عند ما يساوي فنجان القهوة سنتين ونصف السنة سجنا!

الطاهر ابراهيم
باسم الشعب السوري(!) جرمت محكمة أمن الدولة، برئاسة فائز النوري، في يوم الأربعاء 26 حزيران الماضي، رياض الترك ( 72 عاما) بجناية الاعتداء علي الدستور، وجناية إثارة العصيان المسلح، وجناية وهن نفسية الأمة، وجنحة النيل من هيبة الدولة، وحكمت عليه بالسجن 15 عاما ثم خففت الحكم إلي سنتين ونصف مع حرمانه من الحقوق المدنية.
هذه الكلمات مقتبسة من مجموع الصحف ووكالات الأنباء التي نشرت خبر الحكم الذي صدر،عن محكمة أمن الدولة في دمشق، بحق المحامي رياض الترك. وقبل أن نستطرد في التعليق علي جملة الموضوع، نستعجل ونعلق علي الأسباب الموجبة لهذا الحكم،التي لفتت الانتباه بحركتها الصاخبة وألوانها المبهرة التي عمشت العيون. ولو أن شخصا ما، ليس لديه أي خلفية عن المحكوم عليه الترك لبادر فورا بالسؤال التالي: كم هو عدد الألوية المدرعة التي تدين بالولاء لهذا المتهم وكم سربا من أسراب الطائرات العسكرية، تأتمر بأمر هذا المتمرد الذي استحق أن يتهم بهذه الجنايات كلها؟.
ويكفي للرد علي هذا السؤال أن نذكّر بأن هذا المتمرد رجل سبعيني ، قضي ربع عمره في سجون النظام الحاكم في سورية، بدون محاكمة، وأخلي سبيله بعد أن قهرت جسمه مجموعة الأمراض المستعصية،التي كانت بعض موروثات زنزانته العتيدة. ولقد ظن سجانوه أن هذه الأمراض كفيلة بإخراس صوته بعد أن أوشكت أن تكتم أنفاسه، فرؤي أن من الحكمة أن يحمل إلي قبره من بيته بدلا من سجنه.ولأن الأعمار بيد الله وكذب المنجمون ولوصدقوا. ولأن الجسم المنحول كان يستمد قوته من عناد النفس التي تسكن هذا الجسم، فقد أبي الترك أن يجلس في بيته ينتظر قدره، الذي اعتقد سجانوه أنه بات قاب قوسين أو أدني، وأبدي نشاطا ملحوظا من خلال منتديات المجتمع المدني مما جعل النظام الحاكم يخشي أن تتحرك الأمواج الكامنة في نفوس الشعب السوري وأن يحدث ما لا يحمد هذا النظام عقباه.
ونود في هذه العجالة أن نسلط الضوء علي بعض المسميات التي وردت في المقدمة أعلاه، ونضعها ضمن إطار واحد، ليزول الإبهام وتتضح الصورة أمام المتابع لأخبار المحاكمات التي جرت وتجري بحق الترك ورفاقه.
الشعب السوري: مجموعة من البشر تنتمي إلي الشعوب العربية المقهورة، ويعيش ضمن حدود سورية كما رسمها المستعمر الفرنسي. وقد اعتبرحزب البعث الحاكم أن هذا الشعب غير مؤهل لقيادة نفسه، فحصر هذه الأهلية بالبعثيين فقط، وقد جاء ذلك في المادة الثامنة من الدستور الحالي التي تنص علي أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع . ورغم غني سورية بثرواتها الزراعية والنفطية فإن 80% من هذا لشعب يعيش تحت خط الفقر،فمتوسط راتب الموظف،الذي يعيل أسرة قد يجاوز عدد أفرادها عشرة أشخاص، هو 6000 ليرة سورية أي ما يعادل 120 دولارا فقط بما في ذلك الزيادات التي طرأت مؤخرا علي رواتب الموظفين.وقد ساهم في تدني دخل المواطن السوري، اتباع سياسات اقتصادية خاطئة طيلة أربعين عاما تم فيها ضمور الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل دعامة الاقتصادالسوري، وهربت الرأسمالية الوطنية المنتجة ليحل محلها طبقة متسلقة مستغلة نمت كما تنمو النباتات الطفيلية بعد أن تغلغلت في مفاصل الحكم. أما سياسيا فإن هذا الشعب لا يكاد يحس بوجوده إلاعند الاستفتاء عليمنصب رئيس الجمهورية،مع علمهم أن أجهزة الحاسوب في وزارة الداخلية مبرمجة لإظهار النسبة 99.99% فقط. ولملء المساحة الفائضة من الوقت لدي هذا الشعب، بسبب البطالة المتفاقمة، فقد أوكل حزب البعث هذا الأمر إلي أجهزة الأمن المتوفرة بكثرة في سورية، فقامت بالمهمة بجدارة واقتدار، واستحدثت الموافقات الأمنية التي ألزمت المواطن بالحصول عليها لأي نشاط يرغب به، فهناك موافقة أمنية للوظيفة غير المتوفرة أصلا،وموافقات أمنية لوكالات البيع والشراء، أما وثائق السفر فحدث ولا حرج، فرغم صدور قرار وزير الداخلية الذي قضي بتسهيل منحها وحصرها بإدارة الهجرة فقط، فإن عدد المنوعين من السفر أمنيا يتجاوز عشرات الآلاف، وقد ألزمت أجهزة الأمن القنصليات السورية بالعودة إليها في كل شيء
أو هكذا يقول مندوبو تلك الأجهزة في هذه القنصليات حتي أن المواطن السوري الذي يسعي لاستخراج قيد نفوس لبنت أخيه المغترب سوف يجد أن موظف النفوس لا يستطيع منحه هذه الوثيقة إلا بعد العودة إلي أجهزة الأمن التي ترسل من يقوم بالتحقيق في مسقط رأس الأب (لا رأس البنت الذي سقط في المهجر).
محكمة أمن الدولة: محكمة استثنائية أنشئت في سورية بموجب قانون الطوارئ الصادر عام 1963 بعد انقلاب آذار،وهذا القانون وتلك المحكمة فقدا شرعيتهما
هذا إذا كان لهما أية شرعية بعد الاستفتاء في عام 1973 علي الدستور الحالي الذي فصّله حزب البعث علي مقاسه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لمَ عدلت السلطات السورية عن محكمة الجنايات المدنية التي حوكم أمامها النائبان المستقلان في مجلس الشعب رياض سيف ومأمون الحمصي وحكم عليهمابالسجن خمس سنوات لكل منهما إلي محكمة أمن الدولةالاستثنائية؟. والجواب واضح وبسيط فإن واحدا من القضاة الثلاثة الذين أشرفوا علي محاكمة النائبين الحمصي وسيف خالف القاضيين الآخرين وسجل وجهة نظره في نص محضر الحكم، واعتبر أن التهم الموجهة إلي النائبين المذكورين لا تقع تحت قائمة الجرائم، لأن هذه التهم التي اعتبرها النائب العام جريمة يعاقب عليها القانون قد تكون في عهد آخر تمثل غاية في الوطنية وممارسة الحق الذي كفله الدستور. وخوفا من أن يتكرر هذا الموقف أحيلت قضية الناشطين الثمانية ومنهم الترك إلي محكمة أمن الدولة المضمونة النتائج.
فائز النوري: صاحب تاريخ مشهود له بإصدار أحكام الإعدام علي معارضي النظام في سورية وقد أنعمت عليه القيادة السورية فعينته في عام 1980 عضوا في اللجنة المركزية لحزب البعث الحاكم، وقد تم مؤخرا نفض غبار الإهمال عنه بعد أن كان من الكوادر المنسية في حزب البعث. وقد حاول النوري أن يبدي بعض الانفتاح أثناء محاكمات رياض الترك وزملائه، فسمح للصحافة ورجال السلك الدبلوماسي بحضور هذه المحاكمات إلا أن قيادات حزبية نبهته أنه في سورية وليس في بلد أوربي، فأقفلل باب المحكمة إلا أمام مندوب وكالة الأنباء السورية سانا .
رياض الترك: الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي ) صاحب رأي حر ومواقف مشهود له بها، وقف في وجه حزب البعث عام 1980 وانتقد بصراحة، الأسلوب الأمني الذي يتم به معالجة الأوضاع في سورية أثناء تصاعد الصدامات بين بعض الإسلاميين وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد
شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وأصر الترك في حينها، أنه لا بد من العودة بالبلاد إلي الديموقراطية، المغيبة منذ عام 1963،أذا أريد تجنيب سورية حمامات الدم التي كانت تخطط لها أجهزة أمن النظام السوري، فأودع زنزانة الاعتقال ليبقي فيها مدة 17 عاما بدون محاكمة. وفي عام 1997 أطلق سراحه بعد أن انهكه المرض الضال. أثار رياض الترك حفيظة البعثيين السوريين عندما كتب مقالة تحت عنوان حتي لا تكون سورية مملكة للصمت . كما أنه انتقد الطريقة التي تم بها تعديل الدستور السوري في 10 حزيران 2000م غداة وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد (تم التعديل ليصبح السن القانوني للمرشح لمنصب رئيس الجمهورية 34 عاما عمر الرئيس بشار الأسد عند التعديل بدلا من 40 عاما ). وكانت ثالثة الأثافي، قوله في اتصال هاتفي مع قناة الجزيرة في آب من عام 2001 م، مات الدكتاتور وهو يعني الرئيس السابق حافظ الأسد.
هوامش وتعليقات: 1
هل كان البعثيون يتوقعون أن يقف رياض الترك في ساحة الأمويين في دمشق ويهتف للرئيس السابق حافظ الأسد الذي سجنه 17 عاما بدون محاكمة بالروح بالدم نفديك يا حافظ؟ وقد فعلها أقرباء وأصدقاء النائب مأمون الحمصي في الشارع المجاور للمحكمة التي كان يحاكم فيها الحمصي، فجلدوا ذواتهم وهتفوا بالروح بالدم نفديك يا بشار، فلم يشفع لهم ذلك، ولم يمنع هذا الهتاف القاضي من إصدار حكم السجن 5 سنوات بحق مأمون الحمصي.
2
يقول واحد من أصحاب الدعابة إن الحكم الذي أصدره النوري سنتين ونصف بحق الترك يعتبر مخففا إذا قورن باعتقاله الأول الذي دام 17 عاما من دون محاكمة.
3
ذكر أحد أعضاء هيئة الدفاع أن الترك نقل لهم أجواء إيجابية عن لقائه مع رئيس محكمة أمن الدولة فائز النوري الذي دعاه إلي فنجان قهوة بعد أن أصدر الحكم بحقه، ويا له من فنجان قهوة يساوي سنتين ونصف السنة سجنا!.
4
وكأنما أراد النوري أن يضيف إلي فنجان القهوة بعض السكر الذي يعاني الترك من تفاقمه عندما أسر في أذنه بأن هناك عفو رئاسي، عن الترك و زملائه التسعة الآخرين، سيصدر بعد الفراغ من صدور الأحكام عليهم جميعا، ولماذا هذه الشدة يا عبد الله؟ هلاّ تم ذلك قبل المحاكمة؟ وكفي الله المعتقلين شر المحاكم، أم أن المكرمة الرئاسية تكون أحلي بعد إصدار الأحكام.
5
أخبر الترك مجموعة محامي الدفاع عند زيارتهم له في سجنه بعد صدور الحكم عليه أن حبيب صالح يعاني من قسوة الحكم ثلاث سنوات الذي صدر بحقه قبل صدور الحكم علي الترك وأردف هذا الأخيرأنه لا يري مانعا في أن تضم فترة سجن صالح إلي فترة سجنه وصدق من قال:
إذا اعتاد الفتي خوض السواقي
فأهون ما يمر به الوحول
عود علي بدء:
وقعت في سورية، منذ استقلالها عن فرنسا، انقلابات كثيرة نجح بعضها وفشل كثير منها، وما نجح منها كان بعضه انقلابا أبيض تم فيه تغيير الحكم بدون إراقة دماء مثل انقلاب حسني الزعيم في آذار 1949علي الرئيس شكري القوتلي المنتخب دستوريا، ومنها ما أعقبه إهراق دماء مثل انقلاب سامي الحناوي في آب 1949علي حسني الزعيم حيث تم إعدام الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي. وجميع الانقلابات كان الدافع الرئيسي إليها حب السلطة. فالذي ينجح في انقلابه كان ينادي عليه: ب (البطل القومي ومخلص البلاد من جور الطغمة الفاسدة..إلخ )، أما قائد الانقلاب الفاشل فكان ينعت ب( الخيانة والعصيان المسلح والاعتداء علي الدستور و..إلخ )، وهذان القائدان (الناجح منهما والفاشل) وجهان لعملة واحدة، وليس من فرق بينهما إلا ما كان من نجاح هذا وفشل ذاك. بل نزيد أمرا آخر وهو أن بعض قادة الانقلابات، كثيرا ما كانوا يدا واحدة علي القائد المطاح به مثل حسني الزعيم وسامي الحناوي عندما أطاحا بشكري القوتلي، ثم انقلب الحناوي علي الزعيم وأعدمه رميا بالرصاص كما أسلفنا، أما اللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد فقد كانا شريكين في انقلاب 23 شباط 1966 ضد حكومة البعثيين القوميين التي كان يرأسها الفريق أمين الحافظ، وبعدها قام حافظ الأسد، بحركته التصحيحية في عام 1970، وانقلب علي رفيق دربه صلاح جديد وأودعه السجن الذي لم يخرج منه إلا إلي قبره بعد 25 سنة. فإذا كان الطريق قد وحد بين قادة الانقلابات ابتداء، فقد فرق بينهم تنافرمصالحهم. وإذن فلا معني لوصف بعضهم بالوطنية والبعض الآخر بالخيانة، والفارق بينهما نجاح انقلاب أحدهما وفشل انقلاب الآخر. وإذا كان ذلك كذلك في الانقلابات التي جرت الويلات علي البلاد والعباد، فكيف نقبل إذن من النائب العام في محكمة أمن الدولة أن يتهم الترك ، الذي لم يشترك بأي انقلاب ناجح أوفاشل، بجناية الاعتداء علي الدستور، وجناية إثارة العصيان المسلح، وجناية اضعاف نفسية الأمة، وجنحة النيل من هيبة الدولة؟. فأي عصيان مسلح من رجل أوهنه المرض، وأي اعتداء علي الدستور من رجل عبر عن احترامه لهذا الدستور ورفض أن يتم تعيله بدون أسباب موجبة، وأعلن صراحة عن رأيه، من خلال أقنية إعلامية، وتحت سمع النظام السوري وبصره. أما جناية وهن نفسية الأمة، فالترك هو الذي أوهنت نفسه من كثرة الاعتقال.
وإذا من نتيجة واضحة فهي أن كل هذه التهم،في حقيقة الأمر، لا تعني إلا شيئا واحدا وهو: أن الذين ترسخوا في مفاصل صنع القرار خلال أكثر من ثلاثة عقود وعملوا علي زرع الخوف في نفوس الشعب السوري، قد أفزعهم ما ورد في خطاب القسم من وعد بإشاعة الجو الديموقراطي، وخافوا أن يوضع ذلك موضع التطبيق، فسعوا إلي إعاقة عجلة الإصلاح الذي نادي به الرئيس الدكتور بشار الأسد. وكأني بهم قد حسبوا ألف حساب، عندما سمعوا رياض الترك، وهو يقول إن المصالحة الوطنية لن تكون إلا علي أساس رد المظالم إلي أهلها وإشاعة العدل . فخافوا علي أنفسهم سوء العاقبة وهم أعلم الناس بما فعلوا. علما أن دعوة الترك تعني المصالحة لا الانتقام، وأن تعاد لهذا الشعب حريته المسلوبة وحقه في أن يختار نظام الحكم الذي يرغب به من خلال صناديق الاقتراع لا من خلال الانتقام الذي يتنافي مع الدعوة إلي المصالحة الوطنية، فهل يعي ذلك من بيدهم القرار قبل فوات الأوان.
ہ باحث من سورية يقيم في السعودية