منطلقات
لفهم التراث
مقتطفات
من كتاب
تراثنا التربوي
ننطلق منه ولا ننغلق
فيه
د. بدر محمد ملك د. لطيفة حسين الكندري
© جَمِيعُ الحُقوق مَحْفُوظَة
لِلمُؤلِفَين
الطَّبعة الأولى
1424 هـ = 2003 م
مكتبة الفلاح
للنشر والتوزيع
دولة الكويت- حولي - شارع
بيروت- عمارة الأطباء. تليفون: 2641985 فاكس: 2647784 ص. ب 4848 الصفاة الرمز
البريدي 13049 الكويت- برقيا: لغاتكو.
دولة الإمارات العربية
المتحدة - العين - تليفون: 7662189 فاكس: 7657901 ص.ب 16431
N
التعليقة المتميزة لفضيلة د. يوسف عبدالمعطي
]الفَصْلُ الأَول: مُنْطَلَقَات[
المنهجُ العِلْمِي للتَّفكير
في الإسلام
تقدير لا تقديس العلماء
والمُجتهدين
الفكر التَّربوي يقبل
الاختلاف لا الانحراف
القسم الثَّاني: مُنطلقات المُعاصرة
(الفِكر الغربي والإسلام)
القَسمات الثَّقافيَّة
والأخلاقيَّة للمجتمع الغربي
التَّقدُّم والعلم في العقل
الغربي
رأي بعض خبراء التّربية
الغربية بمساهمات تراثنا التَّربوي
أثر الحضارة الإسلاميَّة في
حضارات العالَم
الرِّحْلَةُ العِلْميَّة في
تراثنا وشبهات المستشرقين
التعليقة المتميزة لفضيلة د. يوسف عبدالمعطي[1]
بسم الله الرحمن الرحيم
اطلعتُ على كتاب: تراثنا
التربوي, ننطلق منه ولا ننغلق فيه للأخ الفاضل الدكتور بدر محمد ملك, والأخت
الفاضلة الدكتورة لطيفة حسين الكندري, فأحسست بسعادَةِ مَنْ بَحَثَ عَنْ أَمْرٍ
عُمراً, ثم فُوجئ به أمامه!
كنا نحس ونحن في كلية
التربية بعد انهاء الدراسة الجامعية، في أول الخمسينات بألم وحسرة، حين ندرس
التربية اليونانية والرومانية باعتبارها المَعين الذي انطلقت منه فلسفة بناء
الإنسان! ونمضي مستعرضين – وفقا لتلك المناهج - تطور الفكر التربوي ليقال لنا: إن
التربية الحديثة بمنهجها البرجماتي النفعي هي رائدة ذلك وعصف بقلوبنا حزنٌ وأسى
نتساءل: والمسلمون في هذا السياق كله أين هم؟ أليس لهم في بناء الإنسان فكر ولا
منهج للتربية؟ كيف؟ وكتاب ربنا، وبعثة رسوله، موجه لهداية الإنسان إلى نهج الحياة
الذي يحقق رسالته على الأرض, ويعده لثواب الآخرة. فلا نجد للتربية الإسلامية ذكراً
في كليات التربية, وكان حوارنا مع أساتذتنا دائما حواراً ساخناً فقد عادوا من
البعثات بفكر أهل تلك البلاد, دون أن يرجعوا إلى هويتهم وتراثهم وهدى ربهم!
كتابكما أسعد قلبي ونفسي
فجزاكم الله خير الجزاء, ووفقتم في عنوانه أيما توفيق، لخصتم القضية في هذا
العنوان: ننطلق منه لأنه هدى ربنا ورسالته ونهجه الذي أهداه إلينا نورا نمشي به,
في رحلتنا على الأرض، دون أن ننغلق فيه: "فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو
أحق الناس بها لا يبالي من أي وعاء خرجت" "… فبشر عباد الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه" فالمبشرون من عباده هم الذين أحسنوا الاستماع (استمعوا)
وميزوا الحسن فاتبعوه فهم منفتحون على الخير، باحثون عنه، مقبلون عليه لأنه الحق،
والحق أحق أن يتبع فلا انغلاق. نعيش عالمنا ولنا فكر وهوية ورؤية للكون،
والحياة والإنسان: أصولها العامة أهداها إلينا ربنا، والفكر والتأمل والبحث
والتجريب يقودنا إلى تفاصيلها، ومستجداتها، وما يلائم ظروفنا.
وتوقفت طويلاً أمام:
التعليقة التعليمية كوسيلة لإحياء وتطوير تراثنا التربوي وأشهد أن كتابكما قَدَّم
بهذا الأمر "فتحاً" جديداً. فاستخرج من التراث هذه الممارسة فشرحها،
وأوضحها، وأثراها بإضافات، وأصَّلها بمعايير، وقدَّم إضاءة تعين المتعلم، وتوجهه
لكيفية كتابتها, وأورد الفروق بينها وبين البحث الذي يتوجه لمعالجة موضوع مفرد
وعمل على إقناع المتعلم بما يعود عليه بالفعل حين يحرص على ممارستها نهجاً يتخذه
في تعلمه, إذكاءً لفكره, وتواصلا مع رواد العلم قبله, وتدوين أهم ما توصلوا إليه
مما يتصل بما يدرسه المتعلم وبحثاً في مناحي حياته وتجربته, وما يطلع عليه حوله
مما يؤيد ذلك, وهو في هذا التسجيل صادق أمين يسجل عثراته, وإنجازاته, واستنتاجاته
بل وحيرته وتساؤلاته فالتعليقة بذلك صديق مصاحب وعالم يلخص له جوهر المسائل, ووقفة
تمد البصر بين ما يدرسه وما يعيشه: إيجابا وسلبا, واقتناعا, واستمرارا في البحث
والتساؤل.
والتعليقة بكل ذلك سجل
عقله, ورحلة فكره, في ما يقرأ ويسمع, ويفسر مما أورده الآخرون عبر التراث, أو في
تفسير أساتذته وتعليقاتهم على ذلك ولكن الأكثر أهمية في كل ذلك هو وجوده هو نفسه
في التعليقة التي تحمل رؤيته وفكره فهو حاضر يقظ متابع حريص متسائل وليس مجرد
متلقٍ. يعلم أن العقل هدية الله إليه فيسعى جاهدا ليستثمرها ويعملها باحثا عن
الحق.
إن هذا الفتح الذي وفقكم
الله إليه, هو نقلة جديدة في طرائق التربية وجسر حي يمتد بين التراث والواقع وتصل
بإذن الله أطرافه إلى المستقبل احتراما لعقل المتعلم, وتدريبا ليقظته وملاحظته,
ورصده الواعي لما يمر به من خبرات تعليمية. لكن أكثر الأمور أهمية هو منحه الحق في
أن يخطئ ويراجع نفسه ويسجل ذلك فقيمة "التعليقة" فيما تتضمنه من صدق
وصراحة وتسجيل للرحلة الباحثة عن الصواب وهي خلال ذلك تمر بأخطاء كثيرة يشرف المرء
بتسجيلها ولا يخجل. لو نجحنا في إشعار المتعلم بتقبلنا لذلك فإننا نكون قد قطعنا
شوطا هاما, جزاكما الله الخير.
وحاليا أعيش مع الكتاب
الذي ألوم نفسي أنني لم أعرفه قبلا فحرمت من جهد وعمل علمي يعبر عن توجه أصيل نحو
تربية تحمل إلى الدنيا هدي ربنا في انفتاح وتفهم وجهد ودأب. إن مراجع هذه الدراسة
رد على من يغفلون الإشادة بأن بين ظهرانينا من يسترخصون الجهد ويُعْمِلون العقل
وينفتحون على كل فكر في روية وتدقيق. إن بحثكم عن الواقعية، والوسطية, والشمولية،
والعالمية بقلب متسامح وعقل واع هو أمل يسعد المرء أن يرى الساعين إليه. إن
تمييزكم بين الدين والتدين, وإبراز التفكير كفريضة إسلامية, وفضيلة إنسانية
وتفصيلكم المتكرر لدور الفكر, ومكانته "كقوة باحثة عن الخير" موقف أسأل
الله أن يثيبكم عنه وما قرأته في الكتاب من عرضكم للمنهج العلمي كنهج إسلامي في
وظائفه وتطبيقه وتقديره للعمل العلمي دون تقديس بما يؤكد هذا النهج المتوازن الذي
نتواصى به هو عرض موضوعي محمود.
لكن جوهرة الكتاب؛ موقفكم
من المرأة: إنصافاً, وإبرازاً لإسهاماتها في التراث والعلم, وتصويباً لاتجاهات
عزلها وحرمانها من القيام في مسؤوليتها في النصيحة المشورة ونشر العلم, وحرصكم في
هدأة وأمانة على عرض وجهات النظر المختلفة موقف محمود وودت لو رأيت بين المراجع
كتابا أراه كتاب هذا القرن للأستاذ عبدالحليم محمد أحمد أبو شقة رحمه الله فقد
توفي منذ عامين وعنوان كتابه: (تحرير المرأة في عصر الرسالة).
اسمحا لي أن أقدم جهدا
متواضعا في هذا المسار الكريم الذي قدمتما فيه هذا العمل الرائع وهو أحد كتبي:
تربية المسلم في عالم معاصر. وأشكر الحفيدة التي أهدتني نعمة التعرف عليكما, ووجدت
من خطوطها على صفحات الكتاب, وما سجلته في الهوامش بداية "تعليقة" لها
سعدت بها.
رعاكما الله
تحريرا في 29 من المحرم
1423
12 إبر يل 2002
أخوكما
يوسف عبدالمعطي
الحَمْدُ
لِلَّهِ الذِي كًرَّمَ الإِنْسَانَ بِالفِكْرِ الْكَرِيْمِ،
وَبَعَثَ نَبِيَّهُ e بِالْذِّكْرِ الْحَكِيْمِ.
وبَعد:
فإن دراسة نفائس الفكر التربوي تقود السَّالِك في
مدارِجِهِ إلى تقدير مساهمات السَّابقين مع مراجعتها، وتنقية الثَّقَافَة القديمة
مع تعزيزها لإثراء الحاضر، وتنمية مسيرة المستقبل. نأمل أن تكون
دراستنا هذه محاولة اجتهادية توفيقية توثيقية نافعة لتطبيق مفهوم
الأصالة والمعاصرة في فهم الفِكر التربوي لمواجهة التحديات الحضارية.
يحتوي هذا
الكتاب على ستَّة فصول وهي كالآتي:
# الفصل الأول (مُنطلقات): يتكون هذا
الفصل التَّمهيدي من بيان للقواعد
التَّأصيليَّة العامَّة لفهم التُّرَاث التَّربوي الإسلامي.
# الفصل الثَّاني (مُنجزات): يحتوي هذا الفصل
على التعريف بمؤسسات تعليميَّة قديمة مثل (الأزهر –النظامية – المستنصرية) كما يقدم نبذة عن العلوم
الإسلامية مثل (الطب – علم الحيل- علم الحديث).
# الفصل الثَّالِث (مُخْتَارَات): يحتوي هذا الفصل على قراءات تربويَّة مُخْتارة لنُخبة من العلماء مثل (ابن سينا – ابن مسكويه- ابن قيم الجورية).
# الفصل الرَّابع (مُشكلات): يحتوي هذا
الفصل على مناقشة وعرض لبعض التَّحديات الفِكْرِيَّة التي واجهت من سبقنا ومازالت
تواجهنا: مثل الفكر الخرافي - اشكالية المرأة - وإِشْكَالِيَّة
التَّربية الموسيقِيَّة.
# الفصل الخامس (مُناقشات): يحتوي هذا الفصل على دراسة لآراء رواد التربية الإسلامية (الشَّافِعِيّ - الغزالي - ابن
خلدون).
# الفصل السَّادس (مُقترحات): يحتوي هذا
الفصل على سرد جملة من التَّوصياتِ الْنَّظَرِيَّة والْتَّطْبِيْقِيَّة المنبثقة
من هذه الدِّراسة وغيرها من الدِّراسات مع التَّركيز على عرض مشروع إِحْيِاَءِ
وَتَحْدِيْثِ فِكْرَةِ التَّعْلِيْقَةِ التَّعْلِيْمِيَّةِ فِيْ مَدَارِسِنَا. ظهرت
التَّعْلِيْقَةُ (مذكرة الطالب أو المعلم) منذ زمن مُبكِّر في
تاريخ التَّعليم الإسلامي وذلك في حلقات الفِقه ثم عمل بها طلاب العلوم الأخرى في
العلوم العقليَّة والنَّقليَّة على حدٍ سواء.
سنحاول
وضع بعض الضَّوابط المعينة على تطبيق مثل هذه الأفكار في مؤسساتنا التَّعليميَّة
وتقريب الفكرة عسى الله عزَّ وجل أن يكتب لها النَّجاح ويبارك فيها
فيستفيد منها المعلمون، ويقتفي أثرها المثقَّفون، ويطوِّرها
المُبدعون فيعود نفعها العميم على منهج إعداد الأجيال القادمة.
الْلَهُمَّ
إِنَّنَا نَسْأَلُكَ الْرَّشَادَ، فِي الْقَوْلِ والْعَمَلِ وَالاِعْتِقَادِ.
وَالْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْصَّلاَةُ وَالْسَّلامُ عَلَى
نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ فِي كُلِ حِيْنٍ، وَحَيْثُماَ طَاَرَ طَيْرٌ وَارْتَفَعْ،
وَلاحَ نَجْمٌ وَسَطَعْ.
د. بدر ملك د. لطيفة الكندري
وردت
كلمة التُّرَاث في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وذلك في قوله سُبْحَانَهُ
"وَتَأْكُلُونَ التُّرَاث أَكْلاً لَّمًّا {19}" (سُوْرَةُ الفَجْرِ).
وهي كلمة تعني لغةً الميراث والصِّلة الجزئية بين طرف وآخر والتُّراث يرد بمعنى ما
يُخَلِّفه الإنْسان لورَثَتِهِ وهو المعنى المعروف. إنَّنا نقصد بالتُّرَاث هنا كل
موروث ناتِج من فكر ونشاط بشري مُكتسب
يتوارثه المسلمون فالتُّراث هو كل ما ورثناه من سعي
الأسلاف.
إنَّ
استئناف مسيرة الأمة الحضاريَّة عبر استلهام الرَّصيد التُّراثي مسئولية فِكرية جَسيمة،
كما أنَّها فضيلة دينية عظيمة تستدعي همَّة عالية،
وتضحية مُتواصلة، ونية صادقة، وعقليَّة مُجتهدة، وتعاون ومثابرة من أجل دراسة واستثمار تراث خير أمَّة أخرجت للنَّاس.
يتَّفق
عُلَمَاء التَّربية على أنَّ التَّارِيْخ يمثِّل أصلاً هاماً من أصول التَّربية
فلذلك لا يكاد يخلو كتاب من الكتب التي تدرس أساسيات التَّربية، من ذكر أسماء بعض
رُواد التَّربية والتَّعْلِيْم قديماً ويتوغل البعض في شرح مضامين أفكارهم.
إنَّ
الوقوف أمام إنتاج السَّابقين من رجال الفكر ورواد التربية بغرض الاعتبار
والاستبصار خُلُقٌ نبيل حث عليه القرآن الكريم في مثل قوله
تعالى"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَاب"
(سُوْرَةُ يوسف: 111) وقوله سُبْحَانَهُ "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ {176}" (سُوْرَةُ الأعراف).
إنَّ
صياغة القوانين التَّربوية وما يلحق بها من سياسات ونظم إدارية تضبط مسيرة
المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة لا تتم بمعزل عن فهم ثقافة المجتمع، وثقافة
المجتمع لا بد أن تحتوي على تراث السَّابقين فهي حلقة من سلسلة استحكمت وتكاملت
حلقاتها وحركاتها، أولها يقود إلى آخرها. الأمة التي تُعلِي من شأن العِلْم
وتشجِّع العمل الجاد، وتمدح الكدح هي الأُمَّة التي
تُفلح وتنال مُرادها لأنَّها واصلت السَّعي فوصلت، وزرعت فحصدت.
هناك عدة
تعريفات لكلمة الفكر كمصطلح يتم استخدامه وتداوله بين الباحثين بكثرة في عدد من
حقول العلوم الإنسانيَّة والاجتماعية. نقصد بالفكر التربوي الإسلامي كل ما ورثناه من اجتهادات أسلافنا القولية والفعلية والتقريرية وهو حصيلة روافد
شتى ويمكن أن يخدم العملية التربوية والتعليمية كمبادئ وممارسات.
الفكر هو فعل
إنساني يقوم على الإدراك والتأمل والاستنتاج والقدرة على الاختيار في المسائل
والمشاكل بعد الملاحظة والقياس أو مجرد التأمل وذلك حسب مقدرة كل إنسان وثقافة
العصر ومقتضى الواقع.
قال
الرَّاغب الأصفهاني في معجم مفردات القرآن "الفكرة قوة مُطرقة للعلم
إلى المعلومِ، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون
الحيوان" (ص430). ورد في لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط
للفيروز آبادي أنَّ الفِكْر: إعمال الخاطر في الشَّيء. وفي المعجم
الوسيط الفِكر: "إعمال العقل في المعلوم للوصول إِلى معرفة مجهول".
يعرف بعض
الباحثين الفكر التربوي بأنه "إسهام شعب ما أو أمة
بعينها بجملة من الآراء والنظريات والأفكار في مختلف مجالات التربية والتعليم،
وذلك في لحظة تاريخية معينة لها قسماتها وتفاعلاتها الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية" (نصار، أحمد، 1998م، ص 8،). يرى د. سعيد إسماعيل أنَّ المقصود بالفكر التَّربوي
"مجموع الأسس النَّظرية والمفاهيم والمعاني التي تكمن خلف مظاهر السُّلوك
الإنساني" أمَّا د. عمايرة (2000م) في كتابه أصول التَّربية فقد
عرَّفه بأنَّه "دراسة آراء المُفكِّرين والمُربِّين فيما تركوه في مؤلفاتهم بما
يتعلَّق بالعملية التَّعليميَّة وفلسفتها وأهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف، سواء
ما تركوه على شكل توجُّهات وتتعلَّق بالتَّعليم بشكل مباشر ومُستقل، أم من خلال
تحليل ما انطوت عليه آرائهم السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والدِّينيَّة
فيما يتعلَّق بالتَّعليم، ومدى ارتباط ذلك بالواقع" (ص 29).
ما الفرق بين الفكر التَّربوي وبين تاريخ التَّربية؟ يميل
بعض الباحثين التَّربويين إِلى التَّفريق بين مصطلحي الفكر التَّربوي وتاريخ
التَّربية إذ أنَّ الفِكر أخص والتاريخ أعم لأنَّ التاريخ يدرس ما
وقع فعلاً في عصر من العصور ويرصد الجوانب المتنوعة مثل الجوانب الْسِّيَاسِيَّة
والاجْتِمَاعِيَّة وأثرها على الحالة التَّعْلِيْمِيَّة في كل عصر في
حين أنَّ الفِكر التَّربوي يميل إِلى التَّركيز بشكل
أكبر علىالإنتاج الْعِلْمِي والعملي لرواد التَّربية سواء ما طبَّقوه في واقعهم أو
ما كانوا يطمحون إليه في مستقبلهم.
علم
التاريخ يَتفرَّع منه العناية بعلم التراجم والذي يهتم بأخبار وأسماء وأنساب من
سلف، وكناهم، وألقابهم، وبلدانهم، وتاريخ ميلادهم ووفياتهم، ومناهج تعليمهم أما
الفكر التَّربوي فإنَّه يتتبَّع ثقافة الشُّعوب وأبرز المفكرين والمفكرات بُغية
فهم أنماط التَّربية والتَّعْلِيْمِ. ومما لا شك فيه أنَّ الباحث في الميدانين يحتاج إلى التَّجمُّلِ بخلُقِ الحِياد والأمانة والدِّقة في النَّقل
والتَّوثيق والتَّعليق والتَّحليل.
إنِّ
المفكر في العموم يتأثر سَلباً وإيجاباً بأحوال بيئته لأنَّ المرء ابن عصره وعاداته فالعلاقة المتبادلة بين الفكر والْتَّارِيْخ علاقة وثيقة تجعل الفرق بين
الميدانين في إطار الفروق النِّسبيَّة عند بعض الباحثين. لا يمكن الوصول إِلى فهم صحيح لتاريخ
التَّربية في عصر ما أو مكان ما دون الإفادة من دراسة فكر بعض المربين في ذلك
الوقت وكذلك لا يمكن فهم الفكر التَّربوي لأي مفكر من دون الرِّجوع إِلى دراسة
تاريخ العصر الذي عاش فيه ذلك المفكر.
1- إننا
نتعلَّم لنطبِّق خير ما نَعلم وهذا الهدف التَّربوي هو مُقتضى البيان الإلهي ومقصد
الهدي النَّبوي. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ {18}" (سُوْرَةُ الزّمر).
2-ندرس
التراث لا لننغلق فيه بل لننطلق منه.
3- الأدب
مع نصوص الوحي ومع شعائر الدِّين من أهم أساسيات البحث في مسيرتنا نحو فهم تراثنا
الفكري.
4- نقد
الأفكار التربوية لا يعني بحال من الأحوال تجريح الأشخاص والطعن في النيات.
5-
الأمانة العِلْمِيَّة في دراسة الفِكر التَّربوي الإسلامي تقتضي فَهم أقوال
الْعُلَمَاء بأمانة ونقلها بدقَّة عَلَى حَسَبِ طَاقَتِنَا ولو كان
الرَّأي الْعِلْمي المطروح يُخالف توجُّهاتنا الشَخْصِيَّة.
6- من
أولويات الباحث المسلم العِلْمِيَّة أن يُبرز روائع الحضارة الإسلامية الزّاهرة ويرد شبهات
المستشرقين ومن شايعهم.
7-
الإطار النَّظري العام لدراسة التُّرَاث التَّربوي الإسلامي هو أنَّ الإسلام
منهج شامل للحياة يكفل العدل وينظِّم معيشة الفرد والمجتمع في مضامير الحياة
المختلفة.
8- الفكر
الإسلامي التَّربوي له خصائصه المميزة، فهو فكر يقوم على دعائم الواقعية والوسطية
والشُّمولية والعالمية كما أنه يُحاول جاهداً أنْ يعتمد على الوحي كإطار لتوحيد
وتسديد الرُؤى كما إنَّه فكر تمَّ تجريبه عملياً.
9 - هناك
فرق هام وكبير بين الدِّين الذي هو شرع الله الذي أنزله على رُسُلِهِ وهو ثابت لا
يتغير وبين التَّدين أما "التدين"
فهو فهم الدين
أو ما نسميه الفقه وقد يتعرض للتَّغير حسب البيئة والوقت.
10- وحدة
المسلمين من أهم الفرائض، ونعمة الإخاء من أكرم النِّعم، فلا ينبغي لعِلْم مثل
عِلْمِ الفكر التَّربوي أن يُهدِّد هذا الأصل الأصيل.
11- نقدر العلماء ولا نقدسهم.
12- نؤمن بالاختلاف لا الانحراف.
إنَّ
التَّفكُّر فريضة إسلامية وفضيلة إنسانيَّة لها تطبيقاتها الفاعلة في حركة الحياة.
من مفاخر الإسلام أنَّه لا يُصادر الاجتهاد
الْعِلْمي باسم الدِّين فإنَّ حرِّية الرَّأي والتَّفكير لمن تتوفر لهم آلة
الاجتهاد جاءت مُتَّسِقة مع سماحة الإسلام ورحابة تعاليمه. هدف الفِكر
الإسلامي هو تحرير الإنسان من سيطرة المخلوقين وهدايته إلى سُبل تَعمير
الأرض بالحكمة من خلال تطبيق مكارم الشَّريعة ولا سبيل إلى تحقيق هذه الهداية
الشَّرعيَّة الشَّاملة للَّذات والمجتمع من غير اعمال التفكير كقوة
باحثة عن الخير.
يلخِّص
الحجَّاجي (1988م) بعض ثمار عملية الفكر من منظور ابن قيم بالآتي:
1) "أنَّه سبب في
حصول الإيمان.
2) يكشف عن
حقائق الأمور.
3) يفرِّق بين
الوهم والخيال والحقيقة.
4) يَكف النَّفس عن
المحارم.
5) وهو أصل
كلّ طاعة.
6) وبه صَلاح
القلب.
7) وهو
مفتاح كلّ خير.
8) يورث
القلب قدرة على كسب العلم والمعرفة" (ص495).
وهذه
الأهداف هي الثِّمار المرجوة من عملية التَّفكر والتَّعقل والتي يُنادي بها كافََّة
العلماء في عامَّة مناقشاتهم التَّربويَّة وأنشطتهم الفكرية.
فيما يلي الأسباب الملزمة لإعمال الفِكر في الإسلام:
أ-
ضرورة التَّفكر في خلق الله
لأخذ العظة والتَّدبر.
ب- هدف
التَّفكر هو العمل.
ت- التَّفكُّر يرشد
إلى زيادة الإيمان باللّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وتصفية النَّفس والتَّشوق للآخرة
وعلومه الزَّاخرة.
ث- التَّفكر
في الإسلام عبادة.
ج-
الْعِلْمُ والدِّين الإسلامي وجهان لعملة
واحدة.
ح-
الفِكر الإسلامي فكر واقعي
ينطلق لخدمة احتياجات النَّاس فلذلك يشجِّع على تعلم وإتقان كل حِرفة شريفة.
خ-
الفكر الإسلامي يحثُّ على الأخذ بالمنهج
الْعِلْمي القرآني المُتَّزِن في التَثبُّتِ والنَّقل والتَّفكير والعمل.
المنهج
الْعِلْمِي للتَّفكير الإسلامي في إدراك الشَّيء على
حقيقته له أصوله وخصائصه، ومكانته ومُكوناته، وتاريخه وغاياته. هدف هذا المنهج في
تَصَور المعاني واستنباط المسائل هو توجيه
إدراك الإنسان لفهم طبيعة القوانين التي تحكم الحياة فيستثمرها
بالعدل.
لهذا
المنهج وظائف ومنافع كثيرة أساسها تجنب الجهل الذي يشل نشاط العقل فينحرف الفعل
ولكي يسلم الفكر من خطر المزالق فلقدَّ حذَّر الإسلام من العوائق
التي تُعيق العقل من التَّدبُّر. في مقابل هذا التَّحذير نجد
الإسلام يدعو الإنسان دائماً إلى اليقظة في ملاحظة الظَّواهر من حوله ومُعاينتها
ميدانيّاً مع تحري الأمانة في تدوين ونقل النَّتائج وتطبيقها.
هذا كله
دفع العلماء إلى بلورة علم أصول الفقه الذي استفاد من معينه علماء الشَّريعة
والعلماء في العلوم الأخرى. أصول الفقه ميدان مرن لضبط التَّفكير
الموضوعي والاجتهاد في إصدار الأحكام المناسبة لمسائل واقعة في حياة النَّاس وفق
أسس علمية ودينيَّة وحضاريَّة. هذا
المنهج العلمي لم يكن يخدم الفقهاء في العلوم الدِّينيَّة فقط ولكنه كان لكل
العلماء في العلوم الاجْتِمَاعِيَّة والطَّبيعيَّة على حد
سواء.
لقد
حدَّد الشَّافعي من خلال علم أصول الفقه شروط ومُؤهلات الُمجتهد،
وضرورة توفير الحرية الكاملة للمجتهدين وأوضح بموضوعيَّة تامَّة النَّتائج
المُترتبة على عملية الاجتهاد وأهمها أنَّ العمل لا يقوم إلا
على نتائجه مع
الإيمان بِحريَّة الخلاف الموضوعي. يتَّفق الباحثون على أنَّ هذا المنهج الإسلامي
الموضوعي الأصيل الذي أرساه الشَّافعي، وأعاد صياغته
وتقنيه في منهج مُستقل، وضبط قواعده في كيفيَّة الاجتهاد وفق
أصول الفقه قد يَسَّرَ للعقول الإسلامية طريقة علميَّة إيمانية قرآنية فريدة للاعتبار
والاستخلاص تستوي في ذلك العلوم الاجتماعية والرِّياضية والطَّبيعيَّة
والتَّطبيقيَّة بجميع صورها. وبهذا يسَّر هذا العلم على المجتهدين حرِّية البحث العلمي، والتَّجربة الدَّقيقة،
والتَّغيير الموضوعي الذي ساهم في تقدًّم العلوم وهو المنهج
الذي انتفعت منه أوربا فخرجت من ظُلمة وضيق الفلسفة التَّجريدية والوصاية الكَنسيَّة
إلى نور وسعة العلم والبحث.
تتلخَّص وظائف
المنهج العلمي للتَّفكير في الإسلام في أربعة نقاط جوهرية وهي:
q
حفظ وصيانة عالم العقيدة من الضَّلال،
q
حفظ عالم
الأخلاق من الآفات النفسية والاجتماعية.
q
حفظ عالم الحُكم والقضاء والتَّعامل من
الظُّلم،
q
حفظ عالم البحوث وحقل التَّجارب ودُنيا
العلوم من الأوهام.
عرف
المسلمون المنهج العِلْمِي في التّفكير والبحث والتَّجربة والقياس فطبَّقوه في
ميدان العلوم الدِّينيّة والدّنيويّة على المستوى النّظري والتَّطبيقي.
ترتَّب على هذا أنَّهم اعتنوا بتنويع طرائق التَّعليم والبحث مثل
القيام بالزِّيارات الميدانية، وإيراد الرّسوم والأشكال التَّوضيحية، وإعداد
الخرائط الجغرافية بأشكال متنوعة، وتلوين الكتب والأغلفة مع زخرفتها والتَّفنن في
الخطوط، ورسم الآلات الجراحية والفلكيَّة، وذكر الأعداد والأحجام والأوزان.
يُبَيِّن
عِلْم أصول الفقه الذي استُخلِص من القرآن والسُّنَّة، منطق
المسلمين في الاجتهاد كآلة للبحث والمعرفة والتَّفكير المنهجي. يقوم الاجتهاد
على رفض التَّقليد الأعمى، والهوى، والعصبية وفي مقابل هذا فإنَّ
الدَّليل الصَّحيح والاستنباط الموضوعي النَّابع من تتبع المسائل
بغرض الوصول إلى المسائل الكلِّية وصياغة النَّتائج العِلْمِيَّة
العامَّة كان هدي الْعُلَمَاء في الدِّيار
المسلمة. أهلُ العِلْمِ، والخبرة، والتَّخصُّص أصبحت لهم مكانة عالية في ظلال
الإسلام فلا تُؤخَذ المعارف إلا من مصادر خبيرة.
روجر
بيكون (ت 692 هـ = 1292 م) ثمَّ من بعده فرانسيس بيكون (ت 1039 هـ =
1626 م) وغيرهما كثير استمدوا – بأسلوب غير مباشر أو مباشر- من هذا المنهج
الُمجرَّب عند المسلمين مادتهم الإصلاحية لإصلاح الفكر الغربي. كسر الغرب احتكار
رجال الدِّين لحق التَّفكير والتقرير في كل مسائل العلم وأوجه النَّشاط في المجتمع،
ورفض الانغلاق على تراث واحد فقط فقام بنقل العلوم
الإسلامية وغيرها وأعطى للعقل النَّاقد دوره في تقرير المسائل.
حق
الاجتهاد لمن يستوفي شروطه مكفولٌ لكل من يبذل وسعه في البحث وفق
الضَّوابط الموضوعيَّة لكل فن، عِلْماً بأنََّ الاجتهاد ليس من
شروطه موافقة الصَّواب في كل مرة فليس كل مجتهد مصيب ولكن كل مجتهد مأجور عند الله
جَلَّ ثَنَاؤُهُ إذا تحققت فيه شروط الاجتهاد. الدَّليل على ذلك قول رَسُول الله e "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد
ثم أخطأ فله أجر" (رواه البخاريّ).
الاجتهاد
كما عرَّفه الجرجاني في تعريفاته "بذل الوسع وفي الاصطلاح: استفراغ الوسع
ليحصل له ظنّ بحكم شرعي وبذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال" (ص
6).
ولقد قام
العلماء بنُصرة حرِّية الاجتهاد وتوسيع نطاقه، والتَّرغيب فيه
لمن تتحقق فيه شروطه إلى درجة أنَّ أنَّه لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ
الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَفْتَى فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ بِخِلافِ الصَّوَاب
الثَّابِت "لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا، بَلْ يُبَيَّنُ
لَهُ خَطَؤُهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ. فَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
مَنْ هُوَ كَذَلِكَ" كما ابن تيمية.
علماؤنا غير
معصومين من الخطأ مهما بلغ عِلْمهم. أن نحمل النَّاس على رأي عالم واحد أو مذهب
واحد فيه تضييق لفضاء حضارتنا ولدعائم رسالتنا الإسلامية الرَّائدة. تُثبت الدِّراسات
في كل حقول العلم أنَّ الفكر مهما سما وعلا فإنَّه لا يستقل عن الْمَدَاَرِس
الفِكْرِيَّة الأخرى وإلا ضاق نطاقه، وضعف فيضه. وكل عالم إمامٌ في
عِلْمٍ، عاميٌّ في عِلْمٍ آخر.
رغم وضوح هذه
الحقيقة في أنَّ العصمة غير حاصلة لغير الأنبياء فإنَّ للعُلَمَاء
الأوائل مزيد الفضل لأنهم حفظوا لنا الأصول، وحرَّروها في كُتُبِهم، وشرحوها في
أبحاثهم، ونشروها لطلابهم، وطبَّقوها في واقعهم فجزاهم الله خير الجزاء عن أمَّة
الإسلام فهم الأصل في البداية وإليهم يعود الفضل في النَّهاية.
الفكر
التَّربوي الإسلامي يقبل الاختلاف إن كان اختلاف تنوع بل يُرحب به إن دعت الحاجة
له فهو اختلاف ائتلاف ورحمة وفي نفس الوقت فإنَّ الإسلام دائم التَّأكيد على مفهوم الوحدة والاتِّفاق. الاتِّفاق في القضايا من
المقاصد الهامَّة في الحياة ولكنَّه يتعذر وجوده في كل
الأمور الفكرية ولذلك فإنَّ الإيمان بتنوع الآراء من سنن الحياة فاختلاف التَّنوع
محمود لأنَّ فيه خير للعباد أمَّا اختلاف التَّضاد فهو مذموم لأنَّه أصل
كل فساد.
الموازنة
بين المفكِّرين من أصعب القضايا لاختلاف مشاربهم العِلْمِيَّة، ولتنوع إمكاناتهم
الفرديَّة، ولتعدُّد ظروفهم. كان أبو حنيفة يعتمد في تعليمه على المناظرة والحوار
أما مالك وابن حنبل فلقد اعتمدا على أسلوب قراءة الكتاب والمحاضرة. هذا الاختلاف
في طرائق التَّعليم له عدَّة أسباب منها طبيعة المواد التي قاموا بتدريسها والفترة
الزَّمنية والعوامل المكانية فالتَّدريس في العراق كان يختلف عن المدينة المنوَّرة
ففي العراق كان التَّعليم فيه يتطلب مراعاة تنوع الثَّقافات وفي المدينة كانت
الحياة في غاية البساطة لم تدخل طور كماليات الحضارة وتعقيدات صنائعها. يستدعي علم
الفقه قدرة على المناقشة والقياس وترجيح الآراء في حين أنَّ علم الحديث يعتمد
بشكل أكبر على الحفظ والنَّقل والتَّوثيق وتحري نُطق الكلمات بشكل سليم مع العناية
بتجويد الخطِّ.
وهكذا
فإنَّ المسائل التَّربويَّة تتحمل أوجه الخلاف ولا يمكن
القطع فيها دائماً والأصل أن يقوم الباحث الحصيف بنقل كلام أهل الْعِلْمِ في
المسألة بأمانة ودقَّة مع إيراد أدلتها إذا تَطَلَّبَ الأمر ثم له أن
يُرجِّح الرَّأي الذي يميل له مع التَّعليل لما يختاره كما فعل ابن خلدون عندما
تحدَّث عن الأطفال ومنهج حفظ القرآن الكريم. بَيَّن ابن
خلدون مناهج أهل المشرق والمغرب في زمانه فذكر خمسة أوجه لتدريس القرآن
الكريم للصِّبيان وهي منهج أهل المشرق، والمغرب، والأندلس، وأهل أفريقيا، وطريقة أبي بكر بن العربي. قال ابن خلدون في المقدِّمة
"واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك
التَّعْلِيْم من الملكات".
"أمور
التَّعْلِيْم اختلفت باختلاف الأقاليم، واختلاف الأشخاص القائلين بها. وقد نجد
اتفاقاً على بعض الأمور، ولكنهم اختلفوا في أمور أخرى كثيرة، مما يجعلنا نُفرد لكل
عالم منهم كلمة خاصة تجمع آراءه وتبين ما امتاز به" (الصَّالح، ص 274). وجاء في
صحة سماع الصَّغير عن أنَّ أهل الكوفة لا يُخْرجون
أولادهم في طلب الحديث النَّبوي الشَّريف حتى يستكملوا عشرين سنة، وأنَّ أهل
البصرة يكتبون الحديث النَّبوي لعشر سنين، وأهل الشَّام لثلاثين وكل فريق يظن أنَّ هذه أو
تلك الفترة فيها مجتمع العقل ويحبون قبلها أن يشتغل الصِّبيان بحفظ القرآن الكريم
ثمَّ لهم أن يطلبوا ويكتبوا عِلْمَ الحديث بعد بلوغ
السِّن الذي تعارفوا عليه.
مصادر
تحصيل العِلْمِ وإثراء الفكر في الإسلام رحبة وتختلف عن المناهج الوضعيَّة
الأرضيَّة التي تتأسس على العقل ونشاطه والحس ودلالاته ولكن لا تقيم وزناً للدِّين
والنَّقل وما يشهد به العقل. يمكن الحصول على العِلْمِ الصَّحيح أو
السَّقيم من عِدَّة دوائر منها: التَّعلّم عن طريق التَّقليد،
والتَّلقِين، والأخبار المسموعة والمكتوبة، التَّعلُّم من
الخِبْرَةِ الشَّخْصِيَّة، والدِّراسة المُنظَّمة، والأديان، والفِرَاسة، والحِسّ
والتَّجْرِبَة العِلْمِيَّة، والتَّأمُل، والحَدْس والشُّعور الدَّاخلي، والمعرفة
المبنيَّة على معرفة الأسباب والتَّحليل المنطقي. الدِّين هو أهم وأصدق هذه
المصادر بالنِّسبة للمسلم فهو الذي يهيمن على المصادر وينظِّم سيرها،
والعِلْم المطابق للحق لا يمكن بحال من الأحوال أن يتصادم مع قطعيَّات الدِّين
الصَّحيح لأنَّه مصدر الحق والصِّدق ولأنَّه من الله سبحانه.
أورد
الجرجاني في كتابه التعريفات عدة تعريفات لكلمة عِلْم منها:
·
هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
·
هو حصول صورة الشَّيء في العقل.
·
هو إدراك الشَّيء على ما هو به.
لقد
تكلَّم علماؤنا في حدِّ العِلْمِ والمعرفة في اللُّغة العربيَّة وذكروا الكثير من
الألفاظ التي في بعض معانيها مُرادفة لكلمة العِلْمِ وحاولوا ذكر الفروق بين تلك
الألفاظ فقالوا:
v
الشُّعور: وهو أول مراتب وصول
العِلْمِ إلى القوة العاقلة فهو إدراك من غير تثبُّت،
v
التَّصور: وهو حصول صورة
الشَّيء في العقل،
v
التَّذكر: وهو محاولة القوة
لاسترجاع ما زال من المعلومات،
v
الفَهم: تصور عميق للمعنى.
الأفكار
هي الأيديولوجيا Ideology
التي تمثِّل مجموعة من المعلومات المنظَّمة عن طبيعة المجتمع
والثَّقَافَة وتمهد لنظريات خاصة لوصف المجتمع وكيفية تنظيمه ووضع النُّظم
والقوانين التي تحكمه وتوجِّه مسيرة التَّعليم وتُحدِّد كيف يعيش
النَّاس أي أنَّها أفكار تُحاول أنْ تُجيب على أسئلة مصيريَّة وهي
التي تُشكِّل نظرتنا الكُلِّيَّةِ للحياة وفلسفتنا العامَّة للعيش فيها.
يقول د.
سعيد إسماعيل علي (1997م) عن مفهوم الأيديولوجيا أنها ابتُدِعت في فرنسا "وهي
تعني عِلْم الأفكار أو دراستها" (ص216). تنبع أهميَّة الأيديولوجيا من أنها
تُشكِّل تصورات المجتمع وهذا بدوره له مظاهر مادِّية
وثقافيَّة تظهر آثارها في تبني فلسفة التَّعليم لكل مجتمع مع تشكيل لعاداته وقيمه
وموازينه وأنماط العمل وسياسات الإنتاج أي أنَّ الأيديولوجيا في مُحصِّلتها تُشكِّل
مجموعة المعارف والفنون وأنماط الحياة ومقاصدها وطرائق استثمار النَّشاط وتصريف
الطَّاقة الإنسانيَّة.
يجرِّد الفِكر
الغربي في الكثير من نظرياته الإنسان من إنسانيته من خلال التَّركيز على جانب مادي
واحد كمحرك للسُّلوك الإنساني فماركس يركِّز في بناء نظرياته وتحليلاته على العامل
الاقتصادي، وفرويد على العامل الجنسي، ودوركايم على الظُّروف الاجْتِمَاعِيَّة،
وجون ديوي على الأخلاق النَّفعيَّة "البراغماتيَّة". نشر الفيلسوف نيتشه
الإلحاد في الفلسفة وأعلن عن موت الإله. هذا كله أبعد المجتمع الغربي عن الله
سُبْحَانَهُ وعن عالم الرّوح فتعاظم خطر الإلحاد وصبغ الأدب والشِّعر
والقصص والعلوم بصبغة مغزاها ماجن بغيض، ومبناها فاحش مريض.
من هنا
اضطربت العقائد وتحلَّلت الأخلاقيات فجلب ذلك من المفاسد الأخلاقية الشَّائكة
والمخاطر الفتَّاكة التي لم تكن من قبل معروفة بهذه الكثرة والحِدَّة في تراث
الغرب. في نفس اللَّحظة تحررَّت العقليَّة الغربية من وصاية رجال الدَّين ونادى
المربُّون إلى تنويع طرق البحث العلمي، وتطوير المُكتشفات، وتوفير الحُرِّيات.
يتحدث بعض المحللين
التَّربويين هناك عن موت القيم وأنَّ التَّربية الأخلاقية أصبحت خالية من
مفاهيم الخير والشَّر، والصَّواب والخطأ مما يُحتِّم علينا – كما يقولون -
أن نجتهد في تعريف المفاهيم الأخلاقية لغرسها في الأجيال القادمة. بدأت مئات الْمَدَاَرِس
تهتم بموضوع التَّربية النَّفسية والأخلاقية للطَّالب
وتنمية الذَّكاء النَّفسي عبر برامجها مثلما تهتم بتعليم الرِّياضيات والعلوم.
الآراء
الغربية في معظمها إمَّا فوق مثالية تدعو للرَّهبنة والتَّبتل والعُزلة وترك
الدُّنيا، أو إباحية مُطلقة تُقْبِل على
مُتعِ الدُّنيا بلا حدود وتجرِّد الإنسان من القيم والفضائل في حين أنَّ الفكر
الإسلامي يُؤمن بالوسطية ويحاول الموازنة في كل الأمور لِيُحقِّق الاعتدال.
استفاد
الفكر الغربي من التُّرَاث اليوناني والإغريقي الفلسفي والدِّيني بشكل كبير ومباشر
وأخذ من فكر أفلاطون وأرسطو كما تأثر من جهة أخرى بالفكر الإسلامي في أحيان كثيرة
وخاصة في أخذ مناهج البحث العلمي من خلال ترجمة الكتب الإسلامية الطبية والفلسفية
والقانونية وغيرها مثل كتب ابن سينا، والرازي وابن النّفيس. يعترف بعض الغربيين
بفضل العلوم الإسلامية وبعضهم قد يجهل هذا لتقصير الباحثين من المسلمين
في عرض ذلك في المجامع العلميَّة والموسوعات التَّخصصيّة في حين أن معظم الغربيين
من المُستشرقين إما يتجاهلون أو يهاجمون الإسلام.
نجح
الفكر الغربي المعاصر في كثير من الجوانب في خدمة الإنسانية وتطويرها خاصة من
النَّاحية الماديَّة التِّكنولوجيَّة والإدارية والصِّحيَّة. البحث الحرّ عبر
المُؤَسَّسَات التَخَصُّصِيَّة ودعم الفكر المبدع المرتبط بالحياة جَعل الفكر
الغربي يَتَرَبَّع على قمة الإنتاج العِلمِي في عصرنا الحاضر. بعض المفكِّرين في
الدِّيار الإسلاميَّة من الرَّاصدين المُتربصين لا يذكرون الغرب إلا مع الإباحية
والمخدرات ولكن الحقيقة الكاملة ليست كذلك فإنَّ للغرب سَبقه وتميُّزه في ميادين كثيرة
فينبغي الاعتراف بتميزهم، والاستفادة من سَبْقِهم كما ينبغي الحذر والتَّحذير من
مساوئ حضارتهم على حد سواء.
يرجع المسلمون
ولمدة عشرات السِّنين في كثير من أبحاثهم لكُتب بعض المُستشرقين في
إعداد دراساتهم مثل كتاب كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي، والمعجم
المفهرس لألفاظ الحديث النَّبوي الذي نظَّمه لفيف من المستشرقين كما أنَّ
الموسوعات والمجلات التي تتحدَّث عن تاريخ العالم الإسلامي لها أهميَّة كبيرة في
إعداد البحوث الأكاديمية والمتميزة. لقد قام المُستشرقون بنشر وتَرجمَة
وتحقيق الكثير من المخطوطات من كتب التراث الإسلامي ورغم السَّلبيات الكثيرة فيها
أثناء التَّحقيق وبغض النَّظر عن دوافعهم وراء ذلك فإنَّ المكتبات الإسلاميَّة
وخاصة الجامعيَّة منها لم تستغن عنها.
وإذا
انتقلنا إلى موضوع الأجواء السِّياسيَّة في الغرب فإنَّنا نجد أنَّ حُرِّية الفكر
من أُسس الفكر الغربي الحديث وكثير من المسلمين وخاصة
المتميزين من المفكرين والباحثين يعيشون في بلاد الغرب بحثاً عن الحرِّية وهرباً
من بطش دولِهم المسلمة الجائرة وكأن لسان حالهم يقول: ديمقراطية الغرب المشوَّهة
خير من دكتاتورية الشَّرق القاتلة. إنَّ الجامعات المُهتمَّة
بالفكر الإسلامي والمُتَخَصِّصة بتراثنا تُفضل اختيار مواقعها في الدول الغربيَّة
طمعاً في أجواء الحريَّة.
هناك 352.000 دراسة عِلْمية تمَّ
عرضها عالمياً في المؤتمرات الأكاديمية منها3.300
دراسة قُدِّمت من باحثين يعملون في الدُّول الإسلامية أي أنَّ مساهمة
دول العالم الإسلامي اليوم أقل من 1% من مجموع الدِّراسات وكتب المسلمون في الفيزياء 46 دراسةٍ من أصل 4.168 دراسة، وهناك 53
دراسة من أصل 5.050 دراسة في الرِّياضيات و 128 من أصل 5.375 في
الكيمياء.
وهذا
التَّقلص في الإنتاج العِلمي في العالم الإسلامي يتناقض مع تعاليم الإسلام التي
تحض على البحث فلا يكفي المسلم أن يدَّعي أن دينه يشجِّع طلب العِلم وهو في الواقع
في آخر الرَّكب فدليل عملي واحد خير من ألف دعوى.
تتَّسم
كثير من المُؤَسَّسَات الغربية بالاستمرارية والواقعية في إنتاجها في حين أنَّ العالم
الإسلامي يُعاني من عمليات الإجهاض الدَّائم للمشاريع الرَّائدة
بسبب الهزَّات الاقتصاديَّة أو الْسِّيَاسِيَّة أو نقص الخبرات التَّخَصُّصِيَّة
النَّاضجة. وعندما نلتفت إلى جهود الغرب في حفظ تراثه الفكري فإنَّنا نجده
قد حفظه وفق أحدث وسائل التَّقنية الحديثة.
المنظومة
الفِكْرِيَّة الغربيَّة لها دلالاتها ومعانيها الخاصَّة لمفهومي التَّقدم والعلم
تتلخَّص في أنَّ الغرب المادي بقيمه وقدراته هو مركز العالم وأنَّ العلم
لا أساس له من غير عنصر المادَّة.
إنَّ الحضارة
المادية التي نراها تتمزق من الغرور، أَسَّسها الرَّجل الأوربي الأبيض فاحتكر
العِلم واستغلّه للسَّيطرة على الآخرين. لقد فَقَدَ العِلْمُ بركة الإيمان بالله
وكانت الثَّورة المعرفيَّة لأغراض مادِّية جلبت للبشريِّة مُعدّلات عالية في عدد
ضحايا الانتحار، وجرائم القتل، وتعاطي المُسكرات. إبادة الشُّعوب الضَّعيفة
بتكنولوجيا فتَّاكة، واستنزاف الموارد الطَّبيعيَّة من نتائج
الأنانيَّة للحضارات التي تظن أنها عرفت كل شيء ولكنها لم تعرف رَبَّها.
يرتبط مفهوم
العلم في المنظور الغربي بالمحسوسات ولا صلة كبيرة له بالجانب الروحي الغيبي الذي
جاء به الأنبياء. يقول علي جمعة (2001م) إنَّ
المعاجم الإنجليزية وضعت "العديد من التَّعريفات لكلمة "عِلم"، وعلى
سبيل المثال:
· مجموعة
مُتنوعة من فروع المعرفة أو مجالات فِكْرِيَّة تشترك في جوانب معينة.
· فرع من
الدّراسة تلاحظ فيه الوقائع وتصنّف وتصاغ فيه القوانين الكمِّية، ويتمُّ التثبُّت
منها، ويستلزم تطبيق الاستدلال الرِّياضي وتحليل المعطيات على الظَّواهر
الطَّبيعيَّة.
· الموضوع
المنظم في المعرفة المتحقق منها، ويتضمَّن المناهج التي يتم بها تقديم هذه المعرفة
والمعايير التي عن طريقها يختبر صدق المعرفة.
· مجال
واسع من المعرفة الإنسانية، يُكتسب بواسطة الملاحظة والتَّجربة، ويتم توضيحه عن
طريق القواعد والقوانين والمبادئ والنظريات والفروض.
مِنَ الكُتُب التَّارِيخِيَّة الْهَامَّة كتاب "التُّرَاثُ
التَّربوي الأمريكي" (Heritage
of American education) كتبه مجموعة
أساتذة يعملون في جامعات أمريكا. الذي يعنينا من هذا الكتاب هو الفصل الخامس منه
حيث يتطرَّق إلى التَّربية الإسلاميَّة من وجهة تاريخيَّة مع
بيان أثر الحضارة الإسلامية في ثقافة الغرب. يتحدَّث المؤلِّفان عن
التَّربيّة الغربيَّة المعاصرة ومدى تأثرِها
الغير مباشر بالحضارة الإسلاميَّة. الفصل كَتَبه عالمان يعملان في حقل التَّربية الأكاديمية
هما ري ميسغ ودويت ألن، واسم الفصل هو "الإسهامات
الإسلاميّة للتَّربية الأمريكيّة" (Islamic contribution to American education). رغم أهمية وعمق هذه الدِّراسة فإنَّنا لم
نطَّلِع على أي تَرْجَمَة عربية للفصل المذكور وفيما يلي تَرْجَمَة عامَّة موجزة.
يبدأ الفصل
بتقرير إنَّ الإسلام والمصادر الشَّرقية الأخرى لها عظيم
الأثر على التَّربيَّة الأمريكيَّة بشكل غير مباشر
ولذلك يتم تجاهلها. والمراد أنَّ التَّربية
الإسلاميَّة ليست كالتُّرَاث اليوناني إذ الكل يرى الصِّلة
المباشرة بين الحضارة الغربية واليونانية فالنَّقل الحرفي من اليونان ظاهر
ومعرفة أعلام المفكرين اليونان أمر معلوم عند الغربيين. يَستَهِلّ الفصل بمجموعة كلمات مثل الجبر
والقطن والسُكَّر واللَّيمون للدّلالة على أنَّ الطُّلاَب في جميع
المراحل الدِّراسة في أمريكا يستخدمون يومياً كلمات أُخِذت من العرب وأنَّه لا
يمكن تَصوُّر مهنة من المهن لا تتصل بعلوم المسلمين. ثم يُؤكِّد الفصل على وجود
نظرة خاطئة تأصلت عبر السِّنين في أذهان عامة النَّاس في الغرب إذ يظنون
أنَّ المسلمين عاشوا في خيامهم ولم يعرفوا درب التَّقدم لهذا السبب وغيره يُقدِّم
الفصل المذكور نبذه سريعة عن تاريخ الإسلام وأهم تعاليمه. ويستعرض
الفصل جهود الغزالي وابن خلدون والزرنوجي في حقل التعليم ومن الحقائق التي تناولها
البحث ما يلي:
o
نجح النَّبي (e) في توليد دافعية حب العلم والحرص على البحث عنه وهو سبب من أسباب
تطور الحضارة الإسلاميَّة التي تميَّزت بتشجيع الْعُلَمَاء.
o
أعظم إسهام عالمي للمسلمين هو عنايتهم بالأرقام
وعلم الرِّياضيات.
o
كانت المساهمات الحضاريَّة
الإسلاميَّة في الجانب النّظري والعملي معاً.
o
جعل المسلمون أسبانيا مدينة تشع بالحضارة
والنّهضة لمدة ثمانية قرون وفي علوم كثيرة فكانت المثال الأعلى
لأوربا كلّها.
o
على عكس جيرانهم في أوربا نجح المسلمون
في الموازنة بين المثال والواقع، وبين الدين والعلم.
o
فتح الإسلام باب البحث في الرِّياضات
وسمح للعلماء بعمل التَّجارب ودراسة الجغرافيا والفلسفة في حين أنَّ
الغربيين المجاورين لهم لم تكن عندهم القدرة على فهم هذه المسائل ويظنون أنها
خطرة.
o
يتضمن هدف التربية الإسلامية الموازنة
بين احتياجات الروح ومتطلبات الجسد، والحث على البحث العلمي المبني على التجارب.
o
لم يكن تعليم البنت في الكتاتيب محل
التَّرحيب دائماً مثلما كان الأمر للولد.
o
كان الأوربيون النَّصارى
يعيشون في تخلّف في حين أنَّ المسلمين عاشوا في أجواء ديمقراطيَّة
تتيح للفقراء مثل الجاحظ وابن حنبل والغزالي فرص التَّعلم والتّفوق والبروز.
كانت مساعدة طالب العِلْم مادياً متوفرة للبنات والأولاد ممن يملكون القدرة
العِلْمِيَّة على مواصلة العِلْم.
o
يشترك العاملون
في المكتبات العامّة الأمريكيّة اليوم مع العاملين في المكتبات الإسلاميّة في
العصور الوسطى في وظائف كثيرة. كان النَّاس يتسابقون للمكتبات بل حتى في حال
السَّفر قد يأخذون كتبهم للمطالعة. كانت المكتبات فيها من شتى العلوم وفيها الكتب
المُتَرْجَمَة.
o
نشأت الجامعات الأوربية في حقيقتها كبذرة
من بذور الحضارة الإسلامية التي كانت النَّموذج الأعلى للنِّظام
التَّعْلِيْمي.
o
عندما نستعرض قائمة بأسماء النَّوابغ في
الغرب أمثال البابا جربرت والفيلسوف روجر بيكون نجد أن معظمهم
في العصور الوسطى قد استفادوا أو درسوا في البلدان الإسلامية مثل: مصر والعراق
وأسبانيا وتونس والمغرب. كان الطَّالب الأوربي يدرس في تلك المدن علوم
الطِّب والجراحة والكيمياء والرِّياضيات المتقدِّمة والفلك والفلسفة.
كان أثر الجامعات الإسلامية واسعاً عميقاً فلقد كانت الجامعات الإسلاميَّة
ديناميكية إبداعية تستقبل وتعلِّم النَّاس من أديان مختلفة
ومن دون مقابل مادي.
o
أدرك القادة في الحضارة الإسلامية
أهميَّة تثقيف المجتمع وعرفوا قدرة التَّربيَّة على
تشكيل النَّاس وصياغتهم فاهتموا بالْمَدَاَرِس والمكتبات.
o
أسَّس المسلمون فكرة الجامعات كما نعرفها
اليوم وأقدم جامعة هي "بيت الحكمة" والتي أنشئت في القرن التَّاسع أي
قبل ظهور بدايات الجامعات الصَّغيرة في أوربا بـ 300 سنة. أخذت أوربا من جامعات المسلمين
أفكاراً رئيسة منها تنوع التَّخصُّصات داخل الجامعة
الواحدة، وفتح المجال لمن يريد أن يحضر كمستمع لا منتظم في الجامعة، وتقديم
المعونة المادية للطلاب المحتاجين، وتنظيم العلوم الأكاديمية.
o
ربَّما تكون أعظم مساهمة
إسلامية للنَّظرية التَّربوية أنَّها تحرَّكت بها نحو توسيع
دائرة التَّعْلِيْم ودفعه نحو العالميَّة وذلك عبر فتح أبواب الْمَدَاَرِس ليحصل
على العِلْم كل من يشاء من دون مقابل مادي يدفعه. كان يمكن للمعلِّمين من جنسيات
مختلفة أن يعملوا بصرف النَّظر عن ألوانهم. منذ فترة طويلة وقبل لوثر
وكومونيوس وبستالوزي وضع المسلمون هذه النَّظريات في دائرة العمل.
الجهود الأمريكية لجيفرسون ومانز في المطالبة بتعليم العامَّة مَجَّاناً
مدينة بالفضل لمثل هذه التَّطبيقات الإسلاميَّة
الإنسانيَّة السَّباقة.
o
سبق ابن خلدون هربت
سبنسر في تحديد الخطوات المنطقيّة لشرح الدَّرس في الفصل عبر خطوات
مُتسلسلة تُراعي حال الطلاب.
تكشف التَّربية
المُقارنة عن رصيد الأمم الحضاري وتدرس عناصر إنتاجياتها الأصيلة وأوجه الاقتباس
والإبداع والإضافة التي قامت بها الشُّعوب في ميادين العِلْمِ والمعرفة والثَّقافة
والفنون. يؤكد المتخصِّصون في أصول التَّربية الغربية اليوم على أنَّ الحضارة
الإسلاميَّة ظهرت بداية في أرض العرب وكوَّنت ثقافة عالمية تمتاز بقدرة فائقة على
هضم العلوم وإعادة صياغتها والإضافة عليها ونقلها للآخرين. هذه هي الحضارة التي
تعلَّم منها الأوربيون وفيما بعد استفادت منها الثَّقافة الأمريكيَّة وشيدت من لبناتها المتينة المتماسكة صروح العلم على أراضيها. تعلَّم العرب
صناعة الورق من الصِّينيين ثم حمل المسلمون هذه الصَّنعة لأوربا. الإسهامات
الواسعة للمسلمين في التَّربية لها الكثير من الأمثلة منها الثورة المعرفية التي
قاموا بها في تطوير عِلْم الرِّياضيات والتي لعبت دوراً تعليمياً عالمياً.
قبل
انتشار صناعة الورق في أسبانيا ومن هناك إلى سائر العواصم الأوربيَّة كانت
القراطيس المصريَّة المصنوعة من ورق البردي تصل إلى بلاد الرُّوم والدُّول النَّصرانية
في أوربا وعليها صورة لكلمات التَّوحيد "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ
إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ" (سُوْرَةُ آل عِمران:
18). القراطيس المصرية البردية وعليها آية التَّوحيد هي التي استخدمها
البابوات ورجال الدِّين في الكنائس لفترة ليست بالقصيرة وذلك لكتابة
عقائدهم. وفي الخزائن الأوربية اليوم بقايا من القراطيس البرديَّة المطرَّزة بآية
التَّوحيد منها منشور البابا يوحنَّا الثَّامن كتبه سنة 876
م.
تهدف الفقرات
التَّالِية إلى التَّعريف بطائفة من الميادين التَّربوية
التي استفادت من إسهامات المسلمين الحضارية:
وضع
المسلمون علم أصول الفقه كمنهج علمي أصيل للتَّفكير تمّ استنباطه من قواعد الدِّين
الإسلامي ليضبط حركة الاجتهاد، وطرائق تنظيم العلاقات، وتوجيه الحركات، وتعمير
الحياة وهو منهج علمي إيماني شامل لا يُضاهيه في إحاطته ودقته أي منهج عقلي.
المسلمون
نقلوا وترجموا وناقشوا روائع تراث الحضارات القديمة ونجحوا في تعليمه وتسليمه
للشّعوب الأخرى. كثير من ابداعات الحضارات القديمة
ضاعت أصولها وبقيت الأصول العربية وهذه أكبر خدمة تاريخيَّة يتمتع بها المثقفون في
جميع أنحاء العالم. المنهج العلمي كما مارسه المسلمون في بحثهم عن الحقيقة قادهم
للانفتاح على المخزون الإنساني المذخور في علوم الحضارات الأخرى فدارت عجلة البحث
عن الحكمة فأبدعت العقول في تَرْجَمَة المُهم من علوم الإغريق والفرس والهند..مع
نقد مُتوازن لها، وتطوير مُبْدِع فيها، وتطبيق ميداني لمضامينها. ولولا جهود
المسلمين في تحمُّل عناء التَّرْجَمَة لما سلمت للبشرية الكثير من الكنوز
الفِكْرِيَّة التي ضاعت أصولها، وظلت ترجمتها العربية أحياناً كنُسخ أخيرة وصلت
لنا مليئة بالحِكمة ونجت من الضَّياع.
رغم أنَّ إنكار
هذه الإسهامات غير ممكن إلا أنَّ الغرب عموماً يتجاهل هذه الأيادي
البيضاء ولا يعترف بها أمام أبنائه. في دراسة "لجيمس لون" اكتشف جيمس أنَّ كل
الكتب الدِّراسيَّة التي قام بفحصها في أمريكا بيَّنت له أنَّ مناهجهم
الدِّراسيَّة تتغافل عن الثَّناء على عطاء الحضارة الإسلامية إذ قام المسلمون
بتَرْجَمَة وحفظ الحكمة اليونانيَّة، وتطويرها عبر تدعيمها بأفكار من الصِّين،
والهند، وأفريقيا ثم تمرير المحصلة العِلْمِيَّة لأوربا عبر أسبانيا. والأسوأ من
هذا كما يقول الباحث جيمس أنَّ المناهج الدراسيَّة الغربيَّة في
مدارسهم تُصوِّر للطّالب أنَّ التَّقدم هو الذي قام به الغرب فقط
حديثاً وأنَّ المدنيَّة ظهرت مع بداية
جهود الأوربيين. هذه المغالطات دفعت الباحث إلى أن ينشر كتابه تحت عنوان أكاذيب
علَّمني إياها المُعَلِّم.
ساعد الوعي
بأهميَّة تطبيق الفنون الإدارية وتنظيم حركة الحياة في المؤسَّسات على نمو
المدارس، وتطور المعاهد العلمية والعملية المُتقدِّمة، وانتشار
البيمارستانات في معظم المدن الإسلاميَّة في عصور ازدهارها. ومن هنا فلا نستغرب
عندما نعلم أنَّ أول مستشفى بالمعنى الحقيقي في أوربا بُنى في أوائل القرن
الثَّاني عشر للميلاد في إنجلترا وقد نُقلت الفكرة عن العرب أثناء الحروب الصَّليبية.
طبَّق
المسلمون الأوائل معاني تدل على تحرير وتكريم المرأة فليس في تاريخ البشريَّة
تراجم نسائية تُضارع ربع ما كتبه ويملكه المسلمون عن سير النِّساء الثَّقافيَّة
في القرون الماضيَّة. الأدلَّة التَّارِيخِيَّة لمساهمات المرأة الماديَّة
والعِلْمِيَّة والعَمَلِيَّة لخدمة الْعِلْم والمعرفة أكبر شاهد صدق على ذلك. مارس
المسلمون لمدة قرون التّعلم والتّعليم والمرأة تأخذ الإجازة (الشّهادات
العِلْمِيَّة)، وتُعطي الإجازة في ميادين عِلْمِيَّة مُختلفة دون حَرج وهذا أمر لم
يظهر في أي نظام تعليمي عبر الْتَّارِيْخ البشري إلا حديثاً. كان الرِّجال يشدُّون
الرِّحال إلى الأقاليم البعيدة لأخذ الْعِلْم من النِّساء – أميرات العِلْم – في
زمن كان فيه غير المسلمين يحتقرون فيه المرأة.
تطبيق
مفهوم المساواة والتًّسامح والعدالة من أهم عوامل إزدهار الأمم. كانت
مؤسسات التَّعليم الإسلاميَّة بجميع تخصصاتها هي أول من يُنادي ويُطبق مُنطلق
"النّاس في العِلْمِ سواء" وهي كلمة عظيمة قالها أبو داود راوي الأحاديث
النَّبويَّة. تجاوز المسلمون عقبة الحقد العنصري من كُرهِ الأبيض لأخيه الأسود. قبل أن يطرح الغربيون فكرة "ديمقراطيَّة التَّعليم"، كانت المُؤَسَّسَات
الإسلامية التَّعْلِيْمِيَّة مفتوحة أبوابها منذ أكثر من 1000 سنة لكل لون وجنس وطبقة فدرس في المدارس
الإسلامية قسطنطين الأفريقي والبابا سلفستر الثَّاني. لقد درس
الفقير في الْمَدَاَرِس الإسلامية مع الغني مع الأسود وكان للفائقين منهم منزلة
عظيمة. مجانية التَّعْلِيْم من أهم القيم الإنسانية التي مارسها المسلمون في
مدارسهم ولهم فضل السَّبق في ترسيخ قواعدها وتوفيرها حتى لغير المسلمين. لقد درس
في مدارس بغداد والقاهرة والأندلس طائفة من النَّصارى بالمجان.
قدَّم
المسلمون مجموعة من الأسس التربويَّة والإداريَّة التَّنظيميَّة في
تاريخ التَّعْلِيْم العالي والتي مازالت الجامعات إلى اليوم تستفيد
منها: حرِّية المُعَلِّم في التَّدريس وحرِّية الطَّالب في اختيار الأستاذ
والمادة التي يريد أن يدرسها، والتَّخصُّص
الْعِلْمي المُتمثل في تعميق البحث الْعِلْمي الدَّقيق، وبناء المكتبات
العامَّة، ووقف الأوقاف لدعم رواتب العاملين في الْمَدَاَرِس، وعدم الخوف من الخوض
في العلوم واكتشاف الجديد وعمل التَّجارِب المعمليَّة.
أخذت
لغات العالم مِن اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الكثير من المفردات التي
تُستخدم في ميدان العِلْم والفنون والتَّنمية الاقتصادية. تحتوي اللّغة الإنجليزية
على سبيل المثال على عشرات الكلمات العربية الأصيلة أو التي استخدمها المسلمون
وعلموها لغيرهم مثل كلمة مناخ، وقطن، وسكر، وليمون، وجبل طارق، والجبر. من الرّتب
العسكرية الغربيَّة كلمة أميرال (Admiral)
وهي كلمة عربية تعني أمير الماء. هذه بعض الأَمْثِلَة لكلمات إنجليزية أصلها عربي:
Alchemy, alcohol, algebra, almanac,
candy, cotton, gazelle, Gibraltar, giraffe, henna, jar, jasmine, kohl, lemon,
safari, sesame, sofa, spinach, wadi and zero.
يطلق الغرب على الأستاذ الذي بلغ مرتبة عالية chairman
أي
رَئِيسُ الجَلْسَةِ أو اللّجْنَةِ والتَّرْجَمَة الحرفيَّة لها "أستاذ
كرسي" والعرب يقولون للعُلَمَاء: قارئ الكرسي لأنَّ مكان العالِم في المجلس هو الكرسي وغيره يجلس على الأرض.
للمسلمين
فضل السَّبق في تفتيق علوم ومسائل واكتشافات علميَّة جديدة
مثل عِلْم العمران البشري (عِلْم الاجتماع) وفروعه مثل عِلْم الأنثروبولوجيا حيث كَتب
المسلمون بتوسُّع عن وصف الشُّعوب وبيئاتهم وعاداتهم وفق أسس
عِلْمِيَّة وأخلاقيات إنسانية. برع المسلمون في عِلْم الرِّياضيات فقاموا بتأصيل مسائل هذا العلم ومن شدَّة ارتباط هذا الْعِلْم
بالعرب مازالت الأرقام المستخدمة في الغرب اليوم تسمى الأرقام
العربية عِلْماً بأنَّ المسلمين وضعوا فكرة استخدام الصفر كعدد،
وحلوا مسائل ومعادلات مُتقدِّمة في الرِّياضيات.
من
العلوم التي أبدعها المسلمون ولم يقلدوا بها من سبقهم عِلْم الحديث النَّبوي الذي
يشهد بدقَّته حتى غير المسلمين مثل الأمريكية نابيا أبات
والألماني موتزكي حتى أنَّ موتزكي في دراساته الأكاديميَّة توصل إلى فكرة صلاحية
منهج المُحدِّثين وأنَّه يمكن استخدامه أحياناً
في خدمة المناهج البحثيَّة المعاصرة في حقل التَّاريخ. وهو عِلْم يهتم بجمع
الرِّوايات التَّارِيخِيَّة وفق ضوابط جرَّبها الْعُلَمَاء وكتبوا من أجلها مئات
المجلدات التي ما زالت بين أيدينا.
تفرَّع
من علم الحديث عِلم المعاجم التَخَصُّصِيَّة وعلم
الطَّبقات الذي لم تعرف له الشُّعوب الأخرى مثيلاً كما قال روزنثال. ومن
ثمار علم الحديث أيضاً نشوء حركة تُسمَّى الرِّحْلَة في طَلَبِ الْعِلْمِ كما
تفرَّع من عِلْمِ الحديث مناهج المحدِّثين في توثيق وقبول
الرُّواة والرِّوايات. يعتقد بعض الغربيين أنَّ هذه المناهج الجيدة
يمكن استخدامها إلى اليوم في عَمَلِيَّة تحقيق الرِّوايات التَّارِيخِيَّة
فهي مناهج عِلْمية على درجة عالية من
الدِّقة. عِلْمُ الْطَّبَقاَت الذي
يتتبع أعلام الْعُلَمَاء والعالمات في كل عصر على حدة من الفنون التي لم تُعرف من
قبل فهو أسلوب نبع من تفكير ابتكاري إسلامي.
كانت كتابات
الغزالي وابن رشد ومن قبلهما ابن سينا لعدَّة قرون مناهج دراسيَّة
يتعلَّم منها الغربيون في جامعاتهم وانكب المفكِّرون
الغربيون ردحاً من الزَّمن إبان العصور الوسطى إلى عصر النَّهضة يتتلمذون عليها،
وينقلون منها، ولا يرون الحجَّة في غيرها.
لقد
انتشرت الكثير من مؤسسات التَّعْلِيْم في البلاد الإسلامية حتى وصلت إلى الأندلس
وسالرنو في جنوب إيطاليا، وصقلية وبعد ذلك عرف الغرب بعض آفاق التربية الإنسانية،
ومعنى التعليم العالي والمجاني، وأخذ بمبدأ حُرِّية البحث
والابتكار العِلمي، وأهمية التَّخصص وكيفية تخريج الْعُلَمَاء ووسائل إعدادهم وفق
أُسس حضارية راقية. هذا الالتقاء والاقتباس والتَّمازج
الحضاري لا يمكن للغرب أن ينكره أو يتجاهله فالتَّرجمات المكثفة لكتب المسلمين مثل
ابن رشد وابن سينا والرَّازي والغزالي منذ بضعة قرون من الأدلة القطعية على أنَّ الكتب
الإسلاميَّة كانت المراجع الأساسيَّة والمناهج العِلْمِيَّة لجامعات الغرب لمدة عدَّة قرون
حتى سُمِّي كتاب القانون في الطِّب لابن سينا بالإنجيل عند الغرب لروعته
وسبقه وأصبح أكثر وأشهر كتاب طبي عرفه واستخدمه الشَّرق والغرب في
الْتَّارِيْخ العالمي.
من خلال
قراءاتنا في الكتب التُّرَاثية لاحظنا تَفنُّن المؤرِّخين في وَصف
العالِم أو المتعلِّم صاحب الحياة الحافِلة بـالرِّحْلات
العِلْمِيَّة وظفرنا ببعض عباراتهم الوصفية التّصويرية للدَّلالة على
ذلك كقولهم عن العالِم أو المتعلِّم وما يتصل بشئون الرِّحْلَة: كان من
الرَّحَّالَة، وقصده الرَّحَّالُونَ، وانتهت إليه رئاسة
الرِّحلة، وقصده الطُّلاب من نواحي الأرض، وألَّف كُتُباً
تُشَدُّ إليها الرِّحال. وهكذا حصلنا على أكثر من 50 عبارة أو كلمة منثورة في
بطون كُتُبِنَا التُّراثيَّة واستخدمها الأوائل لوصفِ عَمَلِيَّة الرِّحْلَة
العِلْمِيَّة.
الاستشراق
حركة ثقافة واسعة لها الكثير من الايجابيات وعليها سلبيات قد
تفوق ايجابياتها بكثير كما أنها حركة تنشط مع زيادة المطامع الأجنبية
بالسَّيطرة على الدُّول الضَّعيفة في الشَّرق. المستشرقون هم طائفة من
الباحثين غير المسلمين من تخصصات شتى ويمثلون حركة تدَّعي أنها حركة عِلْمِيَّة
تدرس تراث الشَّرق بأسلوب مُنظَّم وتُشكِّك بكل أو بعض ثوابت الأديان.
ومن ضمن
حملات التَّشكيك أنهم ينتقدون حركة الرّحْلات العلمية في التَّاريخ الإسلامي
ويربطون دوافعها بحب المال والسَّعي الدَّائب نحو المكاسب السِّياسية وأنَّها لم
تكن أبداً لدوافع إنسانية ثقافيَّة نبيلة.
لم تكن
الرِّحْلَة العِلْمِيَّة في طلب الْعِلْمِ في مجملها لأهداف ماديَّة ومكاسب
سياسيَّة كما يزعم بعض المستشرقين بل كانت في مجملها
اتِّباعاً لأوامر الشَّرع بالسَّعي في مناكب الأرض واتباعاً لمنهج
السَّلف الصَّالح فالمسلمون كانوا يدوِّنون الحديث النَّبوي
الشَّريف ويتنافسون في الحصول على أسانيده العالية. "قَالَ أَحْمَد: طَلَبُ
الإِسْنَادِ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ مَضَى.. كَانُوا يَرْحَلُونَ مِنْ
الْكُوفَةِ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُشَافِهُوا الصَّحَابَةَ". مثالبنا التي ينتقدنا بها الغرب هي مناقبنا
التي نفتخر بها.
ويمكن
تلخيص أهم النقاط لتفنيد نقد المستشرقين المنكرين لعظمة دور الرحلة العِلْمِيَّة
في تاريخنا بما يلي:
1)
أسقط المستشرقون من حساباتهم أنَّ الدّين
الإسلامي يحث على الرِّحْلَة والتّأمل والتّفكر وهو النَّهج الذي سار على هديه
الْعُلَمَاء وطلاَّب العلم على حدٍ سواء.
2)
اعتراف كثير من المنصفين من غير المسلمين
بدور هذه الرِّحْلات في تنمية العلوم.
3)
تدل ثمرة الرّحلات من كتب
وخوانق ومدارس ومعارف على مصداقيَّة وموضوعيَّة تلك الرّحلات .
4)
وجود بعض أو كثير من المرتزقة ممن اتخذوا
الرِّحْلَة مطيّة لمطامعهم الشَخْصِيَّة الغير مشروعة لا يعني نفي كفاح أجيال وانكار كدح الآخرين فالأصل دائماً له شواذ.
5)
تَدل الشَّواهد
الْتَّارِيْخيَّة على حرص الْعُلَمَاء على التَّحلي بالصَّبر والصَّدع
بالحق وعدم التَّملُّق للأمراء.
6)
كل إناء بما فيه ينضح وافتراءات
المستشرقين الغارقة بالمادية في حقيقتها تصوِّر أفعالهم الآثمة.
7)
إذا كانت الرِّحْلَة لأغراض ماليَّة
ونفعية غير جائزة فلِم ظهرت حركة النَّقد والتَّجريح لتقييم الرَّحَّالَة وللتَّأكد من
قوة وصدق المعارف التي حصلوا عليها؟
8)
مَن يسبر غَوْر[2] الكتب
التُّرَاثية يعلم أنَّ الكثير من الْعُلَمَاء مثل اللَّيث بن
سعد وسعد الخير أنفقوا من كريم أموالهم ولما رجعوا إلى بلادهم بادروا إلي الإنفاق
على الطُّلاَب. وكان الكثير منهم من طبقة الأثرياء حتى أنّ بعضَهم أنفق
معظم ما يملك لأجل طلب الْعِلْمِ.
9)
تدل وصايا الْعُلَمَاء والأمهات والآباء
على حرص المسلمين على توديع طلاب الْعِلْم وتذيكرهم بمكارم الأخلاق .
10) لا يمنع
الإسلام السَّعي والكسب وطلب الرِّزق الحلال وإقامة علاقات قائمة على المصلحة
المشروعة طالما أنَّ التّعامل لا يقوم على مساومة باطلة.
11) تستدعي بعض
العلوم الرِّحلة مثل عِلْمِ الحديث الذي يعتمد على لقاء
وسماع المحدّثين ليكون السّماع صادقاً والسّند مُتَّصِلاً.
12) اعتاد
كثير من المستشرقين الرِّحْلَة للشَّرق لدراسة عادات الشّعوب وأثناء ذلك يتنعَّمون
بالسَّكن في أرقى الفنادق ذات الشّهرة العالميَّة ويتنقلون عبر وسائل المواصلات
المُريحة الآمنة ولكن الحال لم يكن كذلك مع علمائنا الذين
تحمَّلوا أذى الطَّريق ومات منهم من مات
فنهشته السِّباع، أو ضلَّ الطَّريق فمات من الجوع والعطش أو وقع
في قبضة قطَّاع الطَّريق. لم تكن الرِّحْلَة سفراً سهلاً ولم يتجشَّموا
مشاقّها لمجرَّد الحصول على الجوائز الماليَّة.
1- تدرج د. يوسف عبدالمعطي في الوظائف
الإشرافية التربوية وأصبح ناظرا للمدرسة المباركية في
عام 1960-1961م حتى صار مديرا لمعهد التربية للمعلمين, ثم مديرا لإدارة التعليم
الفني, ثم مستشارا للمركز العربي للبحوث التربوية لدول الخليج العربي, ثم خبيرا
باللجنة الوطنية الكويتية لليونسكو. وهو مستشار بمركز البحوث والدراسات الكويتية - الأمانة العامة لمجلس الوزراء.