تتعلق بالآفاق, بإمكانات اصلاح الواقع والخروج من المأزق.
إلا ان ذلك يثير مشكلة اخطر من مشكلة اعتقال الناس تعسفياً واخضاعهم لأنماط مختلفة من النفي خارج الزمن. إنها مشكلة وقوع من يمارس ذلك, هو نفسه, خارج الزمن. فالوقائع عنيدة كما يقال, وهناك نصف مليون عامل سوري في لبنان, الجائع أصلاً, وهناك انهيار سد زيزون, وهناك الانحسار المتسارع للهامش الذي كان يتيح التلفت - ولو اللفظي - من الانضواء تحت سقف الموقف العربي الإجماعي, وهو سقف تنخفض امكاناته باستمرار ويقاتل تراجعياً, بينما تمتلك اسرائيل زمام المبادرة, مدعومة من الولايات المتحدة دعماً لم يسبق له مثيل.
يستحق الوضع العربي إجمالاً, عوض المعاندة المتمثلة بكمّ الأفواه ومنع القول, أن تُعلن فيه حالة طوارئ مصيرية وان يدعى إلى القول رياض الترك وعارف دليلة وكل من لديه, ربما, فكرة أو اقتراح. ثم انه, وكما لانهيار سد زيزون مسئولون يُحاسَبون, فان لانهيار سائر السدود مسئولين أيضاً. وكل المسألة, في شأن رياض الترك, ان هناك من لا يرغب في الاعتراف بذلك, ولو على حساب الزرع والضرع.