إن إحياء فكرة تراثية كمشروع تعليمي لا يمكن فصله عن مفهوم إحياء
الآداب الأخلاقية والعلمية التي كانت معها كي يتحقق المقصود. الآداب العامة لطالب العلم المبثوثة
في كتب التراث يمكن أن يلتزم بها الباحث المسلم أو ببعضها قدر الإمكان ويمكن أن تضاف
إلى فلسفة ومنهج إعداد التعليقة. إن
العلماء في حضارتنا وضعوا لصنعة الكتابة والبحث العلمي ضوابط
وقواعد وآداب منها:
q
الكتابة بنية العبادة.
ذكر القرطبي في تفسيره – عن شعيب
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَيَّدُوا الْعِلْمَ
بِالْكتَابَةِ". وذكر السبكي فائدة هامة إذ قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ كِتَابَةُ الْعِلْمِ عِبَادَةٌ سَوَاءٌ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَرَتَّبَ
عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَمْ لا وَأَنَا بِمَا أَكْتُبهُ بِهَذَا الْقَصْدِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وللذهبي عبارة تطابقها.
q
التسمية في بداية العمل فلا يليق بالباحث
المسلم أن يغفل عن التسمية فكل عمل
لا يبدأ بذكر الله فهو ناقص كما ينبغي التأدب مع ذكر المصطفى e والصلاة والتسليم عليه باللسان
ويفضل كتابة ذلك أيضا. بعض العلماء مثل النووي يكره إغفال هذا الأدب ولا يحبذ
كتابة حرف (ص) لتحقيق الغرض. وفي الحديث "الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ"
(رواه الترمذي، انظر الألباني في صحيح الجامع الصغير
وزيادته، ج1، رقم الحديث: 2878، ص 557).
والتسمية تعني إخلاص النية لله عز
وجل. قال العلماء ويستحب حَمْد
اللَّهِ تعالى في ابتداء الكتب المصنفة والرسائل، وكذا في ابتداء دروس المدرِّسين، وقراءة الطلاب، سواء قرأ حديثاً أو فقهاً أو غيرهما، وأحسن العبارات في
ذلك: الحمد للّه رب العالمين (الأذْكَارُ النَّوَويَّة، للإِمام النَّوَوي: كتاب حمد الله تعالى، 71ـ بابُ حَمْدِ اللَّهِ تعالى).
q
"يتجنب التعليق وهو خلط الحروف التي ينبغي
تفرقها والمشق وهو سرعة الكتابة مع بعثرة الحروف. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه:
شر الكتابة المشق وشر القراءة الهدرمة (التصفح السريع دون تدبر المعنى) وأجود الخط
أبينه.
v
يكره في الكتابة فصل مضاف اسم الله تعالى منه:
عبدالله، عبدالرحمن، رسول الله، فلا
يكتب عبد أو رسول في
نهاية السطر والله أو الرحمن في بداية السطر التالي لقبح صورة الكتابة.
v
وإذا كان الكاتب ينسخ كتاباً فعليه مقابلة النسخة على أصل
موثوق صحيح فالمقابلة متعينة للكتاب الذي
يرام به النفع. قال عروة بن الزبير لابنه هشام رضي الله عنهما: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ (أى على أصل صحيح) قال: لا، قال:
لم تكتب. وإذا صحح الكتاب بالمقابلة على
أصل صحيح أو على شيخ فينبغي أن يعجم المعجم،ويشكل المشكل، ويضبط الملتبس، ويتفقد
مواضع التصحيف" (خليفه، 2001م، بتصرف).
v
أن لا يمل من العمل فالطالب المسلم صاحب عزيمة
عالية ورسالة خالدة والمختارات التي ينتقيها هي
أنفس الأشياء التي ظفر بها ووجد أنَّها مناسبة لتعليقته . ولقد
عرف السلف الصالح بأن الواحد منهم "لا يمل من الاشتغال بالعلم وتعليق
الفوائد" وعندما أراد محمد الشامي (ت 942 هـ = 1535 م) أن يؤلف كتابا في السيرة النبوية
رجع إلى ألف كتاب فاطلع على كل ذلك ثم
بعد أن انتهى من تأليف كتابه أقبل الناس على نسخ كتابه "ومشى فيها على أنموذج
لم يسبق إليه أحد" (ابن العماد، ج 8، ص 503، ج 10، ص 353).
قال أبو داود كتبت عن رَسُولِ الله e خَمس مئة ألفِ حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمنتهُ
هذا الكِتَاب – يعني كتاب "السُّنَنْ" -، جمعتُ فيه أربعةَ آلافِ
حَديثٍ وثماني مئةِ حَديثٍ، ذكرتُ الصَّحيح، وما يُشْبِهُهُ ويقاربُه، ويكفي
الإِنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث، أحدُها: قوله e: "الأَعْمَال بالنِّيّات".
والثَّاني: "مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المَرءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ".
والثَّالث: قوله: "لاَ يَكُونُ المؤْمِنُ مؤمناً حَتَّى يَرْضَى لأَخِيهِ مَا
يَرْضَى لِنَفْسِهِ". والرَّابع: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ".
v
التعليقة شأنها شأن سائر أعمالنا يجب أن لا
تشمل على تجريح للناس في أشخاصهم بل تناقش الأفكار وتتناولها بالتوضيح لا التَّجريح.
يجب مراعاة هذا الأدب خاصة مع المعلمين الذين لهم فضل في تعليمنا. العسقلاني بدأ
بكتابة كتاب يصوب فيه أوهام الهيثمي (ت 807 هـ = 1403 م) فلما علم أن أستاذه لا
يحبذ هذه الطريقة في المناقشة ترك العسقلاني فكرة تأليف الكتاب رعاية لمشاعر
أستاذه (ابن العماد، ج 9، ص 106). وكان هذا الأستاذ يشهد بقوة علم تلميذه.
v
إرسال الرسائل وسؤال العلماء ومقابلتهم والتحاور معهم مادَّة
غنية أثرت التراث ويمكن أن تثري تعلِيقتنا. السؤال يدل على باع السائل في العلوم
وقد يفتح أبوابا جديدة مفيدة.
v
طالب العلم لا يقتصر تعليمه داخل جدران الفصل فقط ولكنه يلتقط
المعلومة أينما كانت ويدونها قبل أن ينساها.
من مواقف الشافعي في التعلم نستنتج أن الألواح والأقلام كانت لا تفارق الأديب والكاتب والصبي والمتعلم قديماً فلقد كانوا يستعينون بها للكتابة
العاجلة ثم ينقلون ما فيها إلى الدفاتر (زيات، 1992 م، ص 52). الدفتر الصغير
والقلم من لوازم طالب العلم أينما كان
كي يلتقط الفوائد والشوارد ثم قد يستعين بها في تعليقته إذا كانت وثيقة الصلة بموضوعاته. التعليقة شبكة من الأفكار تدل على مهارة المتعلم في
اقتناصها وترتيبها وعرضها والتعليق عليها وربطها بالمقرر الدراسي من دون تكلف.