د. لطيفة حسين الكندري د. بدر محمد ملك
د. لطيفة حسين الكندري د. بدر محمد ملك
التربية الإسلامية تربية ربانية المصدر
بعض القواعد الإسلامية في تربية الطفل
القواعد الفقهية ودورها الإرشادي
للتربية جملة من المقومات والقواعد الدينية التي تنظم وتوجه الإطار النظري والعملي في مجالات التربية والتعليم. لا شك أن الأصول الدينية أقدم وأهم الأصول منذ فجر التاريخ الإنساني لكل من يتبع ديناً من الأديان. حري بنا في هذا المقام أن نشير إلى فرق جوهري بين كلمة الدين في الثقافة العالمية وبين الدين في الإسلام. الدين في الإسلام كلمة تشمل على العقيدة بفروعها والشريعة بشمولها. جاء الدين لينظم حياة الإنسان فالإسلام منهج حياة يسع الفرد والمجتمع والأمة أما في الثقافة العالمية اليوم فإن كلمة الدين محصورة في نطاق ضيق إذ تقتصر معظم معانيها على الشعائر الدينية الخاصة بطقوس العبادة والتي غالباً تمس حياة الأفراد الخاصة فقط.
الإنسان كائن اجتماعي متدين بالفطرة يحتاج إلى الدين لروحه وحياته كما يحتاج الماء والهواء لبدنه هذا هو محور وجوهر الإسلام إذ أنه منهج حياة ينظم للمرء علاقاته مع ربه ومع نفسه ومع المسلمين ومع الناس أجمعين، ويحدد له إجمالاً كيف يعيش في هذا الكون الفسيح بسلام. من هنا تصبح الأصول الدينية صلب ولب المجالات التربوية والتعليمية في السياق الإسلامي.
يميل الكثير من الباحثين المسلمين إلى قبول تعريف محمد دراز للدين حيث يرى أن الدين "وضع إلهي يرشد إلى الحق من الاعتقادات والخير في السلوك والمعاملات" (الفرت، قلعجي، 1983م، ص 15، السمالوطي، 1981، ص 46). الدين هو "الإيمان بذات إلهية، جديرة بالطاعة والعبادة". هذا إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو حالة نفسية بمعنى التدين، أما إذا نظرنا إليه كحقيقة خارجة فنقول: "هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها"[1].
يُعرف سترنغ Streng الدين مبدئياً بأنه نظام يقود الإنسان إلى فهم مسائل مصيرية تواجهه -مثل قضية المعصية والجهل- من أجل التغلب على مشكلات الحياة (ص 2). من منظور أنثروبولوجي يرى تايلور الدين بأنه "يتضمن في الأساس عقيدة ومؤسسات تتجه نحو الأرباب أو المتفوقين من البشر مثل الأسلاف Ancestors أو أرواح الطبيعة" (ميشيل مان، 1994، ص 599).
في التصور الإسلامي مثل هذا التعريف وغيره فيه خلط للأديان السماوية بالمذاهب الوضعية ولأن الفكر الغربي المعاصر يقوم على النزعة اللادينية "العلمانية" Secularization فإن التعريفات الغربية للدين غريبة في معظمها لأنها قائمة على إنكار وجود مصدر إلهي. يؤكد إميل دوركايم على أن الدين إفراز للتفكير الجماعي المتأثر بتفاعلات المجتمع المحيط بالفرد ( p. 29 , .(Durkheim 1979
يؤكد فرويد في كتابه مستقبل الوهم The Future of an Illusion على أن الدين وهم اخترعه الإنسان ويقول إنه سيكون حقاً متعة لنا إذا آمنا بوجود إله خلق الكون وأن هناك أنظمة أخلاقية في الحياة ولكن الحقيقة المدهشة هي أننا نربط أنفسنا بما نتمنى (ص42). وعليه فإن الدين ليس إفرازاً واختراعاً اجتماعياً كما ذهب دوركايم ولكن البعد النفسي هو الذي أفرز الدين في حياة الأمم عبر العصور كما يزعم فرويد. من الحقائق الثابتة التي لا شك فيها أن الفكر الغربي فيه الكثير من المتناقضات ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود مرجعية واحدة كمصدر ينطلق منه ويتفق عليه المفكرون فلذلك يقع التناقض في أبسط المسائل إذ أن كتبهم المقدسة لم تعد مصدراً للمعرفة لما فيها من تناقضات علمية وتاريخية في رأي الكثير من علمائهم. يُطالب الأمير تشارلز -أمير ويلز- الغرب بضرورة التعلم من تعاليم الإسلام فيقول أن الناس في كل مكان يتعلمون اللغة الإنجليزية ولكننا في الغرب في المقابل بحاجة إلى أن نتعلم من المعلمين المسلمين كيف نتعلم بعقولنا وقلوبنا (The Time, 1996, p. 18). وفي مكان آخر يؤكد تشارلز على أن الإسلام يستطيع أن يعلمنا كيف نفهم ونعيش في الحياة (Dimbleby. 1994, P. 542).
ينظر الفكر الغربي للأديان عادة كطقوس وشعائر تغطى جزءً من حياة الإنسان ولكن الإسلام كما يقول حتى غير المسلمين مثل لويس (Lewis, 1993, p. 4) دين يشمل الحياة كلها. من خلال تتبع بعض دراسات وكتابات الأنثروبولوجي الأمريكي جيرتز (Geertz) الذي درس مدينتين إسلاميتين لأكثر من أربعين سنه نجد أن الإسلام الصافي هو ليس مجرد طقوس وشعائر ولكنه في أصله وفي نظر المسلمين دين يربط الفرد بالمجتمع ومنظماته أي أنه ليس مجرد اعتقادات.
يفكر الإنسان دائما وأبدا بحقيقة الحياة الدينية فتارة يهتدي إلى الله عز وجل من خلال الرسل وأخرى يُعرض عن الحق بتكذيب الرسل. قال تعالى "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)" (سورة البقرة).
يقول المختصون بعلم الأديان أنه قبل ظهور المجتمعات الشيوعية في العصر الحديث لم نكن نعرف مجموعات بشرية لا دين لها. فهل الشيوعية بلا دين لأنها لا تؤمن بالغيب؟ الشيوعيون لهم "دينهم العلماني"، فهم يقدسون بمشاعرهم وتصرفاتهم عقيدة ماركسية ترمي إلى إعطاء الحياة معنى وليس هناك مجتمع شيوعي بغير طقوس عبادة فهم يقومون بتمجيد روادهم والإيمان بكتبهم وآرائهم (Kluckohn, 1979). إن أخلاق الأمم وعاداتها وفلسفتها تتأثر تأثيرا جذريا بالدين الذي يعتنقه المجتمع ويصبغ ثقافته.
الضرورات الخمس أسس يجب أن تحققها التربية الإسلامية. وتسمى أيضاً الكليات والبدهيات الخمس والأصول الخمسة المعتبرة. جاء الإسلام في كل تعاليمه ليحفظ الضرورات الخمس وهي تنحصر في دائرة:
الدين.
والنفس.
والعقل.
والمال.
والنسل.
يجب أن يحفظ النظام التربوي في الإسلام على دعائم تلك الضرورات العليا ومن هنا قال الأصوليون "المقاصد تحكم الوسائل" أي أن المقاصد الخمسة التي ذكرناها آنفا ينبغي أن تكون غاية تتوجه نحوها جميع الوسائل وجميع الوسائل المنافية لها تُعتبر وسائل باطلة. يقول الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضرورات الخمس" (ج1 ص 15). قال أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى "مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَنَفْسَهُمْ وَعَقْلَهُمْ وَنَسْلَهُمْ وَمَالَهُمْ، فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الأصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الأصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ. وَهَذِهِ الأصُولُ الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورَاتِ، فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ وَمِثَالُهُ: إِيجَابُ حَدِّ الزِّنَا إذْ بِهِ حِفْظُ النَّسْلِ وَالأَنْسَابِ، وَإِيجَابُ زَجْرِ الْغُصَّابِ وَالسُّرَّاقِ إذْ بِهِ يَحْصُلُ حِفْظُ الأمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَعَاشُ الْخَلْقِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَيْهَا. وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِ الأصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلاحُ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ" (باختصار).
وحول الأصل الثاني (حفظ النفس) فإن التربية تعلم المسلم حرمة دماء الناس وتعظم حقوقهم وأن حتى الجنين في بطن أمه له حق الحياة الكريمة وأن ليس من حق أحد أن يقرر إجهاض الجنين من غير مبرر صحي وجيه وقاهر يقدره الطبيب الأمين. وجاء الدين لحفظ العقل من الملوثات المادية والمعنوية فحرم المسكرات والخرافات وكل ما من شأنه أن يهين العقل. والتربية الإسلامية تبصر الناس بالحلال والحرام في المعاملات المالية لحفظ أموال الناس التي فيها قوام معيشتهم ويحرم على المسلم سوء استغلال أموال الفقراء واليتامى والضعفاء فأكد التشريع على الزكاة والصدقات وحرم الربا. وحول الضرورة الخامسة فإن التربية الإسلامية من خلال التشريعات جاءت صارمة في حماية الأنساب من الاختلاط والضياع فحرم الإسلام الزنا وقطع الطريق على كل أمر من شأنه تقويض جدار العفة في البيوت الكريمة. على التربية الإسلامية من خلال مؤسساتها المتنوعة أن تعمل جاهدة في جعل الزواج نواة المجتمع المسلم العفيف بتصرفاته والشريف بقيمه. إن ترسيخ هذه الضرورات الخمس هي سبيل الأمم إلى حضارة قوية متقدمة وكلما انفرط عقد هذه الضرورات كلما تمزقت وسقطت المجتمعات.
من خلال قراءة واعية لأحكام الشريعة استطاع علماؤنا في القرن الثالث الهجري بلورة الكليات الخمس. "هذه الكليات يمكن أن ننظر إليها نظرة جديدة فنتخذ منها مرتكزات ومحاور لتنشئة أطفالنا التنشئة الاجتماعية الصحيحة، فهي تشكل بحق المنطق العام في بناء الوعي الاجتماعي، وفي بناء الإطار المرجعي للضبط الاجتماعي لأمة الإسلام" (بكار، 2001 م، ص 123). فالمسلم عليه أن يحافظ على دينه ونفسه وعقله وصحته وسلامه غيره ولقد جاءت الشريعة السمحة بجملة من الآداب لتحقيق تلك الكليات. "من هذا المنطلق تأتي أهمية المهارات الحياتية باعتبارها مهارات أساسية لا غنى عنها للفرد ليس فقط للإشباع حاجاته الأساسية من أجل مواصلة البقاء ولكن أيضا من أجل استمرار التقدم وتطوير أساليب معايشة مواقف الحياة اليومية" (عمران, والشناوي, وصبحي, 2001, ص 10).
إن تعليم المهارات الحياتية في أسسها ونتائجها تلتقي مع مقاصد الكليات المذكورة. يحذر المتخصصون في الذكاء العاطفي من النتائج الوخيمة لإهمال تدريس المهارات الحياتية مثل التعاطف مع الآخرين، وضبط النفس، والوعي بالذات، وفن الاستماع وحل الصراعات، والتعاون. مناهج التعليم يجب أن تتضمن بصورة واضحة أهدافاً تسع غرس المهارات الضرورية للطفل فلا نترك أمر تعليمها لعامل المصادفة (غولمان، 2000 م، ص 14).
من الجدير بالذكر أن هذه الضرورات نطاقها ومقاصدها أوسع من تربية الفرد والمجتمع بل ينبغي أن تهيمن على السياسة الدولية للأمة المسلمة. لقد أناط التشريع الإسلامي تحقيق المصالح العامة بالدولة، وسلطاتها، ومؤسساتها، ممثلة في جهاز الحكومة وموظفيها على اختلاف مراتبهم وتنوع اختصاصاتهم.
هناك مصالح ضرورية، أو مقاصد عامة أساسية، تعتبر "مفاهيم دستورية" ومباني تشريعية تتفرع عنها أحكام تفصيلية، نصاً أو دلالة، تنزل بتلك المفاهيم الكلية من أفقها التجريدي إلى مواقع الوجود عملاً، وهي راجعة إلى مصالح الأمة، أفراداً وجماعات، بحيث تغطي كافة حاجاتهم ومطالبهم الأساسية. وهذه المقاصد العامة الأساسية هي: الدين، والنفس، والمال، والعقل والنسل (العسلي، 2001 م). من القواعد التي يؤكد عليها ابن تيمية ولمرات عديدة في كتابه الفتاوي "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها" (فصل جامع في تعارض الحسنات أو السيئات).
من أخص مميزات التربية الإسلامية وأهدافها أنها تسعى لإيجاد الإنسان الإيجابي الذي يكون عنصراً صالحاً مُصلحاً فاعلاً أينما كان وفي أي بلد سكن وأن يحسن إلى الناس جميعاً وليس للمسلمين فحسب لقوله صلى الله عليه وسلم "اتق الله حيثما كنت…" "وخالق الناس بخلق حسن" لقد نجحت التربية اليونانية في إيجاد المواطن الصالح في أسبرطة ولكن أولئك الجنود عندما تنازعوا مع أثينا – وهم أهل وطن واحد- فإنهم حاربوها دون هوادة فهم أخيار في وطنهم أشرار مع الآخرين وإن كانوا جيرانهم.
قال تعالى في سورة التحريم "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6) ". هذه الآية الكريمة من أصول التربية الإسلامية وهي تدل على المسئولية الفردية والجماعية في التربية وخاصة تربية الناشئة. والحقيقة الثانية التي يمكن أن تُستنبط من الآية الكريمة أن الأسرة أساس التربية الناجحة. لا يمكن للمسلم أن يقوم بالتكاليف الشرعية بالشكل المطلوب منه في باب الاعتقاد والعبادات والمعاملات إلا من خلال منهاج تربوي واضح المعالم يستمده من أسرته.
وعن هدف التربية القرآنية تحدثنا الآية الكريمة في سورة البقرة قائلة "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)". وهنا يتجلى مفهوم الإيمان إذ هو إيمان بالخالق، وصدق مع النفس، وإحسان للناس.
التربية الإسلامية تربي الإنسان المسلم الذي يعبد ربه ويطيعه ويساهم في عملية التفاهم بين القبائل والأجناس قال تعالى في سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)". وما ذلك إلا لأن الرسالة الإسلامية رسالة عالمية ورسولها هو مشعل هداية وشمس حكمة للإنسانية "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)" ( سورة الأنبياء). في عام 1938 قرأ المهاتما غاندي طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة فكتب:
"إن كلمات النبي محمد المأثورة كنوز إنسانية" (Al-Suhrawardy, 1995) وهكذا فإن البعد الإنساني العالمي من ركائز التربية الإسلامية.
التعليم الديني هو الجانب العملي للتربية الإسلامية وله منهاجه الخاص وهدفه الواضح لتحصيل العلوم الشرعية وما يتصل بها من علوم أخرى. التربية الدينية هي تلك "العملية" التي نستهدف من خلالها تزويد المتعلم بالقدر الضروري من الثقافة الدينية وتوجيه سلوكه وتشكيله وفقا لما يقرره الله سبحانه وتعالى في كتبه المقدسة، أما التعليم الديني فهو ذلك "النظام" الذي يضم عددا من المؤسسات التي تقتصر على تعليم طلابها العلوم الدينية المختلفة وما يتصل بها من علوم أخرى. غرض التعليم في المدارس الإسلامية هو تزويد التلاميذ بالقدر الكافي من الثقافة الإسلامية، وإلى جانبها المعارف والخبرات التي يتزود بها نظراؤهم في المدارس الأخرى المماثلة، ليخرجوا إلى الحياة مزودين بوسائلها، وإعدادهم الإعداد الكامل للدخول في كليات الجامعة، ولتتهيأ لهم جميعا فرص متكافئة في مجال العمل والإنتاج" (علي، 1998، ج2، ص 552).
وترى طائفة من الباحثين التربويين أن مدارس التربية الدينية تهدف إلى تهيئة الطالب في سن البلوغ كي يكون مستعدا لمواجهة متطلبات الحياة وتكوين الأسرة المسلمة (الدكتور أبو هلال وآخرون، 1993، ص 493).
في هذه الحياة لا نجاة ولا نجاح إلا بالعمل ولا عمل بلا علم فلا يستقيم الإنسان على نهج الحق إلا بالعلم الذي يهدي له. لهذا فإن تعظيم مكانة العلم من أهم معالم ديننا الإسلامي الحنيف. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ. وعن الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ (رواه الترمذي في سننه، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي حديث آخر قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ قَالَ: لا. قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ قَالَ: لا. قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ إِنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (رواه الترمذي في سننه، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
يهدف التعليم الديني إلى:
"توثيق صلة الطالب بكتاب الله تعالى وسنة رسولة صلى الله عليه وسلم بما يعينه على فهم القرآن الكريم والسنة النبوية وأهدافها.
تربية الطالب تربية صالحة عمادها صحة العقيدة وسلامتها وأساسها التوازن بين الحياتين الدنيا والآخرة.
تربية الطالب تربية سليمة تجعله واضح العلاقة في تعامله مع الآخرين بحيث يكون قدوة صالحة لهم في سلوكه.
تربية الطالب تربية تساعده على بناء شخصيته الإسلامية.
إعداد الطالب إعداداً يمكنه من أن يكون ذا ثقافة واسعة في علوم الدين والحياة"[2].
رغم وجود مجموعة من الدراسات الإسلامية الجادة إلا أن الساحة التربوية الإسلامية المعاصرة بحاجة للمزيد من الدراسات الموضوعية الفاعلة. يقول د. صلاح الدين أرقه دان (2002 م) "لم تأخذ العملية التربوية في الإسلام حتى الآن نصيبها من الدراسة الجادة القائمة على نظرة موضوعية تبحث في حقيقة هذه العملية التي حافظت على مسيرة الحضارة الإسلامية وكانت في نفس الوقت نتيجة من نتائج الالتزام الإسلامي، وجل ما كتب إما كان سطحياً يتعلق بتعريف بعض المصطلحات ويتطرق إلى أقوال المحتسبين والفقهاء أو يجمع النصوص المتعلقة بالحث على طلب العلم والتشجيع عليه، وإما أبحاث جزئية تتعرض إلى مقارنة بعض القواعد التربوية بما وصلت إليه التربية الغربية المعاصرة من منطلق الدفاع عن النفس والخروج من دائرة عقدة النقص أمام الغربي".
يقول البوطي (2002 م) "مناهجنا التربوية ... لا تزال مزقاً من نظريات أجنبية نقلت إلينا كما هي بعد أن صيغت بلسان عربي مبين أو غير مبين، دون أن يراعى أثناء نقلها الاختلاف الكبير بين طبيعة النفوس الأجنبية التي صيغت هذه النظريات على قدرها وطبق مزاجها ، وطبيعة النفوس المسلمة التي أشربت فطرة الإسلام ونشأت في كنفه ورعايته ، مهما بلغ تأثيره في المجتمع قوة وضعفاً! ومعلوم أن المناهج التربوية كما تؤثر في طريقة التعلم والسلوك، فإنها تتأثر هي الأخرى ـ عند نشأتها ـ بما هو راسخ في المجتمع من سلوك وفلسفة وطريقة في العلم والفهم. فلا ريب أن هذه المناهج لا تتناسق إلا مع المجتمع الذي نشأت فيه وتفاعلت معه".
التربية الإسلامية تربية ربانية المصدر
التربية الإسلامية تستند وتستمد خصائصها من طبيعة الدين الإسلامي الذي يمتاز بعدة خصائص منها الشمولية والواقعية والوسطية والمرونة والخلود.
وتتميز التربية الإسلامية بأنها تتمحور حول إلهية المصدر. وكون التربية الإسلامية ترتكز على مصدر إلهي فهذا يستلزم ثبات أصولها وأنها من عند الله فهي سالمة قطعاً من التناقض والنقص قال تعالى في سورة البقرة "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)" وقال سبحانه في سورة النساء "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82)". وتربية هذا شأنها لابد أنها تناسب البشر وكما قال الحق تبارك وتعالى في سورة الملك "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)".
ولقد أدرك هذه الحقيقة أعداء الإسلام منذ العهد المكي فهذا أحد صناديد كفار قريش يقر بأن القرآن يستحيل أن يكون من سجع الناس فيقول الوليد بن المغيرة عن القرآن الكريم "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
واليوم نجد المطران كينث كراق Cragg (1985) رغم تحامله على الإسلام يقول "القرآن المعجزة الدائمة للإسلام. هو الدليل النهائي للوحي في إثبات رسالة محمد. لغته العربية الفصيحة دليل على أن مصدره من الله" (ص 87). يُقرر كيت مور (Moore, 1990, p. 48) - العالم الكندي الشهير في علم الأجنة وبعد دراسات علمية مستفيضة - أن القرآن والسنة فيهما حقائق علمية في علم الأجنة إذ تحدثا عن مراحل نمو الجنين بدقة مما يدل على إلهية مصدره كما يؤمن بذلك المسلمون وغيرهم. يرى كيت مور أنه من المُستحيل لرجل قبل مئات السنين أن يعرف المراحل الجنينية (نطفة ثم علقة ثم مضغة..) فهذه التفاصيل لم تُعرف إلا في العصر الحديث بفضل التكنولوجيا المُتطورة.
ومن خلال تتبع التربية الإسلامية يدرك الباحث المنصف أن رجلاً أمياً مهما كان شأنه لا يمكنه أبداً أن يقدم نظاماً كاملاً للحياة بل حتى المجامع العلمية الضخمة لم تقدم منهجاً شاملاً للحياة يربي الرجل والمرأة والغني والفقير والكبير والصغير في أمورهم الصغيرة والكبيرة على مر الأزمان ولكل عصر ومصر. جاءت التربية النبوية لأمة جاهلية متهالكة تعيش في صحراء قاحلة فصنعت منهم أمة متميزة في عطائها الحضاري وما زال ذلك النبع الصافي يربي ملايين الناس على وجه الأرض دون أن تتبدل الأصول وفي ذلك كله دليل بيّن على أن مصدر هذا الدين من الله الذي خلق الخلق ومن رحمته أرسل لهم منهجاً يرشدهم للحق. قال تعالى في سورة المائدة "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا (3)".
من مقتضيات التوحيد وفق التصور الإسلامي أن يعتقد المسلم أن التشريع حق لله وحده وأن الطاعة لله وحده ولا يمكن لأحد أن يكون مصدراً لتشريع يخالف ثوابت الدين وذلك بأن يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله عز وجل. وعليه فمن مستلزمات الإيمان الصادق أن لا نعبد إلا الله سبحانه ولا نرجع في معرفة الحق والباطل، والحلال والحرام ومقاييس التربية إلا بما ورد به الشرع أو سار في ركابه.
يُستفاد من هذا أن المصدر الإلهي يُقدم على كل مصدر بشرى عُرضة للزلل مهما كان ذلك المصدر وبذلك فلا طاعة لمذهب أو حزب أو سلطان إذا كان كلامه يناقض المصدر الإلهي. ورد في مسند الإمام أحمد، مسند العشرة المبشرين بالجنة، عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
في دائرة التربية والتعليم تظهر شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالشق الأول من هذه المعادلة التربوية هو الأمر بالمعروف فنجد التربية الوقائية الداعية إلى أمهات العبادات وصالح العادات أما الشق الثاني المُتمثل في النهي عن المنكر فتتفرع منه أشكال التربية العلاجية الكفيلة بدرء المفاسد. ويهتم البُعد الثالث للعملية التربوية بالتنمية الشاملة وإحداث المواءمة بين طموحات الفرد وإمكاناته حسب المُعطيات البيئية. من خلال هذا البعد يلعب الإنسان دوره في عمارة الأرض وتطبيق مكارم الأخلاق. هكذا فإن التربية الفاعلة تعمل على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وتنمية الفرد والمجتمع بصورة شاملة ودائمة ومنهجية.
من شرف هذه المهمة الأصيلة- مهنة التربية والتعليم - أن الله عز وجل ميّز بها الأمة المُسلمة من بين سائر الأمم قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً فاستحقت لقبها القرآني الخالد " خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" إذا مارست دورها الريادي في التربية الوقائية والتربية العلاجية والتربية التنموية. قال تعالى في سورة آل عمران: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)". وإذا كان هذا شأن التربية والتعليم فإن مهمة عظيمة كهذه يجب أن تحوطها سياج من التعاليم المُكَونة لنواتها والكفيلة بنموها ألا وهي الأصول التربوية الإسلامية الكفيلة بحراسة مسيرتها وترشيد خطواتها.
شجعت التربية الإسلامية العديد من الوسائل التربوية لتهذيب الفرد والمجتمع وعلى رأسها التربية بالقدوة ولقد ترجم المصطفي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان خلقه القرآن. كان منهج التلقي عند الجيل الفريد يقوم على التعلم من أجل العمل فلقد روى الطبري في مقدمة تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن" (ج1 ص80). وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم العلم والعمل جميعاً وهذا الحال هو الأصل. وابن مسعود رضي الله عنه يصف ثمار التربية القرآنية في وصفه للصحابة فيقول عنهم "أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً".
كما أن التربية الإسلامية تركز على الوعظ والنصيحة والترغيب والترهيب والثواب والعقاب والمجادلة بالتي هي أحسن والقصة الهادفة والتربية بالأحداث والاستفادة من المواقف اليومية والتجارب النافعة والتدبر في البيئة المحيطة وتأمل التاريخ وإحياء الضمير "التقوى" والإقناع العقلي وتصويب الخطأ والتوبة وغيرها من الوسائل كأدوات للإصلاح والـتأثير في نفوس الناس عامة والمسلمين خاصة. كل تلك الوسائل وغيرها وضع الإسلام لها الضوابط كي تعمل في إطار تربوي فاعل ورأس تلك الأسس والضوابط الرفق في الأمر بقدر المستطاع دون ضعف أو لين وكما قال الحق سبحانه لنبيه في سورة آل عمران "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)".
تحتل الوصايا مساحة كبيرة من تراثنا التربوي. من الأمثلة الإسلامية في تربية الطفل ما ورد عَنْ رَجُلٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ القُرَشِيُّ الهَاشِمِيُّ[3]، قَالَ: رَأَيْتُ جَعْفَراً يُوْصِي مُوْسَى -يَعْنِي ابْنَهُ-: يَا بُنَيَّ! مَنْ قَنعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ، اسْتَغْنَى، وَمَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه، مَاتَ فَقِيْراً، وَمَنْ لَمْ يَرضَ بِمَا قُسِمَ لَهُ، اتَّهمَ اللهَ فِي قَضَائِهِ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ غَيْرِه، اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ نَفْسِه، وَمَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِه، انكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ، قُتِلَ بِهِ، وَمَنِ احْتَفَرَ بِئْراً لأَخِيْهِ، أَوقَعَهُ اللهُ فِيْهِ، وَمَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ، حُقِّرَ، وَمَنْ خَالطَ العُلَمَاءَ، وُقِّرَ، وَمَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ، اتُّهِمَ. يَا بُنَيَّ! إِيَّاكَ أَنْ تُزرِيَ بِالرِّجَالِ، فَيُزْرَى بِكَ، وَإِيَّاكَ وَالدُّخُوْلَ فِيْمَا لاَ يَعْنِيكَ، فَتَذِلَّ لِذَلِكَ. يَا بُنَيَّ! قُلِ الحَقَّ لَكَ وَعَلَيْكَ، تُسْتَشَارُ مِنْ بَيْنِ أَقْرِبَائِكَ، كُنْ لِلْقُرْآنِ تَالِياً، وَللإِسْلاَمِ فَاشِياً، وَللمَعْرُوْفِ آمِراً، وَعَنِ المُنْكرِ نَاهِياً، وَلِمَنْ قَطَعَكَ وَاصِلاً، وَلِمَنْ سَكَتَ عَنْكَ مُبتَدِئاً، وَلِمَنْ سَألَكَ مُعطِياً، وَإِيَّاكَ وَالنَّمِيْمَةَ، فَإِنَّهَا تَزرَعُ الشَّحْنَاءَ فِي القُلُوْبِ، وَإِيَّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِعُيُوْبِ النَّاسِ، فَمَنْزِلَةُ المُتَعَرِّضِ لِعُيُوبِ النَّاسِ، كَمَنْزِلَةِ الهَدَفِ، إِذَا طَلَبْتَ الجُوْدَ، فَعَلَيْكَ بِمَعَادِنِهِ، فَإِنَّ لِلْجُوْدِ مَعَادِنَ، وَللمَعَادِنِ أُصُوْلاً، وَللأُصُوْلِ فُرُوعاً، وَلِلفُرُوعِ ثَمَراً، وَلاَ يَطِيْبُ ثَمَرٌ إِلاَّ بِفَرعٍ، وَلاَ فَرعٌ إِلاَّ بِأَصلٍ، وَلاَ أَصلٌ إِلاَّ بِمَعدنٍ طَيِّبٍ، زُرِ الأَخْيَارَ، وَلاَ تَزُرِ الفُجَّارَ، فَإِنَّهُم صَخْرَةٌ لاَ يَتَفَجَّرُ مَاؤُهَا، وَشَجَرَةٌ لاَ يَخضَرُّ وَرَقُهَا، وَأَرْضٌ لاَ يَظْهَرُ عُشْبُهَا" (الذهبي، سِيَرُ أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ، المُجَلَّدُ السَّادِسُ، الطَّبَقَةُ الخَامِسَةُ مِنَ التَّابِعِيْنِ).
تعطي التربية الإسلامية تربية الباطن من خلال غرس التقوى وإحياء الضمير اهتماماً كبيراً لأن القلب إذا صلُح حاله انعكس أثره على سائر الجوارح ومن الملاحظ أن المنهج النبوي ركز على غرس معاني العقيدة الإسلامية قي الناشئة فلقد روى أحمد في مُسنده: " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا غُلامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الأقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" (ومن مسند بني هاشم).
التربية بالعبادة من وسائل التربية الإسلامية إذ أن "العبادة من أقوم مقومات التربية للنفس البشرية وأنجح وسائل التزكية والإصلاح لبني الإنسان ذلك أن المداومة على أداء العبادات المفروضة تربي الإنسان على جملة من الأخلاق القويمة والسلوك الفاضل وتعدّه إعدادا كريما متواصلا يحفزه إلى عمل الخير ويحميه من الوقوع في الشر ويوجهه إلى قيمة وجوده ومسؤوليته عن حياته ويدفع طاقاته وقدراته إلى الإبداع والإنتاج وإعمار الكون والحياة" (ملك وأبوطالب، 1989 م، ص 339).
من وسائل التربية الحكيمة الاستفادة من الأحداث الجارية "فقه النوازل" واستخدام هذه الأحداث بشكل فني ذكي يخدم العمل التربوي ربطا للإنسان بالعالم الذي يعيش فيه واستخلاصا للعبرة الحية في واقعه واستثارة لملكات الدارسين وحفزا لقوى التعليم وحواس الإدراك لأن هذه الأحداث تمثل بلا شك جزءا من عالم المتعلم يتأثر بها ويتفاعل معها وقد يؤثر فيها ويغير من مجراها. الترغيب والترهيب كلاهما وسيلة من وسائل التربية وعامل من عوامل التعليم عليها قامت الرسالات السماوية وبهما نهضت دعوات الإصلاح الاجتماعية، إن هذه الوسيلة أساس بناء الأمم السابقة واللاحقة ولا تخلو أمة من معلم يقود الجيل فيذكر بالله ويرغب في الخير ويرهب من الشر. وهذا الأسلوب يتمشى مع طبيعة الإنسان فالإنسان يتحكم في سلوكه ويعدل فيه بمقدار معرفته بنتائج سلوكه وما يترتب على هذا السلوك من منفعة أو ضرر (ملك وأبوطالب، 1989 م، ص 349، 354 بتصرف).
يحتاج المعلم إلى كلمات الثناء والثواب والمديح من قِبل الإدارة المدرسية مقابل إحسانه في العمل وهو بدوره عليه أن يتعامل مع تلاميذه بنفس المنهج. إن الدراسات الميدانية في علم النفس الحديث تثبت أن تعزيز السلوك الإيجابي - بالثواب بالكلمة والتحية الرمزية والهدية البسيطة - من شأنه تدعيم وترسيخ السلوك. إن المتعلم وكل عامل يحتاج إلى معرفة صحة ما قام به فإن وجد الثواب قبل أن ينتهي من عمله أو بعده فإن ذلك يدفعه إلى مزيد من العمل في المرة القادمة. إن التعزيز الإيجابي السريع - مثل قول المعلمة للتلميذة "أحسنت ..إجابة ممتازة"وغيرها من كلمات وأفعال التشجيع – له وقع عظيم في قلب الإنسان.
لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يعاتب ويمدح مشروطاً في آن واحد في مثل قوله لعبدالله بن عمر "نعم الرجل عبدالله ، لو كان يصلي من الليل". إن هذه الأصول النفسية قد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتجليتها في مواقفه التربوية الفذة فهو القائل لعبدالله بن مسعود عندما عاين أمانته "إنك غلام معلم" فعاش عبدالله وحقق ذلك الثناء … وقال صلى الله عليه وسلم (نعم عبدالله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله) وفي رواية أخرى " خالد سيف من سيوف الله عز و جل، نعم فتى العشيرة" ومات فعلا بطلاً مغواراً لا يشق له غبار … وقال صلى الله عليه وسلم :" نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أُسيد بن حُضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شمّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل … " وكذلك قول أم المؤمنين عائشة في مدح نساء الأنصار إذ لم يمنعهن الحياة من السؤال في الدين … ذكر البخاري في صحيحه كتاب العلم باب الحياء في العلم "قالت عائشة نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".
على المعلم أن يستخدم المدح والثناء كوسيلة من وسائل الترغيب وذلك لعدة أسباب منها:
النفس البشرية تحب الثناء الصادق. قال الشاعر:
أحسنْ
إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ |
|
فطالما
استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ |
وقال الحطيئة:
من
يفعل الخير لا يعدم جوازيه |
|
لا
يذهب العرف بين الله والناس |
حث الإسلام على شكر المحسن وفي الحديث النبوي الشريف "مَنْ لا يَشكُرِ النَّاسَ لا يَشكُرِ اللهَ"[4]. تفيض السيرة النبوية بالشواهد الدَّالة على استخدام الرسائل النفسية الإيجابية في تعزيز السلوك الهادف فنجد مثلاً أن الصحابي الجليل طلحة بن عُبيدالله رضي الله عنه يحوز على كلمات المدح والثناء فهو طلحة الخير، وطلحة الجُود، وطلحة الفيَّاض وهي ألقاب نالها في مواطن متنوعة كان طلحة مثالاً للسخاء وسرعة الإنفاق في سبيل الله سبحانه.
تثبت التجارب أن الدافعية والثقة بالنفس تزداد مع المدح وهما من أهم أسباب التفوق.
كلمات الثناء تُشعر الفرد بأنه في الطريق الصحيح وتدفعه إلى الاستمرار فيه.
الثناء إذا كان في مكانه الصحيح يعطي التربية بُعداً اجتماعياً حيث تتوثق علاقة المعلم بالمتعلم.
وعلى المعلم الواعي أن يحذر من الإفراط في الثناء ويتأكد من عدم استخدام الثناء بشكل يثير الخصومات ويزرع الشحناء والبغضاء بين الطلاب أو يدفع بالمتعلم إلى الغرور والتكبر. من حصافة فكر المربي أن لا يستخدم الثواب أو الثناء في كل المناسبات حتى لا يفقد المديح معناه الصحيح فيغيب أثره وتضيع ثمرته.
الرسوم التوضيحية من الوسائل التي تم استخدامها أيضاً في فن التعليم ليس لنقل العلوم الدنيوية بل حتى لنقل المفاهيم العقدية والدينية. استخدام الرسم التعليمي على شكل خرائط أو مخططات بغرض تبسيط وتنظيم المعلومات تم استخدامه منذ القِدم. من خلال هذه الوسيلة تتحول التجريدية المتناثرة إلى أسهم وخطوط و دوائر ….تنظم الأفكار بلغة رمزية تشد الانتباه وتجدد في طريقة الطرح والإلقاء.
ويمكننا أن نجد أصل هذه الوسيلة في الهدي النبوي فعن أنس رضي الله عنه قال :خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الإنسان وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الأقرب (رواه البخاري). نظرة سريعة على انتاجات المفكرين (Poliston 1996) تبين مدى اعتناء علماء التربية الحديثة بالخرائط الاجتماعية والرسوم التخطيطية إذ أن عدداً كبيراً من الباحثين التربويين يحاولون استخدام الخرائط الاجتماعية في الأبحاث والمؤتمرات الأكاديمية.
الشعر والكلام الموزون من وسائل التأثير في طبائع البشر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبه الحسن من الشعر ويرى إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد:
ألاَ
كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ |
|
وكُل
نَعيم لا محالةَ زائلُ |
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد "ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب وجليل خَطْبهِ في قلوبهم أنَّه لما بُعث النبيُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن المُعجِز نظمه المُحكم تأليفه وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا: ما هذا إلا سِحْر. وقالوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم : شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون". وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه: إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً... وقال: إنَّ من الشعر لحِكْمة. وقال كعبُ الأحبار: إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة وأظنّهم الشُّعراء. وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر يُقدِّمها في حاجاته يَستعطف بها قلبَ الكريم ويستميل بها قلب اللئيم. وقال الحجَّاج للمُساور بن هند: ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ قال: أرعى به الكلأ وأشرب به الماء وتقضي لي به الحاجة فإن كفيتَني ذلك تركتهُ. وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: روهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا. وقالت عائشة: روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم. وبعث زياد بولده إلى معاوية فكاشفه عن فنون منِ العِلم فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم أستنشده الشعر فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل" (ص 1365). "ينبغي للطالب عند وقوف ذهنه لترويحه بنحو شعر أو حكايات فإن الفكر إذا أغلق ذهل عن تصور المعنى وذلك لا يسلم منه أحد ولا يقدر إنسان على مكابدة ذهنه على الفهم وغلبة قلبه على التصور لأن القلب مع الإكراه أشد نفوراً وأبعد قبولاً، وفي أثرٍ إن القلب إذا أكره عمي ولكن يعمل على رفع ما طرأ عليه بترويحه بشعر أو نحوه من الأدب ليستجيب له القلب مطيعاً قال الشاعر:
وليس
بمغن في المودة شافع |
|
إذا
لم يكن بين الضلوع شفيع[5]" |
ضرب الأمثلة من فنون التربية التوضيحية لتوصيل المعرفة وتقريبها للعقول مع شحذٍ لأذهان المتعلمين للمزيد من التفكير النقدي ومقارنة الأشياء المحسوسة أو التجريدية مما يساعد على المزيد من الدافعية لكشف المعارف، وتوسيع الثقافة، وإدراك الحقائق.
يقول الميداني في مقدمة كتابه مجمع الأمثال "قال المبرد: المثَلُ مأخوذ من المِثال، وهو: قولٌ سائرٌ يُشَبَّه به حالُ الثاني بالأول، والأصل فيه التَّشْبِيه، فقولُهم "مَثَلَ بَيْنَ يَدَيه" إذا انتصب معناه أَشْبَهَ الصورةَ المنتصِبة، و"فلان أَمْثَلُ من فلان" أي أَشْبَهُ بما لَه (من) الفضل. والمِثالُ القِصاصُ لتشبيه حالِ المقتَصِّ منه بحال الأول، فحقيقة المَثَلِ ما جُعل كالعلم للتشبيه بحال الأوَّل، كقول كعب بن زهير:
كَانَتْ
مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً |
|
وَمَا
مَوَاعِيدُهَا إِلاَّ الأبَاطِيلُ |
فمواعيد عرقوب عَلَم لكل ما لا يصح من المواعيد.
قال ابن السِّكِّيتِ: المَثَلُ: لَفْظٌ يخالفُ لفظَ المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شَبَّهُوه بالمثال الذي يُعْمَلُ عليه غيره. وقال غيرهما: سُمِّيت الحكَمُ القائمُ صدقُها في العقول أمثالا لانتصاب صُوَرِها في العقول، مشتقَّة من المثُول الذي هو الانتصاب. وقال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحُسْن التشبيه، وجَوْدة الكناية، فهو نهاية البلاغة.
وقال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنَقَ للسمع، وأَوْسَعَ لشُعُوب الحديث."
وفي هذا الصدد نجد الكثير من الشواهد القرآنية والنبوية التي تستغل فن ضرب الأمثلة لتوظيفها في حقل التعليم، ولترسيخ القيم في النفوس بأسلوب سلس. قال جل ثناؤه في سورة البقرة "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (171). وقال "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)" (سورة الجمعة)، وقال "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُ وا يَعْلَمُونَ (41)" (سورة العنكبوت).
عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْقَائمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالمُدْهِنِ فِيهَا كَمثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضِهُمْ أَعْلاَهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الّذِينَ في أَسْفَلهَا يَصْعَدُونَ فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَصُبّونَ عَلَى الّذِينَ في أَعْلاَهَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَعْلاَهَا: لاَ نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ فَتُؤْذُونَنَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَسْفَلِهَا: فَإِنّا نَنْقُبُهَا في أَسْفَلِهَا فَنَسْتَقِي، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَمَنَعُوهُمْ نَجَوْا جَمِيعاً، وإنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعا"[6].
نصوص في أصول التربية الإسلامية
قال تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " (سورة الإسراء، آية 70).
"إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11)" (سورة الرعد).
"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)" (سورة الشمس).
عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الإسْلامِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الإسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ!!
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ!!
قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ!! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ.
قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ. (رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان).
قال الإمام النووي في شرحه للحديث السابق: "واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف بل هو أصل الإسلام ... ومن فوائده أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع. وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل، ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض. وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله" (باختصار). ومن الفوائد أن يعتني المتعلم بنظافة ملبسه وحسن مظهره وأن يسأل عن العلم بوقار ولو كان غريباً عن أهل البلد ولا يعرفه الناس وفي الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم ينقلون الأحداث بدقة وأمانة في الوصف.
بعض القواعد الإسلامية في تربية الطفل
تعتبر مرحلة الطفولة من أهم مراحل حياة الإنسان "وفيها تتشكل تقريبا معظم معالم شخصيته المستقبلية" (اليعقوب، 2002 م، ص 13). الإسلام نظام إلهي للحياة في جوهره ومجمله وقد جاء لوضع أصول هادية من أجل حياة مطمئنة. وعندما نتأمل الأحكام التكليفية الخمسة التي تدور حول الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح نجدها بِرُمّتها تعين الفرد على تحري الخير في جميع شئون الحياة. إذا استعرضنا منهج التربية الإسلامية في تهذيب النشء، نجده اتخذ مساراً شمولياً وسطياً واقعياً واضحاً في تربية الأطفال في إطار من الأصول العامة وذلك في المحيط الروحي العقلي والنفسي والاجتماعي وأيضاً في ما يتصل بالتربية الجسمية. كانت فكرة وضع الأصول وترتيبها للمتعلم من أهم أولويات المعلمين المسلمين فهذا سهل التستري (ت 283 هـ) يقول: أصولنا ستة أشياء "التمسك بكتاب الله تعالى، والإقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق" (ابن العماد، ج 3، ص 343). قال الإمام الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة "وعلم الأخلاق طويل، والشَّريعة بالغت في تفصيلها، ولا سبيل إلى تهذيب الأخلاق، إلا بمراعاة قانون الشَّرع، في العمل، حتى لا يَتَّبع الإنسان هواه، فيكون قد اتَّخذ إلهه هواه، بل يقلِّد الشَّرع، فيُقْدِم ويُحجِم بإشارته، لا باختياره فتتهذَّب به أخلاقه" (ص286).
اعتنى الإسلام بتحديد أصول تربية الطفل بدقة متناهية فوردت النصوص الشرعية المبينة وهي كثيرة جداً وإليك بعضا منها:
آيات كثيرة في سورة لقمان جاءت لتعميق تربية الطفل من خلال الرجل الحكيم الذي يقدم لابنه نصيحة عصماء بهرت العلماء... قال سبحانه تعالى مُجلِّياً ذلك الشأن:
"وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)".
الآيات الكريمات السابقة تحدِّد للولد أنفع طُرق الحياة القويمة وتوجز للمعلم أعمق جوانب تربية الأطفال وخاصة الجانب العقدي والخُلُقي وما يتصل بالعلاقات الاجتماعية والآداب الأخلاقية بين أفراد المجتمع والتي يجب أن تقوم حقيقة على معطيات الدين. وبذلك يُصبح العامل الديني بمفهومه الشامل قوام الأدب كغاية، والتأديب كوسيلة في عملية البناء العاطفي والعائلي والاجتماعي.
السورة تتمحور حول عدة أمور تعليمية منها:
ضرورة تأديب الصغار بالوصية المليئة بالحب والشفقة.
التوحيد رأس أمر التربية، وعمود الحياة، ومسلك الصالحين، ومِسك المخلصين.
على الإنسان أن يتحمل المسئولية الفردية نحو تصرفاته وفي تلك الآيات تقرير للمسئولية الجماعية تجاه المحيطين به.
الشكر طريق السعادة.
الترغيب والترهيب أساس الوعظ الرشيد، والنُّصح السديد، والقول المفيد. هذه الوسيلة من أهم وسائل التربية قديماً وحديثاً.
واستناداً إلى الأصول التربوية في الإسلام، نجدها تُشكل في مجموعها ضوابط وقواعد ترسم لكل من الفرد والمجتمع النظم الاجتماعية على ضوء أسس نفسية. ومن المجدي أن نذكر أن النظم الاجتماعية تضبط سلوكيات الناس الفردية والجماعية في كثير من الأحيان وتعمل على تحويل الفرد إلى كائن اجتماعي يشترك مع أسرته وأعضاء المجتمع في الكثير من العلائق التي تعمل على استمرار وتماسك المجتمع وتوجيه أنشطته المتعددة من خلال مظلَّة النظم الاجتماعية.
معظم الأصول الخاصة بالنظم الاجتماعية يتعلمها الطفل من الصغر لأن اغتنام سنين العمر الذهبية عند الصغير بالتربية الجادة من أقوى وأرسخ أنواع التربية. نجد الإسلام -كمثال- يحث الطفل على تعلم أصول آداب تناول الطعام ففي صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، ورد عن وَهْب بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ".
وفي ميدان التربية العقدية يقول ابن عَبَّاس رضي الله عنه: "كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الأقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ. قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (صفة القيامة والرقائق والورع).
في الحديث الشريف السابق دلالة تربوية واضحة على أهمية غرس مفاهيم العقيدة في نفوس الأطفال وأنهم في حاجة ماسة لها وأن عندهم القدرة على فهم المفاهيم الدينية التجريدية الخاصة بالإيمان بالقضاء والقدر؛ خيره وشره. لا يمكن تحقيق الصحة النفسية إلا من خلال التوكل الدائم على الله جل ثناؤه، والتوكل بدوره يستلزم الاستسلام الكامل الصادق لله رب العالمين.
ونقرأ لابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد عن "الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله ومن عشرة آلاف". "وقال ابن عبّاس: مَن لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب .. وقالوا: ما أشدَّ فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم". "أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد قال: "يا أمير المؤمنين" ثمار قُلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرضٌ ذَليلة وسماء ظَلِيلة فإن طلبوا فأعْطِهم وإن غَضبوا فأَرْضهم يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ويُحبُّوا وفاتك" (ج1 ، كتاب اللؤلؤة في السلطان، باب في تأديب الصغير).
من منظور الفقهاء نجد أن تربية الصغار من أهم الأعمال. "على الآباء والأمّهات وسائر الأولياء تعليم الصّغار ما يلزمهم بعد البلوغ، فيعلّم الصّغير ما تصحّ به عقيدته من إيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وما تصحّ به عبادته ، ويعرّفه ما يتعلّق بصلاته وصيامه وطهارته ونحوها، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «مُرُوا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع » . ويعرّفه تحريم الزّنا واللّواط والسّرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها، كما يعلّم أنّه بالبلوغ يدخل في التّكليف ، ويعرّف ما يبلغ به . وقيل هذا التّعليم مستحبّ، ونقل الرّافعيّ عن الأئمّة وجوبه على الآباء والأمّهات، وهذا ما صحّحه النّوويّ. ودليل وجوب تعليم الصّغير : قول اللّه عزّ وجلّ: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفسَكمْ وَأَهليكمْ نَارَاً} قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وقتادة : معناه علّموهم ما ينجون به من النّار وثبت في الصّحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : «كلّكم راع ومسئول عن رعيّته». قال علماء الإسلام : إنّ الصّبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطّاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش وقابل لكلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدّنيا والآخرة، يشاركه في ثوابه أبواه وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشّرّ وأهمل شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم به والوليّ عليه. ومهما كان الأب يصون ولده من نار الدّنيا فينبغي أن يصونه من نار الآخرة ، وهو أولى ، وصيانته بأن يؤدّبه ويهديه ويعلّمه محاسن الأخلاق ، ويحفظه من قرناء السّوء ، ولا يعوّده التّنعّم ، ولا يحبّب إليه الزّينة وأسباب الرّفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر ويهلك هلاك الأبد . وينبغي أن يعلّمه أيضاً من أمور الدّنيا ما يحتاج إليه من: السّباحة والرّمي وغير ذلك ممّا ينفعه في كلّ زمان بحسبه. قال عمر رضي الله عنه: "علّموا أولادكم السّباحة والرّماية ، ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً " (الموسوعة الفقهية الكويتية، ج13، بتصرف).
قال الإمام ابن خلدون شارحاً ما ينبغي أن يتربى عليه الطفل المسلم وكيفية غرس القيم فيه: "ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: "يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته... ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ فيألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة" (مقدمة ابن خلدون، ص 508-509).
لقد ركز الإسلام بتعاليمه العظيمة على أهمية القدوة كوسيلة من وسائل التربية واعتبر تعليم القرآن الكريم من شعائر الدين وأصل تعليم الصغار. العلم من أجل العمل النافع هو الركن الركين في تربية أبناء المسلمين أو كما قال أبو حامد الغزالي: أيها الولد العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون.
من مصابيح الحكمة موعظة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الطويلة التي تفيض منها عاطفة الأبوة، ورجاحة العقل، وطهارة النفس. كتب علي إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما كتابا قال فيه: "يا بني! ... وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر على المكروه، وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى الله، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز. وتفهم وصيتي، لا تذهبن عنك صفحا... وإنما قلب الحدث[7] كالأرض الخالية، ما ألقى فيها من شيء قبلته، فباكرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك تجربته، فتكون قد كفيت مؤنة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا فيه. ورأيت عنايتي بك واجبة علي، فجمعت لك ما إن فهمته أدبك، فاغتنم ذلك ... يا بني! لا تحدث من غير ثقة فتكون كذابا، والكذب داء فجانبه وأهله. يا بني! العفة مع الشدة خير من الغنى مع الفجور، من فكر أبصر.. خير حظ المرء قرين صالح، فقارن أهل الخير تكن منهم ... وصحبة الجاهل شؤم، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك"[8].
القواعد الفقهية ودورها الإرشادي
القواعد الفقهية هي أحكام كُلية تنطبق على أحكام فرعية متنوعة ولقد وجَدت حفاوة بالغة في كتب العلماء وتطبيقات المجتهدين لعدة قرون (السعدي، 2002 م، زيدان، 2001 م، السدلان، 1999 م، الزرقا، 1996، الندوي، 2000م، البورنو، 2000 م) وهذه القواعد الدقيقة عموما أثبتت صلاحيتها عمليا ويمكن لاستدلال بها أو إيرادها في حقل التوجيه على سبيل الاستئناس (البيانوني، 2002 م). معرفة تلك القواعد وتطبيقها في مواضعها من متطلبات منهج التفكير الإسلامي عند بعض المفكرين (أبو شقه، 2001 م، ص 105). بعض القواعد مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وبالتالي التربية الإسلامية كما كتب أستاذنا الفاضل د. يوسف عبدالمعطي في كتابه القيم تربية المسلم في عالم معاصر (ص 54).
والذي نراه أن هذه القواعد العامة العريقة في القدم ثرية تمت صياغتها بعبارات جامعة ونافعة لأنها تعمل على ترشيد الفكر وتنظيم أحكامه وتفتح أبواب الاجتهاد المنهجي للوصول للحلول المطلوبة بعد فهم عميق، وبحث دقيق. هذا من شأنه أن يسهم في ترسيخ العمل التعليمي ليقوم على أسس مُحكمة منبثقة من جوهر المنهج الإسلامي. لا يمكن للمعلم تبني ما مضى إلا إذا فقهنا القواعد المقصودة بصورة سليمة وأنزلناها بعد الاجتهاد على المواقف المناسبة في الوقت المناسب. هناك على الأقل عشرات القواعد الشرعية للإرشاد اتفق عليها الفقهاء وصاغها العلماء بأسلوب جزل ليسهل فهمها وحفظها والتعامل معها وهذه القواعد اشتقت من مبادئ القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وهدي الصالحين وهي وثيقة الصلة بتنظيم تصورات وتصرفات الناس علاوة على أنها تدل على سعة ويسر الدين الإسلامي. المربي المجتهد يدرك أن لكل موقف ملابساته ومتطلباته وخصوصياته فلا توجد قواعد "جاهزة" "ومفصلة" "ومطلقة" "وقطعية" تصلح وتستوعب جميع الحالات التي نواجهها ولكن هذا لا يعنى إهمال المعالم الكبرى التي يمكن على ضوئها أن نحقق قدراً أكبر من العدالة والموضوعية في العمل الإصلاحي وفي فهم الدين. فيما يلي إشارة سريعة إلى طائفة من تلك القواعد الشرعية مع تعليقات تربوية يسيرة عليها:
اليقين لا يزال بالشك. من القواعد العقلية العالمية "لا تعدَّ فراخك قبل أن تفقس"، وأن العاقل يتعلق بالجوهر ولا يتعلق بالظل والظن والوهم (بعلبكي، 2001 م، ص 24، ص 33). ولهذا يقولون: Catch not at the shadow and lose the substance.
الضرر لا يزال بمثله. إذا سُرق كتاب طالب فليس من المنطق أن يستعيد حقه بسرقة كتاب مثله.
درء المفاسد أولى من جلب المصالح. رغم أن القواعد الفقهية لعبت دورا واضحاً في دعم المسيرة الحضارة في التاريخ الإسلامي إلا أنه في بعض الأحيان كانت تستخدم بصورة خاطئة كقاعدة درء المفاسد وسد الذرائع والحيطة في الأمور والخشية من الوقوع في الفساد وذلك لتبرير منع البنات من حق التعلم ووجد هذا التوجه الخطير مساندة من العادات الجائرة فتضاعفت المشكلة لمدة قرون.
الأصل في العبادات الحظر وفي العادات الإباحة. أي أننا في كيفية التعبد نحتاج للأدلة الدينية الصحيحة أما في طرائق الحياة فنحن نبدع ما نشاء طالما أن ذلك لا يتضمن الضرر. الإسلام يحترم العقل كقوة باحثة لاستخراج الخير فيعطيه مساحة واسعة للاجتهاد فإن الناس أعلم بشئون دنياهم.
الضرورات تبيح المحظورات. قال قدماء اليونان والرومان الضرورة لا قانون لها (بعلبكي، 2001 م، ص 68).
الضرورة تقدر بقدرها. هذه قاعدة هامة لمن يضطر لاستخدام العقاب أحياناً وفق الضوابط.
الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان. أي "الثابت بالدليل الشرعي كالثابت بالمشاهدة الحسية" (زيدان، 2001 م، ص 133).
يُختار أهون الشرين (أخف الضررين). أي أننا إذا اضطررنا إلى الاختيار بين أمرين فيهما شر فنأخذ بأقلها شراً. قال طَرَفَة بن العبد "حنانيك بعض الشر أهون من بعض".
من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. المربي قد يلجأ إلى قاعدة الجزاء من جنس العمل فلا يعطي المسيء مقصده كوجه من أوجه العقاب طالما أن الطالب لم يطرق الأبواب الصحيحة.
تُحتمل المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة. قد يتغافل المعلم عن بعض الهفوات والأخطاء الصغيرة في تعامله مع الطالب أحياناً لكيلا يجعل الإحباط يتسرب إلى نفسه على أن يحقق هذا التغافل (المداراة) فائدة كبيرة متوقعة في سلوك المتعلم. المداراة: من الأخلاق الحميدة للمربين وذلك لاستمالة نفوس المتعلمين وتآلف قلوبهم. المداراة تعني التدرج في التعامل مع الناس والحلم معهم والتلطف بهم بشرط أن لا يترتب على المداراة الضرر أو الغرر[9]. أما المداهنة فتعني التنازل عن المبادئ. العلماء يمدحون من يملك المداراة فيقولون عن المعلم الجيد "هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة والدربة بالأحكام ومداراة الناس، قبل أن يخاطب الشخص بما يكره" (المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، لابن تغر بردي، ص 162). والمداراة كما في كتب اللغة تعني الملاطفة والملاينة يقال داريته مداراة لاطفته ولاينته وعليك بالمداراة أي الزم الملاطفة. "أشرف ما دل عليه نور العقل بعد الإيمان باللّه بمشاهدة عظمة اللّه وعزته وعقل نفسه عن السكون إلى غير اللّه مداراة الناس أي ملاينتهم وملاطفتهم ومن المداراة أن لا يذم طعاماً ولا ينهر خادماً ولا يطمع في تغيير شيء من جبلات الناس إلا ما اقتضاه التعليم والمخاطبة باللين مع سهولة الجانب سيما مع الأهل ونحوهم والتغافل عن سفه المبطلين ما لم يترتب عليه مفسدة، ومن ثمة قيل: اتسعت دار من يداري وضاقت دار من يماري" وعلى الأسرة أن تؤدب الطفل كي يتعامل "مع الخلق بنحو مداراة ورفق ومواساة واحتمال" (المناوي، فيض القدير، شرح الجامع الصغير). وتستخدم المداراة لاتقاء الشرور بروية أو لإصلاح الأمور بحكمة. وورد في الأثر مداراة الناس صدقة[10].
ما لا يُدرك كله لا يُترك كله. أي لا نترك العمل بما نستطيع وإن لم يتيسر لنا إتمامه على الوجه الأكمل. في مقدمة كتاب شذرات الذهب لابن العماد نجد أن الخوض في أمر التاريخ يحتاج إلى بسط القول ولأن المرء لا يقدر في كل الأمور على ذلك فيقول "إذ هذا شأو لا يُدرك دقه وجله، فليكن كما قيل: ما لا يدرك كله لا يترك كله، أردت أن أجعله دفتراً جامعاً لوفيات أعيان الرجال، وبعض ما اشتملوا عليه من المآثر والسجايا والخلال". ومن الأمثلة العالمية: "نصف رغيف من الخبز خير من فقدان الخبز" (البعبكي، 2001 م، ص 45). عندما لا نستطيع الإطلاع على كتاب ما بأكمله لضيق الوقت مثلا فإننا نقرأ ما تيسر.
الأمور بمقاصدها. يمكن الاستفادة من هذه القاعدة في تطبيق اللوائح المدرسية بمعنى فهم روح القوانين لا حرفيتها التي قد تفهم بشكل جامد فتكون نتائج عكسية ناتجة من تطبيق اللوائح. الحكمة والعبرة دائما في أحشاء المقاصد والمعاني العامة لا شكليات الألفاظ والمباني التي قد تفهم بصورة خاطئة. هذه القاعدة وغيرها لا تعني إهمال الألفاظ ولكنها تطالب بعدم عزل المباني عن المعاني.
المشقة تجلب التيسير. الشريعة الإسلامية كلها - في العبادات والمعاملات - حركة عملية شاملة تقوم على رفع الحرج والمشقة وكذلك يجب أن تكون التربية الصحيحة بالعلم والعمل لأن بذل الجهود المضنية الهادفة أساس بناء الحضارة الإسلامية المضيئة. يجب أن نعلم أن الفرق عظيم بين التيسير وبين التساهل.
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فتعلم لغة الأعداء واجب للدفاع عن مصالح الأمة لأنها وسيلة توصلنا لتحقيق الواجب وهو حفظ المصالح وكذلك بناء المدارس واجب لأن من غير ذلك تفوت مصالح كبيرة ومن هنا قال القابسي بأن التعليم ينبغي أن يكون ملزما للصبيان وعلى القادرين إنشاء وتمويل الكتاتيب وهذه القاعدة الجليلة ساهمت أيضا في تطوير ميادين علمية عديدة.
لا مساغ للاجتهاد في مورد النص. أي أن المسائل التي جاء الشرع الحنيف بحلول حاسمة لها فلا مجال للبحث في ما يناقضها لأن ذلك مضعية للوقت وينافي معنى التسليم والخضوع للدين.
ما حَرُم فعله حرم طلبه. أي أن الممنوع فعله كالغش في الاختبار مثلا لا يجوز أن نطلبه من الآخرين لأنه ممنوع أيضاً فلا يعين الأخ أخاه في مثل هذه الأمور بل عليهما إزالة الخلل بحكمة.
العبرة بالغالب الشائع لا بالقليل النادر. هذه القاعدة على وجازتها تجعل النقاش موضوعياً والتفكير علمياً فإذا قال المعلم أن شرب الدخان يدمر الإنسان أو أن عاقبة التهور في قيادة السيارة هي النهاية الحزينة فلا يحق لقائل أن يقول أن بعض الحالات سَلِمت من التَّلف فيُهون بذلك الأمور وكأن الشاذ هو الشائع فتنقلب الحقائق وتهتز المسلمات في عقل المتعلم.
"العادة مُحَكَّمة". أي ما جرى عليه عُرف الناس في التصرفات والأقوال والوسائل يُتعامل به ويرجع إليه طالما أنه لا يتصادم مع أحكام الشرع. والمعروف هو كل خصلة حسنة مألوفة ترتضيها العقول ويقبلها المجتمع. تعريف الناس للحسن والقبيح يستفاد منه شريطة أن لا يتناقض مع أساسيات الدين أو الطب أو القانون.
لا يُنكر تغير الأحكام المبنية على المصلحة والعرف بتغير الأمكنة والأحوال والأعراف والعوائد. أي أن بعض الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان فمثلاً في الماضي لم تأت الأحكام بفكرة إنشاء المدارس ولم تُعرف مراحل التعليم المختلفة والجامعات بأنواعها ثم فيما بعد تغيرت الأحكام والمجتمع المسلم يجب أن يساير ركب التقدم فيأخذ أحدث الطرائق حسب المصلحة وفي حدود الشريعة (السدلان، 1999 م، ص 267). ومن هذا الباب كانت بعض العلوم مثل الرياضيات والطب من العلوم المحمودة التي يجب أن لا توسع فيها الأنظار فلا حاجة للمتبحرين بها أما اليوم ونظراً لتطور تلك العلوم وتعاظم أهميتها فلا بد من التبحر فيها لطائفة من المسلمين. قال القرضاوي "ولا نوافق على اعتبار التَّعمق في دَقائق الحِساب، وحقائق الطِّب: مجرد فضيلة لا فريضة، فلعلَّ هذا كان بالنِّسبة إلى زمن السابقين، أما زمننا فيُعتبر التَّعمق في هذه العلوم وما يشبهها من الرِّياضيات والفلك وغيرها، بحيث يصل إلى دقائقها، ويرتقي إلى حقائقها، فريضة لازمة. والأمم تتسابق في هذا تَسابقاً خطيراً" (بتصرف). وتحت هذا الباب يجب أن نجدد ولا نجمد الأهداف التربوية العامة لأن بعضها يجب أن تتغير حسب المستجدات. من هنا نقول إن الفقه التربوي يتغير بتغير الزمان بما لا يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي.
تزول الأحكام بزوال عللها. إذا سمح المعلم لتلميذه بالغياب بسبب المرض ينتهي العذر بزوال المرض.
الخروج من الخلاف أولى وأفضل.
الدَّفع أقوى من الرَّفع. أي تجنب الأخطار قبل وقوعها أسهل من علاجها إذا وقعت فالوقاية خير من العلاج. المربي كما يقول علم النفس السلوكي عليه أن يعالج المشكلات قبل وقوعها وذلك بمعالجة المؤشرات التي تظهر قبل أن تقع المشكلة نفسها. "وفهم مثل هذه المؤشرات والعمل على إزالتها تساعدك على تجنب تلك المواقف التي تؤدي إلى سوء السلوك" (شابيرو، 2001 م، ص 49). فالغياب المستمر مثلاً للطالب مؤشر إذا عولج في بدايته يمكن تجنب مشكلة تدني التحصيل الدراسي عند الطالب.
التَّصرفُ على الرَّعية منوطٌ بالمصلحة. هذه القاعدة الإدارية تَرِد في مقام التأكيد على أن الذي يتقلد أمراً من أمور الناس – الدينية والمدنية- فعليه التصرف وفق مصلحتهم فلا يختار لهم إلا أقوم القرارات التي تحقق النفع لهم فمصلحة الناس لا المنفعة الشخصية أساس السياسة والإدارة العادلة في الأسرة والمدرسة والمجتمع.
يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها. الكفاءة أساس تقلد المناصب والكفاءة تعني قدرة الشخص الذي تم اختياره على إنجاز العمل ورعاية المصلحة العامة في ذلك المجال.
ليس في الشريعة شيء مشكوك فيه. الشكوك والشبهات قد تصيب الاجتهادات البشرية أما الدين والشرع فهو منزه عن ذلك جملة وتفصيلاً.
لا عبرة للتوهم. أي لا نعطل المسائل القطعية لمجرد احتمالات ظنية لا أساس لها.
يُتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام. فصل تلميذ من المدرسة إذا لم تستطع المَدرسة تقويمه - بعد بذل الأسباب كلها - فيه خير للمصلحة العامة لأن بقاء مثل هذا التلميذ المشاغب في المدرسة فيه ضرر على التلاميذ كلهم. وهكذا يقع الضرر في قرار الفصل على التلميذ لحماية مصلحة المجموعة. وكذا يمنع المعلم من مزاولة عمله إذا تهاون وفرط في أداء واجباته التعليمية الأساسية ورفض تغيير سلوكه الخاطئ. على المعلم أن يعلم أن ما يستحيل إصلاحه فمن الحكمة تركه لإصلاح غيره ويتعين علينا أن لا نتشبث به.
الغُرم بالغُنم. أي من يشارك في الغنائم -كالأمور السارة - عليه أن يشارك أيضاً في الخسائر وهذه القاعدة يمكن الاستفادة منها في اختيار الصديق الصالح الذي يكون مع صاحبه في السراء فيشترك معه وفي الضراء يخفف عنه. نستفيد من هذه القاعدة في التربية الوطنية من خلال التأكيد على أن المواطن كما يستفيد من الدولة في رخائها فعليه أن يدافع عنها في بلائها. القصص التربوية الأخلاقية منذ القدم تؤكد هذا المعنى الإنساني فمن "يشارك في الغُنم، ينبغي أن يشارك في الغُرم" (إيسوب، 1997، ص 113). من الأهمية بمكان أن يدرك المربون أن أعباء التربية كثيرة ولكن النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة عظيمة "ليست التربية غرما دون غرم" (بكار, 2001, ص 207). لقد وجدنا من خلال تجاربنا في الاستشارات التربوية في أماكن عديدة أن الإنسان دائما يود أن يحترمه الأبناء دون أن يبذل ويتابع وهذا نسميه "الربا التربوي" لأنه يريد الحقوق (الغنم) ولا يبذل وسعه في أداء الواجبات (الغرم). المتابعة من أشق الأعباء في عملية تربية الأبناء.
وهكذا نرى أن القواعد الفقهية العامة والفرعية – التي ذكرناها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر - لها أهمية كبرى لأنها ثروة تراثية متميزة، ومعالم علمية غنية، وقواعد منطقية راسخة، وأمثال عالمية ممتعة، وضوابط إدارية عادلة، صيغت بلغة بليغة، إضافة إلى كونها ثمرة مجهودات مضنية لفهم الحركة في الحياة على ضوء محكمات الشرع ومعظمها محل اتفاق. كثير من القواعد الفقهية نجدها عند المقارنة تتغير صياغاتها وتختلف ألفاظها ولكنها متحدة في مقاصدها. رغم أن طائفة يسيرة من تطبيقات هذه القواعد غير قطعية ولم يُتفق على تفاصيلها فبعضها قابل للنقد والنقض أحياناً إلا أن القواعد الفقهية في مجملها مادة ثرية استلهمها العلماء بعد إعمال الفكر من أدلة شرعية ويمكن أن نستأنس بها في مضمار التعليم وفهم الدين من دون إقحام أو سوء فهم فلكل حالة ملابساتها وخصوصياتها. إننا في كتابنا هذا نظرنا إلى القواعد السابقة نظرة جديدة كمبادئ للفقه العام لا الفقه الخاص الذي ينحصر في معرفة الأحكام الدينية التي وردت في كتب الفقهاء فقط. ونقصد بالفقه العام أي بمعناه الواسع وهو الفهم والتدبر والمعرفة المستنيرة. في أكثر من دراسة نشرناها - وتفاعل معها المفكرون - أكدنا بالأدلة على أن علم أصول الفقه يحمل في طياته المنهج العلمي للتفكير لا لطبقة الفقهاء فقط بل لجميع الباحثين مما جعلنا نؤكد على أن الشافعي صاحب سبق تربوي[11] وعلى هذا الأصل الذي فصلناه في أكثر من موطن في كتابنا تراثنا التربوي يمكننا أن نقول أن القواعد الفقهية مادة غنية لتطبيق المنهج العلمي للتفكير في الإسلام.
1 موقع وزارة التربية http://www.moe.edu.kw/educationalareas/DeniArea/deniArea.htm
1 ابْنِ الشَّهِيْدِ أَبِي عَبْدِ اللهِ رَيْحَانَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَسِبْطِهِ وَمَحْبُوبِهِ الحُسَيْنِ بنِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.
1فيض القدير، شرح الجامع الصغير- للإمامِ المناوي -الجزء الرابع -حرف الفاء، حديث رقم: 5966، انظر أيضا النابلسي، 1981 م، ص 112.
1 (مثل القائم على حدود الله) أي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (والمدهن فيها) المراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر، والمدهن والمداهن واحد (كمثل قوم استهموا على سفينة) أي اقتسموا محالها ومنازلها بالقرعة (فأصاب بعضهم أعلاها) أي أعلى السفينة، وفي رواية للبخاري: فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها (أسفلها) أي في أسفل السفينة بيان للبحر (لا ندعكم) أي لا نترككم (فإنا ننقبها) أي نثقبها (فإن أخذوا على أيديهم) أي أمسكوا أيديهم (نجوا جميعاً ..) المعنى أنه كذلك إن منع الناس الفاسق عن الفسق نجا ونجوا من عذاب الله تعالى، وإن تركوه على فعل المعصية ولم يقيموا عليه الحد، حل بهم العذاب وهلكوا بشؤمه. وهذا معنى قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} أي بل تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم. والفرق بين المداهنة المنهية والمداراة المأمورة، أن المداهنة في الشريعة أن يرى منكراً ويقدر على دفعه ولم يدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوف أو طمع أو لاستحياء منه أو قلة مبالاة في الدين. والمداراة موافقته بترك حظ نفسه وحق يتعلق بماله وعرضه فيسكت عنه دفعاً للشر ووقوع الضرر (انظر تحفة الأحوذي للمباركفوري، كتاب الفتن).
2 كنز العمال الإصدار 1.43 - للمتقي الهندي المجلد السادس عشر ، خطب علي ومواعظه رضي الله عنه. باختصار شديد.
2 قال العسقلاني في الفتح "باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ" "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مداراة الناس صدقة"أخرجه ابن عدى والطبرانى في الأوسط، وفى سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه. وقال ابن عدى: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبى عاصم في"آداب الحكماء" بسند أحسن منه، وحديث أبى هريرة"رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أخرجه البزار بسند ضعيف".
1 ولقد قال د. عجيل النَّشمي- العميد السَّابق لكلية الشَّريعة في جامعة الكويت – في تقديمه لكتاب السبق التربوي في فكر الشافعي- تأليف بدر ملك وخليل أبوطالب- "إنَّه لم يخطر بالبال أو يجرى في الخاطر، أنََّ إمامنا [الشَّافِعِيّ] له في علم التَّربية مدخل، بله أن يكون له سبق في قضاياه ومسائله ونظرياته. واعتبرت لأول وهلة إنَّ هذه دعوى يصعب تحقيقها وإثباتها فبدأت بقراءة الكتاب وأخذت أتنقل في ثناياه التَّربوية خاصة، فتكشف لي أنَّ الدَّعوى لها سند من الثُُّبوت والصّحة، فأجللت الإمام وأكبرته".